أدلة إثبات وجود الله كما عرضها القرآن الكريم. ‏

تمهيد: ‏

‎‎ لقد جاءت الأدلة العقلية في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على إثبات وجود الله وربوبيته، وهي كثيرة ومتنوعة وسهلة وواضحة؛ لأن الناس أحوج ما يكونون إلى معرفة ربهم وخالقهم، وحاجتهم إلى معرفته أشد من حاجتهم للماء والهواء والطعام والشراب. ‏

‎‎ ويمكننا أن نقول ابتداء: إن كل شيء يدل على وجود الله سبحانه وتعالى، إذ مامن شيء إلا وهو أثر من آثار قدرته سبحانه، وما ثم إلا خالق ومخلوق، وقد نبه القرآن الكريم إلى دلالة كل شيء على الله تعالى، كما في قوله عز وجل: {قل أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيء }

[الأنعام: 164]. ‏

‎‎ وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد. ‏

‎‎ وقد سئل أحد الأعراب سؤالاً موجهاً إلى فطرته السليمة، فقيل له: كيف عرفت ربك؟ فقال: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير ، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، وجبال وأنهار، أفلا يدل ذلك على السميع البصير؟ ‏

‎‎ وقد ذكر لنا القرآن استدلالات لأنبياء الله ورسله حين كانوا يناظرون ويجادلون بعض الملاحدة الذين ينكرون وجود الله، وإن كانوا في قرارة أنفسهم ليسوا كذلك، وإنما كانوا يقولون هذا تكبراً وعناداً واستعلاءً في الأرض. وإليك هذين المثالين من كتاب الله جل وعلا: ‏

‎‎ المثال الأول: إبراهيم عليه السلام مع الطاغية النمرود بن كنعان. ‏

‎‎ قال عز وجل: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين } [البقرة: 258]. ‏

‎‎ فقوله {ربي الذي يحي ويميت } أي: أن الدليل على وجوده سبحانه حدوث هذه الأشياء ووجودها بعد عدمها. ‏

‎‎ المثال الثاني: موسى عليه السلام مع الطاغية فرعون مصر، وماكان بينهما من المقاولة والجدل، ومااستدل به موسى على إثبات وجود الله تعالى. وقد جاء ذلك في مواضع من القرآن. ‏

‎‎ قال تعالى: {قال فمن ربكما يا موسى * قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } ‏

‏[طه: 49-50]. ‏

‎‎ أي أنه قد ثبت وجود وخلق وهداية للخلائق، ولابد لها من موجد وخالق وهاد، وذلك الخالق والموجد والهادي هو الرب سبحانه، ولا رب غيره. ‏

‎‎ وفي موضع آخر قال سبحانه: {قال فرعون وما رب العالمين. قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين. قال لمن حوله ألا تستمعون. قال ربكم ورب آبائكم الأولين. قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون. قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون } [الشعراء: 23-28]. ‏

‎‎ والمقصود أن منهج الأنبياء في الاستدلال على ربوبية الله ووجوده هو استشهاد هذا الكون بأجمعه، واستنطاق الفطرة بما تعرفه وتقر به من حاجة الخلق إلى خالق، وافتقار البرية إلى بارئ. وما أجمل ما قاله الإمام الخطابي حول هذه القضية، يقول رحمه الله: ‏

‎‎ ‏"إنك إذا تأملت هيئة هذا العالم ببصرك، واعتبرتها بفكرك، وجدته كالبيت المبني المعد فيه ما يحتاج إليه ساكنه، من آلة وعتاد، فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض ممدوة كالبساط، والنجوم مجموعة والجواهر مخزونة كالذخائر، وأنواع النبات مهيئة للمطاعم والملابس والمشارب، وأنواع الحيوان مسخرة للراكب مستعملة في المرافق، والإنسان كالملك للبيت المخول فيه، وفي هذا كله دلالة واضحة على أن العالم مخلوق بتدبير وتقدير ونظام، وأن له صانعاً حكيماً تام القدرة بالغ الحكمة ".‏

‎‎ مظاهر دلالة المخلوقات على الخالق: ‏

‎‎ أ-دلالة الخلق والإيجاد والاختراع بعد العدم.‏

‎‎ إن وجود الموجودات بعد العدم، وحدوثها بعد أن لم تكن، يدل بداهة على وجود من أوجدها وأحدثها. ‏

‎‎ وليس شرطاً أن يقف كل أحد على حدوث كل شيء حتى يصدق بذلك؛ بل إن ذلك غير ممكن كما قال عز وجل: {ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضداً } [الكهف: 51]. ‏

‎‎ ومما يدل على أن وجود الخلق دليل على وجود الله سبحانه عز وجل: {أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خَلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون } [الطور: 34-36]. ‏

‎‎ ‏"هذا تقسيم حاصر، يقول: أخلقوا من غير خالق خلقهم؟ فهذا ممتنع في بدائه العقول، أم هم خلقوا أنفسهم؟ فهذا أشد امتناعاً، فعلم أن لهم خالقاً خلقهم، وهو الله سبحانه. وإنما ذكر الدليل بصيغة استفهام الإنكار ليتبين أن هذه القضية التي استدل بها فطرية بديهية مستقرة في النفوس، لا يمكن إنكارها، فلا يمكن لصحيح الفطرة أن يدعي وجود حادث بدون محدث أحدثه، ولا يمكنه أن يقول: هو أحدث نفسه ". ‏

‎‎ قال عز وجل: {أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً } [مريم: 67]. ‏

‎‎ فدلت الآيات على حاجة المخلوق إلى خالق ضرورة. ‏

‎‎ ب- دلالة العناية المقصودة بالمخلوقات. ‏

‎‎ والمراد: ما نشهده ونحس به من الاعتناء المقصود بهذه المخلوقات عموماً، وبالإنسان على وجه الخصوص. قال عز وجل: {ألم نجعل الأرض مهاداً * والجبال أوتاداً * وخلقناكم أزواجاً } [النبأ: 6-8]. ‏

‎‎ وقال عز وجل: {تبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً } [الفرقان: 61]. ‏

‎‎ وهذه العناية المقصودة ماثلة في العالم كله، فإذا نظر الإنسان إلى ما في الكون من الشمس والقمر وسائر الكواكب والليل والنهار، وإذا تأمل في سبب الأمطار والمياه والرياح، وسبب عمارة أجزاء الأرض، ونظر في حكمة وجود الناس وسائر الكائنات من الحيوانات البرية، وكذلك الماء موافقا للحيوانات المائية، والهواء للحيوانات الطائرة، وأنه لو اختل شيء من هذا النظام لاختل وجود المخلوقات التي هاهنا. إذا تأمل الإنسان ذلك كله؟ عَلِم عِلم اليقين أنه ليس يمكن أن تكون هذه الموافقة التي في جميع أجزاء العالم للإنسان والحيوان والنبات بالاتفاق، بل ذلك من قاصد قصده، ومريد أراده، وهو الله سبحانه، وعلم يقيناً أن العالم مصنوع مخلوق، ولا يمكن أن يوجد بهذا النظام والموافقة من غير صانع وخالق مدبر. ‏

‎‎ ج- دلالة الإتقان والتقدير.‏

‎‎ قال عز وجل: {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون } [النمل: 88]. ‏

‎‎ وقال عز وجل: {الذي خلق سبع سماوات طباقاً ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور } [الملك: 3]. ‏

‎‎ وقال عز وجل: {الذي أحسن كل شيءٍ خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين } [السجدة: 7]. ‏

‎‎ فهذه الآيات وأمثالها تلفت نظر المستدل إلى دلالة المخلوقات على باريها، من خلال ما يشاهد فيها من الانضباط والالتزام التام بنظام في غاية الدقة، ما كان له أن يوجد على هذه الحال دون قيّم ومدبر، وفي هذا أعظم دليل على بطلان الخرافة القائلة بحدوث العالم عن طريق المصادفة. ‏

‎‎ د- دلالة التسخير والتدبير.‏

‎‎ إذا نظرنا إلى هذا العالم وجدناه بجميع أجزائه مقهوراً مسيراً مدبراً مسخراً، تظهر فيه آثار القهر والاستعلاء لمسيِّره ومدبره، وتتجلى فيه شواهد القدرة لمُخضعه ومذللـه سبحانه، بما لا يدع مجالاً للشك في وجود مدبر يدبره وقدير يمسك بمقاليده، كما قال عز وجل: {له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون } [الزمر: 63]. ‏

‎‎ وقال عز وجل: {ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } [النحل: 79]. ‏

‎‎ صور الاستدلال بالمخلوقات على الخالق: ‏

‎‎ قال عز وجل: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } [فصلت: 53]. ‏

‎‎ فصور الاستدلال نوعين: ‏

‎‎ ‏1. ‎ في الأنفس. 2. في الآفاق. ‏

‎‎ 1. صور الاستدلال بخلق الإنسان على الخالق (في الأنفس ).‏

‎‎ إن الاستدلال بخلق الإنسان لقي عناية خاصة وبالغة في القرآن، والدليل على هذا أنه ذكر في أول آيه أنزلها الله على نبيه الكريم، فقال عز وجل: {اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق } [العلق: 1-2]. ‏

‎‎ وقد أنكر الله على من ترك التبصر والتفكر في خلق النفس الإنسانية، فقال عز وجل: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون } [الذاريات: 21]. ‏

‎‎ بل قد صرح بعض العلماء بوجوب النظر في خلق الإنسان أخذاً من قوله عز وجل: {فلينظر الإنسان مم خلق } [الطارق: 5]. ‏

‎‎ ويقول العلماء رحمهم الله: "الاستدلال على الخالق بخلق الإنسان في غاية الحسن والاستقامـة، وهي طريقة عقلية صحيحة، وهي شرعية دل القرآن عليها وهدى الناس إليها "، ولعل أكثر ما يلفت النظر في ذكر دلالة خلق الإنسان في القرآن كثرة الاستدلال بأطوار خلقه ومراحل نشأته وحياته إجمالاً وتفصيلاً، فقد جاء ذكرها إجمالاً كما في قوله عز وجل: {خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلماتٍ ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون } [الزمر: 6]. ‏

‎‎ وقال أيضا: {ما لكم لا ترجون لله وقاراً * وقد خلقكم أطواراً } [نوح: 13-14]. ‏

‎‎ وجاء مفصلاً كما قال عز وجل: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالةٍ من طين * ثم جعلناه نطفةً في قرارٍ مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين } [المؤمنون: 12-14]. ‏

‎‎ إن نفس كون الإنسان حادثاً بعد أن لم يكن، ومولوداً ومخلوقاً من نطفة، ثم من علقة، هذا لم يعلم بمجرد خبر الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هذا يعلمه الناس كلهم بعقولهم، سواء أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم أم لم يخبر. وهذا الدليل يعلمه الجاهل والعالم، أنه دليل على وجود خالق لهذا الإنسان ومكوّن له في جميع مراحل نشأته وحياته وهو الله سبحانه. ‏

‎‎ 2. الاستدلال بخلق السموات والأرض على وجود الله (في الآفاق ). ‏

‎‎ دلالة خلق السموات والأرض على الخلق لا تقل أهمية عن دلالة خلق الإنسان، بل صرح القرآن بتفوقهما في الكبر والشدة على الإنسان كما في قوله عز وجل: {لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [غافر: 57]. ‏

‎‎ فرفع السماء وإمساكها يتجلى فيه العناية والتسخير والتقدير من قبل مدبر خالق مسخر، قال عز وجل: {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليماً غفوراً } [فاطر: 41]. ‏

‎‎ وقال سبحانه: {ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرؤوف رحيم } [الحج: 65]. ‏

‎‎ وقال عز وجل: {الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون } [الرعد: 2]. ‏

‎‎ قال ابن الوزير رحمه الله تعالى: ‏

‎‎ ‏"هذه حجة أجمع عليها الكفرة مع المسلمين، فإن الجميع اتفقوا على أن العالم في الهواء لا يكون إلا بممسك، وأن هذا الإمساك الدائم المتقن لا يكون من غير رب عظيم قديـر علـيم مدبر حكيم ". ‏

‎‎ ومن الأوصاف التي تكررت كثيراً في القرآن على أنها من الدلائل الكبرى على ربوبيته سبحانه وعلى البعث كذلك: إحياء الأرض بعد موتها، وجعلها صالحة للإنبات، وفتق السماء بالماء، وشق الأرض بأنواع الزرع والنبات، قال عز وجل: {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون. وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون. ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون. سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون } [يس: 33-36]. ‏

‎‎ يقول الإمام القاسمي رحمه الله تعالى: "ومن أظهر البراهين على وجوده تعالى: الحياة على الأرض، سواء نباتية أو حيوانية، فإن الحي لا يتولد إلا من حي، وبه يستدل على نفي القول الذاتي: يعني أن الشيء يخلق نفسه، وهو زعم تولد الحي من المادة، وذلك لأن المادة خالية من الحياة ساكنة، خاضعة للنظام الذي وضعه لها خالقها، ويستحيل أن تولد حياة في ذاتها أو غيرها، لا سيما العقل الإنساني بجميع قواه وغرائزه، فإنه لابد له من خالق عالم حكيم، إذ المواد لا تولد عقلاً، ولا تستطيع أن تخرج كائناً جهازياً متصفاً بأوصاف مباينة لنظام المادة ".‏

قصة عجيبة للإمام أبي حنيفة: ‏

‎‎ احتج طائفة من الملاحدة الذين ينكرون وجود الله وقالوا للإمام أبي حنيفة: "ما دليلك على وجود خالق صانع لهذا الكون ؟" ‏

‎‎ فقال لهم: "دعوني فخاطري مشغول، لأني رأيت أمراً عجباً ". ‏

‎‎ قالوا: وما هو ؟ ‏

‎‎ قال: بلغني أن في نهر دجلة سفينة عظيمة مملوءة من أصناف الأمتعة العجيبة، وهي ذاهبة وراجعة من غير أحد يحركها ولا يقوم عليها. وأرى الأمتعة تصعد وتنزل من على السفينة من غير أن يحملها وينزلها أحد . ‏

‎‎ فقالوا له: أمجنون أنت ؟ ‏

‎‎ قال: ولماذا ؟ ‏

‎‎ قالوا: إن هذا لا يصدقه عاقل، ولا يمكن أن يكون . ‏

‎‎ قال: فكيف صدقت عقولكم أن هذا العالم بما فيه من الأنواع والأصناف والحوادث العجيبة، وهذا الفلك الدوار السيار يجري، وتحدث هذه الحوادث بغير محدث، وتتحرك بغير محرك، وتوجد في الكون بغير موجد وخالق ؟ ‏

‎‎ فرجعوا وعلموا أنهم على باطل. ‏

‎‎ مراجع موضوع (إثبات وجود الله): ‏

‎‎ - الأدلة العقلية النقلية على أصول الاعتقاد، (رسالة ماجستير ) تأليف: سعود بن عبد العزيز العريفي. ‏

‎‎ - معارج القبول، للشيخ حافظ الحكمي. ‏

‎‎ - كيف عرفت ربك؟ للشيخ عبدالرحمن السعدي.
الأدلة العقلية والحسية على وجود الله تعالى




د صلاح الصاوي / من كتاب اصول الإيمان





قبل أن نشرع في الحديث عن أدلة وجود الله عز وجل نبـادر بالإجابة على شبهـة قد تعرض حول وصف الله بالوجود ، أو بأنه موجود ، وما قد يجره ذلك من القول بأن له موجد باعتبار أن كل موجود لا بد له من موجد ، فهل يليق وصفه تعالى بذلك ؟! فنقول :



الوجود صفة لله جل وعلا بإجماع المسلمين ، بل هو صفه لله عند جميع العقلاء حتى المشركين ، لم ينازع في ذلك إلا الدهريون والملاحدة ، ولا يلزم من إثبات صفة الوجود لله جل وعلا أن يكون له موجـد ، لأن الوجود نوعان :

- الأول : وجود ذاتي ، وهو ماكان وجوده ثابتاً له في نفسه وليس مكسوباً من غيره ، وهذا هو وجود الله عز وجل ، فإن وجوده لم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم ، كما قال تعـالى : ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ) ( الحديد : 3 ) .

- الثاني : وجود حادث ، وهو ما كان حادثاً بعد عدم ، فهذا الذي لا بد من موجد يوجده وخـالق يحدثه ، وهو الله سبحانه وتعـالى ، كما يقول تعالى : ( الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيـل ) ( الزمر : 62 ) .

وعلى هذا فلا حرج في وصف الله تعالى بأنه موجود ،ولا حرج في الإخبار عنه بذلك في الكلام فيقال : الله موجود باعتبار أن الوجود صفة من صفاته وليس اسماً من أسمائه . والله أعلم .

وبعد ، فإن الأدلة على وجود الله بعدد مخلوقات الله ! فكل ما خلق الله في السماوات والأرض يحمل بذاته أبلغ الأدلة على وجود الله عز وجل ، بَدءاً من أصغر ذرة في الأرض إلى أكبر مجرة في السماء !

ولقد ظل الإقرار بالربوبية مركوزاً في فطرة الإنسان عبر التاريخ البشري ، ولهذا لم يكن رسل الله بحاجة إلى أن يخوضوا معركة كبرى لإثباته لفرط وضوحه وبداهته ، بل كانت تكفي الإشارة إليه والتنبيه عليه ، ثم الانطلاق منه بعد ذلك لتقرير بقية حقائق التوحيد والإيمان .

ونحن لا ننكر أن شُذَّاذاً في تاريخ الأمم تنكروا لهذه الحقيقية وجحدوا بها ، ولكنهم كانوا من النـدرة والقلة ، بحيث لا يشكلون ظاهرة عامة تتـنزل من أجلها الكتب وتبعث من أجلها الرسل ، ومن أجل ذلك خلت كتب السلف الصالح من التناول المفصل لهذه القضية وإفرادها بمؤلفات خاصة ، فلم يكن للملاحدة من الوجود الفكري أو السياسي ما يحفز إلى التصدي والمواجهة .

ولكن شُذّاذ الأمس قد أصبحوا في هذا الزمن وإلى وقت قريب أمة قائمة يشيدون على الإلحاد الدولَ ، ويبنون على أساسه الحضـارات ، بل ويقيمون له المعاهد العلمية التي تعمل على تاصيل الإلحـاد وإعطائه صبغة العلم والتقدمية ! وإن كان نجمهم قد أخذ مؤخراً في الأفول بعد أن زالت إمبراطوريتهم ومُزّقـوا في الأرض كل ممزق ! ومن هنا مسّت الحاجـة إلى أن يهتم المسلمون بإبراز الآيات الدالة على وجـوده جل وعلا ، والتي تبرهن على كثير من أسمائه وصفاته ، دحضاً لشبه المبطلين ، وقياماً بحجة الله على العـالمين ، وحماية للأمة من أن يصيبها رذاذ هذا الإلحاد الفاجر ، واستجابة لأمر الله لهم بالتدبر في ملكوت السماوات والأرض .

وسوف نتناول في هذه الوحدة دلالة الخلق على الحق من خلال العناصر الآتية :



- دلالة الفطرة .

- دلالة الحس .

- دلالة العقل .

- دلالة الآيات الكونية .

- دلالة إجماع الأمم .





أ - دلالة الفطرة :

ويقصد بها ذلك الشعور الغـامر الذي يملأ على الإنسان أقطـار نفسه ، إقراراً بخالقه ، وتألهـاً له ، والالتجاء إليه لا يستطيع دفعه ولا يملك رَدّه ، فهو أشد رسوخاً في النفس من مبدأ العلم الرياضي كقولنا : إن الواحد نصف الاثنين . ومبدأ العلم الطبيعي كقولنا : إن الجسم لا يكون في مكـانين . وغير ذلك من الحقائق والمسلمات .

قال تعالى : ( أفي الله شك فاطر السماوات والأرض ) ( إبراهيم 10 ) وهو استفهام تقريري ، يتضمن تقرير الأمم على ما هم مقرون به من أنه ليس في الله شك .

وإن هذه المعرفة الضرورية لمحضُ هبة من الله عز وجل لعبادة ، فهي ليست من صنع حجة أو قيـاس ، ولم تنشأ عن نظر أو تفكر ، بل هي أسبق من هذا كله ، وأبلغ من هذا كله ! لأنهـا فطـرة الله التي فطر الناس عليها ، والحنيفية التي خلق عليها عباده كلهم ، وهي التي كان يشير إليها كثير من السلف بقولهم ، ( عرفت ربي بربي ، ولولا ربي ما عرفت ربي ! ) فهي معرفة لا تنشأ بالنظر والتفكر وإنما تزداد بذلك .

ففي صحيح مسلم عن عياض بن حمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم فكـان مما جاء في خطبته: [ إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا : كل مال نحلته عبادي حلال وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فأجالتهم عن دينهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنـزل به سلطـاناً ] [ رواه مسلم ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : [ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ] [ متفق عليه ] .

وإن هذا الإقرار الفطري بالخالق الحكيم ليولد مع الإنسان منذ البداية، ويظل يصحبه في مختلف أطوار حياته ، ما لم تفسد فطرته وتنتكس بفعل العوارض والأهواء فالكفر طارئ عارض ، فإذا تاب منه صاحبه فقد رجع إلى الفطرة التي فُطر عليها وإلى الأصل الذي شذ عنه وخرج عليه .

وهذه الفطرة عند كثير من المفسرين هي الميثاق الذي أخذه الله بربوبيته على بني آدم قبل أن يوجدوا، وجعل منه حجة قائمة عليهم لا يسعهم جهلها أو التنكر لها اعتذاراً بتقليد الآباء والأجداد .

قال تعالى : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ) . ( الأعراف : 172، 173) .

ولقد طابت نفوس العارفين بهذه المعرفة الضرورية الفطرية ، وقرت بها عيونهم وقنعوا بهـا عن أقيسة المناطقة والمتكلمين ، حتى قيل لأحدهم يوماً : إن فلاناً من علماء الكلام قد أقام على وجود الله ألف دليل فقال : لأن في نفسه ألف شبهة !

وقد قيل لابن عباس : بم عرفت ربك ؟ فقال : من طلب دينه بالقياس لم يزل دهرَه في التباس ، خارجاً عن المنهاج ، ظاعناً في الاعوجاج ، عرفته بما عرّف به نفسه ، ووصفته بما وصف به نفسه !

فأخبر أن معرفة القلب حصلت بتعريف الله وهو نور الإيمان ، وأن وصف اللسان حصل بكـلام الله وهو نور القرآن .

وقد يحجب هذا الشعورَ الفطري إقبالُ الرخاء والعافية ، أو سيطرة الذهول والغفلة ، ولكن سرعـان ما يتهاوى ذلك كله تحت مطارق الشدائد ، فينقلب الملحد الكفور ضارعاً لربه منيباً إليه !

قال تعالى : ( وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زُين للمسرفين ماكانوا يعملون ) ( يونس : 12 ) .

وقال تعالى : ( هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصـين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ) ( يونس 22 ) .

وقال تعالى : ( وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور ) ( لقمان : 32 )

وقد سأل رجل الإمام جعفر الصـادق عن الله ، فقال له : ألم تركب البحر ؟ قال بلى . قال : فهـل حدث لك مرة أن هاجت بكم الريح عاصفة ؟ قال : نعم . قال وانقطع أملك من الملاحين ووسائل النجاة ؟ قال : نعم . قال : فهل خطر ببالك وانقدح في نفسك أن هناك من يستطيع أن ينجيك إن شـاء ؟ قال : نعم . قال جعفر : فذلك هو الله .

وإن العتـاة الغلاظ من أكابر الملاحدة والكافرين لم يستطيعوا دفـع هذه الحقيقة عن أنفسهم ، ولا جحدوها بأفئدتهم وإن جحدتها ألسنتهم ظلماً وعلوًّا ، كما قال تعالى : ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوًّا ) ( النمل : 14 )

بل إن فرعون - على ما كان عليه من عتـوّ وطغيـان - لم يستطع أن يدفع عن نفسه هذه المعـرفة الضرورية ، وكان أول من يعرف عن نفسه كذبها في دعوى الألوهية ، ويتجلى ذلك من مُحاجّته لموسى ، ومن قول موسى له فيما يحكيه عنه القرآن الكريم : ( قال : لقد علمت ما أنـزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر ) ( الإسراء : 102 ) بل ومن قوله حين أدركه الغرق حيث لا ينفعه إيمان ، ولا تقبل له توبة : ( آمنتُ أنه لا إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ) ( يونس : 90 ) .

ب - دلالة الآيات الكونية :

إن في خلق السماوات والأرض ، وما بث فيهما من دابة لآيات بينات على وجود الله عز وجل تحرق كل شبهة ، وتخرس كل كفور ، وترغم كل مكابر ومعاند لما تتضمنه من الشهادة لله بالربوبية والألوهيـة على الخلق أجمعين ، فهي بعددها أدلة على ثبوت خالقها جل وعلا .

وإن المتأمل في هذا الكون بما فيه ومن فيه يجد فيه أربعة أدلة رئيسية تهديه إلى الإيمان بالله ، وهي أدلة الخلق ، والتسوية ، والتقدير ، والهداية ، وقد أشارت إليهـا مجتمعة سورة الأعلى في قول الله عـز جـل ( سبح اسم ربك الأعلى ، الذي خلق فسوى ، والذي قدر فهدى ) ( الأعلى : 1-3 ) ، وأشارت إلى بعضها آيات كثيرة في أماكن شتى من القرآن الكريم كقوله تعالى على لسان كليمه موسى وهو في مقـام التعريف بربه : ( ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) ( طه : 50 ) وقوله تعـالى على لسان خليـله إبرهيم : ( الذي خلقني فهو يهدين ) ( الشعراء : 78 ) ، وسوف تناول كل دليل من هذه الأدلة بكلمة مناسبة فيمـا يلي :

دليل الخلق :

دليل الخلق من أبين الأدلة وأظهرها على وجود الرب جل وعلا ، وقد صاغه القرآن الكـريم أوجز صياغتة وأبلغها في قوله تعالى : ( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون ) ( الطور : 35-36 ) .

وقد روى البخاري في صحيحه عن محمد بن جبير عن مطعم عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية ( أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ) كـاد قلبي أن يطير ، وإنما كان انزعاجه عند سماع هذه الآية كما يقول الخطابي لحسن تلقيه معنى الآية ، ومعرفته بما تضمنته من بليغ الحجة فاستدركها بلطيف طبعه ، واستشف معناها بزكي فهمه !





والخطاب القرآني في هاتين الآيتين يواجه الملحدين والمنكرين بهذه الحجة التي لا تملك العقول لها دفعاً ، يقول لهم إنكم لا تمارون في حقيقة خلقكم ولا في حقيقة خلق السماوات والأرض ، كما لا تُمارون في أن المخلوق لا بد له من سبب لوجوده . وإذا تقرر ذلك فلا مناص لكم من الإقرار بوجود الخالق جل في عُلاه .


ولقد صاغ لهم هذه الحجة في الأسئلة الإنكارية : هل خُلقوا من غير شيء فوجدوا بلا خالق ؟ وذلك في الفساد ظاهر ، لأن تعلق الخلق بالخالق من ضرورة الأمر فلا بد له من خالق ، فإذا أنكروا الإله الخالق ، ولم يجز أن يوجدوا بغير خالق أفهم الخالقون لأنفسهم ؟ وذلك في الفساد أظهر ، لأن ما لا وجود له كيف يخلق ؟ وكيف يجوز أن يكون موصوفاً بالقدرة ؟ وإذا بطل الوجهان معاً قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقاً فليؤمنوا به .

ولقد أدرك هذه الحقيقة البدوي البسيط الذي عاش يرعى إبله في مجاهل الصحراء فكان يقول : البعرة تدل على البعير ، والأثر يدل على المسير ، سماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ؟! ألا تدل أنهـا صنعت بتدبير العزيز العليم ؟! كما أقر بها قادة العلوم التجريبية وأساطينها في واقعنا المعاصر ، وعبروا عنها بقانون السببية ، وخلاصته أنه ليس لشيء من المُمكنات أن يحدث بنفسه من غير شيء ولا أن يستقـل بإحداث شيء ، لأنه لا يستطيع أن يمنح غيره شيئاً لا يملكه .

ولم يزل علماء المسلمين يواجهون عُتاة المُلحدين بهذا الدليل البدهي فيُبهتون ويذعنون ، فلقد رُوي أن أبا حنـيفة رحمه الله عرض له بعض الزنادقة المنكرين للخالق فقال لهم : ما تقولون في رجل يقول لكـم : رأيت سفينة مشحونة بالأحمال ، مملوءة من الأثقال ، قد احتوشتهـا في لجة البحر أمواج متلاطمة ورياح مختلفة ، وهي من بينها تجري مستوية ، ليس لها ملاّح يُجريها ولا مُتعهد يدفعها ، هل يجوز في العقـل ؟! قالوا : هذا شيء لا يقبله العقل ! فقال أبو حنيفة : يا سبحان الله ! إذا لم يجز في العقل سفينة تجـري في البحر مستوية من غير متعهد ولا مُجر فكيف يجوز قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها ، وتغير أعمالها ، وسعة أطرافها وتباين أكنافها من غير صانع ولا حافظ ؟! فبكوا جميعاً وقالوا : صدقت ، وتابوا .

وكلما اكتشف العلم جديداً من سنن الخلق كلما قاد هذا العلم المنصفين من رواده إلى الإقرار بوجود الله ، وقد يسوق كثيراً منهم إلى الانخلاع من الكفر والإجابة إلى الإيمان .

ولقد دعا القرآن الكـريم إلى السير في الأرض والتدبر في الخلق ليستيقن الله المرتابون ، ويزداد الذين آمنوا إيماناً ، فقال تعـالى : ( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخَلق ثمّ الله يُنشئ النشأة الآخـرة ) ( العنكبوت : 30 ) ، وقال تعـالى : ( وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسِكُم أفلا تُبصرون ) ( الذاريات : 21 ) .

ولقد وعد الله عز وجل أن يري الناس من آياته في الآفاق وفي أنفسهم ما تقوم به عليهم الحجة ، وما يتبينون معه أن هذا الدين حق ، فقال تعالى : ( سنُرِيهم آياتِنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يَكف بربك أنه على كل شيء شهد ) ( فصلت : 53 ) .

وحسبنا في هذه الدراسة أن نلقي الضوء على آية أو أكثر من هذه الآيات المبـثوثة في الأنفـس وفي الآفاق ، ثم نُحيل فيما وراء ذلك إلى كتاب الكون المفتوح والذي يتضمن من الأدلة على وجود الله بعدد مما فيه من مخلوقات الله ..

وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد

* الإعجاز في خلق الخلية :

إن معظم الحيوانات والنباتات تتكون من عدد هائل من الخلايا كما يتكون المبنى من مجمـوعة من الحجارة المرصوصة ، وهذه الخلايا سواء في جسم الإنسان أو في أجسام غيره من الكائنات الحية دائمة الانقسام وذلك لنمو الجسم أو تعويض ما يُفقد أو يموت من الخلايا .

ومن الإعجاز المدهش في هذا المقام أن جميع الخلايا تنقسم إلا نوعاً واحداً وهو الخلايا العصبية التي يتكون منها المخ والجهاز العصبي ، فإن عدد خلايا المخ عند ولادة الإنسان أو الحيوان لا تزيد عليه خلية واحدة حتى الوفاة ، لإنها لو انقسمت فلن يُمكنها الاحتفاظ بشخصية الإنسان ، وسوف تتلاشى معالم الذاكرة في خلال ساعات قلائل ، فمن ذا الذي جعل للخلايا العصبية وحدها دون غيرها من بقية الخلايا هذا الثبات من الميلاد إلى الوفاة ؟! من يا أولي الألباب ؟!

ويوجد في كل خلية من هذه الخلايا عدد من الصبغيات ، وهي أجسام دقيقة تحمل العوامل الوراثية ، وعدد هذه الصبغيات ثابت في خلايا كل نوع من أنواع الحيوان والنبات . فعددها في القطط يختلف عن عددها في الكلاب ، وعددها في الكلاب يختلف عن عددها في الفيلة والأرانب ، وهكذا .

وفي داخل الخلية الإنسانية يوجد ستة وأربعون من هذه الصبغيات ، وعندما تنقسم هذه الخلية داخل الجسم البشري فإن كل خلية تحتوي على نفس العدد إذ لو اختل هذا العدد لما أصبح الإنسان إنساناً .

ولكن هذه القاعدة تختلف في الخلايا التناسلية أي الحيوان المنوي للذكر والبويضة لدى الأنثى ، إذ أن عدد الصبغيات الموجودة في الخليـة التناسلية لدى كل من الذكر أو الأنثى يبلغ ثلاثة وعشرين فحسب ، أي نصف الأعداد الموجودة في بقية الخلايا . لماذا ؟ لأن الخلية الذكرية لا بد أن تندمج مع الخلية الأنثوية لتكوين النطفة الأمشاج - الخلية الأولى في جسم الجنين - فإذا تم المزج بينهما رجع عدد الخلية الجديدة إلى العدد الأصلي وهو ستة وأربعون صبغياً نصفها من الحيوان المنوي ونصفها من البييضة !!

ترى من ذا الذي اختزل عدد هذه الصبغيات إلى النصف عند تكوين الخلايا التناسلية بالذات لكي تندمج فيعود العدد الأصلي في الخلية الأولى وفقاً للقاعدة العامة في سائر الخلايا ؟! ألا يكفي هذا دليلاً

على وجود إله خالق عليم أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ؟! هل يمكن أن يقع هذا صدفة وهو الذي لم يتخلف مرة واحدة ؟!

دليل التسوية :

وتسوية الشيء إتقانه وإحسان خلقه وإكمال صنعته بحيث يكون مُهيئاً لأداء وظيفته ، ويكون مستوياً معتدلاً متناسب الأجزاء ليس بينها تفاوت يُخل بالمقصود .

ويُعبر القرآن الكـريم عن التسوية بعبارات مُختلفة الألفـاظ وإن كانت مُتقاربة الدلالة ، كالإتقان والإحسان ونفي التفاوت وإعطاء الخلق ونحوه .

قال تعالى: ( الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ) ( السجدة : 7 ) .

وقال تعالى : ( صنع الله الذي أتقن كل شيء ) ( النمل : 88 ) .

وقال تعالى : ( ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ) ( الملك : 3 )

وإذا كان الخلق يدل على وجود الله جل وعلا فإن دلالة التسوية على وجوده أظهر وأبين ، إذ التسوية أخص من الخلق إذ قد يُخلق الشيء بغير تسوية ، وهذه التسوية ظاهرة في الكائنات كلها . ولكنها في الكائنات الحية أظهر - وفي الإنسان على وجه الخصوص - أظهر وأبين .

- تأمل على سبيل المثال في خلق الأجنة ، وانظر كيف خلق الله لها عيوناً وهي لم تزل في ظلمات الأرحام ، وخلق لأجنة الطير أجنحة وهي لا تزال داخـل البيض ، والأجنة لا تستخـدم العيون ولا الأجنحة في هذه المرحلة ، ولكن الخالق العليم يُهيؤها بهذه العيون وبهذه الأجنة لحياتها المُقبلة فهو يعلم

أن الأجنة ستتجاوز ظلمة الأرحام إلى عالم النور حيث تمس الحاجة إلى العيون ، وستخرج من البيض

إلى هذا الكون الفسيح حيث الحاجة إلى الأجنحة ، فأعطاها خلقها وزودها بما تستقيم به حياتها .

- انظر إلى الأنف كيف أحكم خلقه ليتناسب مع وظيفته ، فالهواء يدخل من ثقبين بين العينين لكن العليم الحكيم غطى هذين الثقبين بالأنف ، وجعل النصف الأعلى من الأنف عظماً ، حتى لا تضغط الريح على هذا الغطاء ، فتسد الثقبين ، فيمتنع التنفس ، كما يُشارك عظم جدار الأنف في حماية العينين ، وفتح الأنف باستمرار لدخول الهواء ، إذ لو كان الأنف كله من عظام لما تمكنا من إخراج المخاط ، وجعـل الخالق جدار الأنف مائلاً لكي يصطدم الهواء بالجدار المائل ، فيرده إلى الحواجز الداخلية ، ليصطدم بها ، فيلامس الهواء الداخل المخاط المُبطِّن لجـدار الأنف ، فتلتصق به الجراثيم والأتربة ، فيتصفى الهواء قبل دخوله .. وفي الشتاء تتكاثر الدماء في الأنف ، فنراه مُحمراً ، وذلك لتدفئة الهواء الداخل ، وفي الصيف يقوم الأنف بترطيب وتبريد الهواء الجاف أو الحار .

ألا يشهد ذلك كله أنه من صنع العليم الحكيم ؟!

- تأمل في تفاوت قوة عضلات الجسد ستجد أن أقوى عضلات في جسم الإنسان والحيوانات الثديية هي عضلات الرحم لتتمكن من دفع الجنين ، ولو لم تكن بهذه القوة لما خرج أول جنين إلى الوجود ، وتلي عضلات الرحم في القوة عضلات القلب إذ لا بد لها من القوة لتصمد للعمل ليلاً ونهاراً لدفع الـدم إلى الأوعية الدموية فمن ذا الذي زود هذه العضلات بهذه القوة لتتمكن من أداء هذه الوظيفة .

- تأمل في التركيب الأساسي للعين وهو مدهش وشديد التعقيد ، ولسوف تدرك أن آلة التصـوير التلفزيونية ما هي إلا مُحاكاة بدائية لعملية الإبصار التي تتم عن طريق العين !

تأمل أولاً كيف حُميت العين من الخارج بسياج من عظـام الحاجب والأنف والوجنة ، ثم ارجـع البصر كرتين في كيفية تهيئتها لأداء وظيفتها لتقف على العجب العجاب من صنع الله عز وجل !

إن حدقة العين تتسع تلقائياً في الضوء الخافت وتضيق في الضوء الساطع ، لحاجتها إلى كمية كبـيرة من الضوء في عميلة الإبصار في الحالة الأولى وعدم حاجتها إلى ذلك في الحالة الثانية .

وإن الشبكية تتكون من تسع طبقات مختلفة لا يزيد مجموعها عن سمك ورقة رقيقة . وإن الطبقة التي في أقصى قاع العين تتكون من الملايين من الأعواد والمخروطات منتظمة في تناسب مُحكم يمكنـها من أن تميز الألوان ، ويتولى العصب البصري نقل هذا الإحساس إلى مركز معين في المخ يُترجم الإحسـاس إلى صورة مرئية تبصرها العين بوضوح ، وإن كل هذه التنظيمات العجيبة لا بد أن تعمل في وقت واحد وإلا لاستحالت الرؤية .

ومن الطرائف والعجائب أن البومة تستطيع رؤية الأشعة تحت الحمراء ، وهي أشعة حرارية لا يراها الإنسان ، فتتمكن بها على سبيل المثال من أن تُبصر الفأر في الظلام الدامس عن طريق هذه الأشعة التي تبتعث من جسده الدافئ !

ومن العجائب كذلك قدرة النحل على رؤية الأشعة فوق البنفسجية ، وهي الأشعة الوحيدة القادرة على اختراق السحب لأن النحل قد يعيش في مناطق يكسوهـا السحاب معظم أوقات السنة ، ورؤية الشمس ضرورية لمعرفة الحقول التي بها الغذاء ، وبهذا يتمكن النحل من رؤية الشمس خلال السحب فلا تموت جوعاً عندما تختفي الشمس خلف الغمام .

بل تمثل قول الله تعالى : ( و إلى الإبل كيف خُلقت ) ( الغاشية : 17 ) وتأمل في بديع خلق الإبل وكيف سواها الله عز وجل وهيأها لأداء الوظيفة التي خلقها لها ، لقد أعطى الله الجمل الصورة الخلقية التي تلائم عيشته وأسفاره الطويلة في الصحراء ، فلهذا خُلق برقبة طويلة تُعلي رأسه وتنأى بعينيه عن غبار الرمال ، كما مُنح شفة مشقوقة يستطيع أن يتناول بها أشواك البوادي دون أن تؤذيه ، وأعطى سناماً يختزن فيـه الدهن إن أعوزه الطعام يوماً في الصحارى القاحلة ، ولم تنته رجله بحافر يغوص في الرمال كحوافر الخيل والبغال والحمير بل انتهت بخف يقدر به على اجتياز الرمال دون أن يسوخ فيها ، ولهـذا سمـوه سفينة الصحراء .

تأمل في قرني استشعار ذكر البعوض تجد به شعيرات أطول من تلك التي في قرني استشعار أنثاه ، إن الأمر ليس لمجرد الزينة ولكنها أشبه ما تكون بمحطة استقبال إذاعي تستقبل الأصوات الخاصة التي تُحدثها أنثى البعوض وهي بعيدة عنه بعداً شاسعاً ، وهي أشبه بموجات الإذاعة ، فيُحرك الذكر قرنيّ استشعاره فى شتى الاتجاهات ليلتقط هذه الأصوات على الرغم من وجود أصوات أخرى عديدة يموج بها الجو ، وعن طريق زاوية قرن استشعاره يدرك الذكر غريزياً مكان الأنثى فيطير إليها ليتم التزاوج بينهما ، ويتمكـن البعوض من البقاء جيلاً بعد جيل .

ألا تدل هذه المظاهر - والكون حافل بها - على وجود الله جل وعلا وعلى بديع علمه وإرادته وقدرته وحكمته ؟ !

دليل التقدير :

التقدير : هو خلق كل شيء بمقدار وميزان وترتيب وحساب بحيث يتلاءم مع مكانه وزمـانه ، وبحيث يتناسق مع غيره من الموجودات القريبة منه والبعيدة عنه .

فإذا كانت التسوية إعطاء كل شيء من الخلق والتصوير ما يُؤدي به وظيفته على الوجه اللائق به ، فإن التقدير أن يكون بالقدر الذي ينفع به نفسه ولا يضر غيره ولا يصطدم بالمخلوقات الأخرى ، وذلك يتم إذا ما وضع في مكانه الملائم وزمانه المناسب ، وبالكم الذي يصلح ولا يفسد ، وعلى الكيفية التي يتحقق بهـا التناسق والتوازن بين وحدات الكون وأجزائه وينتظم بها سير الوجود .

وهذا التقدير ظاهرة عامة في كل شيء كما نبه القرآن على هذه الحقيقة إذ قال تعالى : ( وخَلقَ كل شيء فقدره تقديراً ) ( الفرقان:2) ، ( قد جعل الله لكل شيء قدراً ) ( الطلاق : 3 ) ، ( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما نُنـزله إلا بقدر معلوم ) ( الحجر : 21 ) .

ولنتأمل معا عزيزي القارئ بعض الظواهر الكونية التي تتجلى فيها آية التقدير والتي لا يملك المنصفون معها إلا أن يخروا لله سُجداً وبُكياً .

- إن شمسـنا هذه لو أعطت نصف إشعاعهـا الحالي ، لتجمدت الحياة والأحياء ، ولو أنها زادت بمقدار النصف ، لكنا رماداً منذ زمن بعيد .

- ولو كان قمرنا يبعد عنا 20.000 ميلاً بدلاً من بعده الحالي - ولم لا وقمر المريخ يبعد عنه 60.000 ميلاً - لكان المدُّ يبلغ من القوة بحيث أن جميع الأرض تُغمر مرتين في اليوم بمـاء متدفق يزيح الجبـال من مواقعها !

- ولو كان الأكسجين بنسبة 50% أو أكثر من الهواء بدلاً من 21% فإن جميع المواد القابلة للاحتراق في العالم تصبح عرضه للاشتعال لدرجة أن أول شرارة في البرق تُصيب شجرة لا بد أن تُلهب الغابة كلها .

- ولو كانت مياه المحيطات حلوة لتعفنت وتعـذرت الحياة على الأرض ، حيث إن الملح هو الذي يمنـع حصول التعفن والفساد .

- ولو كان محـور الأرض معتدلاً بـدل هذا الميل الحـالي الذي مقداره 23 درجة مع سكون الأرض ، لتجمعت قطرات المياه المتبخرة من المحيطات والبحار ونـزلت في مكانين محدودين في الشمـال والجنوب وكونت قارات الجمد ، ولظل الصيف دائماً والشتاء إلى الأبد ، ولهلك الناس والحياة والأحياء .

- ولو كانت الأرض كعطارد لا يدير إلا وجهاً واحداً منه نحو الشمس ، ولا يدور حول محوره إلا مرة واحدة في خلال الدورة الكاملة للشمس ، أو بتعبير آخر لو كان قسم من الأرض ليلاً دائماً والآخـر نهاراً دائماً لما عاش أحد حيث الليل الدائم والنهار الدائم ولما كانت حياة .



- بل لولا الموت ماذا يحدث ؟ قالوا لو أن ذبابتين تولدتا هما وأولادهما دون موت فإنه بعد خمس سنوات تتشكل طبقة من الذباب حول الكرة الأرضية ارتفاعها 5 سم . وهذا جنس واحد من المخلوقات فكيف إذا كانت المخلوقات كلها تتوالد ولا تموت ؟!

ومن الطريف أنه منذ سنوات عديدة زرع نوع من الصبار في أستراليا كسياج وقائي ولكن هذا الزرع مضى في سبيله حتى غطى مساحة تقرب من مساحة إنجلترا ، وزاحم أهل القرى وأتلف مزارعهم ، ولم يجد الأهالي وسيلة لصده عن الانتشار ، وصارت أستراليا في خطر من اكتساحها بجيش من الزرع الصـامت ، يتقدم في سبيله دون عائق .

وطاف علماء الحشرات بنواحي العالم حتى وجدوا أخيراً حشرة لا تعيش إلى على ذلك الصبـار ولا تتغذى بغيره ، وهي سريعة الانتشار ، وليس لها عدو يعرفها في أستراليا ، وما لبثت هذه الحشرة أن تغلبت على الصبار ثم تراجعت ولم يبق منها سوى بقية قليلة للوقاية تكفي لصد الصبار عن الانتشار إلى الأبد .

- ومن المعلوم أن كل الكائنات الحية تمتص الأكسجين وتلفظ ثاني أكسيد الكربون ، أما النبات فهو على العكس يستعمل ثاني أكسيد الكربون ويلفظ الأكسجين ، فهناك تبادل مشترك بين الإنسان والحيوان من جانب وبين جميع النباتات والغابات من جانب آخر ، وبدونه تنتهي حياتنا في دقائق معدودة ، تُرى من ذا الذي قدر هذا التناسق وأقام هذا التوازن ، ووضع هذا النظـام المُحكم ؟! ألا يدل ذلك على وجود العليم الحكيم الذي يُدبر الأمر كله ؟ بلى ونحن على ذلك من الشاهدين .

دليل الهداية :

الهداية من أظهر الأدلة الكونية على وجود الله جل وعلا ، ويقصد بها في هذا المقام أن كل خلق من مخلوقات الله قد ألهم غاية وجوده ، وهدى إلى ما خلق من أجله ، فهي الإلهام الفطري أو الغريزي الذي تتوجه به المخلوقات قاطبة إلى أداء دورها وتحقيق وظيفتها في هذه الحياة .

وهذه الهداية عامة لا تتعلق بالمكلفين فحسب ، وليست مقصورة على الكائنات التي تتحرك بالإرادة فحسب ، ولكنها هداية مبثوثة في كل شيء في هذا الوجود لتحمل في طياتها أبلغ الأدلة على وجود الرب جل وعلا وبديع صنعه وتدبيره .

تأمل في أهداب الجفن الأعلى ، للعين ستجدها تنحني وتتجه إلى أعلى بخلاف أهداب الجفن الأسفـل فإنها تنحنى وتتجه إلى أسفل ولو انعكس ذلك لتشوهت الرؤية .

تأمل في أسنان الفك الأسفل ستجدها تتجه إلى أعلى بينما تتجه أسنان الفك الأعلى إلى أسفل ، وتأمل في الأنياب تنمو فوق الأنياب ، والأسنان فوق الأسنان ، والأضراس فوق الأضراس ، فمن ذا الذي هـدى كل شعرة في الجفون وكل سن في الأفواه بحيث تؤدي دورها الذي خلقت من أجله في سهولة ويسر ؟!

فإذا انتقلنا إلى آية الهداية في عالم الحيوان فإننا سنقف على العجب العجاب مما يذهل العقول والألباب، يتحدث ابن القيم في شفاء العليل عن هداية النمل فيقول : إن حشرة المن التي يطـلق عليها أحياناً قمل النباتات التي نراها على أوراق بعض النبات يرعاها النمل ليستفيد منها ، ففي الربيع الباكر يرسل النمل الرسل لتجمع له بيض هذا المن ، فإذا جاءوا به وضعوه في مستعمراتهم حيث يضعون بيضهـم ويهتمون ببيض هذه الحشرات كما يهتمون ببيضهم ، فإذا فقس بيض المن وخرجت منه الصغار أطعموها وأكرموها ، وبعد فترة قصيرة يأخذ المن يدر سائلا حلواً كالعسل كما تدر البقرة اللبن ، ويتولى النمل حلب هـذا المن للحصول على هذا السائل وكأنها أبقار .


وكما يعنى النمل بالرعي على هذا النحو يعنى كذلك بالزرع وفلاحة الأرض ، فلقد لاحظ بعـض العلماء في إحدى الغابات أن قطعة من الأرض تبلغ مساحتها خمسة أقدام طولاً في ثلاثة عرضاً قد نما بهـا أرز قصير يبلغ طوله ستة سنتيمترات ، ويبدو للنـاظر أن أحداً يعتني بها ، فالطينة حول الجـذور كانت مشققه والأعشاب الغريبة كانت مستأصلة ، ولاحظ أن طوائف من النمـل تتردد على هـذه المنطقة ، فعكف على ملاحظة هذه البقعة ثم لم يلبث أن عرف أن هذا النمل هو القائم بزراعة الأرز في تلك البقعة من الأرض ، وأنه اتخذ من زراعتها مهنة له تشغل كل وقته ، فبعضه كان ينسق الأرض ويحرثها ، وبعضه كان يزيل الأعشاب الضارة فإذا بدأ موسم الحصاد شوهد صف من شغالة النمل لا ينقطع متجهـاً نحو العيدان فيتسلقها إلى أن يصل إلى حبوب الأرز ، فتنـزع كل شغالة من النمل حبة من تلك الحبـوب وتهبط بها سريعاً إلى الأرض ثم تذهب بها إلى مخازن تحت الأرض ، وساق من تفاصيل ذلك ما تذهـل له العقول !!!

والهداية في عالم النبات لا تقل عنها في عالم الحيوان ، فليس من قبيل المصادفة البحتة أن يتجه جـذر النبات نحو الأرض ليمد النبات بالماء والمواد اللازمة لنموه وأن يتجه الساق إلى أعلى نحو الهواء ، ليتمكن عن طريق الأوراق من التنفس وتكوين المواد الغذائية عن طريق الطـاقة المستمدة من الشمس ، وحسبك أن كل نوع منه يمتص ما يناسبه من عناصـر الأرض بنسب محدودة ومقـادير معلومة رغم اتحـاد التربة واختلاط العناصر فيها ، فتجد اختلاف الطعوم والألوان والثمرات ، بل ترى الشجرتين أو الشجـرات متجاورة بل متلاصقة : التراب واحد والهواء واحد والماء واحد والضوء واحد ولا تخطئ شجرة واحـدة منها يوماً فتأخذ ما ليس من مخصصاتها ، وصدق الله العظيم ( وفي الأرض قطع متجاورات وجنـات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ) ( الرعد : 4 ) ترى من ذا الذي هـدى الإنسان والحيوان والنبات وسائر المخلوقات على هذا النحو البديع المذهل ؟ ! أجيبوا يا أولي الألباب !

دلالة الحس :

ودلالة الحس على وجود الله تعالى من وجهين :

* أولهما : ما نشهده ونسمعه من إجابة الداعين وغوث المكروبين ، وهو يدل دلالة قاطعة على وجوده تعالى ، قال تعالى : ( أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلاً ما تذكرون ) ( النمل : 61 ) ، وما زالت إجابة الداعين أمراً مشهوداً إلى يومنا هذا لمن صدق اللجوء إلى الله تعالى وأتى بشرائط الإجابة .

بل إن إجابة الله جل وعلا لدعوة المظلومين والمكروبين من جنس ربوبيته لهم فهو لا يرد دعوة المظلوم وإن كانت من كافر ، وكثيراً ما يجيب دعاء المضطرين من المشركين ممن كانوا يخلصون له الدين في الشدة ويشركون به في الرخاء ، كما قال تعالى قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعاً وخفية لئن أنجانا من هذا لنكونن من الشاكرين ، قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون ) ( الأنعام : 63 -64 ) ، وكما قال تعالى : ( وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور ) ( لقمان : 32 ) .

* ثانيهما : ما أيد الله به رسله من المعجزات ، ودلالة المعجزة إحدى الطرق القرآنية في إثبات الربوبية ذلك أن المعجزة كما تدل على صدق الرسل ، فإنها تدل أيضاً على ربوبية المرسل وألوهيته وذلك لما يأتي :

أولاً : أن المعجـزة تدل بنفسها على ثبوت الصانع كسائر الحوادث ، بل هي أخـص من ذلك لأن الحوادث المعتادة ليست في الدلالة كالحوادث الغريبة ، ولهذا يُسبَّح الرب عندها ويُمجَّد ويُعظَّم مالا يكون عند المعتاد ، ويحصل بها في النفوس ذلة من ذكر عظمته ما لا يحصل للمعتاد ، إذ هي آيات جديدة فتعطى حقها .

ثانياً : أنه إذا تقررت بها النبوة والرسالة فقد تقررت بها الربوبية كذلك ، إذ لا يكون هناك نـبي ولا رسول إلا وهناك مُرسِل ، فالإقرار بالرسالة يتضمن الإقرار بالربوبية بلا نـزاع .

ثالثاً : أن النبوة إذا ثبتت بالمعجزة ، فقد صارت أصلاً في وجوب قبول جميع ما دعـا إليه النبي من حقائق الربوبية والألوهية وغيرها .

وقد جاء القرآن بهذه الطريقة في قصة فرعون فإنه كان منكراً للرب جل وعلا ، فحاجّة موسى في ذلك ، ثم عرض عليه الحجة البينة التي جعلها دليلاً على صدقه في كونه رسول رب العالمين ، وفي أن له إلهـاً غير فرعون ، فاستدل بالمعجزة على كلا الأمرين : ربوبية الله جل وعلا ، وكونه مرسلاً من عنده تعالى .

قال تعالى : ( قال فرعون وما رب العالمين ، قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين ، قال لمن حوله ألا تستمعون ، قال ربكم ورب آبائكم الأولين ، قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ، قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون ، قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين ، قال أولو جئتك بشيء مبين ، قال فأت به أن كنت من الصادقين ، فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ، ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين ) ( الشعراء : 23، 33 ).

فقد أقام عليه الحجة أولاً بالآيات التي يستلزم العلم بها العلم بالخالق جل وعلا فلما عاند وكابر رده إلى دلالة المعجزة ، التي هي أبلغ في الدلالة على المقصود ، ليثبت بها كلا الأمرين : الربوبية والرسالة .

وقال تعالى : ( أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتـم من دون الله إن كنتم صادقين ، فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتـم مسلمون ) ( هود : 13،14 )

فبين أن المعجزة تدل على الرسالة والوحدانية ، فإذا أثبتت المعجزة إحداهما فقد أثبتت الأخرى .

دلالة إجماع الأمم :

ومن الأدلة على وجود الخالق جل وعلا إثبات الأمم كلها له ، وإجماعهم على ذلك ، بحيث لم يذهب إلى نقيضه طائفة معروفة من بني آدم ، اللهم إلا شذاذ وحثالات لا يعتد لمثلهم بخلاف ، ولا يؤبه لمثلهـم بقول .

وقد ذكر أرباب المقالات ما جمعوا من مقالات الأولين والآخرين في الملل والنحل والآراء والديانات ، فلم ينقل عن أحد إثبات شريك مشارك له في خلق المخلوقات ، ولا مما ثل له في جميع الصفات ، فضلاً عن إنكار الربوبية بالكلية ، ولهذا فإن ظاهرة الإلحاد لم تكن فيما مضى إلى شذوذاً تخلف به أصحابه عن مواكب العقلاء ،وهووا به إلى دركات سحيقة من الضلالة والبهتان !

دلالة العقل :

لقد دل القرآن الكريم على الأدلة العقلية التي بها يعرف الخالق وتوحيده وكثير من صفاته جل وعلا ، ففي القرآن من بيان أصول الدين التي تعلم مقدماتها بالعقل الصريح ما لا يوجد مثله في كـلام الناس ، بل عامة ما يأتي به حذاق النظار من الأدلة العقلية يأتي القرآن بخلاصتها وبما هو أحسن منها ، قال تعالى : ( ولا يأتونك بمثل إلى جئناك بالحق وأحسن تفسيراً ) ( الفرقان : 33 )

وقد أخطأ من ظن أن دلالة الكتاب والسنة على أصول الدين بمجـرد الخبر أو بطريقة خطابية ، بل فيهما من الدلائل العقلية والبراهين اليقينية ما يقوض كل شبهة ويذهب كل ريبة ، ويبنى اليقين في النفوس بعيداً عن سفسطة الفلاسفة وتعقيدات المتكلمين !

قال الرازي : تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما وجدتها تشفي عليلاً ولا تروي غليـلاً ، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن
منقول لذى العقول السليمه التي تبحث عن الحقيقة