مقدمة.

الحمد لله الذي بعث المرسلين بالحق مبشرين ومنذرين، وختمهم بسيد الخلق أجمعين، المبعوث رحمة للعالمين، محمد صلى الله عليه وآله وصبحه أجمعين.
أما بعد، فقد شغل هذا المدعو (محمد أركون) حيزا غير قليل من أذهان ومصنفات زنادقة العصر من الليبراليين. فهو معدود من رؤوسهم وأئمتهم فيما انتهجوه وما صاروا يتشدقون به من تزيين الباطل لأولي النزعات الاعتزالية المعاصرة بشأن (فهم الإسلام) في هذا العصر وضرورة إعادة النظر في النصوص وتأويلاتها "بما يناسب متغيرات القرن الواحد والعشرين". فلما كان ذلك كذلك، رأيت أن أحتسب لله جل وعلا الشروع في سلسلة للرد على مقتطفات من أهم مؤلفات الرجل، عسى الله أن ينفع به المسلمين. وقد رأيت أن أجعل ذلك في سلسلة مفتوحة حتى تنشر على فصول متتابعة، بحسب ما يمنّ الله علي به من الوقت والطاقة، ثم لعله أن يُجمع في النهاية في مجلد أو نحوه، إن تيسر لي إتمامه. وسأشرع في الحلقة الأولى في تناول كتابه المسمى (قضايا في نقد العقل الديني: كيف نفهم الإسلام اليوم)، معتمدا في ذلك على ترجمة تلميذه (هاشم صالح) للكتاب، في الطبعة التي أصدرتها دار الطليعة للطباعة والنشر في بيروت في سنة 1998 الميلادية، والله الموفق المعين على جميع ما يحب ويرضى.

الحلقة الأولى
في مقدمة كتابه (قضايا في نقد العقل الديني)، يشرع أركون في بيان منطلقاته الفلسفية التي أسس عليها نظرته لما أسماه بالعقل الديني، فيقول:
"إن الفكر الديني يستشهد بالنصوص المقدسة ويستمد منها الدلائل القطعية. وإذا ما واجهه أي اعتراض علمي فإنه يكتفي باتخاذ موقفين معروفين ومتداولين: إما إن ينكر صحة الاعتراض ويصرح بأسبقية الاستدلال الديني وأفضليته على كل ما يقدمه البشر من بيان وتبيين، وإما أن يدعي وجود انسجام تام بين ما يقدمه العقل النقدي وما يتبناه الإيمان، وذلك في جميع مستويات المعرفة وفروعها وأبعادها."

وأقول إن في هذا الكلام عدة مغالطات واضحة، وتعميم جاحد نعرفه ونعهده من أهل الإلحاد وأئمته الغربيين الذين تربى أركون وأضرابه في محضنهم. فإن البداءة بالكلام حول (الفكر الديني) بهذا التجريد والإطلاق الواسع، أمر لا يقبله (العقل النقدي) نفسه الذي ينتصر له أركون وغيره، وهي مقدمة خاطئة من الأساس. ذلك أن الملل والأديان لا تستوي فيما تدعو إليه من ضوابط للفكر والنظر والأخلاق، ولا فيما ينتهجه أصحابها من مناهج في التعامل مع النصوص وتأويلاتها، وفي الموازنة بين الأدلة على اختلاف صنوفها وفئاتها، وهذا أمر مشهود معلوم لا يحتاج إلى استدلال! والحق أن هذا التقرير وحده يكفي لنسف هذا الكتاب من أساسه عند كل منصف عاقل يطلب الحق ولا يجحده حين يراه! فإن الملاحدة المعاصرين ينطلقون جميعا في نقدهم لسائر الأديان من نقدهم للنصرانية تحديدا، ولفكر الكنيسة تحديدا، ويظن كثير منهم أن هدم النصرانية وإثبات تناقضها وفساد موقفها من ثوابت العلم التجريبي ومكتشفاته الحديثة، يكفيهم لسحب الحكم على (الدين) بهذا الإطلاق، ويكفيهم للتنظير لمفهوم يوحي مجرد اصطلاحهم عليه (بالفكر الديني) بأن مبناه الاستقراء التام!!
وهذا في الحقيقة ليس جهلا منهم بالتفاوت الطبيعي بين الأديان والملل، ولا هو من جهلهم بخصوصية الإسلام تحديدا وظهور حجته وقوتها العقلية الدامغة التي لا تداينها أي ملة من الملل، وإنما هو من اتباع الهوى والتقليد المحض لأئمتهم الأوروبيين، بالتخريج العوير على أصول فلسفية قامت قياما كليا على نقد الملل والمؤسسات الدينية النصرانية بالذات، لما كان لها من سيادة وسلطان في زمان النهضة الأوروبية المعاصرة. والمتأمل لمصنفات هؤلاء المستشرقين الذين تتلمذ عليهم أركون وأمثاله حول نصوص الإسلام وتاريخها ومدارس النظر فيها، وحول القرءان ومناهج المسلمين في فهمه، يرى بجلاء أنها ليست إلا تنزيلا لذات الفلسفات التي تناول بها هؤلاء كتب النصارى المقدسة من قبل، على نصوص المسلمين، في جحود محض للبون الشاسع بين هذه وتلك، وذلك في إطار سعيهم لتجريد أصول فلسفية عامة تصلح للتطبيق على سائر الملل لتصل في النهاية إلى القول بأنها كلها من وضع البشر وأنها كلها تصيب أتباعها بداء العجز الفكري والقصور العقلي، وتفرض عليهم جميعا قيودا صارت تستلزم من العقلاء أن يعيدوا النظر فيها بتحرر من (سلطان الإيمان) الذي هو عدو (التنوير) اللدود لدى فلاسفة النهضة الأوروبية كما هو معلوم.

فمن هذا المنطلق، خرج علينا هؤلاء بما يصطلحون عليه (بالعقل الديني) و(الفكر الديني)، يضعونه في الميزان في مقابل ما يصطلحون عليه بالعقل النقدي أو (العلمي)! وهذا يظهر بجلاء من وضع أركون للدين في مقابلة العلم، أو العقل الديني في مقابلة العقل العلمي، كما نرى في الاقتباس السابق. فهو في ذلك يتقيد بمفهوم الفلسفة الوضعية للعلم، ويتجاهل أن (الدين) جملة من العلوم كبيرة، لا يضير المشتغلين بها كون الفيزياء النووية أو الكيمياء العضوية ونحوها من العلوم التجريبية ليست داخلة فيها لا كعلوم غايات ولا كعلوم أدوات! فإن العاقل من يدرك الفروق بين صنوف العلوم ومادة كل علم منها، وطبيعة الأدلة التي يتعامل معها المشتغلون بكل صنعة من صناعات العلم على اختلاف موضوعها! ولكن ما دمنا قد قلنا (العاقل) فإننا بذلك نستبعد الملحد وبشكل تلقائي، لأن مفهوم العلم عنده يصادم العقل في أصوله وبدهياته الأولى، ويلزم منه ما يهدم المعرفة البشرية نفسها في الحقيقة! فإننا عندما نقول إن خلو العلوم الدينية من وسائل العلم التجريبي لا ينفي عن علوم الدين صفة العلم، فإنما نرد بذلك على "العقل الملحد" الذي خرج منه ذلك التفريق بين (الدين) بهذا الإطلاق (ومنه مفهوم الإيمان) وبين (العلم) في المقابل. وكل من له أدنى إلمام بأصول الفقه والنظر في العلوم الشرعية يدري أن هذه الحقيقة لا تعني أن الدليل العلمي من العلوم التجريبية لا اعتبار به في تلك العلوم عند المسلمين، وإنما يقدر ذلك الدليل بقدره الصحيح عند النظر والموازنة والترجيح، كغيره من صنوف الأدلة.

ومما يدل دلالة واضحة على مكابرة أركون التي تابع عليها أساتذته الملاحدة، قوله – وبنفس الإطلاق العجيب – "إن الفكر الديني يستمد الدلائل القطعية من النصوص المقدسة". فإنه ما كان ليخفى عليه أن الدليل النصي منه القطعي ومنه الظني، تماما كما أن الدليل الحسي أو التجريبي منه القطعي ومنه الظني، وهذا التفاوت في قطعية وظنية الدلالة في إطار الصنف الواحد من صنوف الأدلة مطرد في سائر علوم البشر، الديني منها والدنيوي على السواء، وهو سنة كونية ماضية في سائر العلوم وفي سائر الملل التي فيها نصوص يستدل بها!
أما ما يقرره من طريقين لتعامل ما أسماه بالعقل الديني مع ما أسماه بالدليل العلمي عند ظهور تعارضه مع ما أسماه بالاستدلال الديني، فجهل واضح! فبداية لا يقال بالموازنة بين (المعارضة العلمية) أو (البيان والتبيين) من جانب و(الاستدلال الديني) من الجانب الآخر! فهذا خلط واضح في الاصطلاح والعبارة! فإن الاستدلال الديني بهذا الإطلاق يفهم منه القول بحكم الدين في مسألة من المسائل بناء على جمع الأدلة والترجيح فيها، أيا كانت صنوف تلك الأدلة (نقلية أو عقلية أو حسية تجريبية) ودرجاتها من القطع والظن، وعلماء الشريعة في ديننا – وهو العلم الذي يتجاهله هذا الأركون وأمثاله من بني نحلته – لا يوازنون بين الأدلة على اعتبار أجناسها، فلا يقولون هذا عقلي وهذا نقلي إذن نقدم النقلي مطلقا، أو هذا تجريبي وهذا نقلي فنقدم النقلي لمجرد أنه نقلي! وإنما يوازنون بين الأدلة على اعتبار القطعية والظنية، أيا كان نوع الدليل ومصدره!

وفي الحقيقة فإن المنصف العاقل يظهر له بجلاء أن تهمة تقديم جنس من أجناس الأدلة (النقل أو العقل أو الحس) على جنس آخر مطلقا إنما هو ديدن أهل الباطل لا أهل الحق! فالفلاسفة وأهل الكلام يقدمون الدليل العقلي مطلقا، ويحتكمون في كل شيء إلى ما وضعته عقولهم من قواعد فلسفية، سواء كانت مادة النظر في الطبيعيات أو في الأخبار والنصوص الدينية! والملاحدة المعاصرون يقدمون الدليل الحسي والتجريبي على غيره من صنوف الأدلة مطلقا، وإن كان عند أدنى درجات الظن، بل إنهم يقدمونه حتى على ضروريات العقل وبدهياته الأولى نفسها!! ويكفي النظر في طرائق الدراونة في مقابلة بديهة العقل وضرورة العلة الأولى، بإيراد الأدلة الحفرية والجينية والجيولوجية ونحوها، وزعمهم بأن العلم الطبيعي يغني عما سواه، ويكفي لمعرفة كل شيء يطمع الإنسان في معرفته! ولو أنهم صدقوا في طلب الحق وتواضعوا للعلم وأهله، لرأوا أنهم إنما يرمون غيرهم بما هم أشد الناس تلبسا به، ولشهدوا بأن الإسلام وما تأسس عليه من علوم للفقه والنظر، مبرأ من هذا الخُلف العقلي الذي يشنعون به على (العقل الديني)، ومن سائر ما يطلقونه من إطلاقات عنترية جوفاء بشأن (الفكر الديني) و(العقلية الإيمانية) وغير ذلك مما نرى في كلام أركون وأساتذته من قبله وتلامذته من بعده!!
فالحاصل أن ذلك المسلك الذي يقرره أركون ههنا بكل سهولة وينسبه بجرة قلم إلى ما أسماه "بالعقل الديني"، إنما هو الجهل المحض بعلوم لو علم الملاحدة قدرها وفضلها لأتوا لطلبها حبوا، ولكن أنى لهؤلاء العتاة الفجرة أن يخضعوا أنوفهم لأمر الله ورسوله، وأن يضعوا جباههم في التراب بين يدي خالقهم، ليشهدوا كما شهد الموحدون بأن العقل لا استقامة له إلا بما أنزل خالقه من نور الحكمة؟ هي إذن نعجة وإن طارت، وأنتم يا أهل الدين مساكين مأسوف عليكم وعلى عقولكم!!

نعم من الوارد أن يتعارض ما يوصف بأنه (دليل علمي) في حيز العلوم التجريبية ونظرياتها مع ما يوصف بأنه (دليل علمي) أيضا من النقل الديني وعلومه، بما يحمل الناظر على ترجيح الأقوى عند امتناع الجمع، تماما كما هو وارد أن يتعارض ذلك "الدليل" مع ما يوصف بأنه (دليل علمي) من العقل المجرد، من المنطق أو من الرياضيات أو غيرها من العلوم العقلية، فكان ماذا؟ وكيف يُتهم العالم الديني في عقله عندما يقدم الدليل النقلي الثابت بالقطع أو الظن القوي – بطرائق الإثبات والتحقيق في النص المنقول – على دليل تجريبي ظني ربما لم يقبله أهل الطبيعيات إلا لفقدهم ما هو أفضل منه في بابه، ولا يتهم الفيلسوف الملحد، بل يوقر أيما توقير وتسبغ عليه صفة العلم والنبوغ عندما يقدم أمثال تلك الأدلة التفسيرية الظنية على ضرورة من ضروريات العقل وقطعياته، ويدعي أن نظريته أصبحت تغني عن القول بتلك الضرورة؟؟ لقد رأينا من علماء الطبيعة من يذهب إلى الاستدلال بمجرد خروج الجسيمات الكماتية الدقيقة في نشاطها عن مألوفهم فيما يرصدون، على إمكان وجود الجسيم الواحد في مكانين في وقت واحد، وهو مفهوم فاسد، العقل يمنعه ويقطع باستحالته، ومع ذلك لم يشنع عليهم ضباع الإلحاد دعاة (العقل) و(التنوير) ولم يستنكروا تقديمهم ما عدوه دليلا تجريبيا يتأولون دلالته، على قطعي من قطعيات العقل!! لماذا؟ لأنهم رأوه يصلح متكأ لهم عند الانتصار لإلحادهم ولدعواهم بتصورات تناقض أصول اللغة وتقابل ضرورة العقل في وجود الخالق! يقولون كيف تستغربون نشأة الحياة بلا منشئ، وظهور النظام من محض الفوضى، وقد رأيتم الجزيئات الذرية تصنع كذا وكذا؟ فأي شيء هذا يا معاشر العقلاء؟ إنه المرض العقلي العضال، والجحود الذي لا دواء له إلا أن يشاء خالق السماوات والأرض جل في علاه!

ونقول لأركون وغيره إننا معاشر المسلمين لا نقبل أن يُحاكم الإسلام العظيم إلى فلسفات الملاحدة ونظرياتهم العمياء التي لم توضع إلا لجمع سائر الأديان في سلة الأسطورة بوصفها تلك (الظاهرة) المرضية التي تحتاج إلى علاج وتنوير، وإنما تحاكم تلك الفلسفات والتخرصات التي يتشدق بها هؤلاء إلى أصول العقل السوي، وإلى النقل الثابت بالبرهان الجلي، والعبرة في النهاية بالحجة والدليل لا بالعبارات الجوفاء وخطاب التسفيه والتهويل، والله المستعان لا رب سواه.

ويقول أركون منتصرا لمنهجه في الفصل بين ما أسماه بالعقل الديني وما أسماه بالعقل العلمي:
إن الدراسة العلمية للظاهرة الدينية لا تنحصر طبعا في تلك المناقشات الجارية حول القضايا السياسية والاجتماعية والتشريعية والتربوية. بل تتعداها لكي تشمل ما يعالجه العلماء في مجال علم التاريخ وعلم الاجتماع والألسنيات والسيميائيات الدلالية والأنثروبولوجيا وعلم النفس والتحليل النفسي. ولا تزال هذه العلوم تغير طريق البحث أو تجددها، وتحول الإشكاليات القديمة الموروثة إلى إشكاليات مرتبطة باكتشافات علم الحياة (البيولوجيا) والكيمياء والفيزياء والتجارب الفضائية. بمعنى أن اكتشافات هذه العلوم قد غيرت من نظرتنا إلى المادة والعالم والكون. وبما أن الأديان لقنت علما يقينيا في جميع تلك المجالات، فلابد من المقارنة بين نوعين من المعرفة أو نمطين من العقل: العقل الديني / والعقل العلمي.

قلت: بداية فلننظر في قوله (الدراسة العلمية للظاهرة الدينية). هذا الاصطلاح (الظاهرة الدينية) اصطلاح إلحادي كما لا يخفى، وذلك على اعتبار أن فلسفات الملاحدة بشأن الدين – بهذا الإطلاق - وحقيقته ونشأته تتناوله بوصفه ظاهرة سيكولوجية وسوسيولوجية نشأت من الناس منشأ أرضيا محضا، كسائر الظواهر البشرية الأخرى، وفي ظل الداروينية التي أصبحت محور الإلحاد ومصدر التنظير له في زماننا، فإن الأمر أصبح القوم يرجعونه برمته إلى مفاهيم الارتقاء العضوي والجيني، وإلى اعتبار أن الدين كان في زمان ظهوره ضرورة لبقاء النوع البشري على المستوى الفردي والجماعي، ولولا هذا ما وجد. فتأسيسا على هذا المفهوم، يخاطبنا أركون في هذا السياق بما نرى، ويدلف بنا إلى سبيل أساتذته وأئمته في تناول (الظاهرة الدينية) من منظور ما وضعه هؤلاء من نظريات وفلسفات في هذا الشأن، تحت لواء تلك الجملة المتنوعة من العلوم الإنسانية التي افتتن بها هو ومن على شاكلته. والمتأمل في حال هؤلاء يظهر له كيف أن نفوسهم تزين لهم التترس بمجرد اسم العلم، فيما اختاروا قبوله من آراء فلاسفتهم حول (الدين) و(العقل الديني) و(الظاهرة الدينية) كما سيتجلى لنا خلال نقدنا لكلام أركون.
فبأي حجة من حجاج العقل الصحيح يسوغ هؤلاء لأنفسهم انتقاء الأداة العلمية التي بها يتعاملون مع هذا الدين أو ذاك، أو مع مطلق مفهوم الدين نفسه، من علم كذا أو علم كذا، وتقيدا بنظرية فلان وفلان تحديدا، متغافلين في ذلك علوم الدين نفسها وكأنها شيء واحد لا قيمة له، تستوي فيه سائر الأديان جميعا، بل وكأنها لم تكن أصلا؟ ترى الواحد من هؤلاء يتعامل مع نصوص القرءان – على سبيل المثال - وكأنه أول من يحاول دراستها على ظهر البسيطة، وكأنه وقع عليها في كهف أو أخرجها من بطن فج عميق، شأنها في ذلك شأن سائر ما يكتشفونه من حطام المعابد الأثرية وبقايا الأمم البائدة في بلاد الشرق! وبالتأكيد فلا عبرة عند المستشرق بأي علم يختص به هؤلاء العرب البدائيون في دراسة نصوصهم تلك، فإن "العقل الديني البدائي" يقينا لن يوصلهم إلى الحقائق و"الكليات الكبرى" التي تبحر في دراستها فلاسفة أوروبا العظماء، وقطعا لن يكون فيه ذلك العمق الفكري والتجريدي والنظر البعيد الذي يتميز به عقل الرجل الأبيض على تلك الشعوب المتخلفة!!

إنه ذات العقل المستكبر الجاحد الذي سوغ للملاحدة نسبة السفاهات المحضة إلى العلم (في نسبتهم الممتنعات العقلية للعلم التجريبي)، وجعل ذلك العلم وحده حكما على سائر العلوم، وكأن عقول البشر لا تعرف سواه سبيلا إلى المعرفة! مع أن العلوم الإنسانية – التي يتترس ويتشدق بها أركون وأمثاله - ليست إلا مدارس فلسفية في مجملها، تتعامل مع فئات من الأدلة لا تقتصر على الدليل الامبريقي والحسي وحده! ويكفي أن ينظر المرء نظرة عابرة في أي كتاب من كتب علم النفس أو علوم الإدراك الحسي والاستعرافي والنظريات المتعلقة بكيفية تعامل العقل مع ما يدخل إليه من مدخلات وما ينقدح في النفس من عواطف وميول وانطباعات، حتى يرى وهاء وتهافت النظرة الوضعية والامبريقية المجردة لتلك العلوم!! ومع أن ملاحدة الغرب وأتباعهم يدركون هذا المعنى تمام الإدراك، إلا أنهم ومع هذا يصرون عند الكلام عن الدين على عزل (العقل العلمي) عن سائر أدوات وطرائق العلوم الدينية في الوصول إلى المعرفة، يلبسون ذلك العقل لباسا ضيقا لو التزموه بحقه للزمهم إسقاط سائر معارف البشر بما فيها العلم التجريبي نفسه!
فعندما يخرج علينا أركون بقوله (الدراسة العلمية للظاهرة الدينية) فإننا ندري جيدا ما يقصده بالعلمية، ونعي تمام الوعي حجم الجريمة التي يتابع عليها أسياده الملاحدة عندما يتكلم بهذه السهولة عما يسميه بالعلم، وما يسميه بالظاهرة الدينية.

ولا يفوتنا عندما يتكلم الرجل عن (المناقشة العلمية) لما في الدين من قضايا سياسية أن نتساءل، أي إطار فلسفي هذا الذي يزعم واضعه لنفسه الحق في الحكم على ما ندعي نحن المسلمون أنه قد جاء به الوحي من خالق السماوات والأرض جل في علاه؟ وقل مثل ذلك في قضايا التشريع والتربية والاجتماع وغيرها! وما شأننا نحن في أن اختار أركون لنفسه سبيل الملاحدة في غمط الحق الجلي الواضح، فلم يعد يرى في دين الله ما يلزم العقلاء أن يسلموا به من قطعيات الوحي المطهر وظنياته، خضوعا وإذعانا لحجة الدليل الدامغ من بعدما قامت عليهم، فصارت تشمئز نفسه من عرضنا لفلسفات البشر جميعا على ذلك الحق المنزل، كليها وفرعيها على السواء؟ إن كان صادقا في طلب النظر العلمي والمناقشة العلمية، فهل خفيت عليه حجة الإسلام الدامغة، فلم يعد يرى في القرءان إلا كتابا من وضع البشر كما هو رأي أساتذته الملاحدة في سائر الكتب المقدسة عند أهل الملل؟ لا علم إذن ولا نظر ولا دراسة، وإنما جهل وجحود وعدوان! ((تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ))

إننا معاشر المسلمين حين نقدم ما جاءنا به الوحي على ما وضعته الفلاسفة وتهافتت بهم الظنون فيه، فإن هذا لا يعني إبطالنا لجميع استدلالاتهم العقلية بالضرورة، وإنما يعني أن ما جاءنا به الوحي من الأدلة (كل ما صحت نسبته بالدليل إلى الرب الخالق تبارك وتعالى) فإنه يقطع النزاع فيما تنازعوا فيه ولابد! وهذا هو وجه كون ما أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم رحمة سابغة، ترفع عن العقلاء عنت التنظير والافتراض الظني فيما لا سبيل لمعرفة الحق فيه إلا بالسماع عن الخالق نفسه، كما قال تعالى في محكم التنزيل: ((ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك)) الآيات. وحتى وإن اختُلف في فقه بعض ذلك الوحي عند أهل صنعة النظر فيه في مسائل على أقوال اتُفق أن ذهب إلى كل منها بعض الفلاسفة استقلالا بعقولهم، فإن طريق الترجيح الفلسفي المجرد في تلك المسائل لم يعد يملك العقلاء إلا تركه ولزوم الترجيح في تلك المسائل بين أدلة ذلك الوحي نفسه، لأن مظنة الوصول إلى الحق إنما هي في هذا الطريق لا فيما دونه، وهي في تلك الأقوال الخارجة من فقه الوحي لا فيما خرج من غيره، وذلك لإمداده إيانا بفئة من الأدلة يشهد العقل بأنها أقوى وأظهر من جميع استدلالاتهم، من حيث طبيعة الدليل نفسه والمصدر الذي جاء منه. أدلة لا يملك العاقل حجة للاختلاف عليها بظنونه العقلية المجردة، وهو معنى يدركه كل من تجرد من الهوى والتعصب لما هو عليه من تلك الظنون. ((وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)) [النجم : 28]. أرأيت لو أن رجلين وقفها يتنازعان بالظن والقياس العقلي المجرد فيما وراء جدار لا يملكان مجاوزته أو الاطلاع على ما يحجبه ذاك الجدار عنهم، هل يحمد بقاؤهما على ذاك النزاع فيما بينهما حتى بعدما يخرج لهم من وراء الجدار شاهد عيان ممن يوثق في صدقه، يقول لهم إن وراءه كذا وكذا؟ مثال ذلك أن يقول الفلاسفة إن الغيب فيه كذا وكذا (سواء غيب المكان أو غيب الزمان)، ثم يستدلون بدلالات ظنية يتصورون صلاحيتها للاستدلال (وقد يكون بعضها مما يعتد بجنسه من الأقيسة الظنية)، فهذا يبطل بمجرد أن يأتي الخبر بخلافه من خالق السماوات والأرض الذي هو عليم بما أشهدنا عليه من خلقه وما غيبه عنا من ذلك ((ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير))! أو يقول الفلاسفة إن الأخلاق تعريفها كذا وكذا، وعليه فهذا الفعل خير وذاك شر، وهذا عدل يجب أن يفرض بالقانون وذاك ظلم يجب أن يمنع، فهذا التعريف الظني عندهم للأخلاق ولطريق استنباط أحكامها يجب تركه بمجرد أن يأتي التشريع والتوجيه الأخلاقي من الخالق العليم الذي لا يدانيه أحد من خلقه – بضرورة العقل - في العلم بما يلزم العلم به لتقدير الخير والشر، وفي العلم بالمعيار الموضوعي الحق للحكم على آحاد الأفعال وتقدير ما فيها من خير أو شر! ولهذا يعد التشريع الأخلاقي والقانوني بمعزل عن شريعة السماء شركا في الربوبية، لأن العقل يوجب على كل من بلغه أن خالقه وخالق كل شيء قد أنزل إليه أمرا ونهيا وتشريعا أن يخضع له ويشهد بعلو ذلك التشريع فوق سائر ما تضعه عقول المخلوقين، فإن لم يخضع وزعم لنفسه الحق في التشريع فقد اتخذ من نفسه ندا وشريكا لخالقه فيما انفرد به ذلك الخالق من صفات الربوبية.

هذا الاستدلال العقلي المجرد، استدلال علمي وعقلي متين، لا يملك أحد من الخلق له دفعا ولا نقضا، ولا يوصف صاحبه بأنه وقع أسيرا للإيمان والتقليد الأعمى، كما يحلو للملاحدة أن يزعموا، ولهذا ذهب إلى تقديم (اليقين الديني) – هكذا – على كل ما بين أيدي البشر من (بيان وتبيين)!! ولا يوصف صاحبه بأنه مخالف "للعقل العلمي" وخارج عنه! ولا يلزم منه نسبتنا إلى الزعم بأن الدلائل القطعية لا تكون إلا في النصوص وحدها، فإننا نقول إنه ما من تعارض البتة بين قطعي من قطعيات العقل أو الحس وما جاءنا به الوحي الصحيح، وهذا من وجوه إعجاز القرءان نفسه وتحديه لسائر المخالفين أن يثبتوا بدليل قطعي واحد – أيا كان مصدره – خلاف ما صحت نسبته إلى رب العالمين وإلى خاتم المرسلين! فإن كان تقديم الدليل النصي على قطعية من قطعيات الحس أو العقل تخالفه، معيبة في حق من يقع فيه من أصحاب النصوص المحرفة والباطلة من أهل الملل، فإن هذه التهمة لا تنسحب على دين الله الحق، الذي أجمع علماؤه على تحريم التقليد والتخلف عن اتباع الدليل إلا من ضرورة! وهو كذلك لا يضعنا خارج دائرة (العقل العلمي) الذي يتشدق به هؤلاء، فإنما العلم ما وافق الحق بالدليل، وليس في الأرض أمة أسعد حظا بالأدلة وتحقيق مراتبها من أمة القرءان، لو كانوا يعقلون! ولو أن هذا الجاحد أركون وأساتذته الذين لقنوه ذاك الجهل تحت دثار العلم، تكلفوا عناء النظر في هذا الحد للعلم الذي هو تعرفيه عند علماء شريعتنا، لأدركوا أنه أوسع وأشمل وأعظم تجريدا بأضعاف مضاعفة من أي مفهوم ساذج يلتزمونه في كل مرة يطلقون فيها تلك اللفظة، يتشدقون بها علينا، ولأدركوا أن البنيان الابتسمولوجي الذي يقوم عليه وعي المسلم وتعاطيه مع سائر القضايا المعرفية إنما يقوم على ما تفتقر إليه سائر البنى المعرفية البشرية فيما سوى الإسلام، وقد يئس الفلاسفة من طلبه فيما بين أيديهم من البضاعة من قرون طويلة، ألا وهو تأسيس سائر فروع المعرفة الإنسانية على قاعدة علمية قطعية راسخة لا غنى للعقل البشري عن التأسيس عليها وعن الاتفاق على مرجعيتها وحجيتها في سائر المقاصد والغايات المعرفية نفسها، قبل الوسائل والأدوات.

إن تلك (الوصاية) التي يفرضها الوحي على عقول البشر ويستنكرها الملاحدة وينفرون منها أشد النفور، إنما هي سبيل نجاتهم ورشادهم لو أنهم صدقوا في طلب النجاة والرشاد وأعملوا عقولهم كما ينبغي أن يعمل كل عقل سوي صحيح! فإنه ما من عاقل يملك أن ينكر أحقية ما ثبتت صحة نسبته إلى الخالق نفسه في أن تكون له الوصاية عليه وعلى خياراته الأخلاقية وغاياته ومطالبه المعرفية! فإنها ليست بوصاية فيلسوف أو عقل بشري لا يستمد سلطانه إلا من موافقة أفكاره وأطروحاته النظرية والفلسفية لأهواء من تزعمهم وظهر عليهم من بني البشر، وإنما هي كانت ولا تزال وستظل منسوبة إلى الرب الخالق نفسه جل في علاه! فإما أن تصح نسبة تلك التعاليم إليه، فيتوجب حينئذ على كل عاقل أن يخضع ويستسلم لها بعقله وقلبه وجوارحه، وإما ألا تكون كذلك ولهذا فإن المسلم لا يبحث في فروع العلم الدنيوي لمجرد التشهي بلذة المعرفة، ولا يدخل المعمل لخدمة غاية أخلاقية وضعها أحد الفلاسفة من بعد معركة فكرية مضنية خاضها ذلك الفيلسوف مع نظريات أقران له، لكل منهم مفهومه الفردي الخاص للدلالة والاستدلال فيما يوصف بأنه خير وما يوصف بأنه شر! ولا يتكلف عناء البحث بين عقول قاصرة تتفاوت في قوتها وفهمها ولا تكمل أبدا مهما كملت، عن أمور قد جاءه بها الخبر من خالق تلك العقول نفسها! إنها الحكمة المحضة والملة القويمة التي لا يرغب عنها إلا من سفه نفسه! من أراد (العقل العلمي) فهذا هو العقل العلمي المستقيم وهذا موجب الأدلة والأصول العقلية السوية، وأما من كره وأبى واستكبر فليعرض عنها وليسخر من أصحابها ما بدا له، فإن الشمس لا يذهب نورها بنفخ الأفواه!

وليتأمل القارئ الفطن قول أركون: " ولا تزال هذه العلوم تغير طريق البحث أو تجددها، وتحول الإشكاليات القديمة الموروثة إلى إشكاليات مرتبطة باكتشافات علم الحياة (البيولوجيا) والكيمياء والفيزياء والتجارب الفضائية. " قلت، فمتى صارت الموروثات القديمة إشكاليات (مرتبطة بالاكتشافات) إلا عند من كان دينهم من وضع أسلافهم ومن أساطير الأولين، أو كانت كتبهم التي ينسبونها إلى الرب ملؤها التحريف والوضع، فظهر الصدام بين تلك المكتشفات وما بين أيديهم من ذلك؟ وهل سائر تلك الإشكاليات سببها بطلان نصوص الملة التي يعارضها ذلك المعارض من هذا العلم أو ذاك ولابد؟ ليست هذه إذن إلا ملة باطلة جديدة تقوم على الاعتقاد الجازم بأن علم الأحياء وغيره من العلوم التجريبية لا يأتي منظروه إلا بالحق المنزل، الذي لا يرقى لمخالفته شيء مما عند الناس البتة، ولا حتى قطعيات العقل السوي نفسها، التي لا قيام لتلك العلوم إلا على التسليم المسبق بصحة جنسها بالأساس! فإن كان يريد ههنا بالإشكاليات وقوع التعارض بين النصوص والقطعيات التي أثبتها الحس والمشاهدة، فالإسلام بريء من هذه (الإشكاليات) المزعومة شكلا وموضوعا! ولكن لأن القوم لقنوا صاحبنا هذا كما لقنوا غيره أن الدين كله سواء في ذلك، فاستطاب الرجل مفهوم التحرر من قيد الدين أو (دوغمائيته) على حد اصطلاحهم، واستحسن ذلك الأمر في نفسه وزينه له هواه (مع علمه ببطلانه وعريه عن الدليل)، جاءنا يريد مخاطبتنا معاشر المسلمين باعتراضات الملاحدة على ملل باطلة لنحن أشد اعتراضا عليها وعلى شركها وباطلها منه ومن أسياده هؤلاء! ولكن اعتراضنا على تلك الأديان لا يوافق هواه وأمثاله، فإننا ندعو إلى الخضوع والانقياد لدين الحق والبراءة من سائر الملل الباطلة، أما هو فلا يستقيم له إلحاده حتى ينتصر على سائر دعاوى الخضوع والتسليم لأي ملة ينسبها أصحابها إلى الرب الخالق، وهذا هو بيت القصيد، ومنتهى غاية هؤلاء جميعا!

يقول: " بمعنى أن اكتشافات هذه العلوم قد غيرت من نظرتنا إلى المادة والعالم والكون. وبما أن الأديان لقنت علما يقينيا في جميع تلك المجالات، فلابد من المقارنة بين نوعين من المعرفة أو نمطين من العقل: العقل الديني / والعقل العلمي." وأقول صحيح إن تلك المكتشفات قد غيرت من نظرتنا إلى المادة، ولكن هل كل ما جاءت به تلك العلوم مما يخالف الموروث في ذلك، هو حق لا محالة؟ أولو كان ذلك الموروث قائما على الحجة العقلية واللغوية القطعية التي لا يصح في العقل أن تنتقض؟ أولو كان ذلك الموروث قائما على ما دلت الدلائل القطعية على نسبته إلى الخالق نفسه، تبارك وتعالى؟ أولو كان ذلك المكتشف المزعوم ليس إلا نظرية تفسيرية ظنية يراد لها أن توضع في مكان ذلك القطعي العقلي أو النقلي وتقدم عليه؟؟ وهل يحمد عقل يتغافل تلك القطعيات هكذا رأسا، على جلاء حجتها وقوة أدلتها، ويوصف بأنه (عقل علمي)؟؟ أي "عقل علمي" هذا الذي يهتف به أركون، وأي "عقل ديني" هذا الذي يجعله قسيما له؟ قاتل الله الهوى وأهله.
--------------
يتبع، إن شاء الله تعالى.