صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 15 من 24

الموضوع: سلسلة أساس صلاح البشر في فهم عقيدة القضاء والقدر

  1. افتراضي سلسلة أساس صلاح البشر في فهم عقيدة القضاء والقدر

    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد .

    إن أساس صلاح البشر يكمن في فهم عقيدة القضاء والقدر ، لأن الإنسان إذا أدرك العلاقة بين فعل الخالق وفعل المخلوق ، استطاع أن يدرك حدوده وإمكانياته في الحياة وتكيف معها بصورة تريح النفس وتدفع إلى الإيمان بالله ، وهذه المقالات سلسلة في فهم عقيدة القضاء والقدر من منظور إسلامي مبني على الكتاب والسنة فاجعلها تجربة تتابعا ولعلك تشعر بأثر هذه الكلمات.

    وقد قسمتها كما يلي :

    - توحيد الربوبية

    ما المقصود بتوحيد الربوبية
    كيف نعرف ربنا
    البقاء ببقاء والبقاء بابقاء
    الاستواء وافراد الله بالملك
    حسن التوكل على الله


    - مراتب القدر

    المرتبة الأولى العلم
    المرتبة الثانية الكتابة
    المرتبة الثالثة المشيئة
    المرتبة الرابعة الخلق


    - أنواع القدر

    التقدير الأزلي
    التقدير الميثاقي
    التقدير العمري
    التقدير السنوي
    التقدير اليومي


    - أنواع التدبير

    القضاء والحكم
    الأمر والارادة
    الفرق بين مشيئة الله وارادته
    الهداية والكتابة
    التحريم والجعل والبعث


    - مسيرون أم مخيرون

    الصديق والزنديق
    متى نحتج بالقدر؟
    أفرار من قدر الله؟


    - حرية الإنسان

    من أدلة الاختيار النازعان
    من أدلة الاختيار الهاتفان
    من أدلة الاختيار منطقة الكسب
    من أدلة الاختيارالاستطاعة
    مقلب القلوب
    الحساب والأمانة

  2. افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    توحيد الربوبية
    ما المقصود بتوحيد الربوبية


    الحمد لله الذي رضي لنا الإسلام دينا ، ونصب لنا الدلالة على صحته برهانا مبينا ، وأوضح السبيل إلى معرفته واعتقاده حقا يقينا ، ووعد من قام بأحكامه وحفظ حدوده أجرا عظيما ، وفرض علينا الانقياد له ولأحكامه ، والتمسك بدعائمه وأركانه ، والاعتصام بهدى نبيه وبيانه ، فالإسلام هو دين الله الذي ارتضاه لنفسه ولأنبيائه ، ورسله وملائكته وأصفيائه ، فبه اهتدى المهتدون ، وإليه دعا الأنبياء والمرسلون ، (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلهُ أَسْلمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِليْهِ يُرْجَعُونَ) (آل عمران :83) ، فلا يقبل الله من أحد دينا سواه في الأولين والآخرين ، (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلنْ يُقْبَل مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ) (آل عمران :85) (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُو العِلمِ قَائِماً بِالقِسْطِ لا إِلهَ إِلا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) (آل عمران :18) .
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من أقر بربوبيته ، وشهد بوحدانيته ، وانقاد لمحبته ، وأذعن بطاعته ، واعترف بنعمته ، وفر إليه من ذنبه وخطيئته ، وأمل في عفوه ورحمته ، وطمع في قبول توبته ، وبريء إليه من حوله وقوته : إلهي أنت الذي صورتني وخلقتني : وهديتني لشرائع الإيمان - أنت الذي علمتني ورحمتني : وجعلت صدري واعي القرآن - أنت الذي أطعمتني وسقيتني : من غير كسب كان في الحسبان
    - وجبرتني وسترتني ونصرتني : وغمرتني بالفضل والإحسان أنت الذي آويتني وحبوتني : وهديتني من حيرة الخذلان وزرعت لي بين القلوب مودة : والعطف منك برحمة وحنان .

    أما بعد : فتوحيد رب العالمين يقوم على ثلاثة أركان أساسية ، توحيد الله في الربوبية ، وتوحيد الله في الأسماء والصفات ، وتوحيد في الألوهية والعبودية ، هذه الأركان تمثل بنيان التوحيد ، وتزين شهادة العبيد إذا قالوا : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فالتوحيد نوعان ولا يتعارض مع كونه ثلاثةَ أنواع في تصنيفاته ، توحيد الربوبية ، وتوحيد الأسماء والصفات ، وتوحيد الألوهية والعبودية ، وسوف نشرح لكم بإذن الله تعالي ، كل ركن من هذه الأركان ، وما تضمنه من معان الكمال في الدلالة على توحيد رب العزة والجلال .
    وأول هذه الأركان التي نتحدث عنها بالتفصيل والدليل توحيد الربوبية لله ، ما معني توحيد الربوبية معناه إفراد الله بالربوبية ، توحد الله في الربوبية .

    ما المقصود بالربوبية ؟ الرب في اللغة مصدر من معنى التربية ، الرب هو الذي يربي غيره وينشئه شيئا شيئا ، فوصف الرب يكون لمن أنشأ الشيء حالا فحالا إلي حد التمام ، أو إصلاح شئون الغير ورعاية أمره بانتظام ، ويطلق الرب في اللغة على المالك مالك الشيء ، تقول : هذا رب الإبل ورب الدار أي مالكها ، ويطلق على السيد المطاع ومنه قوله تعالى : (أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا) ، أي سيده المطاع ، ويطلق الرب أيضا على المعبود ، ومنه قول الشاعر : أرب يبول الثعلبان برأسه : لقد ذل من بالت عليه الثعالب .

    ورد في السيرة الحلبية أن شخصا كان يسمى غاوي بن ظالم وكان سادنا أي خادما لصنم فبينما هو عند صنمه إذ أقبل ثعلبان إلى الصنم ورفع كل واحدة منهما رجله وبال على رأس ذلك الصنم - يبدو أن الصنم كان مطروحا على الأرض لإصلاح ما انكسر فيه أو لرفعه ونصبه بين الأنصاب - فلما رأى غاوي بن ظالم ذلك كسر ذلك الصنم وأنشد : أرب يبول الثعلبان برأسه : لقد ذل من بالت عليه الثعالب ، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ما اسمك فقال غاوي بن ظالم فقال صلى الله عليه وسلم له بل أنت راشد بن عبد ربه .

    والرب عند الإطلاق لا يقال إلا لله تعالى ، وهو المتكفل بخلق الموجودات وإنشائها ، والقائم علي هدايتها وصلاحها وهو المنظم لمعيشتها والمدبر لأمرها ، يقول تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ يُغْشِي الليْل النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لهُ الخَلقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالمِينَ) (لأعراف :54) ، وقال تعالي : (قُل مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل اللهُ قُل أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْليَاءَ لا يَمْلكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً قُل هَل يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالبَصِيرُ أَمْ هَل تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ خَلقُوا كَخَلقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلقُ عَليْهِمْ قُل اللهُ خَالقُ كُل شَيْءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ) (الرعد :16) وقال تعالي : (اللهُ الذِي جَعَل لكُمُ الأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالمِينَ) (غافر :64) فربنا تبارك وتعالى هو المتكفل بخلق الموجودات وإنشائها ، والقائم علي هدايتها وصلاحها ، وهو المنظم لمعيشتها والمدبر لأمرها (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلى كُل نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ قُل سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلمُ فِي الأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ القَوْل بَل زُيِّنَ للذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيل وَمَنْ يُضْلل اللهُ فَمَا لهُ مِنْ هَاد ٍ) (الرعد :33) (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلئِنْ زَالتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَليماً غَفُوراً) (فاطر :41) .

    ولذلك قال أهل التوحيد من أصحاب الكهف (إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلهاً لقَدْ قُلنَا إِذاً شَطَطاً) (الكهف :14) وأمرنا الله بعبادته لما قال : (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لعِبَادَتِهِ هَل تَعْلمُ لهُ سَمِيّاً) (مريم :65) (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البَلدَةِ الذِي حَرَّمَهَا وَلهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلمِينَ) (النمل :91) ، وعلى هذا نهانا أن نتخذ غيره أربابا قوله تعالى : (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا) ، أي آلهة تزعمون أنهم يخلقون ويسببون للعباد الأسباب ، ويدبرون أموركم وتعظمونهم وتتخذونهم آلهة وأرباب ، روى الإمام البخاري من حديث أبى هريرة أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : (لا يَقُل أَحَدُكُمْ أَطْعِمْ رَبَّكَ وَضِّئْ رَبَّكَ اسْقِ رَبَّكَ ، وَليَقُل سَيِّدِي مَوْلايَ ، وَلا يَقُل أَحَدُكُمْ عَبْدِي أَمَتِي وَليَقُل فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلامِي) لأن الرب عند الإضافة يقال لله ولغيره نحو رب الدار ورب الفرس لصاحبهما وعلى ذلك المعنى جاء قول الله تعالى عن يوسف عليه السلام : (وَقَال للذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّه) من أجل ذلك أدبنا نبينا علي التوحيد فقال : (لا يَقُل أَحَدُكُمْ أَطْعِمْ رَبَّكَ وَضِّئْ رَبَّكَ اسْقِ رَبَّكَ ، وَليَقُل سَيِّدِي مَوْلايَ ، وَلا يَقُل أَحَدُكُمْ عَبْدِي أَمَتِي وَليَقُل فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلامِي) .

    ويقوم توحيد الربوبية في القرآن الكريم والسنة النبوية على ركنين أساسيين أو معنيين جامعين ، عليهما يدور الدليل النقلي والعقلي :

    الأول : إفراد الله بالخلق والتقدير والتكوين وإنشاء الشيء من العدم ، ومن ثم إفراده بلوازم ذلك من العلم والمشيئة والقدرة ، والملك والغنى والقوة ، والإحياء والإبقاء والهداية ، والرزق والإمداد والرعاية ، والإفناء والإماتة والإعادة ، والهيمنة والعزة والإحاطة ، وكل ما يلزم من صفات الذات وصفات الأفعال ، لتخليق الشيء وتصنيعه ، وكمال إيجاده واختراعه ، فصفة الخالق أن يستغنى بنفسه فلا يحتاج إلي غيره ، وأن يفتقر وإليه كل من سواه .

    الثاني : إفراد الله بتدبير أمر المخلوقات وتقدير أحوالهم ، والقيام على شئونهم واللطف بهم ، والعناية والهداية إلي ما يصلحهم ، والفصل والقضاء والحكم بينهم ، وتهيئة الكون لتحقيق الغاية من خلقهم .

    الأدلة النقلية على توحيد الربوبية :

    أما الأدلة على ذلك فهي أكثر من أن تحصى إما بالدلالة الظاهرة أو بالدلالة المستترة في آيات الربوبية ، وسوف نعرض جانبا منها إيضاحا لمنهج الاستدلال ، ويمكن تتبع بقية الأدلة من خلال النظر في كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم :
    1) - قوله تعالى عن موسى عليه السلام هو يبين حقيقة الربوبية ومعناها لفرعون لما سأله عنها :  قَال فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَال رَبُّنَا الذِي أَعْطَى كُل شَيْءٍ خَلقَهُ ثُمَّ هَدَى) فالآية دلالتها صريحة على أن موسى عليه السلام لما سئل عن الربوبية أجاب فرعون عن كل معاني الربوبية في معنيين جامعين ، الأول منهما هو إفراد الله بتخليق الأشياء وتكوينها وإنشائها من العدم حيث أعطى كل شيء خلقه ووجوده ، والثاني هو إفراد الله بتدبير الأمر في خلقه وهدايتهم إلي قيام شؤنهم وتصريف أحوالهم والعناية بهم .

    2) - قوله سبحانه وتعالى : (إِنَّ رَبَّكُمْ اللهُ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ ، يُغْشِي الليْل النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لهُ الخَلقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالمِين فالآية الكريمة اشتملت على توحيد الربوبية وقيامه على ركنين ، والدليل على ذلك إجمالا وتفصيلا بترتيب منعكس ، أما توحيد الربوبية فظاهر في قوله : ((تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالمِين) ، وأما قيامه على ركنين ففي إفراده بالخلق والتدبير ، وأما الدليل عليه إجمالا ففي قوله : (أَلا لهُ الخَلقُ وَالأَمْرُ) .
    وأما الدليل عليه تفصيلا ، فالركن الأول هو وصف الله بالخالقية لكل ما في السماوات والأرض وإنشائها من العدم ، وذلك في قوله : (إِنَّ رَبَّكُمْ اللهُ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) ، والركن الثاني هو تدبير الأمر وإمساك الكون بعد إنشائه وخلقه على نظام ثابت يحقق الغاية من وجوده ، وقد ورد مفصلا في قوله : (ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ ، يُغْشِي الليْل النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ) ، وقد أكدت الآية في نهايتها حقيقة الربوبية وأن رب العالمين هو المنفرد بالخلق والتدبير .

    3) - قوله تعالى : (اللهُ خَالقُ كُل شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُل شَيْءٍ وَكِيل ٌ ، لهُ مَقَاليدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ) (الزمر :63) وفي سورة الشوري (لهُ مَقَاليدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُل شَيْءٍ عَليمٌ) (الشورى :12) ، معني مقاليد يقول ابن كثير : (قوله عز وجل له مقاليد السماوات والأرض قال مجاهد المقاليد هي المفاتيح الفارسية وكذا قال قتادة وابن زيد وسفيان بن عيينة وقال السدي له مقاليد السماوات والأرض أي خزائن السماوات والأرض والمعنى على كلا القولين أن أزمة الأمور بيده تبارك وتعالى له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) ، فقوله : (اللهُ خَالقُ كُل شَيْءٍ) شاهد للركن الأول الذي قام عليه معنى الربوبية ، وقوله : (وَهُوَ عَلى كُل شَيْءٍ وَكِيلٌ) ، شاهد للركن الثاني وهو اعتماد الكون في قيامه بعد خلقه وإنشائه على تدبير الله ، فالوكيل الكفيل وهو سبحانه حفيظ رقيب ، يدبر أمر كل ما سواه ويرزقهم ويكلؤهم بالليل والنهار .
    وعلى الوتيرة نفسها جاء قوله تعالى : (وَللهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفي بِاللهِ وَكِيلا) ، فالركن الأول هو التخليق والإنشاء من العدم ، والثاني هو تدبير أمور المخلوقات بعد تكوينها ، وكذلك قوله تعالى : (له ُ الذِي خَلقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لتَعْلمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُل شَيْءٍ عِلمًا) فالركنان في الآية باديان واضحان في إنشاء الخلق وتنزيل الأمر بتدبير الرزق .
    ومثله أيضا قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمْ اللهُ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلكُمْ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) وقوله تعالى : (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلى الذِي خَلقَ فَسَوَّى وَالذِي قَدَّرَ فَهَدَى) ، أي خلق كل شيء مستويا فعدله وهيأه لغايته فهذا شاهد للركن الأول من ركني الربوبية .
    وقال مجاهد في معنى قوله تعالى : (وَالذِي قَدَّرَ فَهَدَى) ، قدر السعادة والشقاوة وهدى الإنسان لسبيل الخير والشر والرشد والضلالة وهدى الأنعام لمراعيها وقدر أرزاقهم وأقواتهم ، وهداهم لمعايشهم إن كانوا إنسا ولمراعيهم إن كانوا وحشا) .

    4) - قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لهُ إِنَّ الذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلوْ اجْتَمَعُوا لهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالبُ وَالمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) .
    فالله سبحانه نفي عن آلهتهم وصفين اثنين هما أساس الربوبية ، أولهما : الخلق والتكوين حتى لأحقر المخلوقات ، والثاني : التدبير ، لا لما يخلقونه فإنهم أضعف من ذلك ، ولكن نفي عجزهم عن تدبير أمور أنفسهم باسترداد شيء ضئيل مما يخصهم لو سلبه الذباب منهم ، وهذا منتهى وصفهم بالعجز والضعف ، فكيف تكون آلهة معبودة من دون الله ؟ وكل ذلك يدل على انفراد الله بالربوبية وأن معناها قائم على إفراده بالخلق وتدبير الأمر .

    5) - رورى البخاري ومسلم من حديث أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : (قَال اللهُ عَزَّ وَجَل : وَمَنْ أَظْلمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ خَلقًا كَخَلقِي ، فَليَخْلُقُوا ذَرَّةً أَوْ ليَخْلُقُوا حَبَّةً أَوْ ليَخْلُقُوا شَعِيرَةً) وعند البخاري من حديث عائشة أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : (أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ الذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلقِ الله) وعنده أيضا من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال : أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : (مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِي الدُّنْيَا كُلفَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَليْسَ بِنَافِخٍ) ، ووجه الاستدلال من هذه الأحاديث أن النبي صلي الله عليه وسلم ذكر العلة في عقوبتهم وعذابهم وهي المضاهاة بخلق الله ، لأن الله تعالى منفرد بالخلق والأمر ، فهو خالق كل شيء وهو الذي صور جميع المخلوقات فأحسن صورها ، فالمصور لما صور إنسانا أو حيوانا على نحو ما خلقه الله تعالى ، فإنه تشبه بالله في الركن الأول من ركني الربوبية وهو الخلق ، فكلفه الله يوم القيامة بالركن الثاني وهو تدبيره وتحريكه ، تبكيتا وتعجيزا ، كلفه أن ينفخ الروح في الصورة التي صورها وليس بنافخ ، فصار ما صوره عذابا له يوم القيامة لأنه تشبه بالله في المبتدأ وأشرك في الربوبية .
    فتوحيد الربوبية يقوم علي ركنين أساسيين أو معنيين جامعين ، الأول : إفراد الله بالخلق والتقدير وإنشاء الشيء من العدم ، وكل ما يلزم من صفات الذات وصفات الأفعال ، لتخليق الشيء وتصنيعه ، وكمال إيجاده واختراعه ، فصفة الخالق أن يستغنى بنفسه فلا يحتاج إلي غيره ، وأن يفتقر وإليه كل من سواه ، الثاني : إفراد الله بتدبير أمر المخلوقات وتقدير أحوالهم ، والقيام على شئونهم واللطف بهم ، والعناية والهداية إلي ما يصلحهم ، والفصل والقضاء والحكم بينهم ، وتهيئة الكون لتحقيق الغاية من خلقهم .

    الأدلة العقلية على توحيد الربوبية :

    فإذا قيل لك : بم عرفت ربك ؟ فقل عرفته يقينا بآياته ومخلوقاته . فمن الوسائل التي يدرك بها اليقين ، أو يتأكد بها الإنسان أنه على يقين من أمره في توحيد ربه ؟ البديهيات أو الأوليات : وذلك كالحكم على أن البعرة تدل يقينا على البعير وأن الأثر يدل يقينا على المسير ، ومن هنا كان المسلم على يقين بوجود الله من خلال إثبات وجود الخالق بدلالة المخلوقات ، وقد ثبت ذلك بحكم الأوليات أو البديهيات ، ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر ، ومن مخلوقاته السموات السبع والأرضون السبع ومن فيهن وما بينهما ، يقول تعالي : (وَمِنْ آيَاتِهِ الليْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ لا تَسْجُدُوا للشَّمْسِ وَلا للقَمَرِ وَاسْجُدُوا للهِ الذِي خَلقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (فصلت :37) ، وقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ يُغْشِي الليْل النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لهُ الخَلقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالمِينَ) (لأعراف :54) ، فمن أكبر المحرمات جريمة الزني ، والحكم فيها لا بد أن يقوم على مفردات يقينية ولا يبني على أمور ظنية ، وقد بين القرآن وسائل إدراك اليقين عند الحكم على المرتكبين لها ، فمن ذلك البديهيات وارتباط العلل بالمعلولات ، كما قالت مريم للملك عندما قال لها : (إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لكِ غُلامًا زَكِيًّا قَالتْ أَنَّي يَكُونُ لي غُلامٌ وَلمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ - بزواج - وَلمْ أَكُنْ بَغِيًّا - بزنا - لأن البديهيات تجعل العاقل يحكم حكما يقينيا بأن الولد لا يأتي إلا من طريق مشروع أو طريق ممنوع - ولذلك أكد لها الملك أن ذلك واضح صحيح ، وأن حالتها استثناء وأن الله يخلق ما يشاء - قَال كَذَلكِ قَال رَبُّكِ هُوَ على هَيِّنٌ وَلنَجْعَلهُ آيَةً للنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا - من أجل ذلك أثبت لها الخالق براءتها ، بخرق العادات وظهور المعجزات ، وأوحي إليها أنها إذا رأت من أنكر عليها ، أن تلزم الصمت وتمتنع عن الكلام ، وكل ما عليها أن تشير إلي الغلام وتقول : (إِنِّي نَذَرْتُ للرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلنْ أُكَلمَ اليَوْمَ إِنسِيًّا فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشَارَتْ إِليْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلمُ مَنْ كَانَ فِي المَهْدِ صَبِيًّا قَال إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِي الكِتَابَ وَجَعَلنِي نَبِيًّا وَجَعَلنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالدَتِي وَلمْ يَجْعَلنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلامُ على يَوْمَ وُلدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ذَلكَ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ قَوْل الحَقِّ الذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ للهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَي أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لهُ كُنْ فَيَكُون) .

    فدلالة الأسباب على خالقها من أعظم الدلائل العقلية علي توحيد الربوبية : فالعقلاء يعلمون أن المصنوع يدل على صانعه والمخلوق يدل على خالقه ، وآيات القرآن كثيرة جدا في بيان هذا المنهج العقلي في الاستدلال على وجود الخالق وعظمته واستحقاقه للعبادة وحده دون سواه كقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَليْكُمْ هَل مِنْ خَالقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) فاطر/3 ، وقوله عز وجل : (أَمْ خُلقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالقُونَ أَمْ خَلقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ) (الطور:35) ماذا قال علماء السلف في ذلك ؟
    يقول الحسن بن على رضي الله عنه : (كانوا يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون الحمد لله ربنا الرفيق الذي لو جعل هذا الخلق خلقا دائما لا يتصرف لقال الشاك في الله لو كان لهذا الخلق رب يصرفه فكان الله تبارك وتعالى قد صرفه وقلبه بما ترون من الآيات أنه جاء بضوء ملأ ما بين الخافقين وجعل فيها معاشا وسراجا وهاجا ثم إذا شاء ذهب بذاك الخلق وجاء بظلمة تملأ ما بين الخافقين وجعل فيها سكنا وقمرا منيرا ، وإذا شاء بنا ربنا جعل فيها من المطر والرعد والبرق والصواعق ما شاء ، وإذا شاء صرف ذلك الخلق وإذا شاء ببرد يقرقف الناس ، وإذا شاء ذهب بذلك البرد وجاء بحر يأخذ بأنفاس الناس ليعلم الناس أن لهذا الخلق ربا ، هو يصرفه ويقلبه بما ترون من الآيات كذلك إذا شاء ذهب بالدنيا وجاء بالآخرة) (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَليْهِ وَسَلمُوا تَسْليماً) (الأحزاب:56)

    وإلى لقاء آخر بإذن الله ،

  3. افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    توحيد الربوبية
    كيف نعرف ربنا ؟


    الحمد لله الذي شهدت له بالألوهية طوعا وكرها جميعُ مخلوقاته ، وأقرت له بالربوبية ظاهرا وباطنا جميع مصنوعاته ، وشهدت بأن الله رب العالمين بما أودعها من عجائب صنعته ، ودلائل آياته وبديع حكمته ، سبحانه أحمده عدد خلقه ، ورضاء نفسه ، وزنة عرشه ، ومداد كلماته ، لا إله إلا الله ، هو الواحد الأحد لا شريك له في ألوهيته ، ولا شريك له في ربوبيته ، ولا شبيه له في ذاته وصفاته وأفعاله وحكمته ، (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَل لكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ ليْسَ كَمِثْلهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (الشورى :11) (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لعِبَادَتِهِ هَل تَعْلمُ لهُ سَمِيّاً) (مريم :65) ، سبحان من سبحت له السماوات وأملاكها ، والنجوم وأفلاكها ، والأرض وسكانها ، والبحار وحيتانها ، والنجوم والجبال ، والآكام والرمال ، (تُسَبِّحُ لهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَليماً غَفُوراً) (الإسراء :44) ، وأشهد ألا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، شهادة تضمن لنا الإسعاد يوم يقوم الأشهاد وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وخيرته من خلقه ، وأمينه على وحيه ، أرسله للإيمان مناديا ، وإلى الجنة داعيا ، وإلى صراطه المستقيم هاديا ، وفي مرضاته ومحبته ساعيا ، وبكل معروف آمرا ، وعن كل منكر ناهيا ، رفع ذكره ، وشرح صدره ووضع وزره ، وجعل الذل والصغار على من خالف أمره ، نبي أمي قوى تقي ، صلى عليه ربنا وكلفنا بالصلاة والسلام عليه كما أمرنا فقال : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَليْهِ وَسَلمُوا تَسْليماً) (الأحزاب :56) فاللهم صلي وسلم وبارك علي عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه إلى يوم الدين ، أما بعد .

    فحديثنا بإذن الله تعالي يدور حول الطريقة السلفية في التعرف علي وجود الرب وتوحيده بالربوبية ، كيف نعرف ربنا وإلهنا ؟ ما هي طريقة السلف في إثبات وجود الله عز وجل ؟ وكيف فطر الله عباده علي معرفته ؟ طريقة السلف هي طريقة الأنبياء والرسل ، (قَالتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) (إبراهيم :10) ، وقال ابن الجوزي : (وهل يشك ذو عقل في وجود صانع ، فإن الإنسان لو مر بقاع ليس فيه بنيان ، ثم عاد فرأى حائطا مبنيا علم أنه لا بد له من بان بناه ، فهذا المهاد الموضوع وهذا السقف المرفوع ، وهذه الأبنية العجيبة والقوانين الجارية على وجه الحكمة ، أما تدل على صانع ؟) ، وما أحسن ما قاله بعض الأعراب في ذلك ، قال : إن البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير ، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج ألا تدل على اللطيف الخبير .

    فلا بد لهذا الكون المخلوق المصور من خالق مصور ، فإذا كانت الكتابة لا بد لها من كاتب ولا بد للصورة من مصور وللبناء من بان ، وكنا لا نشك في جهل من أخبرنا عن كتابة حصلت من غير كاتب ، وصياغة تمت غير صائغ فوجب أن تكون المصنوعات ، وحركات الكواكب السيارات ، والفلك الجوار المنشئات ، قد وجدت عن قدرة خالق خلقها ، وصانع صنعها ، وحكيم يدبر أمرها ، يقول تعالي : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُل شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت :53) .

    قال ابن عباس قوله تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق أي سنريهم علامات وحدانيتنا وقدرتنا ، وأصح الطرق وأجلاها ، وأوضحها وأشفاها في التعرف علي ربوبية الله لكونه هي طريقة القرآن ، وطريقة القرآن مبنية على الاستدلال بنوعين من الآيات ، آيات الله في الآفاق الكونية ، وآيات الله في النفس البشرية ، كما ذكر الله تعالي في قوله :
    (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ) ، فأولا الآيات : دلالة الآفاق : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ) والعالم الآن يتكاتف لاكتشاف آفاق الكون وأبعاده ، والبحث عن بدايته وكيفية بنيانه ، ومن أعظم مشاريع العصر بناء المحطة الفضائية الدولية مير ثم سقوطها تم بناء المحطة الدولية الجديدة .
    ثانيا : دلالة النفس (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا وَفِي أَنْفُسِهِمْ) والعالم الآن يتكاتف لاكتشاف أكبر المشاريع في تاريخ البشرية وهو مشروع الجينيوم .

    ولنتحدث أولا علي دلالة الآفاق : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ) هذا الكون الضخم العظيم من أعظم الدلائل على وجود الله وتدبيره لخلقه ، فالأرض التي نعيش عليها ، والمجموعة الهائلة من النجوم التي تتراءى لنا تبهر الناظرين ، فتقف النفس أمامها وقوف العاجزين ، تحار فيها عقول ذوى الألباب ، ويسيطر عليها الدهشة والاستغراب والإعجاب ، فتزداد القلوب إيمانا بعظمة الخالق وقدرته ، وكمال صنعه وبديع حكمته ، والقرآن الكريم الذي هو كلام الله كثرت فيه الآيات التي تدعوا العقلاء إلي النظر في خلق الأرض السماوات ، وتدعوه إلى التفكر في أسرار هذه المخلوقات ، ليدعم إيمانه بربه ، ويطرد الشك من نفسه ، قال الله تعالى (قُل انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُون َ) (يونس :101) ، وقال تعالى (أَوَلمْ يَنْظُرُوا فِي مَلكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (لأعراف :185) ، ويقول تعالي : (قُل سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ) (العنكبوت :20) (خَلقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ إِنَّ فِي ذَلكَ لآيَةً للمُؤْمِنِينَ) (العنكبوت :44) ، وجاء أيضاً : (إِنَّ فِي خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الليْل وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولي الأَلبَابِ) (آل عمران :190) .

    لقد شغل الكون بآفاقه علماء عصرنا ، ويا ليتهم بعقلهم وتقدمهم استدلوا بما اكتشفوه علي خالقهم ، محطة الفضاء الروسية مير ، بعد 15 عاما من الدوران حول الأرض سقطت مير في المحيط الهادي ، وما هي مير ؟ مير تزن حوالي 137 طنا ، كانت أضخم جسم يدور في الفضاء حول الأرض بعد القمر ، مير هي جوهرة التاج الخاصة ببرنامج الفضاء الروسي ، جمعت على متنها خلال فترة حياتها الكثير من رواد الفضاء والعلماء ، المتخصصين في علم الكونيات من 12 دولة ، هذا بالإضافة إلى روسيا ، وبعد سقوط مير قامت أمريكا بإنشاء محطة الفضاء الدولية التي يشترك في تشييدها أكثر من 16 دولة ، بتكلفة تصل إلى 100 بليون دولار عند تمام إنشائها .

    كل ذلك لأن معرفة الكون تذهلهم ، تحقيقا لقول خالقهم : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ) آيات الله التي يستدلون من خلالها بهذه المخلوقات على رب العالمين ، وحتى تقام حجة الله علي المشركين والكافرين ، ما الذي اكتشفوه عن الكون في محطتهم الفضائية ؟ وما الذي وجدوه من آيات الحق في دراستهم العلمية ؟ وجدوا تصديقا لقول خالقهم : (الشَّمْسُ وَالقَمَرُ بِحُسْبَان ٍ) (الرحمن :5) .

    الشمس هي نجم متواضع يبلغ متوسط قطره حوالي مليون ونصف المليون من الكيلومترات ، وكتلته ألفا مليون مليون مليون طن ، أي 335 ألف مرة قدر كتلة الأرض ، والشمس كأي نجم عادي توجد على هيئة كرة ضخمة من غاز الأيدروجين الذي تكثف على ذاته بقدرة الله ، فبدأت بداخله عمليات من الاندماج النووي التي تتحد فيه ذرات الأيدروجين مع بعضها البعض لتكون غاز الهيليوم ، تنبعث طاقة تشبه الطاقة المنبعثة من القنبلة الهيدورجينية ، وذرات الهيليوم تتحد مكونة عناصر أعلى في وزنها الذري ، ويكون غاز الإيدروجين حوالي 70% من كتلة الشمس ، بينما يكون غاز الهيليوم حوالي 28% من كتلتها ، ويغلب على الـ 2% الباقية عنصرا الكربون والأكسجين ، وتبلغ درجة حرارة سطح الشمس 6000م ، ودرجة حرارة ألسنة اللهب الممتد منها إلى مليون درجة مئوية ، وتزداد درجة الحرارة في اتجاه مركز الشمس ؛ لتصل إلى حوالي 15 مليون درجة مئوية .

    فيا شمس من سواك علي هذا الحال القوي المنيع ؟ وجعلك سببا في صيف وشتاء وخريف وربيع بديع ؟ لا غني عنك فإن عشنا بدونك فإنا لا نستطع ، قربك منا قليلا يؤذننا بزوال سريع ، يا شمس بعدك عنا قليلا يجعلنا نضيع ، فمن الذي جعلك في هذا القدر المنيع البديع ؟ أأنت سويت نفسك من أجل الجميع ؟ (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لهَا أَنْ تُدْرِكَ القَمَرَ وَلا الليْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلكٍ يَسْبَحُونَ) (يّـس :40) (أَلمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّل وَلوْ شَاءَ لجَعَلهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلنَا الشَّمْسَ عَليْهِ دَليلاً) (الفرقان :45) . الشمس لها مجال مغناطيسي يتعدى حدود المجموعة الشمسية ، جعله الله سببا في ثبات كوكبنا مع بقية المجموعة وأقمارها ، القمر تابع صغير للأرض يبلغ قطره ربع قطر الأرض تقريبًا (3476 كيلومترًا) ، وتبلغ مساحة سطحه 38 مليون كم2 ، وتقدر جاذبيته بسدس جاذبية الأرض ، والقمر يدور حول الأرض في مدار شبه دائري يتراوح نصف قطره بين 356 ألف ، 400 آلاف كم يقول تعالي (وَجَعَل القَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَل الشَّمْسَ سِرَاجاً) (نوح :16) (الشَّمْسُ وَالقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) (الرحمن :5) ، متوسط بعد القمر عن الأرض يقدر 384 ألف كم تقريبا ، ويستغرق القمر نفس المدة الزمنية في دورانه حول محوره ليدور دورة كاملة حول الأرض في 27 .5 يومًا ، وتتراوح درجة الحرارة على سطح القمر بين سالب 173 درجة مئوية بالليل ، 127 درجة مئوية ظهرًا ، ولما كان القمر هو أقرب أجرام السماء إلينا كانت دورته هي أدق وسائل التقويم الزمني للأرض .

    (هُوَ الذِي جَعَل الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِل لتَعْلمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ مَا خَلقَ اللهُ ذَلكَ إِلا بِالحَقِّ يُفَصِّلُ الآياتِ لقَوْمٍ يَعْلمُونَ) (يونس :5) (وَالقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِل حَتَّى عَادَ كَالعُرْجُونِ القَدِيمِ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لهَا أَنْ تُدْرِكَ القَمَرَ وَلا الليْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلكٍ يَسْبَحُونَ) (يّس :39) (وَمِنْ آيَاتِهِ الليْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ لا تَسْجُدُوا للشَّمْسِ وَلا للقَمَرِ وَاسْجُدُوا للهِ الذِي خَلقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (فصلت :37) . يقول العلماء المجرة هي تجمع نجمي يضم عشرات البلايين من النجوم مثل شمسنا ، والمجرة التي تتبعها مجموعتنا الشمسية تضم أكثر من أربعمائة ألف مليون نجم تحتشد على هيئة قرص مفرطح يبلغ قطره نحو مائة ألف سنة ضوئية ، وارتفاعه نحو عشر ذلك ، وتقع مجموعتنا الشمسية على بعد 30 .000 سنة ضوئية من مركز المجرة ، و 20 .000 سنة ضوئية من أقرب أطرافها ، وتختلف نجوم المجرة في أعمارها وفي أحجامها ، ودرجات حرارتها ودرجات لمعانها ، وفي غير ذلك من صفاتها الطبيعية ، وفي تركيبها الكيماوي وفي دورات حياتها ، فمنها النجوم العادية المفردة والمزدوجة والعماليق الحمر ، والنجوم الزرقاء والنجوم البيضاء والبنية والسوداء ، ومنها المستعرات وفوق المستعرات ، ومنها النجوم النيوترونية النابضة وغير النابضة ، ومنها النجوم الخناسة الكانسة ، ومنها النجم الطارق وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب ، ومن المجرات ما هو حلزوني مثل مجرتنا ، ومنها ما هو بيضاوي ، ومنها ما هو أكبر من مجرتنا بكثير ، وما هو في حجمها وما هو أصغر منها ، وقد يتجمع عدد من المجرات على هيئة عنقود مجري يضم عشرات الآلاف من المجرات ، والمجرات تتباعد عن بعضها البعض بسرعات قد تقترب من سرعة الضوء في بعض الأحوال .

    كانوا يعتقدون في الأوساط العلمية أن المجرات تسير في حركة عشوائية تشابه حركة الجزئيات في الغازات ، بعضها في تقارب والبعض الآخر في تباعد ، ولكن اكتشافا قلب ذلك الاعتقاد رأسا على عقب ، لقد اكتشفوا أن هذه الملايين المؤلفة من المجرات في ابتعاد مستمر عن بعضها بسرعات هائلة ، قد تصل في بعض الأحيان إلى كسور من سرعة الضوء ، وكذلك بالنسبة لنا للمجرات التي نراها من حولنا في ابتعاد مستمر عنا ، فالحقيقة المؤكدة حاليا أن الكون في تمدد حجمي أو اتساع مستمر كما قال تعالى : (وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لمُوسِعُونَ) ، وهذا ما يحدث للكون الآن ، اتساع مستمر وتمدد دائم ، السماء تتسع والكون يتمدد ، وهذه الآن حقيقة علمية ليست قائمة على نظرية أو مقدمات افتراضية ، ولكن اتفاق التجارب التي قام بها الكثير من الفلكيين في أزمان مختلفة وأماكن متنوعة قد جعلت من هذه النظرية حقيقة علمية , فأصبحت حقيقة اتساع الكون كحقيقة دوران الأرض حول الشمس أو كروية الأرض ، فمن الذي يجحد الخالق الذي صنع ذلك ، ومن الذي يكذب بقول الله (وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لمُوسِعُونَ) ؟ من الذي نظم النجوم علي هذا الحال ؟ وزينها في السماء بهذا الجمال ؟ ومن الذي بناها على هذا الكمال ؟ أجيبوا يا من عقولكم في عقال وضلال : (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لقَسَمٌ لوْ تَعْلمُونَ عَظِيمٌ) (الواقعة :76) .

    مواقع النجوم ، إن هذه البلايين من النجوم الموزعة توزيعا منتظما في هذا الكون ، وحركتها منتظمة وفق قانون معلوم بحيث لا يصطدم ببعضها ببعض لبرهان على وجود الله لا يقف أمامه برهان ، وهذا ما استدل به القرآن قبل أربعة عشر قرنا من الزمان : (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لقَسَمٌ لوْ تَعْلمُونَ عَظِيمٌ) (الواقعة :76) وقوله تعالى : لو تعلمون عظيم شاهد جديد لدي علماء الفلك الغربيين على أن الله حق وأن القرآن وحي إلهي حق ، وأن محمدا صلي الله عليه وسلم حق ، فهذا التعبير ِمَوَاقِعِ النُّجُومِ لم يدركه إلا علماء الفلك حديثا ، وذلك بعد اختراع المناظير الضخمة التي أرتهم من عجائب الكون ما كان خافياُ ، إن خالق الكون هو الذي يتحدث عن كونه فهو الذي يعلم ما خلق ومن خلق كما قال : (أَلا يَعْلمُ مَنْ خَلقَ وَهُوَ اللطِيفُ الخَبِيرُ) .

    تثبت علوم الفلك الآن أنه نظرا لعظم هذه المسافات بيننا وبين النجوم ، ونظر لأن النجوم متحركة ونحن نرافي مواقعها ثابتة ، فالإنسان لا يرى النجوم أبدا ، ولكنه يرى مواقع مرت بها النجوم ، فبسرعة الضوء حينما ينبثق الضوء من النجم إلى أن يصل إلينا ، يكون النجم تحرك من موقعه ، وانتقل عن موضعه ، فالإنسان لا يرى من النجوم إلا مواقع مرت بها ، كما أن الضوء ينحني في صفحة السماء ، فحينما يصل إلينا منحنيا ، يراه البصر موقعا وهميا غير الموقع الحقيقي للنجم ، (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لقَسَمٌ لوْ تَعْلمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ) ، فسبحان الذي خلق السماء فأحكم بنيانها ، وأمسكها ورفعها بغير عمد ترونها : إلهي أنت الذي فضلت موسى بكلامه ثم بعثت إليه رسولا مناديا - اذهب وهارون فادعوا إلى الله فرعون الذي كان طاغيا - وقولا له هل أنت سويت السماء بلا وتد حتى استقلت كما هيا - وقولا له أأنت رفعت هذه ثم بلا عمد أو فوق ذلك بانيا - وقولا له هل أنت سويت قمرا منيرا إذا ما جنك الليل هاديا - وقولا له من يرسل الشمس غدوة ثم فيصبح ما مست من الأرض ضاحيا -وقولا له من أنبت الحب في الثرى ثم فيصبح منه العشب يهتز رابيا - ويخرج منه حبه في رءوسه ثم ففي ذاك آيات لمن كان واعيا .

    فدلالة الآفاق طريق من أبرز الطرق التي نتعرف من خلالها علي وجود الخالق وعظمته ، ما يحدث في الكون من تصريف يتجدد ، في طلوع الشمس والقمر والنجوم وفق زمان محدد ، في دوران الأفلاك الدائرات ، والسفن الجاريات والرياح الذاريات والنجوم العلامات ، وكذلك تغير أحوال الهواء ، والغيوم في السماء ، والرعد والبرق وإنزال الأمطار ، وما فيها من أحوال تدل على بالغ الحكمة ، لا تختلط فيها الأمطار قطرة بقطرة ، مهما صغرت أو كثرت أو تقاربت أو تتابعت ، حتى تقع متفرقة من غير ضرر ، ولو اجتمعت لعظم ضررها وكثر خرابها ، فمن الذي ينزل هذه الأمطار فتروي الأرض بسهولها وجبالها ، وشعابها وهضابها ، ولينبت العشب الكثير الذي تأكله الأنعام والحيوان والهوام ، ويخرج به النبات والأشجار ، والأزهار والثمار ، ويمتد الماء إلى البحار والأنهار ، وتمتلأ به العيون والآبار (إِنَّ فِي خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الليْل وَالنَّهَارِ وَالفُلكِ التِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَل اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُل دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة :164) فالتفكر في هذه الأمور هو النظر المأمور به في الآيات ، وعلى ذلك درج السلف من غير ترتيب مقدمات ، أو قانون المنطق وأنواع من الفلسفات ، بل قد شهد كتاب الله على أن ذلك يفيد البيان حيث قال : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ) (فصلت :53) ثم توعد من زعم أن ذلك لم يفده بيانا بقوله : (أَوَلمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُل شَيْءٍ شَهِيدٌ) ، فلا يشترط في العلم بوجود الله أن يبني على المقدمات المنطقية والأساليب النظرية ، ومن الذي ينكر هذا إلا كل معاند ؟ أو يستبعده في العقل إلا كل جاحد ؟

    لقد حكى الله عن الهدهد وهو طائر صغير أنه وحد الله واحتج على صحة توحيده بهذا الدليل ، الذي توصل إليه من خلال النظر في الآفاق ، فقال تعالى عن قوله : (أَلا يَسْجُدُوا للهِ الذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلنُونَ اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ) .

    ودلائل الربوبية في الآفاق آياتها أعظم وأكثر من كل دليل منطقي أو منهج فلسفي ، فكل إنسان تظهر له من الدلائل المعينة التي يريه الله إياها في نفسه وفي الآفاق ما لا يعرف أعيانها قوم آخرون ، فالله أخبرنا أنه سيري الناس في أنفسهم وفي الآفاق من الآيات العينية المشهورة المعقولة ما يبين أن الآيات القرآنية المسموعة المتلوة حق فيتطابق العقل والنقل ويتفق العيان والقرآن ، وإذا كان القرآن حقا لزم كون الرسول والذي جاء به صدقا ، وذلك يتضمن إثبات الصانع وتوحيدِه وأسماءه وصفاته وإثبات النبوات وإثبات المعاد وهذه هي أصول العلم والإيمان التي تعلقت بها السعادة والنجاة .

    أما دلالة الأنفس : فقد ذكرها الله بعد دلالة الآفاق فقال : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ) ومن أعظم ما يدور في العالم الآن ، مشروع القرن ، أعظم مشاريع التاريخ ، مشروع الجينيوم ، أوخريطة الجينات البشرية ، الحامض النووى للخلية دي إن إي ، أو سر الحياة كما أطلقوا عليها عام 1953م ، ويمتاز هذا الحامض في الخلية بأن له تركيبة واحدة في الإنسان ، وهو عبارة عن سلمين لولبين ملتصقين وملتفين حول بعضهما البعض ، وتتكون جوانب السلم من جزئيات السكر والفوسفور ، وتتكون كل درجة من درجاته من قاعدة نيتروجيه وتوجد أربعة أنواع من هذه القواعد التي تتوالى بطريقة معينة ، وقد شبه الحامض الوراثى "النووي" بكتاب مؤلف من أبواب محددة والباب الواحد مكون من صفحات ، وفي كل صفحة فقرات مكتوبة بكلمات من أحرف ، ولا يزيد عدد الأحرف عن أربعة ، هي المواد الأساسية التي خلقها الله سبحانه وتعالى في الجسم الإنساني والحيواني والنباتي ، تصور لغة من أربعة حروف كيميائية ، موضوعة في تسلسل معين يؤدي إلى خلق البشر ، والله سبحانه وتعالى خلقنا بتركيبة مبنية على هذه الحروف الأربعة .

    نشر العلماء أول حلقة من خريطة الجينات البشرية في تقدم يبشر بإحداث ثورة في المفاهيم العلمية والطبية ، تتوج جهودا مضنية بذلها علماء كثيرون من أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان والصين طوال السنوات العشر الماضية لفك شفرة الجينات الوراثية التي جعلت منا كائنات حية ، الجينوم هو القائمة الكاملة من الجينات الوراثية المشفرة اللازمة لتكوين الكائن الحي ، هناك 3 .1 مليار حرف من الحامض النووي (دي إن إيه) في كل خلية من الخلايا البشرية البالغ التي عددها 100 تريليون خلية ، الأسس النتروجينية الأربعة لحروف الحامض النووي والمترتبة على شكل أزواج ، تحمل المعلومات الكاملة لتكوين جميع الكائنات الحية ، إذا وضعت جميع جزيئات الحامض النووي في الجسم البشري سوية من نهايات أطرافها ، فإنها تساوى مسافة ما بين الأرض إلى الشمس ذهابا وعودة 600 مرة ، والمعلومات الموجودة في الخلية يمكن أن تملأ مجموعة من الكتب يصل ارتفاعها إلى 60 مترا أو 200 دليل هاتف كل واحد منها مؤلف من 500 صفحة .

    دلالة الأنفس دلالة بليغة قال الله تعالى : (قُتِل الإنسان مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيل يَسَّرَهُ) (عبس :20) وقال تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (الذاريات :21) وقال : (يَا أَيُّهَا الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ الذِي خَلقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) (الانفطار :8) ، وقال : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِليْهِ تُرْجَعُونَ) (البقرة :28) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ البَعْثِ فَإِنَّا خَلقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلقَةٍ لنُبَيِّنَ لكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفي وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَل العُمُرِ لكَيْلا يَعْلمَ مَنْ بَعْدِ عِلمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلنَا عَليْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُل زَوْجٍ بَهِيج ، ذَلكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي المَوْتَى وَأَنَّهُ عَلى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي القُبُورِ) (الحج :7) .

    وقد جمع الله تعالى ذكر دلالتي النفوس والآفاق في قوله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُل شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت :53) ونحن نعلم بالضرورة أننا وجدنا أحياء قادرين عالمين ناطقين سامعين مبصرين مدركين بعد أن لم نكن شيئا وأن أول وجودنا كان نطفة قذرة مستوية الأجزاء والطبيعة غاية الاستواء ، بحيث يمتنع في عقل كل عاقل ، أن يكون منها بغير صانع حكيم ما يختلف أجناسا وأنواعا وأشخاصا .

    أما الأجناس فكما نبه عليه قوله تعالى : (وَاللهُ خَلقَ كُل دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْليْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ) (النور :45) ، وأما الأنواع فنبه عليها بقوله : (أَلمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلقَةً فَخَلقَ فَسَوَّى فَجَعَل مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى) (القيامة :39) ، وأما الأشخاص فبقوله تعالى : (قُتِل الإنسان مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيل يَسَّرَهُ) (عبس :20) ، وبيان ذلك أنه خلق من نطفة فقدره مستوية الطبيعة ، فكيف يكون منها ما يبصر ، ومنها ما يسمع ، ومنها ما يتذوق ، ومنها ما يشم ؟ ومنها ما يحس ويتأثر ، ومنها العظم الصلب ومنها الرخو اللب ، ومنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع .

    ونعلم أنا قد تغيرت بنا الأحوال وتنقلت بنا الأطوار تنقلا عجيبا فكنا نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم لحما ودما ثم عظاما صلبة متفرقة في ذلك اللحم والدم تقويهما وعصبا رابطة بين تلك العظام بأربطة فيها من القوة والمتانة ما فيها ، ثم انظر إلى موضع العينين بعيدا مما يؤذيها مرتفعا للتمكن من إدراك المبصرات في الوجه الذي لا يحتاج إلى تغطية باللباس مما فيهما من الجمال البديع ، وفي جفونهما ، ولو كانتا في الرأس أو في الظهر أو في البطن أو غير ذلك ما تمت الحكمة ولا النعمة ، وكذلك كل عضو في مكانه وانظر إلى ستر القذر والخراءة الذي في بطن الإنسان ، ستره بسواتر عظيمة بحيث لا يؤذي أخاه الإنسان ، فلا يحس له حس ولا يظهر له ريح ولا يخرج إلا باختيارنا في موضع خال بعيد عنا ، وإن من عجيب صنع الله تعالى استمساك البول في حال الغفلة ، بل في حال النوم حتى نختار خروجه ، ونرضى به من غير ربط ولا انسداد في مجراه ، (صُنْعَ اللهِ الذِي أَتْقَنَ كُل شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) (النمل :88) (فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالقِينَ) (المؤمنون : من الآية14) ، ثم حياتنا في بطون أمهاتنا من غير نفس ، ثم إذا خرجنا طلبوا لنا النفس فلو جاز أن يكون مثل هذا بغير صانع لجاز أن تصح لنا دور معمورة أو مصاحف مكتوبة أو ثياب محوكة أو حلى مصوغة بغير بان ولا كاتب ولا حائك ولا صائغ .

    قال قتادة رحمه الله في قوله تعالي : (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) (الإسراء :72) قال : من عمي عما يرى من الشمس والقمر والليل والنهار وما يرى من الآيات ولم يصدق بها فهو عما غاب عنه من آيات الله أعمى وأضل سبيلا)

    روى عن الإمام أبي حنيفة النعمان رحمه الله تعالى أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى ، فقال لهم : دعوني فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه ، ذكروا إلي سفينة في البحر كبيرة ، فيها أنواع من المتاجر وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها ، وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها وتخترق الأمواج العظام حتى تخلص منها ، وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد ، فقالوا : هذا شيء لا يقوله عاقل ، فقال : ويحكم هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانع ، فبهت القوم ورجعوا هي الحق وأسلموا علي يديه .

    وسئل الشافعي رحمه الله عن وجود الخالق عز وجل فقال : هذا ورق التوت طعمه واحد ، تأكله الدود فيخرج منه الحرير ، وتأكله النحل فيخرج منه العسل ، وتأكله الشاء والبقر والأنعام ، فتلقيه بعرا وروثا وتأكله الظباء فيخرج منه المسك وهو شيء واحد .

    وسئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عن ذلك ، فقال : هاهنا حصن حصين أملس ليس له باب ولا منفذ ظاهره كالفضة البيضاء وباطنه كالذهب الإبريز ، فبينا هو كذلك إذ انصدع جداره فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكل حسن وصوت مليح .
    وقال أحدهم : (لو أن الله تبارك وتعالى لم يعبد إلا عن رؤية ما عبده أحد ، ولكن المؤمنين تفكروا في مجيء هذا الليل إذا جاء ، فملأ كل شيء وغطى كل شيء وفي مجيء سلطان النهار إذا جاء فمحا سلطان الليل وفي السحاب المسخر بين السماء والأرض وفي النجوم وفي الشتاء والصيف ، فوالله ما زال المؤمنون يتفكرون فيما خلق ربهم تبارك وتعالى حتى أيقنت قلوبهم بربهم عز وجل وحتى كأنما عبدوا الله تبارك وتعالى عن رؤية) ، قال رجل لرجل أخبرني عن أمر الله عز وجل أيه أعجب فقال وأية ليس بأعجب فأخبرك بأعجبه .


    يا من يرى ما في الضمير ويسمع أنت المعد لكل ما يتوقع - يا من يرجى للشدائد كلها يا من إليه المشتكى والمفزع - يا من خزائن رزقه في قول كن ، أمنن فإن الخير عندك أجمع - مالي سوى فقري إليك وسيلةُ فبالافتقار إليك فقري أدفع - مالي سوى قرعي لبابك حيلة فلئن رددت فأي باب أقرع - ومن الذي أدعو وأهتف باسمه إن كان فضلك عن فقيرك يمنع - حاشا لجودك أن تقنط عاصيا - الفضل أجزل والمواهب أوسع - ثم الصلاة على النبي وآله خيِر الأنام ومن به يتشفع .
    سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .

  4. افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    توحيد الربوبية
    البقاء ببقاء والبقاء بإبقاء


    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمد عبده ورسوله : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الذِي خَلقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلقَ مِنْهَا زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الذِي تَتَساءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَليْكُمْ رَقِيبًا) ، أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .

    أحبتي في الله موضوعنا اليوم بإذن الله يدور حول مفهوم البقاء ببقاء والبقاء بإبقاء أو الحديث عن أبدية المخلوقات وأزليتها ، وعلاقتها بتوحيد الربوبية لله ، فمن القضايا الهامة التي شغلت الكثير من المسلمين وغير المسلمين وضل فيها من الناس الملايين ، كالفلاسفة القائلين بقدم العالم وولادته من رب العالمين ، والشيوعيين وأتباعهم في عصرنا من الملحدين ، القائلين بأنه لا إله ولا خالق ولا دين ، تماما كما هو اعتقاد الدهرين والطبائعيين ، القائلين بأن العالم لم يزل موجودا كذلك بنفسه ، بلا خالق خلقه ، ولا صانع صنعه ، ولا حكيم قادر يتولى أمره ، بل الأمور تسير بطبيعتها ، وتستمر الحياة بتلقائيتها ، لم يزل الإنسان والحيوان من نطفة قذرة حقيرة ، ولم تزل النطفة من الإنسان والحيوان منذ عصور طويلة ، كذلك كان الوجود على مر السنين ، وكذلك يكون أبد الآبدين ، هؤلاء أجمعون يقولون بأبدية العالم وأزليته ، وقد ذكر الله عز وجل قولهم ، وبين جهلهم وخيب ظنهم ، كما قال سبحانه في سورة الأنعام : (وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (الأنعام :29) ، وقال أيضا في سورة الجاثية : (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لهُمْ بِذَلكَ مِنْ عِلمٍ إِنْ هُمْ إلا يَظُنُّونَ) .

    فهل الوجود والزمان ، دائمان أزليان أبديان ، بحيث يستمر الزمان ويمتد في الوجود من طرفين متعاكسين دائمين وغير منقطعين ، تتسلسل الأحداث وتتوالي في الأزل وفي الأبد ، أم أن الوجود له بداية ونهاية ؟ وإن كانت للوجود بداية ، فما هي بدايته ؟ وإن لم تكن له نهاية ؟ فكيف نجمع بين وصف الله عز وجل بأنه الآخر الباقي الذي ليس بعده شيء ، وبقاء المخلوقات في الجنة ودوامها وأبديتها ، كما قال تعالي عن الجنة ونعيمها ، ودوام أهلها وبقائها : (قَال اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالدِينَ فِيهَا أَبَدا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلكَ الفَوْزُ العَظِيمُ) (المائدة :119) وكما قال تعالي عن النار وعذابها ودوام أهلها وبقاء نارها : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولهُ فَإِنَّ لهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالدِينَ فِيهَا أَبَدا) (الجن :23) ؟ وما تفسير قول الله تعالي : (كُلُّ مَنْ عَليْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلال وَالإِكْرَامِ) (الرحمن :27) ؟ وهل كان الله معطلا عن الخلق والفعل والقدرة ثم لما خلق الخلق أصبح خالقا فاعلا قادرا ؟ هذه الأسئلة نجيب عليها بإذن الله في هذا المقال .

    فأول سؤال في موضوعنا اليوم : هل الوجود والزمان دائمان أزليان أبديان ، وهل الوجود ممتد من طرفين متواصلين دائمين طرف الأزل وطرف الأبد ، بحيث تتوالي الأحداث وتتسلسل في الوجود أزلا وأبدا ، أم أن الوجود له بداية ونهاية ؟ وإن كانت له بداية ، فما هي بدايته ؟

    نحن لن نتمكن بمفردنا مهما بلغ علمنا ، ومهما بلغت حكمتنا ، من الجواب المقنع الذي يشبع العقل السليم أو يقدم الدليل المستقيم ، والسبب في ذلك أن حياة الإنسانية من بدايتها ونهايتها لها امتداد غيبي من الطرفين لا يمكن للبشر أن يعلمه بإمكانياته المحدودة ، فإلي الآن لا يعرف الإنسان من خلال العلوم المادية واكتشافاته العصرية تفاصيل نشأة الوجود ، وكل ما قدموه من نور العلم في هذا الباب هو من باب الظن الذي يشبه رؤية الأعمى في الضباب ، ولذلك فإن أي مفكر أو فيلسوف لكي يقدم حلا مقنعا يستند فيه إلى دليل أو برهان ، لا بد من إلمامه بتفاصيل النشأة عند بداية الزمان ، فالأمر إذا يتطلب الرجوع إلى الصانع الذي يعلم من خلق ولماذا خلق ؟ : (أَلا يَعْلمُ مَنْ خَلقَ وَهُوَ اللطِيفُ الخَبِيرُ) (الملك :14) .

    وقد جاءت الإشارة إلي هذه القضية - طريق المعرفة - في القرآن ، عند ذكره سبحانه لنشأة الكون في سورة الفرقان : (الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَل بِهِ خَبِيرا ً) (الفرقان:59) ، وكذلك وردت العبارة بصريح البيان في قوله تعالى : (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ المُضِلينَ عَضُداً) (الكهف:51) ، فلم يشهد أحدا تفاصيل النشأة أبدا .

    ومن هنا سوف يتحتم علينا أن نلجأ إلى الخالق وكلامه ، وما جاء عن رسوله في بيانه ، فكلام خالقنا يعطينا في تصور الحقائق بعدا أعلى من عقولنا وأوسع من مداركنا ، وهذا منتهي الرشد والكمال أن يرجع العاقل إلي رب العزة والجلال ، لكي يتعرف علي الكون وبدايته ، وعلي السر في الوجود وحكمته ، وما مصير الإنسان ونهايته .

    ونحن نعلم يقينا أن العقلاء يعلمون ويقرون أن المصنع الذي ينتج جهازا ما أو آلة من الآلات ، يضع بالضرورة دليلا مرفقا مع هذا الجهاز لشرح الخصائص المميزة ، وتوضيح التعليمات الموجزة التي تمكن الإنسان من تشغيل الصنعة وإدارتها ، ويعلمون أيضا أنه لو حدث عطب أو تلف نتيجة الالتزام بدليل النظام أو وجود خلل في المنتج أو بعض عوامل الأمان ، فالمصنع أو المصنع هو الوحيد المسئول عن الضمان ، ومسئول أيضا عن إعادة الثقة والاطمئنان لكل العملاء ، ولما كان صانع الشيء ومنتجه هو أولى من يبين خصائص الأشياء ، ويشرح للجميع نظام المصنوعات والمنتجات ، فإن من العقل والحكمة أن نرجع في البحث عن الوجود وبدايته ، ومصيره نهايته إلى صانعه وخالقه ورازقه ومالكه ، فهو سبحانه الوحيد الذي يمكن أن يفسر لنا السبب في وجود المخلوقات ، وهو الوحيد الذي يوضح لنا معاني الحكمة في الأهداف والغايات ، وتكوين النظام العام لمنهجه في جميع الكائنات .

    ونحن نعلم أن الكلام المباشر مع خالق الأشياء الآن أمر ممتنع ، لماذا : لأن الوحي قد انقطع بموت الأنبياء ، ولم يبق لدينا مصدر للمعرفة إلا رسالة السماء ، التي نزلت على محمد صلي الله عليه وسلم ، لنتعرف من خلالها على معاني الحكمة في النظر إلي بدء الوجود ونهايته .

    قبل وجود السماوات والأرض لم يذكر الله لنا سوى العرش والماء ، كما جاء في قوله تعالى : (وَهُوَ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلى المَاءِ) (هود:7) ، ومن حديث عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قَال : (كَانَ اللهُ وَلمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلى المَاءِ ، ثُمَّ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْض ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُل شَيْءٍ) ، وربما يسأل سائل ويقول : وماذا قبل العرش والماء ؟ والجواب : أن الله قد شاء أن يوقف علمنا عن بداية المخلوقات عند العرش والماء ، فقال تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ) ، فالله أعلم هل توجد مخلوقات قبل العرش والماء أم لا ؟

    لكننا نعتقد أن وجودها أمر ممكن متعلق بمشيئة الله وقدرته ، فالله أخبرنا أنه يخلق ما يشاء ويفعل ما يشاء وهو على ما يشاء قدير : (فَعَّالٌ لمَا يُرِيدُ) ، فالله عز وجل متصف بصفات الأفعال ، ومن لوازم الكمال أنه فعال لما يريد على الدوام ، أزلا وأبدا ، سواء كان ذلك قبل العرش والماء ، أو بعد وجودهما ، لكن الله أوقف علمنا عند هذا الحد ، كما أن جهلنا بذلك لا يؤثر فيما يخصنا ، أو يتعلق بحياتنا من معلومات ضرورية ، لتحقيق الكمال في حياة الإنسان .

    قال سليمان التيمي رحمه الله : " لو سئلت أين الله ؟ لقلت : في السماء ، فإن قال السائل : فأين كان عرشه قبل السماء ؟ لقلت : على الماء ، فإن قال : فأين كان عرشه قبل الماء ؟ لقلت : لا أعلم " ، ويعقب الإمام البخاري رحمه الله بقوله : " وذلك لقول الله تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ) ، يعني إلا بما بين " .

    وهذه المسألة تسمي في باب العقيدة بالتسلسل ، والتسلسل هو ترتيب وجود المخلوقات في متوالية مستمرة غير متناهية من الأزل والأبد ، والتسلسل لم يرد نفيه ولا إثباته في كتاب الله أو في سنة رسوله صلي الله عليه وسلم ، فينبغي فيه التفصيل بالدليل النقلى الصحيح ، فالتسلسل الواجب علينا اعتقاده هو ما دل عليه العقل والنقل ، فالواجب علينا اعتقاد دوام أفعال الرب تعالى في الأبد ، ووجود مفعولاته ومخلوقاته على الدوام ، وإن تغيرت صورها وعللها ، بمعنى أن الوجود في الدنيا صورته مستمرة ولعلة تتمثل في الابتلاء ، ثم بمشيئة الله يتغير الوجود في الآخرة إلي صورة أخرى مستمرة ولعلة تتمثل في الجزاء ، وبقاء أهل الخلدين في دار النعيم والشقاء ، وأنه كلما انقضى لأهل الجنة نعيم ، أو لأهل النار عذاب ، أحدث لهما نعيما وعذابا آخر لا نفاد لها ، كما قال تعالي عن أهل الجنة : (وَالذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالدِينَ فِيهَا أَبَدا لهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَليلا) (النساء :57) (وَالذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالدِينَ فِيهَا أَبَدا وَعْدَ اللهِ حَقّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلا) .

    وقال عن أهل النار : (إِنَّ الذِينَ كَفَرُوا وَظَلمُوا لمْ يَكُنِ اللهُ ليَغْفِرَ لهُمْ وَلا ليَهْدِيَهُمْ طَرِيقا إلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالدِينَ فِيهَا أَبَدا وَكَانَ ذَلكَ عَلى اللهِ يَسِيرا) (النساء :169) (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولهُ فَإِنَّ لهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالدِينَ فِيهَا أَبَدا) (الجن :23) .
    فالواجب اعتقاده أن وجود المخلوقات في الأبد والمستقبل متوال غير منقطع أبد الآبدين ، وهذا هو ما دل عليه كتاب ربنا وسنة نبينا ، دوام أفعال الرب تعالى في الأبد وأنه كلما انقضى لأهل الجنة نعيم أحدث لهم نعيما آخر لا نقاد له ، (وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) (الطور :22) (وَلحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) (الواقعة :21) ، فتحقيق المراد لأهل الجنة علقه الله بمشيئتهم إكراما لهم وإظهار لمحبتهم ، بعكس الوضع في الدنيا فتحقيق المراد لأهل الدنيا علقه الله بمشيئته لا بمشيئتهم ، إبتلاء لهم وإظهار لإيمانهم ، ولذلك يقول : (مَنْ كَانَ يُرِيدُ العَاجِلةَ عَجَّلنَا لهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلنَا لهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوما مَدْحُورا) (الاسراء :18) (للهِ مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لمَنْ يَشَاءُ إِنَاثا وَيَهَبُ لمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانا وَإِنَاثا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيما إِنَّهُ عَليمٌ قَدِيرٌ) (الشورى :50) أما الجنة فتحقيق المراد لأهلها علقه الله بمشيئتهم كما قال : (لهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلدَيْنَا مَزِيدٌ) (قّ :35) (لهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلكَ جَزَاءُ المُحْسِنِين) (الزمر :34) (وَالذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الجَنَّاتِ لهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ) (الشورى :22) .

    وإذا كان هذا هو الوضع في الأبد والمستقبل فما الذي يمنعه في الأزل والماضي ، ولذلك فإن عقيد السلف أن التسلسل في الأزل جائز ممكن ، وفي المستقبل واجب لازم ، ولا يلزم من ذلك أن الخلق يشاركونه في الأولية أو الأبدية لأنه فرق كبير بين ما يبقي ببقاء الله كذاته وصفاته وما يبقي بإبقاء الله كمخلوقاته ومصنوعاته وهذا سوف يأتي بيانه بعد قليل .

    لكننا نعتقد أن وجود المخلوقات قبل العرش والماء أمر ممكن يتعلق بمشيئة الله وقدرته ، فالله أخبرنا أنه يخلق ما يشاء ويفعل ما يشاء وهو على ما يشاء قدير ، كما قال تعالي : (قَال رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لي غُلامٌ وَقَدْ بَلغَنِيَ الكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَال كَذَلكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) (آل عمران :40) وهذا غير مرتبط بزمان دون آخر ، وقال أيضا : (وَرَبُّكَ الغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) (الأنعام :133) (وَاللهُ خَلقَ كُل دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْليْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُل شَيْءٍ قَدِير ٌ) (النور :45) (الحَمْدُ للهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِل المَلائِكَةِ رُسُلا أُولي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الخَلقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ) (فاطر :1) ، فالله عز وجل متصف بصفات الأفعال ، ومن لوازم الكمال أنه فعال لما يريد على الدوام ، أزلا وأبدا ، سواء كان ذلك قبل العرش والماء ، أو بعد العرش والماء ، لكن الله كما ذكرنا أوقف علمنا عند العرش والماء كما قال) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالغَمَامِ وَنُزِّل المَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) (الفرقان:25) : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ) (البقرة:255) أما نهاية الوجود فإن نهاية الحياة الدنيا يعني بداية الآخرة ، فالمخلوقات وجودها مرتبط بالعلة التي خلق الله الإنسان من أجلها حيث استخلفه في أرضه واستأمنه في ملكه وابتلاه بتوحيد العبادة لله ، فالمخلوقات مسخرات بأمر الله ، قائمات على خدمة الإنسان ، فإذا انتهت دار الامتحان الابتلاء ، هيأ الله في الآخرة دار الحساب والجزاء ، فتكورت الشمس وتبعثرت النجوم وسيرت الجبال وعطلت العشار وسجرت البحار ، وزلزلت الأرض زلزالها ، فالسماوات التي خلقها الله ورفعها ، وفصلها عن الأرض وحفظها ، سوف تتغير بعد انتهاء دورها ، وأداء وظيفتها في انقلاب كوني شامل لهذه الحياة ، يقول الله تعالى : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالغَمَامِ وَنُزِّل المَلائِكَةُ تَنْزِيلاً المُلكُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ للرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلى الكَافِرِينَ عَسِيراً) (الفرقان:26) وقال تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ) (النمل:87) كما أن الله تعالى أخفي عن الناس وقت قيام الساعة ، لتظهر حكمته في ابتلاء الإنسان ، ويرى سعيه في العبادة والإيمان ، قال تعالى : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىفَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى) (طـه:16) ، وبذلك يحرص الإنسان دائما على سعادته وأمنه في الآخرة قبل الدنيا ، ويعلم أن سعادته في الدنيا مرهونة بالتزام تدبير الله الشرعي والاستعانة بتدبيره الكوني ، فيرجع علي الدوام إليه ويستعين به ويتوكل عليه ، يخافه ويرجوه ، ويحبه ويدعوه ، لعلمه أن الأمر يرجع إلى من كانت أزمة الأمور بيديه ومرجعها إليه ، فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن .

    يقول تعالى : (أَوَلمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الخَلقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلكَ عَلى اللهِ يَسِيرٌ قُل سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ) (العنكبوت:20) فانظر إلي الكون تراه في كمال الانضباط ، كل يسير خاضعا لأمر الله ، ولم يكن الكون على هذا الحال أو بهذا الكمال والجمال ، لمجرد انفجار مفاجئ حدث منذ القدم كما تقول نظرية الانفجار ، بل بنى أركانه الواحد القهار ، وأمسكه بقدرته من التخبط والزوال ، كما بين ذلك للجميع فقال : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلئِنْ زَالتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَليماً غَفُوراً) (فاطر:41)، وقال أيضا : (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لرَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (الحج:65) ) أَلمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالفُلكَ تَجْرِي فِي البَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لرَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (الحج:65) ، فالكون في ثبات وأمان ، تتوالى أيامه على مر الزمان ، منذ أن رفع الله السماء وفتقها ، وبسط الأرض ومدها ، كما قال سبحانه : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلكَ الدِّينُ القَيِّمُ فَلا تَظْلمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) (التوبة:36) ، ولم يكن هذا الإنسان يوما خلية أولية ، تم تطورت فأصبحت قردة برمائية ، ثم تطورت فكونت السلالة البشرية إلى غير ذلك من فكر دارون ودعاوى الماركسية ، وعلى ذلك يمكن لكل عاقل أن يدرك سر خلق العالم على هذا الوضع الذي نراه ، وهل سيبقى على ذلك أبد الآبدين ؟ أم ليوم معلوم وأجل محتوم قدره الله ؟

    فالبداية بينها الله لنا ، والنهاية أمر محتوم لنا ، وقوعه لا يتوقف على إيماننا ، تبدل فيه الأرض غير الأرض والسماوات ، (زَعَمَ الذِينَ كَفَرُوا أَنْ لنْ يُبْعَثُوا قُل بَلى وَرَبِّي لتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلتُمْ وَذَلكَ عَلى اللهِ يَسِيرٌ) (التغابن :7) (أَوَلمْ يَرَ الأِنْسَانُ أَنَّا خَلقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلقَهُ قَال مَنْ يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُل يُحْيِيهَا الذِي أَنْشَأَهَا أَوَّل مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُل خَلقٍ عَليمٌ أَوَليْسَ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلهُمْ بَلى وَهُوَ الخَلاقُ العَليمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئا أَنْ يَقُول لهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الذِي بِيَدِهِ مَلكُوتُ كُل شَيْءٍ وَإِليْهِ تُرْجَعُونَ) (يّس :83) (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ) (ابراهيم :48) ، فالسعيد من رجع إلى ربه مستغفرا من ذنبه والشقي من اتبع هواه وكفر بالله : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلمُ نَفْسٌ إلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ وَأَمَّا الذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَالدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذ ٍ) (هود :108) .

    فالسؤال الذي ذكرناه في بداية موضوعنا : هل الوجود والزمان ، دائمان أزليان أبديان ، بحيث يستمر الزمان ويمتد في الوجود من طرفين دائمين وغير منقطعين ، تتسلسل الأحداث فيه وتتوالي في الأزل وفي الأبد ، أم أن الوجود له بداية ونهاية ؟ علمنا أن البداية التي أوقف الله علمنا عندها هي العرش والماء ، وما قبل ذلك فالله أعلم به والله يخلق ما يشاء ، أما نهاية الوجود فالوجود لانهاية له دائم أبد الآبدين ، ولكن تتغير صور الحياة وفتراتها ، فنهاية الحياة الدنيا متوقفة على مشيئة الله ، إن شاء أبقي وإن شاء أمات وأحيا ، فإن مات إنسان فإنه ينتقل إلى دار أخري هي روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ، حتى يأتي يوم القيامة ، فإذا بدلت الأرض والسماء ، خلق الله عالما آخر يتناسب مع دار الحساب والجزاء ، ودار النعيم والشقاء ، ويبقى الوجود عند ذلك أبد الآبدين .

    وهنا يأتي السؤال الثاني الذي نجيب عنه في هذا المقال : كيف نجمع بين وصف الله عز وجل بأنه الآخر الباقي الذي ليس بعده شيء ، وبقاءِ المخلوقات في الجنة ودوامِها وأبديتِها ، كما قال تعالي عن أهل الجنة ونعيمها ودوام لذتها : (قَال اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالدِينَ فِيهَا أَبَدا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلكَ الفَوْزُ العَظِيمُ) (المائدة :119) وكما قال تعالي عن أهل النار وعذابها ودوام شقوتها : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولهُ فَإِنَّ لهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالدِينَ فِيهَا أَبَدا) (الجن :23) ؟ وما تفسير قول الله تعالي : (كُلُّ مَنْ عَليْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلال وَالأِكْرَامِ) (الرحمن :27) ، وعند مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي كان يقول في دعائه : (اللهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ فَليْسَ قَبْلكَ شَيْءٌ ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَليْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ) ؟

    لا شك أن بقاء أهل الجنة والنار أبدا يبدو في الظاهر متعارضا مع إفراد الله عز وجل بالبقاء ، وأنه الآخر الذي ليس بعده شي ، لقد كانت هذه المسألة محل خلاف بين فرق المسلمين ، عندما اختلفوا حول مفهوم الأبدية لأهل الجنة والنار في القرآن الكريم حتى فسرها البعض بطول الأمد ، فالأبد عندهم يعنى الزمان الطويل ، لكنه مهما طال فهو محدود زائل ، وليس معنى الأمد عندهم البقاء اللانهائي ، وبعضهم قال بفناء الجنة والنار ، وبعضهم قال بفناء النار فقط .

    ولا بد هنا أن نفرق في قضية البقاء بين ما يبقى ببقاء الله وما يبقي بإبقاء الله ، أو نفرق بين بقاء الذات والصفات الإلهية ، وبقاء المخلوقات التي أوجدتها الصفات الإلهية ، فالجنة مثلا باقية بإبقائه ، وصفاته باقية ببقائه ، وشتان بين ما يبقي ببقائه وما يبقي بإبقائه ، فالجنة مخلوقة خلقها الله عز وجل وكائنة بأمره ورهن مشيئة وحكمه ، فمشيئة الله حاكمة علي ما يبقى وما لا يبقى .

    ومن ثم فإن السلف يعتبرون خلد الجنة وأهلها إلى ما لا نهاية ، إنما هو بإبقاء الله وإرادته ، فالبقاء عندهم ليس من طبيعة المخلوقات ولا من خصائصها الذاتية ، بل من طبيعتها جميعا كمخلوقات خلقها الله ، من طبيعتها جميعا الفناء ، فالخلود ليس لذات المخلوق أو طبيعته ، وإنما هو و بمدد دائم من الله تعالى ، وإبقاء مستمر لا ينقطع ، أما صفات الله عز وجل ومنها وجهه ويده وعينه وعلوه ، ورحمته وعزته وقوته وملكه ، فهي صفات باقية ببقائه ملازمة لذاته ، باقية ببقاء ذاته سبحانه وتعالى ، حيث البقاء صفة ذاتية له ، كما أن الأزلية صفة ذاتية لله تعالى ، فلا بد أن نفرق بين صفات الأفعال الإلهية وأبديتها ، وبين مخلوقات الله الأبدية وطبيعتها ، والقرآن الكريم فرق بين نوعين من البقاء ، الأول : في قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَليْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلال وَالإِكْرَامِ) وقوله : (كُلُّ شَيْءٍ هَالكٌ إِلا وَجْهَهُ لهُ الحُكْمُ وَإِليْهِ تُرْجَعُونَ) (القصص :88) ، والثاني : في قوله تعالى : (وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى للذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (الشورى :36) وقوله : (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ) (القصص :60) (وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (الأعلى :17) . فالأيات الأولى دلت على صفة من صفات الذات وهى صفة الوجه ودلت على بقاء الصفة ببقاء الذات ، فأثبتت بقاء الذات بصفاتها ، وأثبت فناء ما دونها أو إمكانية فنائه ، إذ أن الله هو الأول والآخر وهو قبل كل شيء وبعد كل شيء وكما جاء في الحديث : (اللهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ فَليْسَ قَبْلكَ شَيْءٌ ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَليْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ) ، قال ابن كثير في قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَليْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلال وَالإِكْرَامِ) (الرحمن :27) (أخبر الله بأنه الدائم الباقي الحي القيوم الذي تموت الخلائق ولا يموت ، فعبر ببقاء الوجه عن بقاء الذات لأن الوجه من صفات ذاته سبحانه وتعالى ، أما الآيات الأخرى فبقاء المخلوقات فيها لا لذاته ولكن بعطاء من الله ، لإكرام أهل طاعته وإنفاذ عدله في أهل معصيته ، ولذلك يقول سبحانه : (إِنَّ للمُتَّقِينَ مَفَازا حدائق وأعنابا وكواعب أترابا وكأسا دهاقا لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا جزاءا من ربك عطاءا حسابا) (النبأ :31) .

    أما السؤال الأخير في هذه المحاضرة : هل كان الله معطلا عن الخلق والفعل والقدرة ثم لما خلق الخلق أصبح خالقا فاعلا قادرا ؟ فيجيبه الإمام الطحاوي بقوله : (ما زال بصفاته قديما قبل خلقه ، لم يزدد بكونهم شيئا ، لم يكن قبلهم من صفته ، وكما كان بصفاته أزليا ، كذلك لا يزال عليها أبديا ، ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق ، ولا بإحداث البرية استفاد اسم الباري ، له معنى الربوبية ولا مربوب ، ومعنى الخالق ولا مخلوق ، وكما أنه محيي الموتى بعدما أحيا ، استحق هذا الاسم قبل إحيائهم ، كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم ، ذلك بأنه على كل شيء قدير ، وكل شيء إليه فقير ، وكل أمر عليه يسير ، لا يحتاج إلى شيء ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) .

    فهو سبحانه وتعالى ليس قبله شيء متصف بصفات الكمال ، فصفاته صفات أزلية وأبدية ، فكما أنه أول بلا بداية ، فكذلك صفاته ملازمة لذاته ، فهي أولية بأولية الله سبحانه وتعالى ، فلم يكن أولا بلا صفات ثم حدثت له الصفات بعد ذلك ، كما يقول ذلك من يقوله من أهل الضلال ، فالله سبحانه وتعالى ليس لصفاته بداية كما أنه ليس لذاته بداية ، فهو الخالق دائما وأبدا ، وهو الرازق دائما وأبدا ، وهو العلى دائما وأبدا وهو القوي دائما وأبدا وهو رب العالمين دائما وأبدا ، لا نقول بأن الله لم يكن خالقا إلا بعد أن خلق الخلق ، بل هو خالق من الأزل ، لا بداية لذلك ، أما مخلوقاته فهي متنوعة متجددة ، يخلق ما يشاء ، ويفعل ما يشاء ، فهو رب قبل وجود العالمين وحال وجود العالمين وبعد وجود العالمين هو رب العالمين ، وكما أنه محيي الموتى بعدما أحيا ، استحق هذا الاسم قبل إحيائهم ، كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم ، ذلك بأنه على كل شيء قدير ، فالقدرة وصف أزلي لذاته ، لم يكتسبه بعد وجود مخلوقاته ، ولا يتطلب الأمر عنده دليلا وبرهانا حتى يصفه الناس بما يستحق ، كما هو الحال عندنا ، فالله (ليْسَ كَمِثْلهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (الشورى :11) أما نحن فالواحد منا لا يوصف بأنه قوي إلا إذا ظهر دليل قوته ، ولا يوصف بأنه حكيم إلا إذا ظهر دليل حكمته ، ولا يوصف بأنه غني إلا إذا ظهر دليل عزه وغناه ، ولا يوصف بأنه ملك إلا إذا نصبناه وملكناه ، أما ربنا فهو الغنى لا إله إلا الله ، كل شيء إليه فقير ، وكل أمر عليه يسير ، لا يحتاج إلى شيء ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، فكمال الأشياء مستمد من الله الغنى ، وحياة العالم مستمدة من الله الحي ، أما هو فلا يستمد وصفه من خلقه ، ولا يمكن لملك الملوك أن يفتقر إلي شيء من ملكه كيف وهو القائل (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ) (فاطر :15) (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لعِبَادِهِ الكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَليمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (الزمر :7) (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَليْهِ وَسَلمُوا تَسْليما) (الأحزاب :56)

    وإلى لقاء آخر بإذن الله

  5. افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    توحيد الربوبية
    الاستواء وإفراد الله بالملك


    الحمد لله رب العالمين ، إله الأولين والآخرين ، هو المنفرد بأنواع الكمال والتوحيد ، ليس له مثيل ولا نديد ، ولا تبلغه صفات العبيد ، فعال لما يريد ، جل عن اتخاذ الصاحبة والولد ، خلق الكون ولم يكن معه أحد ، ليست له عثرة تقال ، ولا تضرب له الأمثال ، لم يزل بصفاته أولا قديرا ، ولا يزال بخلقه عليما خبيرا ، خلق كل شيء دون كلل ولا تعب ، ولا مسه لُغُوبٌ ولا نصب ، خلق الأشياء بقدرته ، ودبرها بمشيئته ، وقهرها بجبروته ، وذللها بعزته ، فذل لعظمته المستكبرون ، وخضع لربوبيته الخلائق أجمعون .
    وأشهد ألا إله إلا الله ، شهادة توافق ما قال ربنا جل ثناؤه ، وتقدست أسماؤه ، وجلت آلاؤه ، وشهدت بها أرضه وسماؤه ، ورسله وأنبياؤه ، (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُو العِلمِ قَائِماً بِالقِسْطِ لا إِلهَ إِلا هُوَ العزيز الحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلامُ) (آل عمران :18) .
    ونصلي ونسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وآخر نبي للخلق أجمعين ، وصاحب المقام عند مجيء رب العالمين وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن سار على دربهم بإحسان إلي يوم الدين ، (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلحْ لكُمْ أَعْمَالكُمْ وَيَغْفِرْ لكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب :71) (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون) ، أما بعد .

    فموضوعنا اليوم يدور بإذن الله تعالى أثر من آثار الإيمان بتوحيد الربوبية ، فمن من اللوازم الضرورية للإيمان بتوحيد الربوبية إفراد الله بالملك وإثبات الاستواء والفوقية ، لأن إفراد الله بالخلق وتدبير الأمر ، وكذلك تقديره للرزق يرتبط ارتباطا قويا بصفة الاستواء علي العرش ، ولذلك سوف نتحدث عن استواء الملك علي عرشه من جانب ربوبيته لخلقه ، وليس من جانب الأسماء والصفات ، وقد سبق في أحد المقالات أن بينا أن توحيد الربوبية قائم على ركنيين اثنين ، أحدهما إفراد الله بالخلق ، والثاني إفراده بتدير الأمر كما قال : (أَلا لهُ الخَلقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالمِين) ، (اللهُ خَالقُ كُل شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُل شَيْءٍ وَكِيل ٌ) (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلى الذِي خَلقَ فَسَوَّى وَالذِي قَدَّرَ فَهَدَى) فإذا كان توحيد الربوبية يقوم علي إفراد الله بالخلق والتدبير ، فإن كثيرا من معاني الربوبية ترتبط بهذين الركنين وتترتب عليهما ، ومن أبرز هذه اللوازم المرتبطة بتوحيد الربوبية إفراد الله بالملك والاستواء والفوقية ، كيف ؟ .

    ما هي علة استحقاق الملك ؟

    علة استحقاق الملك أمران :الأول صناعة الشيء وإنشائه وإيجاده ، فالمخترع يأخذ براءة الاختراع ، والمؤلف يأخذ حق التأليف والطبع ، وقال البخاري : بَاب مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا وَرَأَى ذَلكَ عَليٌّ فِي أَرْضِ الخَرَابِ بِالكُوفَةِ مَوَاتٌ وَقَال عُمَرُ مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لهُ وَيُرْوَى عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلى اللهم عَليْهِ وَسَلمَ .

    ولا يمكن لملك من ملوك الدنيا أن يؤسس مله ويصنعه بمفرده ، لا بد من ظهير معين من قرابته ، أو حزبه وجماعته ، أو إخوانه وقبيلته ، لكن من الذي ساعد الحق في إنشاء الملك ومن الذي عاونه علي إيجاد هذا الخلق ومن الذي رفع السماء وفصلها عن الأرض ؟

    فعند إنشاء الكون من الذي كان مع الحق (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ المُضِلينَ عَضُداً) (الكهف :51) وعند البخاري من حديث عَمرانَ بن حُصينٍ أن النبيِّ صلى الله عليه قال : كان اللهَ ولم يكن شيء قبلهُ ، وكان عرشه على الماء ، ثم خلقَ السماواتِ والأرضَ ، وكتب في الذكر كل شيء) ، فمن الذي الذي كان حاضرا مع الحق عن بداية الخلق ؟ .

    أما العلة الثانية لاستحقاق الملك : دوام الحياة فدوام الحياة يؤدي إلى انتقال الملكية وثبوت التملك فشروط الإرث أربعة أولها : التحقق من موت المورث ، وثانيها التحقق من حياة الوارث بعد موت مورثه ولو بلحظة ، فدوام الحياة ولو للحظة يوجب انتقال الملكية إلي الغير ، وإذا كان كل من علي الأرض زائل كما قال تعالى : (كُلُّ مَنْ عَليْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلال والإكرام) (الرحمن :27) (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَإِليْنَا تُرْجَعُونَ) (الانبياء :35) (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ ثُمَّ إِليْنَا تُرْجَعُون َ) (العنكبوت :57) .

    وماذا نقول إن كانت الحياة وصف ذاته والإحياء وصف فعله (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفي عَلى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لمَنِ المُلكُ اليَوْمَ للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ) (غافر :16) (وَلا يَحْسَبَنَّ الذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلهِ هُوَ خَيْراً لهُمْ بَل هُوَ شَرٌّ لهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (آل عمران :180) (اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) (البقرة :255) (أَلمْ تَرَ إِلى الذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ المُلكَ إِذْ قَال إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَال أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَال إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالمِينَ) (البقرة :258) (أَوْ كَالذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِهَا قَال أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَال كَمْ لبِثْتَ قَال لبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَال بَل لبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمَارِكَ وَلنَجْعَلكَ آيَةً للنَّاسِ وَانْظُرْ إِلى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لحْماً فَلمَّا تَبَيَّنَ لهُ قَال أَعْلمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة :259) .

    إبراهيم عليه السلام بدافع الحب الذي هيمن على القلب أراد من ربه مزيدا من القرب ، برؤيته لفعل الله في إحياء موتاه فقال : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ المَوْتَى قَال أَوَلمْ تُؤْمِنْ قَال بَلي وَلكِنْ ليَطْمَئِنَّ قَلبِي قَال فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِليْكَ ثُمَّ اجْعَل على كُل جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة :260)
    قال المفسرون : أمره أن يأخذ غرابا وحمامة وديكا ويمامة ، ثم قال له : أوثقهن واذبحهن وقطعهن ، فقطعهن ونتف ريشهن ومزقهن وخلط بعضهن ببعض ثم جزأهن ، وجعل على كل جبل منهن جزءا ، وأخذ رؤوسهن بيده ، ثم أمره الله تعالى أن يدعوهن فدعاهن ، فجعل ينظر إلي الريش يطير إلي الريش ، والدم يجتمع على الدم ، والعظم يلتحم بالعظم ، واللحم يلتصق باللحم ، كل طائر أجزاؤه تلتئم وتنضم ، حتى اكتمل البدن وتم ، وقام كل طائر يسعى بين يديه بغير رأسه ، ويرغب في التحامها بجسمه ، إذا قدم له غير رأسه يأباه ، فسبحان من خلقها وسواها ، كل ذلك وإبراهيم عليه السلام ينظر إلي فعل الله وقدرته ، ويتعجب من حكمته وقوته ، (إِنَّ اللهَ فَالقُ الحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَمُخْرِجُ المَيِّتِ مِنَ الحَيِّ ذَلكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (الأنعام :95) ولذلك أمرنا أن نتوكل عليه وندعوه بإخلاص لأن من سواه ليس فيه وصف الله ودوام الحياة : (وَتَوَكَّل عَلى الحَيِّ الذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفي بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً) (الفرقان :58) ، فإذا مات الكل فلمن ينتقل الإرث والملك ؟ (وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (آل عمران :180) ، (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفي عَلى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لمَنِ المُلكُ اليَوْمَ للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ) (غافر :16) .

    فالملك لله في المبتدا عند إنشاء الخلق فلم يكن أحد سواه ؟ والملك لله في المنتهى عند زوال الأرض لأنه لن يبقى من الملوك سواه ؟ فهل يجرؤ أحد بعد ذلك أن يدعي شيئا لغير الله ؟ (قُل ادْعُوا الذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلكُونَ مِثْقَال ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لمَنْ أَذِنَ لهُ) فالله عز وجل نفي جميع الوجوه التي يتذرع بها المشركون إلي الشرك في الربوبية والعبودية معا فنفت الآية عن آلهتهم كل أوجه التأثير في الكون ممثلة في أربعة أمور :
    أ - نفي الملك التام لا نعدام ربوبيتهم ، فلا يخلقون في الكون شيئا ولا يدبرون فيه أمرا ، ومن ثم فله الملك كله وله الأمر كله ، فقال تعالى : (لا يَمْلكُونَ مِثْقَال ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ) .
    ب - نفي المشاركة له في الملك بأن يكون لهم نصيب وله نصيب فربما يزعم زاعم أنهم اشتركوا سويا في الخلق والتقدير ، فقال تعالى : (وَمَا لهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ) .
    ح - نفي الظهير والمعين فقد يدعى بعض المشركين أن آلهتهم لا يملكون شيئا ولا يشاركون الله في الملك ، ولكن يعاونوه في تدبير الخلق والقيام على شيءونه فقال : (وَمَا لهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) .
    د - نفي الشفاعة عنده إلا بإذنه لأنهم تعلقوا بها وقالوا : (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا ليُقَرِّبُونَا إلي اللهِ زُلفي) ، فقال سبحانه : (وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لمَنْ أَذِنَ لهُ) .

    والآيات في ذلك أكثر من أن تحصى ، وكلها تكشف عن نفسها وتفصح عن مدلولاتها بجلاء ووضوح ، وتبين أنه لا خالق إلا الله ولا مدبر للكون سواه ، ومن ثم فإنه المنفرد بالملك ، فالمَلك هو المتصرف بالأمر والنهي في مملكته وهو القائم بسياسة خلقه إلي غايتهم وملكه هو الحق الدائم له بحق دوام الحياة .

    واعلم أنك إذا وحدت ربك في الربوبية وأفردته بالخالقية والتدبيرات الكونية والشرعية ، فإنه يلزمك أن تفرده بالملك والاستواء علي العرش ، لأننا علمنا بالضرورة العقلية أن الذي يصنع الشيء ويبتدعه ، أو ينشئه ويخترعه له فيه من جهة الاستحقاق والملكية أمران اثنان : الأول : ملكيته لما صنع من أشياء ، والثاني : حريته فيها يفعل بها ما يشاء ، ولما كان الحق سبحانه وتعالى هو المنفرد بالخلق والتدبير ، فإنه إلزاما ينفرد بالملك والتقدير ، وينفرد بأنه المالك المستحق للملك ، .

    ولما كان استواء الملك على عرشه فيه دلالة علي الإقرار له بالملك وتصريف الأمر ، وكان كل ملك في الدنيا استواؤه علي عرشه من لوازم كمال ملكه ، كان إثبات استواء الله على عرشه من لوازم توحيده من باب أولي فمن لوازم توحيد الربوبية إثبات علو الذات والفوقية ، الاستواء علي العرش ، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالي : (طه مَا أَنْزَلنَا عَليْكَ القُرْآنَ لتَشْقَى إِلا تَذْكِرَةً لمَنْ يَخْشَى تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ العُلا الرَّحْمَانُ عَلى العَرْشِ اسْتَوَى لهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِنْ تَجْهَرْ بِالقَوْل فَإِنَّهُ يَعْلمُ السِّرَّ وَأَخْفي اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ لهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى) (طه 5:1) .

    وقال أيضا : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ يُغْشِي الليْل النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لهُ الخَلقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالمِينَ) (لأعراف :54) (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (يونس :3) (اللهُ الذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآياتِ لعَلكُمْ بِلقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (الرعد :2) (قُل مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ) (المؤمنون :86) (اللهُ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ مَا لكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَليٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) (السجدة :4) (هُوَ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ يَعْلمُ مَا يَلجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الحديد :4) (فَإِنْ تَوَلوْا فَقُل حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ عَليْهِ تَوَكَّلتُ وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ) (التوبة :129) (فَتَعَالى اللهُ المَلكُ الحَقُّ لا إِلهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ) (المؤمنون :116) .

    ومن عظة العرش ودلالته علي إثبات الملك ، أن العرش ذكر في سورة النمل أربع عشرة مرة ، فكل ملك من الملوك يتخذ لنفسه عرشا عظيما يدل على منزلته وقدره ، فشتان بين عرش وعرش :
    وها هي قصته العجيبة : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَال مَا لي لا أَرَى الهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الغَائِبِينَ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ ليَأْتِيَنِي بِسُلطَانٍ مُبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَال أَحَطتُ بِمَا لمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُل شَيْءٍ وَلهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَال مَا لي لا أَرَى الهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الغَائِبِينَ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ ليَأْتِيَنِي بِسُلطَانٍ مُبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَال أَحَطتُ بِمَا لمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُل شَيْءٍ وَلهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ للشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيل فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلا يَسْجُدُوا للهِ الذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلنُونَ اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ قَال سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الكَاذِبِينَ اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلقِهِ إِليْهِمْ ثُمَّ تَوَل عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ للشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيل فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلا يَسْجُدُوا للهِ الذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلنُون اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ قَال سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الكَاذِبِينَ اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلقِهِ إِليْهِمْ ثُمَّ تَوَل عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ قَالتْ يا أيها المَلأُ إِنِّي أُلقِيَ إِليَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُليْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيم أَلا تَعْلُوا عَليَّ وَأْتُونِي مُسْلمِينَ قَالتْ يا أيها المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِي قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِليْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ قَالتْ إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلهَا أَذِلةً وَكَذَلكَ يَفْعَلُون َقَالتْ يا أيها المَلأُ إِنِّي أُلقِيَ إِليَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُليْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ أَلا تَعْلُوا عَليَّ وَأْتُونِي مُسْلمِينَ قَالتْ يا أيها المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِي قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِليْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ قَالتْ إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلهَا أَذِلةً وَكَذَلكَ يَفْعَلُونَ قَالتْ يا أيها المَلأُ إِنِّي أُلقِيَ إِليَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُليْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيم أَلا تَعْلُوا عَليَّ وَأْتُونِي مُسْلمِينَ قَالتْ يا أيها المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِي قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِليْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ قَالتْ إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلهَا أَذِلةً وَكَذَلكَ يَفْعَلُونَ قَالتْ يا أيها المَلأُ إِنِّي أُلقِيَ إِليَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُليْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ أَلا تَعْلُوا عَليَّ وَأْتُونِي مُسْلمِينَ قَالتْ يا أيها المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِي قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِليْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِين قَالتْ إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلهَا أَذِلةً وَكَذَلكَ يَفْعَلُون َقَالتْ يا أيها المَلأُ إِنِّي أُلقِيَ إِليَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُليْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم أَلا تَعْلُوا عَليَّ وَأْتُونِي مُسْلمِينَ قَالتْ يا أيها المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِليْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ قَالتْ إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلهَا أَذِلةً وَكَذَلكَ يَفْعَلُونَ قَال الذِي عِنْدَهُ عِلمٌ مِنْ الكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْل أَنْ يَرْتَدَّ إِليْكَ طَرْفُكَ فَلمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَال هَذَا مِنْ فَضْل رَبِّي ليَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ قَال نَكِّرُوا لهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنْ الذِينَ لا يَهْتَدُونَ فَلمَّا جَاءَتْ قِيل أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا العِلمَ مِنْ قَبْلهَا وَكُنَّا مُسْلمِينَ قَال الذِي عِنْدَهُ عِلمٌ مِنْ الكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْل أَنْ يَرْتَدَّ إِليْكَ طَرْفُكَ فَلمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَال هَذَا مِنْ فَضْل رَبِّي ليَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ قَال نَكِّرُوا لهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنْ الذِينَ لا يَهْتَدُونَ فَلمَّا جَاءَتْ قِيل أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا العِلمَ مِنْ قَبْلهَا وَكُنَّا مُسْلمِينَ وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ قِيل لهَا ادْخُلي الصَّرْحَ فَلمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَال إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالتْ رَبِّ إِنِّي ظَلمْتُ نَفْسِي وَأَسْلمْتُ مَعَ سُليْمَانَ للهِ رَبِّ العَالمِينَ)

    وملوك الدنيا مع أن ملكهم محدود زائل ، واستحقاقهم للملك من قبل الحق ، فهو الذي يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء : (قُل اللهُمَّ مَالكَ المُلكِ تُؤْتِي المُلكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران :26) إلا أن ملوك الدنيا يبالغون في الحفاظ علي عروشهم ويجعلون قصورهم في الأماكن المرتفعة أو على الماء ، ويفتخر كل منهم بأنه صاحب العرش والسلطة والقوة والهيمنة فهذا فرعون طاغوت عبد من دون الله إن ادعى لنفسه الملك فإنه يدعيه بغير حق ، إما على قرية أو مدينة أو جزء قليل أو كثير من الأرض ، كما قال فرعون : (أَليْسَ لي مُلكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ) (الزخرف :51) لكن ملك فرعون وإن كان زائلا لم يخرج عن حدود مصر إلى الشرق أو الغرب أو سائر الأرض فما بالنا بمالك الملك ، الملك الذي تملك بحق جميع ما في السماوات وما في الأرض ، ألا يدعو هذا الوصف جميع العقلاء إلى أن يقولوا بيقين وصدق وعن عقيدة حق : لا إله إلا الله ؟ وهذا الشيطان رأس الطواغيت لما نزل إلي الأرض نصب عرشه علي الماء ، فعند الإمام مسلم يقول صلي الله عليه وسلم : (إِنَّ إِبْليسَ يَضَعُ عَرْشَهُ على المَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ فَعَلتُ كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ مَا صَنَعْتَ شَيْئًا قَال ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ مَا تَرَكْتُهُ حتى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ قَال فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ نِعْمَ أَنْتَ) .

    فانظر إلي ملك الملوك وهو يصف عرشه ، بأنه عظيم (فَإِنْ تَوَلوْا فَقُل حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ عَليْهِ تَوَكَّلتُ وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ) (التوبة :129) وصفه بالعظمة في مقابل تولي الخلق لأنه لما كان الاستواء علي العرش دليلا علي تولي الملك ، ولو أعرض الخلق عن ملك الدنيا خلعوه من عرشه ونصبوا غيره ، لأنه ما وصل إلى الملك إلا بهم ، سواء بانتخاب أهله وعشيرته أو حزبه وجماعته ، أما ملك الملوك لو أعرض عنه سائر الخلق فمن الذي يتغير ؟ أيتغير الملك أم المملوك ، أيزول الخالق أم المخلوق ؟ (وَاللهُ الغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلوْا يَسْتَبْدِل قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالكُمْ) (محمد :38) (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللهُ عَلى ذَلكَ قَدِيراً) (النساء :133) (وَرَبُّكَ الغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) (الأنعام :133) (أَلمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلقٍ جَدِيدٍ) .

    ووصفه بأنه كريم : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِليْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالى اللهُ المَلكُ الحَقُّ لا إِلهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ) (المؤمنون :116) له حملة اليوم (الذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ للذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُل شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلماً فَاغْفِرْ للذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ) (غافر :7) وله حملة يوم القيامة : (وَالمَلكُ عَلى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) (الحاقة :17) له قوائم كما ورد عند البخاري من حديث أبي سعيدٍ الخدريِّ أن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : (الناسُ يصعَقون يومَ القِيامةِ فأكونُ أول مَن يُفِيقُ ، فإِذا أنا بموسى آخذٌ بقائمةٍ من قوائم العرشِ ، فلا أدرِي أفاقَ قبلي أم جُوزِيَ بصَعقةِ الطُّور) .

    عرش الله أعلي المخلوقات وسقف الجنة : فعند البخاري من حديث أبي هريرةَ رضيَ الله عنه ، أن النبيُّ صلى الله عليه وسلم قال : (من آمَنَ باللهِ وبرسوله وأقامَ الصلاةَ وصامَ رمضانَ كان حَقّاً على الله أن يُدْخلهُ الجنَّة ، جاهدَ في سبيل اللهِ أو جلسَ في أرضهِ التي وُلدَ فيها . فقالوا : يا رسول اللهِ ، أفلا تُبَشِّرُ الناس ؟ قال : إنَّ في الجنةِ مائةَ درجةٍ أعدَّها الله للمجاهدينَ في سَبيل الله ما بينَ الدرجتين كما بينَ السماءِ والأرض فإذا سألتمُ اللهَ فاسألوهُ الفِردَوسَ فإنهُ أوْسَطُ الجنة وأعلى الجنة وفوقَهُ عرشُ الرحمنِ) ، عرش الله يهتز لعظائم الأمور فعند البخاري من حديث جابرٍ رضيَ اللهُ عنه قال سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول : (اهتزَّ العرش لموتِ سعدِ بن مُعاذ) .

    الشمس تسجد تحته روي البخاري من حديث أبي ذرّ رضيَ اللهُ عنه أن النبيُّ صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذرّ حينَ غَرَبَتِ الشمسُ : أتدري أينَ تَذهَبُ ؟ قلتُ : اللهُ ورسوله أعلم ، قال : فإنها تَذهب حتّى تَسجُدَ تحتَ العَرش ، فتستأذنَ فيُؤذَنُ لها ، ويوشِكُ أن تَسجدَ فلا يُقبَلُ منها ، وتستأذِنَ فلاُ يؤذن لها ، فيقالُ لها : ارجعي من حيثُ جِئتِ ، فتطلُعُ من مَغربها . فذلك قوله تعالى : (والشمس تَجرِي لمستقرٍّ لها ، ذلكَ تقديرُ العزيز العَليم) (يس : 83) .

    عرش الله من أثقل الأوزان عن الله وروي البخاري من حديث جُوَيْرِيَةَ رضي الله عنها ، أَنَّ النَّبِيَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلى? الصُّبْحَ ، وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا . ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى? ، وَهِيَ جَالسَةٌ . فَقَال : (مَا زِلتِ عَلى? الحَال التِي فَارَقْتُكِ عَليْهَا ؟ قَالتْ : نَعَمْ . قَال النَّبِيُّ : لقَدْ قُلتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلمَاتٍ ، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ . لوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلتِ مُنْذُ اليَوْمِ لوَزَنَتْهُنَّ : سُبْحَانَ اللّهِ وَبِحَمْدِهِ ، عَدَدَ خَلقِهِ وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلمَاتِه .

    عرش الله يظل من شاء من خلقه تحت ظل عرشه وروى الترمذي وقال حديثٌ حسنٌ صحيحٌ من حديث أبي هُرَيْرَةَ أن رسول الله قال : (مَنْ أنْظَرَ مُعْسِراً أوْ وَضَعَ لهُ ، أظَلهُ الله يَوْمَ القِيامَةِ تحْتَ ظِل عرشِهِ ، يَوْمَ لاَ ظِل إلاَّ ظِلُّهُ) وعند البخاري من حديث أبي هُرَيْرَةَ أن رسول الله قال : (سَبعةٌ يُظِلُّهم اللهُ في ظِلهِ يومَ لا ظِل إلا ظِلُّهُ : الإَمامُ العادِلُ ، وَشابٌّ نَشأَ في عِبادةِ ربِّه ، ورجلٌ قلبُه مُعَلقٌ في المساجد ، وَرجُلانِ تَحابّا في اللهِ اجتَمَعا عليهِ وتَفَرَّقا عليه ، ورجلٌ طَلبَتهُ امرأةٌ ذاتُ مَنصِبٍ وجمال فقال : إني أخافُ اللهَ ، ورجلُ تَصدَّقَ أخفي? حتى لا تَعلمَ شِمالُه ما تُنفِقُ يمينُه ، ورَجُلٌ ذكرَ اللهَ خالياً ففاضَتْ عَيناه) .

    كان ولا يزال على الماء : (وَهُوَ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلى المَاءِ ليَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلئِنْ قُلتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ المَوْتِ ليَقُولنَّ الذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ) (هود :7) وعند البخاري من حديث أبي هريرةَ أن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : (إنَّ يمينَ اللهَ ملأى لايغيضها نفقة سحَّاء الليل والنهارَ ، أرأيتم ماأنفَقَ منذُ خلقَ السماوات والأرضَ فإنه لم ينقص ما في يمينِهِ ، وعرشه على الماء ، وبيدِهِ الأخرى الفيض ـ أو القبض ـ يرفع ويخفِض) .

    فطالما أن وحدت ربك في الربوبية فلا بد من توحده في الملك والاستواء علي العرش ولا تسأل كيف استوى ؟
    فالملك هو الذي يستغني في ذاته وصفاته عن كل موجود ويحتاج إليه كل موجود بل لا يستغني عنه لأن كل شيء سواه وجوده استمده من الله ، ومالك الملك هو الذي ينفذ مشيئته في مملكته كيف شاء وكما شاء إيجادا وإعداما وإبقاء وإفناء .

    فلا يبلغ العبد درجة التوحيد إلا إذا خلع عن نفسه رداء الربوبية واكتسي بثوب العبودية ، فعلم واعتقد أنه عبد في ملك سيده مستخلف في أرضه أمين على ملكه ، قد ابتلاه فيما أعطاه ، وامتحنه فيما خوله واسترعاه ، أيرد الملك إلى المالك ؟ أم ينسب لنفسه أوصاف الخالق ؟

    فتوحيد الربوبية لله يحتم علينا أن نؤمن بانفراد الله في ملكه وباستواء الله علي عرشه كلوازم لمعاني الربوبية هذا فضلا عن اتباعنا للطريقة السلفية في إثبات ما أثبته الله لنفسه وما أثبته رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل . سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .

  6. افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    توحيد الربوبية
    الاستواء وإفراد الله بالملك



    الحمد لله رب العالمين ، إله الأولين والآخرين ، هو المنفرد بأنواع الكمال والتوحيد ، ليس له مثيل ولا نديد ، ولا تبلغه صفات العبيد ، فعال لما يريد ، جل عن اتخاذ الصاحبة والولد ، خلق الكون ولم يكن معه أحد ، ليست له عثرة تقال ، ولا تضرب له الأمثال ، لم يزل بصفاته أولا قديرا ، ولا يزال بخلقه عليما خبيرا ، خلق كل شيء دون كلل ولا تعب ، ولا مسه لُغُوبٌ ولا نصب ، خلق الأشياء بقدرته ، ودبرها بمشيئته ، وقهرها بجبروته ، وذللها بعزته ، فذل لعظمته المستكبرون ، وخضع لربوبيته الخلائق أجمعون .
    وأشهد ألا إله إلا الله ، شهادة توافق ما قال ربنا جل ثناؤه ، وتقدست أسماؤه ، وجلت آلاؤه ، وشهدت بها أرضه وسماؤه ، ورسله وأنبياؤه ، (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُو العِلمِ قَائِماً بِالقِسْطِ لا إِلهَ إِلا هُوَ العزيز الحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلامُ) (آل عمران :18) .
    ونصلي ونسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وآخر نبي للخلق أجمعين ، وصاحب المقام عند مجيء رب العالمين وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن سار على دربهم بإحسان إلي يوم الدين ، (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلحْ لكُمْ أَعْمَالكُمْ وَيَغْفِرْ لكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب :71) (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون) ، أما بعد .

    فموضوعنا اليوم يدور بإذن الله تعالى أثر من آثار الإيمان بتوحيد الربوبية ، فمن من اللوازم الضرورية للإيمان بتوحيد الربوبية إفراد الله بالملك وإثبات الاستواء والفوقية ، لأن إفراد الله بالخلق وتدبير الأمر ، وكذلك تقديره للرزق يرتبط ارتباطا قويا بصفة الاستواء علي العرش ، ولذلك سوف نتحدث عن استواء الملك علي عرشه من جانب ربوبيته لخلقه ، وليس من جانب الأسماء والصفات ، وقد سبق في أحد المقالات أن بينا أن توحيد الربوبية قائم على ركنيين اثنين ، أحدهما إفراد الله بالخلق ، والثاني إفراده بتدير الأمر كما قال : (أَلا لهُ الخَلقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالمِين) ، (اللهُ خَالقُ كُل شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُل شَيْءٍ وَكِيل ٌ) (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلى الذِي خَلقَ فَسَوَّى وَالذِي قَدَّرَ فَهَدَى) فإذا كان توحيد الربوبية يقوم علي إفراد الله بالخلق والتدبير ، فإن كثيرا من معاني الربوبية ترتبط بهذين الركنين وتترتب عليهما ، ومن أبرز هذه اللوازم المرتبطة بتوحيد الربوبية إفراد الله بالملك والاستواء والفوقية ، كيف ؟ .

    ما هي علة استحقاق الملك ؟
    علة استحقاق الملك أمران : الأول صناعة الشيء وإنشائه وإيجاده ، فالمخترع يأخذ براءة الاختراع ، والمؤلف يأخذ حق التأليف والطبع ، وقال البخاري : بَاب مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا وَرَأَى ذَلكَ عَليٌّ فِي أَرْضِ الخَرَابِ بِالكُوفَةِ مَوَاتٌ وَقَال عُمَرُ مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لهُ وَيُرْوَى عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلى اللهم عَليْهِ وَسَلمَ .
    ولا يمكن لملك من ملوك الدنيا أن يؤسس مله ويصنعه بمفرده ، لا بد من ظهير معين من قرابته ، أو حزبه وجماعته ، أو إخوانه وقبيلته ، لكن من الذي ساعد الحق في إنشاء الملك ومن الذي عاونه علي إيجاد هذا الخلق ومن الذي رفع السماء وفصلها عن الأرض ؟

    فعند إنشاء الكون من الذي كان مع الحق (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ المُضِلينَ عَضُداً) (الكهف :51) وعند البخاري من حديث عَمرانَ بن حُصينٍ أن النبيِّ صلى الله عليه قال : كان اللهَ ولم يكن شيء قبلهُ ، وكان عرشه على الماء ، ثم خلقَ السماواتِ والأرضَ ، وكتب في الذكر كل شيء) ، فمن الذي الذي كان حاضرا مع الحق عن بداية الخلق ؟ .

    أما العلة الثانية لاستحقاق الملك : دوام الحياة فدوام الحياة يؤدي إلى انتقال الملكية وثبوت التملك فشروط الإرث أربعة أولها : التحقق من موت المورث ، وثانيها التحقق من حياة الوارث بعد موت مورثه ولو بلحظة ، فدوام الحياة ولو للحظة يوجب انتقال الملكية إلي الغير ، وإذا كان كل من علي الأرض زائل كما قال تعالى : (كُلُّ مَنْ عَليْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلال والإكرام) (الرحمن :27) (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَإِليْنَا تُرْجَعُونَ) (الانبياء :35) (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ ثُمَّ إِليْنَا تُرْجَعُون َ) (العنكبوت :57) .

    وماذا نقول إن كانت الحياة وصف ذاته والإحياء وصف فعله (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفي عَلى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لمَنِ المُلكُ اليَوْمَ للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ) (غافر :16) (وَلا يَحْسَبَنَّ الذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلهِ هُوَ خَيْراً لهُمْ بَل هُوَ شَرٌّ لهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (آل عمران :180) (اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) (البقرة :255) (أَلمْ تَرَ إِلى الذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ المُلكَ إِذْ قَال إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَال أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَال إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالمِينَ) (البقرة :258) (أَوْ كَالذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِهَا قَال أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَال كَمْ لبِثْتَ قَال لبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَال بَل لبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمَارِكَ وَلنَجْعَلكَ آيَةً للنَّاسِ وَانْظُرْ إِلى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لحْماً فَلمَّا تَبَيَّنَ لهُ قَال أَعْلمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة :259) .

    إبراهيم عليه السلام بدافع الحب الذي هيمن على القلب أراد من ربه مزيدا من القرب ، برؤيته لفعل الله في إحياء موتاه فقال : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ المَوْتَى قَال أَوَلمْ تُؤْمِنْ قَال بَلي وَلكِنْ ليَطْمَئِنَّ قَلبِي قَال فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِليْكَ ثُمَّ اجْعَل على كُل جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة :260)
    قال المفسرون : أمره أن يأخذ غرابا وحمامة وديكا ويمامة ، ثم قال له : أوثقهن واذبحهن وقطعهن ، فقطعهن ونتف ريشهن ومزقهن وخلط بعضهن ببعض ثم جزأهن ، وجعل على كل جبل منهن جزءا ، وأخذ رؤوسهن بيده ، ثم أمره الله تعالى أن يدعوهن فدعاهن ، فجعل ينظر إلي الريش يطير إلي الريش ، والدم يجتمع على الدم ، والعظم يلتحم بالعظم ، واللحم يلتصق باللحم ، كل طائر أجزاؤه تلتئم وتنضم ، حتى اكتمل البدن وتم ، وقام كل طائر يسعى بين يديه بغير رأسه ، ويرغب في التحامها بجسمه ، إذا قدم له غير رأسه يأباه ، فسبحان من خلقها وسواها ، كل ذلك وإبراهيم عليه السلام ينظر إلي فعل الله وقدرته ، ويتعجب من حكمته وقوته ، (إِنَّ اللهَ فَالقُ الحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَمُخْرِجُ المَيِّتِ مِنَ الحَيِّ ذَلكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (الأنعام :95) ولذلك أمرنا أن نتوكل عليه وندعوه بإخلاص لأن من سواه ليس فيه وصف الله ودوام الحياة : (وَتَوَكَّل عَلى الحَيِّ الذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفي بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً) (الفرقان :58) ، فإذا مات الكل فلمن ينتقل الإرث والملك ؟ (وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (آل عمران :180) ، (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفي عَلى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لمَنِ المُلكُ اليَوْمَ للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ) (غافر :16) . فالملك لله في المبتدا عند إنشاء الخلق فلم يكن أحد سواه ؟ والملك لله في المنتهى عند زوال الأرض لأنه لن يبقى من الملوك سواه ؟ فهل يجرؤ أحد بعد ذلك أن يدعي شيئا لغير الله ؟ (قُل ادْعُوا الذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلكُونَ مِثْقَال ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لمَنْ أَذِنَ لهُ) فالله عز وجل نفي جميع الوجوه التي يتذرع بها المشركون إلي الشرك في الربوبية والعبودية معا فنفت الآية عن آلهتهم كل أوجه التأثير في الكون ممثلة في أربعة أمور :
    أ - نفي الملك التام لا نعدام ربوبيتهم ، فلا يخلقون في الكون شيئا ولا يدبرون فيه أمرا ، ومن ثم فله الملك كله وله الأمر كله ، فقال تعالى : (لا يَمْلكُونَ مِثْقَال ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ) .
    ب - نفي المشاركة له في الملك بأن يكون لهم نصيب وله نصيب فربما يزعم زاعم أنهم اشتركوا سويا في الخلق والتقدير ، فقال تعالى : (وَمَا لهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ) .
    ح - نفي الظهير والمعين فقد يدعى بعض المشركين أن آلهتهم لا يملكون شيئا ولا يشاركون الله في الملك ، ولكن يعاونوه في تدبير الخلق والقيام على شيءونه فقال : (وَمَا لهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) .
    د - نفي الشفاعة عنده إلا بإذنه لأنهم تعلقوا بها وقالوا : (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا ليُقَرِّبُونَا إلي اللهِ زُلفي) ، فقال سبحانه : (وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لمَنْ أَذِنَ لهُ) .
    والآيات في ذلك أكثر من أن تحصى ، وكلها تكشف عن نفسها وتفصح عن مدلولاتها بجلاء ووضوح ، وتبين أنه لا خالق إلا الله ولا مدبر للكون سواه ، ومن ثم فإنه المنفرد بالملك ، فالمَلك هو المتصرف بالأمر والنهي في مملكته وهو القائم بسياسة خلقه إلي غايتهم وملكه هو الحق الدائم له بحق دوام الحياة .

    واعلم أنك إذا وحدت ربك في الربوبية وأفردته بالخالقية والتدبيرات الكونية والشرعية ، فإنه يلزمك أن تفرده بالملك والاستواء علي العرش ، لأننا علمنا بالضرورة العقلية أن الذي يصنع الشيء ويبتدعه ، أو ينشئه ويخترعه له فيه من جهة الاستحقاق والملكية أمران اثنان : الأول : ملكيته لما صنع من أشياء ، والثاني : حريته فيها يفعل بها ما يشاء ، ولما كان الحق سبحانه وتعالى هو المنفرد بالخلق والتدبير ، فإنه إلزاما ينفرد بالملك والتقدير ، وينفرد بأنه المالك المستحق للملك ، .

    ولما كان استواء الملك على عرشه فيه دلالة علي الإقرار له بالملك وتصريف الأمر ، وكان كل ملك في الدنيا استواؤه علي عرشه من لوازم كمال ملكه ، كان إثبات استواء الله على عرشه من لوازم توحيده من باب أولي فمن لوازم توحيد الربوبية إثبات علو الذات والفوقية ، الاستواء علي العرش ، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالي : (طه مَا أَنْزَلنَا عَليْكَ القُرْآنَ لتَشْقَى إِلا تَذْكِرَةً لمَنْ يَخْشَى تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ العُلا الرَّحْمَانُ عَلى العَرْشِ اسْتَوَى لهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِنْ تَجْهَرْ بِالقَوْل فَإِنَّهُ يَعْلمُ السِّرَّ وَأَخْفي اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ لهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى) (طه 5:1) .

    وقال أيضا : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ يُغْشِي الليْل النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لهُ الخَلقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالمِينَ) (لأعراف :54) (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (يونس :3) .

    (اللهُ الذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآياتِ لعَلكُمْ بِلقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (الرعد :2) (قُل مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ) (المؤمنون :86) (اللهُ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ مَا لكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَليٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) (السجدة :4) (هُوَ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ يَعْلمُ مَا يَلجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الحديد :4) (فَإِنْ تَوَلوْا فَقُل حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ عَليْهِ تَوَكَّلتُ وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ) (التوبة :129) (فَتَعَالى اللهُ المَلكُ الحَقُّ لا إِلهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ) (المؤمنون :116) .

    ومن عظة العرش ودلالته علي إثبات الملك ، أن العرش ذكر في سورة النمل أربع عشرة مرة ، فكل ملك من الملوك يتخذ لنفسه عرشا عظيما يدل على منزلته وقدره ، فشتان بين عرش وعرش :
    وها هي قصته العجيبة : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَال مَا لي لا أَرَى الهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الغَائِبِينَ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ ليَأْتِيَنِي بِسُلطَانٍ مُبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَال أَحَطتُ بِمَا لمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُل شَيْءٍ وَلهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَال مَا لي لا أَرَى الهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الغَائِبِينَ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ ليَأْتِيَنِي بِسُلطَانٍ مُبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَال أَحَطتُ بِمَا لمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُل شَيْءٍ وَلهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ للشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيل فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلا يَسْجُدُوا للهِ الذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلنُونَ اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ قَال سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الكَاذِبِينَ اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلقِهِ إِليْهِمْ ثُمَّ تَوَل عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ للشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيل فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلا يَسْجُدُوا للهِ الذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلنُون اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ قَال سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الكَاذِبِينَ اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلقِهِ إِليْهِمْ ثُمَّ تَوَل عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ قَالتْ يا أيها المَلأُ إِنِّي أُلقِيَ إِليَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُليْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيم أَلا تَعْلُوا عَليَّ وَأْتُونِي مُسْلمِينَ قَالتْ يا أيها المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِي قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِليْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ قَالتْ إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلهَا أَذِلةً وَكَذَلكَ يَفْعَلُون َقَالتْ يا أيها المَلأُ إِنِّي أُلقِيَ إِليَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُليْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ أَلا تَعْلُوا عَليَّ وَأْتُونِي مُسْلمِينَ قَالتْ يا أيها المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِي قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِليْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ قَالتْ إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلهَا أَذِلةً وَكَذَلكَ يَفْعَلُونَ قَالتْ يا أيها المَلأُ إِنِّي أُلقِيَ إِليَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُليْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيم أَلا تَعْلُوا عَليَّ وَأْتُونِي مُسْلمِينَ قَالتْ يا أيها المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِي قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِليْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ قَالتْ إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلهَا أَذِلةً وَكَذَلكَ يَفْعَلُونَ قَالتْ يا أيها المَلأُ إِنِّي أُلقِيَ إِليَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُليْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ أَلا تَعْلُوا عَليَّ وَأْتُونِي مُسْلمِينَ قَالتْ يا أيها المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِي قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِليْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِين قَالتْ إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلهَا أَذِلةً وَكَذَلكَ يَفْعَلُون َقَالتْ يا أيها المَلأُ إِنِّي أُلقِيَ إِليَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُليْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم أَلا تَعْلُوا عَليَّ وَأْتُونِي مُسْلمِينَ قَالتْ يا أيها المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِليْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ قَالتْ إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلهَا أَذِلةً وَكَذَلكَ يَفْعَلُونَ قَال الذِي عِنْدَهُ عِلمٌ مِنْ الكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْل أَنْ يَرْتَدَّ إِليْكَ طَرْفُكَ فَلمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَال هَذَا مِنْ فَضْل رَبِّي ليَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ قَال نَكِّرُوا لهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنْ الذِينَ لا يَهْتَدُونَ فَلمَّا جَاءَتْ قِيل أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا العِلمَ مِنْ قَبْلهَا وَكُنَّا مُسْلمِينَ قَال الذِي عِنْدَهُ عِلمٌ مِنْ الكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْل أَنْ يَرْتَدَّ إِليْكَ طَرْفُكَ فَلمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَال هَذَا مِنْ فَضْل رَبِّي ليَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ قَال نَكِّرُوا لهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنْ الذِينَ لا يَهْتَدُونَ فَلمَّا جَاءَتْ قِيل أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا العِلمَ مِنْ قَبْلهَا وَكُنَّا مُسْلمِينَ وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ قِيل لهَا ادْخُلي الصَّرْحَ فَلمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَال إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالتْ رَبِّ إِنِّي ظَلمْتُ نَفْسِي وَأَسْلمْتُ مَعَ سُليْمَانَ للهِ رَبِّ العَالمِينَ)

    وملوك الدنيا مع أن ملكهم محدود زائل ، واستحقاقهم للملك من قبل الحق ، فهو الذي يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء : (قُل اللهُمَّ مَالكَ المُلكِ تُؤْتِي المُلكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران :26) إلا أن ملوك الدنيا يبالغون في الحفاظ علي عروشهم ويجعلون قصورهم في الأماكن المرتفعة أو على الماء ، ويفتخر كل منهم بأنه صاحب العرش والسلطة والقوة والهيمنة فهذا فرعون طاغوت عبد من دون الله إن ادعى لنفسه الملك فإنه يدعيه بغير حق ، إما على قرية أو مدينة أو جزء قليل أو كثير من الأرض ، كما قال فرعون : (أَليْسَ لي مُلكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ) (الزخرف :51) لكن ملك فرعون وإن كان زائلا لم يخرج عن حدود مصر إلى الشرق أو الغرب أو سائر الأرض فما بالنا بمالك الملك ، الملك الذي تملك بحق جميع ما في السماوات وما في الأرض ، ألا يدعو هذا الوصف جميع العقلاء إلى أن يقولوا بيقين وصدق وعن عقيدة حق : لا إله إلا الله ؟ وهذا الشيطان رأس الطواغيت لما نزل إلي الأرض نصب عرشه علي الماء ، فعند الإمام مسلم يقول صلي الله عليه وسلم : (إِنَّ إِبْليسَ يَضَعُ عَرْشَهُ على المَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ فَعَلتُ كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ مَا صَنَعْتَ شَيْئًا قَال ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ مَا تَرَكْتُهُ حتى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ قَال فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ نِعْمَ أَنْتَ) .

    فانظر إلي ملك الملوك وهو يصف عرشه ، بأنه عظيم (فَإِنْ تَوَلوْا فَقُل حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ عَليْهِ تَوَكَّلتُ وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ) (التوبة :129) وصفه بالعظمة في مقابل تولي الخلق لأنه لما كان الاستواء علي العرش دليلا علي تولي الملك ، ولو أعرض الخلق عن ملك الدنيا خلعوه من عرشه ونصبوا غيره ، لأنه ما وصل إلى الملك إلا بهم ، سواء بانتخاب أهله وعشيرته أو حزبه وجماعته ، أما ملك الملوك لو أعرض عنه سائر الخلق فمن الذي يتغير ؟ أيتغير الملك أم المملوك ، أيزول الخالق أم المخلوق ؟ (وَاللهُ الغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلوْا يَسْتَبْدِل قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالكُمْ) (محمد :38) (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللهُ عَلى ذَلكَ قَدِيراً) (النساء :133) (وَرَبُّكَ الغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) (الأنعام :133) (أَلمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلقٍ جَدِيدٍ) .

    ووصفه بأنه كريم : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِليْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالى اللهُ المَلكُ الحَقُّ لا إِلهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ) (المؤمنون :116) له حملة اليوم (الذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ للذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُل شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلماً فَاغْفِرْ للذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ) (غافر :7) وله حملة يوم القيامة : (وَالمَلكُ عَلى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) (الحاقة :17) له قوائم كما ورد عند البخاري من حديث أبي سعيدٍ الخدريِّ أن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : (الناسُ يصعَقون يومَ القِيامةِ فأكونُ أول مَن يُفِيقُ ، فإِذا أنا بموسى آخذٌ بقائمةٍ من قوائم العرشِ ، فلا أدرِي أفاقَ قبلي أم جُوزِيَ بصَعقةِ الطُّور) .

    عرش الله أعلي المخلوقات وسقف الجنة : فعند البخاري من حديث أبي هريرةَ رضيَ الله عنه ، أن النبيُّ صلى الله عليه وسلم قال : (من آمَنَ باللهِ وبرسوله وأقامَ الصلاةَ وصامَ رمضانَ كان حَقّاً على الله أن يُدْخلهُ الجنَّة ، جاهدَ في سبيل اللهِ أو جلسَ في أرضهِ التي وُلدَ فيها . فقالوا : يا رسول اللهِ ، أفلا تُبَشِّرُ الناس ؟ قال : إنَّ في الجنةِ مائةَ درجةٍ أعدَّها الله للمجاهدينَ في سَبيل الله ما بينَ الدرجتين كما بينَ السماءِ والأرض فإذا سألتمُ اللهَ فاسألوهُ الفِردَوسَ فإنهُ أوْسَطُ الجنة وأعلى الجنة وفوقَهُ عرشُ الرحمنِ) ، عرش الله يهتز لعظائم الأمور فعند البخاري من حديث جابرٍ رضيَ اللهُ عنه قال سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول : (اهتزَّ العرش لموتِ سعدِ بن مُعاذ) .

    الشمس تسجد تحته روي البخاري من حديث أبي ذرّ رضيَ اللهُ عنه أن النبيُّ صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذرّ حينَ غَرَبَتِ الشمسُ : أتدري أينَ تَذهَبُ ؟ قلتُ : اللهُ ورسوله أعلم ، قال : فإنها تَذهب حتّى تَسجُدَ تحتَ العَرش ، فتستأذنَ فيُؤذَنُ لها ، ويوشِكُ أن تَسجدَ فلا يُقبَلُ منها ، وتستأذِنَ فلاُ يؤذن لها ، فيقالُ لها : ارجعي من حيثُ جِئتِ ، فتطلُعُ من مَغربها . فذلك قوله تعالى : (والشمس تَجرِي لمستقرٍّ لها ، ذلكَ تقديرُ العزيز العَليم) (يس : 83) .

    عرش الله من أثقل الأوزان عن الله وروي البخاري من حديث جُوَيْرِيَةَ رضي الله عنها ، أَنَّ النَّبِيَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلى? الصُّبْحَ ، وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا . ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى? ، وَهِيَ جَالسَةٌ . فَقَال : (مَا زِلتِ عَلى? الحَال التِي فَارَقْتُكِ عَليْهَا ؟ قَالتْ : نَعَمْ . قَال النَّبِيُّ : لقَدْ قُلتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلمَاتٍ ، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ . لوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلتِ مُنْذُ اليَوْمِ لوَزَنَتْهُنَّ : سُبْحَانَ اللّهِ وَبِحَمْدِهِ ، عَدَدَ خَلقِهِ وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلمَاتِه .

    عرش الله يظل من شاء من خلقه تحت ظل عرشه وروى الترمذي وقال حديثٌ حسنٌ صحيحٌ من حديث أبي هُرَيْرَةَ أن رسول الله قال : (مَنْ أنْظَرَ مُعْسِراً أوْ وَضَعَ لهُ ، أظَلهُ الله يَوْمَ القِيامَةِ تحْتَ ظِل عرشِهِ ، يَوْمَ لاَ ظِل إلاَّ ظِلُّهُ) وعند البخاري من حديث أبي هُرَيْرَةَ أن رسول الله قال : (سَبعةٌ يُظِلُّهم اللهُ في ظِلهِ يومَ لا ظِل إلا ظِلُّهُ : الإَمامُ العادِلُ ، وَشابٌّ نَشأَ في عِبادةِ ربِّه ، ورجلٌ قلبُه مُعَلقٌ في المساجد ، وَرجُلانِ تَحابّا في اللهِ اجتَمَعا عليهِ وتَفَرَّقا عليه ، ورجلٌ طَلبَتهُ امرأةٌ ذاتُ مَنصِبٍ وجمال فقال : إني أخافُ اللهَ ، ورجلُ تَصدَّقَ أخفي? حتى لا تَعلمَ شِمالُه ما تُنفِقُ يمينُه ، ورَجُلٌ ذكرَ اللهَ خالياً ففاضَتْ عَيناه) .

    كان ولا يزال على الماء : (وَهُوَ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلى المَاءِ ليَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلئِنْ قُلتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ المَوْتِ ليَقُولنَّ الذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ) (هود :7) وعند البخاري من حديث أبي هريرةَ أن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : (إنَّ يمينَ اللهَ ملأى لايغيضها نفقة سحَّاء الليل والنهارَ ، أرأيتم ماأنفَقَ منذُ خلقَ السماوات والأرضَ فإنه لم ينقص ما في يمينِهِ ، وعرشه على الماء ، وبيدِهِ الأخرى الفيض ـ أو القبض ـ يرفع ويخفِض) .

    فطالما أن وحدت ربك في الربوبية فلا بد من توحده في الملك والاستواء علي العرش ولا تسأل كيف استوى ؟
    فالملك هو الذي يستغني في ذاته وصفاته عن كل موجود ويحتاج إليه كل موجود بل لا يستغني عنه لأن كل شيء سواه وجوده استمده من الله ، ومالك الملك هو الذي ينفذ مشيئته في مملكته كيف شاء وكما شاء إيجادا وإعداما وإبقاء وإفناء .
    فلا يبلغ العبد درجة التوحيد إلا إذا خلع عن نفسه رداء الربوبية واكتسي بثوب العبودية ، فعلم واعتقد أنه عبد في ملك سيده مستخلف في أرضه أمين على ملكه ، قد ابتلاه فيما أعطاه ، وامتحنه فيما خوله واسترعاه ، أيرد الملك إلى المالك ؟ أم ينسب لنفسه أوصاف الخالق ؟
    فتوحيد الربوبية لله يحتم علينا أن نؤمن بانفراد الله في ملكه وباستواء الله علي عرشه كلوازم لمعاني الربوبية هذا فضلا عن اتباعنا للطريقة السلفية في إثبات ما أثبته الله لنفسه وما أثبته رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل . سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .

  7. افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    توحيد الربوبية
    حسن التوكل على الله



    الحمد لله رب العالمين ، إله الأولين والآخرين ، هو الأول والآخر والظاهر والباطن ، وهو بكل شيء عليم ، هو الأول فليس قبله شيء ، والآخر فليس بعده شيء ، والظاهر فليس فوقه شيء ، والباطن فليس دونه شيء ، لم يزل متصفا بصفات الكمال ولا يزال ، دائما باقيا بلا انقضاء ولا انفصال ولا زوال ، يعلم دبيب النملة السوداء ، على الصخرة الصماء ، في الليلة الظلماء ، الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا ، ورفع السماء بغير عمد وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا ، وسوي فوقهن ماء عظيما وجعل فوق الماء سريرا ، عرشا عظيما كريما مجيدا ، بدأ خلق الإنسان من طين ، وجعل نسله من سلالة من ماء مهين ، وصوره وأبدعه في قرار مكين ، فجعله مضغة فعظاما فسميعا بصيرا .
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارا بوحدانيته ، وإخلاصا لربوبيته ، وأنه العالم بما تحويه الضمائر ، وتنطوي عليه السرائر ، من تواضع له رفعه ، ومن تكبر عليه أذله ووضعه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله للكافة بآياته ، وأيده بخوارق عاداته ومعجزاته ، فالله أعلم حيث يجعل رسالاته ، وصلي الله عليه كما ذكر ربنا في محكم آياته: (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلي النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَليْهِ وَسَلمُوا تَسْليماً) (الأحزاب:56) فصلي الله عليه وعلي آله وصحبه ومن سار علي دربه إلي يوم الدين ، أما بعد .

    فمن آثار الإيمان بتوحيد الربوبية ، إفراد الله بتقدير الأرزاق والعطاء ، والتوكل عليه في الشدة والرخاء ، فأول أركان التوكل علي الله ، اعتقاد العبد أنه لا خالق إلا الله ولا مدبر للكون سواه ، واعتقاد الموحد أن الرب الذي يرزق بأسباب قادر على أن يرزق من غير أسباب ، وكلاهما عند المؤمنين في الإيمان سيان ، طالما أن الله هو الخالق المدبر في أى وضع كان ، فالتوكّل من أعلى مقامات اليقين وأشرف أحوال المقرّبين ، يقول تعالى وهو أحسن القائلين: (إن اللّه يحبّ المتوكلين) (آل عمران 159) ، وقال اللّه عزّ وجلّ: (وَعَلى اللّه فَليَتَوَكَّل المُتَوَكِّلُونَ) ، وقال جلت قدرته: (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّل عَلى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَل اللهُ لكُل شَيْءٍ قَدْراً) (الطلاق:3) ، ومعني فهو حسبه أي كافيه مما سواه ، فمن كان اللّه تعالى كافيه فهو شافيه ومعافيه ، ويكفيه عمّا هو فيه ، يقول تعالى: (أليْسَ اللّه بِكَافٍ عَبْدَهُ) (الزمر:36) ، ومن فوض أمره إلى الله وقاه ونجاه ، كما قال مؤمن آل فرعون: (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ) (غافر:44) فلما فوض أمره إلى الله ، وعلم أنه لا مدبر للكون سواه ، قال تعالى في الآية التي بعدها (فَوَقَاهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآل فِرْعَوْنَ سُوءُ العَذَابِ) (غافر:45) .

    إذا علم العبد الذليل أن الملك الجليل ، قائم بالقسط والتدبير ، ومنفرد بالمشيئة والتقدير ، عنده خزائن كلّ شيء ، وكلّ شيء عنده بمقدار ، لا ينزله إلا بقدر معلوم ، وعلم أن الوكيل الكفيل قابض على نواصي الملك ، وله خزائن السماوات والأرض ، فأيقن العبد أن ربه في يده ملكوت كلّ شيء بحق وصدق ، وأنه يملك السمع والأبصار ، ويقلب القلوب كما يقلب الليل على النهار ، وأنه يتولى تدبير شئون العالمين ، وأنه أحكم الحاكمين وخير الرازقين ، إذا علم العبد ذلك أيقن أن الملك الجليل من فوق عرشه ، كفيل بأمره ورزقه ، يغنيه من فضله وقربه ، واعتمد عليه في كل شيء ، ووثق به دون كل شيء ، وقنع منه بأدنى شيء ، وصبر علي ما ابتلاه به في هذه الحياة ، وهنا لا يطمع العبد في سواه ، ولا يرجو إلا إياه ، ولا يشهد في العطاء إلا مشيئته ، ولا يرى في المنع إلا حكمته ، ولا يعاين في القبض والبسط إلا قدرته ، عند ذلك حقت للعبد معاني التوحيد في عبادته ، وصدق في إسلامه وشهادته ، ووحد الله في ربوبيته ، فعرف أن المخلوق لا حول ولا قوة له إلا بخالقه وأن طلب الرزق يكون عند معبوده ورازقه ، كما قال الله عز وجل: (إِنَّ الذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه عِبَادُ أَمْثَالُكُمْ) (الأعراف:194) وقال: (إِنَّ الذينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دَونِ اللّه لاَ يَمْلكُونَ لكُمْ رِزْقَاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللّه الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ) (العنكبوت:17) .

    فأهل اليقين ينظرون إلى الأسباب ويعجبون من مقلبها ، كيف يقلبها ؟ ، فيجدون أن الله عز وجل تارة ينسب الفعل إليه عند دعوتهم إلي توحيد الربوبية ، وتارة ينسب الفعل إليهم عند دعوتهم إلي توحيد العبودية ، فالأسباب مرة يثبت أحكامها ويكلفنا أن نأخذ بها ، ومرة ينفي تأثيرها لنعتقد في قدرته دون قدرتها ، وننسب الفعل إليه دون فاعليتها ، فترى القرآن مرة يقول في نفيها: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (الواقعة:64) وقال أيضا: (فَليَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا المَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلا وَحَدَائِقَ غُلبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّامَتَاعًا لكُمْ وَلأَنْعَامِكُم) ، فنفي عن الناس أفعالهم وتأثير الأسباب في رزقهم ، وأثبت لنفسه الأفعال وتصريف الأسباب ، لأنه الخالق حقيقة الذي قدر كل شيء في أم الكتاب ، ثم أثبت الأسباب للناس في موضع آخر فقال: (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلهِ إِلا قَليلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) (يوسف:47) ويقول أيضا: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلظَ فَاسْتَوَى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ليَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (الفتح:29) فسماهم زراعا وقال تزعون ، لأننا في دار ابتلاء وامتحان واستخلاف واستئمان ، فنسب الفعل إلينا على أننا مستخلفون في ملكه مخولون في أرضه ، فطالبنا بالعمل والإنفاق ليصل كل منا إلي ما قدره من الأرزاق: (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلكُمْ مُسْتَخْلفِينَ فِيهِ فَالذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لهُمْ أَجْرٌ كَبِير ٌ) (الحديد:7) فالدنيا دار ابتلاء وامتحان ، ولا بد أن يجتازها الإنسان (الذِي خَلقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ ليَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ) (الملك:2) وهو في هذه الدار بالخيار ، أيرغب في الجنة أم في النار (هُوَ الذِي جَعَلكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَليْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَاراً) (فاطر:39) (وَهُوَ الذِي جَعَلكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ليَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإِنَّهُ لغَفُورٌ رَحِيمٌ) ، (إِنَّا خَلقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَليهِ فَجَعَلنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (الإنسان:2) (الأنعام:165) كل ذلك ليؤول الناس إلى مصيرهم بعد الحساب ، ويتم ما قدره الله في أم الكتاب: (فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (الشورى:7) فكل ميسر لما خلق له ، وكل سيرزق بما قدر له . فاللّه عز وجل قد أظهر الدنيا أسبابا ونسب الفعل إلي أهلها لإظهار حكمته عند دعوتهم لتوحيد الله بالعبودية ، وينسب الفعل ويثبته لنفسه في موضع آخر لإظهار قدرته عند دعوتهم لتوحيد الله بالربوبية ، فقال تعالى: (قُل يَتَوَفّاكُمْ مَلكُ المَوْتِ الذي وُكَّل بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (السجدة:11) فنسب التوفي إلى الملك الذي كلفه بمباشرة الأسباب وقال أيضا: (وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَليْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) (الأنعام:61) عند الاحتضار الملائكة يجتمعون وعلى مد البصر من الميت يجلسون ، ثم يقومون بجذب الروح إلى الحلقوم ، وعندها يأتي ملك الموت ليخرجها إلى الجنة أو عذاب الهون: (وَلوْ تَرَى إِذِ الظَّالمُونَ فِي غَمَرَاتِ المَوْتِ وَالمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ اليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلى اللهِ غَيْرَ الحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) (الأنعام: من الآية93) ، ثم نفي الأسباب وتأثيرها ، والملائكة وتدبيرها ، وأظهر نفسه وفعله ، وخلقه وتدبيره وأمره ، فقال تعالى: (الله يتوفى الأَنْفُسَ حينَ مَوْتِهَا) (الزمر:42 ، ليعلم الجميع كيف يوحدون الله في الربوبية من جهة ، وكيف يوحدون الله في العبودية من جهة أخري .

    وكذلك قال سبحانه في تفصيل أحكام الشرع وتكليف العباد بالأمر ، ابتلاءا لهم في هذه الدار ، وانتقالا منها إلى دار القرار ، فكلفهم بالقتال فقال: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيل اللهِ الذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ) (البقرة:190) (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيل اللهِ وَاعْلمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَليمٌ) (البقرة:244) (فَالذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ولأُدْخِلنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) (آل عمران:195) كلفهم بالقتال وجعله للمؤمنين اختبار وقال أيضا: (وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ) (التوبة:36) (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْل الفَتْحِ وَقَاتَل أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (الحديد:10) (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَليْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) (التوبة:14) ، كل ذلك يكلفهم بتوحيد العبودية لله ، وأن يطيعوا الله ويجاهدوا في سبيل الله ، إظهارا للشرائع والأحكام ، وتحقيقا لمعاني التوحيد والإسلام ، ثم قال في توحيد الربوبية ونسبة الفضل إليه في انتصارهم علي أعدائهم: (فَلمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللّه قَتَلهُمْ) (الأنفال:71) حتى لا ينسبوا الفضل إلى أنفسهم ولا يدخل العجب بالنفس إلى عقيدتهم فيقولون انتصرنا وعبرنا بقوتنا وقدرتنا وقتالنا وخبرتنا وحنكة قائدنا لولاه لهزمنا وغير ذلك من تدندن عليه النفس الأمارة ، فالله ما نسب إليهم الأسباب إلا لأن الشرائع تتعلق بها ، أما هي في حقيقها فالله هو خالقها والمدبر لأمرها ، وهو الموفق والكفيل الذي تكفل بها ، فقال تعالي: (وَمَا رَمَيْتَ إذ رَمَيْتَ ولكِنَ اللّهَ رَمَى) (الأنفال:17) .

    فالعبد المؤمن الذي توكل علي الله حقا ، علم أن الله الذي يرزق بأسباب قادر على أن يرزق من غير أسباب ، وأن الذي شق البحر لموسى عليه السلام هو الذي سيره ، وما كان ضرب البحر بالعصا في عرفنا ، كافيا من جهة الأسباب التي وضعها الله لنا ، لشقه طريقا في البحر يبسا آمنا ، ولكن اليقين بالذي خلقنا ودبر أمرنا ، يجعل التوكل عليه منجاه ، كما قال جل في علاه: (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّل عَلى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَل اللهُ لكُل شَيْءٍ قَدْراً) (الطلاق:3) وقال سبحانه وتعالى: (أليْسَ اللّه بِكَافٍ عَبْدَهُ) (الزمر:36 ومن فوض أمره إلى الله ، وقاه ونجاه كما قال مؤمن آل فرعون متوكلا على الله: (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ) (غافر:44) فلما فوض أمره إلى الله قال في الآية بعدها: (فَوَقَاهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآل فِرْعَوْنَ سُوءُ العَذَابِ) (غافر:45) . فالله عز وجل لما قال عن تسيير الإنسان في البر والبحر: (هُوَ الذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ) (يونس:22) وجدنا الناس بتسيير البحر لم يتأثروا ، وبقدرة الخالق لم يعتبروا ، ولكن لما سمعوا قول الله عز وجل: (فَأَوْحَيْنَا إِلى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البَحْرَ فَانْفَلقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ العَظِيمِ) (الشعراء:63) تعجبوا وآمنوا حتى فرعون لما أدركه الغرق آمن برب الفلق: (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الغَرَقُ قَال آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلا الذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيل وَأَنَا مِنَ المُسْلمِينَ) (يونس:90) ، لكن أني لمن نازع الله في ربوبيته ، وحارب ربه وآذى نبيه وبالغ في أذيته ، أني لجاحد بتوحيد الله ودعوة الحق أن يتوب عن ذنبه ، وأني لمن أيقن بصدق موسي وهارون ولم يتراجع عن كبره ، (آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ المُفْسِدِين فَاليَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لتَكُونَ لمَنْ خَلفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لغَافِلُونَ) (يونس:92) .

    وهذه مريم ابنة عمران آمنت بربها ، وعلمت أن الذي خلقها سيرزقها ، سواء بأسباب أو بغير أسباب ، بحساب من العبد أو بغير حساب: (فَتَقَبَّلهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلهَا زَكَرِيَّا كُلمَا دَخَل عَليْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَال يَا مَرْيَمُ أَنَّى لكِ هَذَا قَالتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) ، ولذلك كان من قوة يقينها أن الله اختارها لأعظم ابتلاء ، ستحمل على غير عادة النساء ، فجعلها الحق أعجوبة وآية (وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلنَا إِليْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّل لهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا قَال إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لكِ غُلامًا زَكِيًّا قَالتْ أَنَّى يَكُونُ لي غُلامٌ وَلمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلمْ أَكُنْ بَغِيًّا قَال كَذَلكِ قَال رَبُّكِ هُوَ عَليَّ هَيِّنٌ وَلنَجْعَلهُ آيَةً للنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلنَا إِليْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّل لهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا قَال إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لكِ غُلامًا زَكِيًّا قَالتْ أَنَّى يَكُونُ لي غُلامٌ وَلمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلمْ أَكُنْ بَغِيًّا قَال كَذَلكِ قَال رَبُّكِ هُوَ عَليَّ هَيِّنٌ وَلنَجْعَلهُ آيَةً للنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا فَحَمَلتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا فَأَجَاءَهَا المَخَاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلةِ قَالتْ يا ليتني مِتُّ قَبْل هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَل رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِليْكِ بِجِذْعِ النَّخْلةِ تُسَاقِطْ عَليْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنْ البَشَرِ أَحَدًا فَقُولي إِنِّي نَذَرْتُ للرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلنْ أُكَلمَ اليَوْمَ إِنسِيًّا فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يا أخت هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشَارَتْ إِليْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلمُ مَنْ كَانَ فِي المَهْدِ صَبِيًّا قَال إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِي الكِتَابَ وَجَعَلنِي نَبِيًّا وَجَعَلنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالدَتِي وَلمْ يَجْعَلنِي جَبَّارًا شَقِيًّا فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشَارَتْ إِليْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلمُ مَنْ كَانَ فِي المَهْدِ صَبِيًّا قَال إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِي الكِتَابَ وَجَعَلنِي نَبِيًّا وَجَعَلنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالدَتِي وَلمْ يَجْعَلنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلامُ عَليَّ يَوْمَ وُلدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ذَلكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْل الحَقِّ الذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ للهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لهُ كُنْ فَيَكُونُ وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَالسَّلامُ عَليَّ يَوْمَ وُلدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ذَلكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْل الحَقِّ الذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ للهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لهُ كُنْ فَيَكُون وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) .

    وزكريا عليه السلام لما رأى في مريم وأحوالها قدرة الله في تعطيل الأسباب ، وأنها ترزق في المحراب بألوان الطعام في غير موعده وبغير حساب ، (هُنَالكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَال رَبِّ هَبْ لي مِنْ لدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) (آل عمران:38) زكريا الذي انقطعت به أسباب الإنجاب عند سائر العقلاء ، وزوجته عاقر يستحيل أن تلد في مقاييس الأطباء ، دعا ربه بهذا الدعاء: (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الوَارِثِينَ) (الأنبياء:89) (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا قَال رَبِّ إِنِّي وَهَنَ العَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَل الرَّأْسُ شَيْبًا وَلمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ المَوَاليَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لي مِنْ لدُنْكَ وَليًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آل يَعْقُوبَ وَاجْعَلهُ رَبِّ رَضِيًّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا قَال رَبِّ إِنِّي وَهَنَ العَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَل الرَّأْسُ شَيْبًا وَلمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ المَوَاليَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لي مِنْ لدُنْكَ وَليًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آل يَعْقُوبَ وَاجْعَلهُ رَبِّ رَضِيًّا يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لمْ نَجْعَل لهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا قَال رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لي غُلامٌ وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلغْتُ مِنْ الكِبَرِ عِتِيًّا قَال كَذَلكَ قَال رَبُّكَ هُوَ عَليَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلمْ تَكُنْ شَيْئًا يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لمْ نَجْعَل لهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا قَال رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لي غُلامٌ وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلغْتُ مِنْ الكِبَرِ عِتِيًّا قَال كَذَلكَ قَال رَبُّكَ هُوَ عَليَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلمْ تَكُنْ شَيْئًا ) .

    فإذا علم العبد أن الخالق الرازق هو الله ، ركن إليه وتوكل عليه ، وأعطى الناس ما يليق بها من العطاء ، كل على ما يستحقه من الجزاء ، وتعامل معهم انطلاقا من دعوة الإسلام ، وتحقيقا لما ورد عن نبينا عليه الصلاة والسلام (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا ، نَفَّسَ اللّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ القِيَامَةِ ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلى? مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللّهُ عَليْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلماً سَتَرَهُ اللّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة ، وَاللّهُ فِي عَوْنِ العَبْدِ مَا كَانَ العَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ) وهو حديث صحيح رواه مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ ، وعند الترمذي وقال حسنٌ صحيحٌ ، من حديث أَبي هُرَيْرَةَ أيضا أن رَسُول الله قال: (مَنْ لاَ يَشْكُرِ النَّاسَ لاَ يَشْكُرِ الله) .

  8. افتراضي

    فالصادق في توحيده وتوكله ، لا يحمد مخلوقا ولا يذمه لأجل أنه أعطاه أو منعه ، لأنه يعلم يقينا أن الله عز وجل هو المعطي الأوّل قبل إجراء الأسباب على أيديهم ، فلم يشكر من كان سببا في رزقه إلا لأن الله مدحهم وأمره بشكرهم ، وإن ذم الذين كانوا سببا في رزقه أو مقتهم ، فلأجل مخالفتهم لله وموافقتهم لهوى أنفسهم ، فالله عز وجل مدح المنفقين وذم الممسكين ، (الذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبُخْل وَمَنْ يَتَوَل فَإِنَّ اللهَ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ) (الحديد:24) (وَلا يَحْسَبَنَّ الذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلهِ هُوَ خَيْراً لهُمْ بَل هُوَ شَرٌّ لهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (آل عمران:180) وقد وكل الله ملكين ينزلان من السماء وكلهم بالدعاء لمن أنفق من مال الله ، والدعاء على كل من بخل على عباد الله ، فعند البخاري من حديث أَبي هُريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (ما مِن يومٍ يُصبحُ العِبادُ فيه إِلاَّ مَلكانِ يَنزِلانِ فيقولُ أحدُهما: اللهمَّ أعطِ مُنفِقاً خَلفا ، ويَقولُ الآخَرُ: اللّهمَّ أعطِ مُمسِكاً تلفاً) ، فحسن التوكل على الله من آثار الإيمان بتوحيد الربوبية ، وسبب في سعة الرزق وإدراك الراحة النفسية ، ألا ترى الطير لا تملك خزائن لقوتها ، وليس لها من الرزق إلا ما قدره الله بسعيها ، روى الترمذي وقال حسن صحيح ، من حديث عُمَرَ بن الخطاب قال: سَمِعْتُ رَسُول اللهِ يَقُولُ: (لوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلتُمْ عَلى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلهِ ، لرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ ، تَغْدُو خِمَاصاً ، وَتَرُوحُ بِطَاناً) .

    والله عز وجل يقول: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إلاَّ عَلى اللّه رِزْقُِهَا) (هود:6) (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ) (العنكبوت:60) فالمتوكل على الله قد علم يقينا أن كل ما يناله من الخير والعطاء ، فهو رزقه من رب السماء ، وأن رزقه قد قسمه الله له فيما حكم به القضاء ، وأن ما ناله من الأحكام سيصله لا محالة بالتمام ، وأن ما قسمه الله له في المكتوب أزلا ، لن يكون لغيره من الخلق أبدا .
    فاللّه عزّ وجلّ متصف بالقدرة والحكمة ومن أسمائه القدير الحكيم ، فبالقدرة خلق الأشياء وأوجدها وهداها وسيرها وهذا توحيد الربوبية ، وبالحكمة رتب الأسباب ونتائجها وابتلانا لنأخذ بها تحقيقا لتوحيد العبودية ، فالمتوكل على الله الحق لا بد أن يتقلب في إيمانه بالله بين حكمته وقدرته ، وعدله ومشيئته ، فلا يسقط الشرائع والأحكام ، ويتغاضى عن تمييز الحلال من الحرام ، لاحتجاجه بمشيئة الله وقدرته ، وأن الخلائق مسيرون على جبر إرادته ، ولا مناص من الدخول في ظل ربوبتة ، فيعطل اسم الله الحكيم وما تضمنه الاسم من وصف الحكمة .

    وفي المقابل أيضا فإن المتوكّل على الله حقا لا يجعل الأشياء والأسباب حاكمة أو ضارة نافعة ، فيشرك في توحيد الله بالربوبية ، فالله قدير والقدرة صفته ، هو المعطى المانع ، الضارّ النافع ، الذي خلق وفعل وجعل ، لا شريك له في أسمائه ، ولا ظهير له في أحكامه ، كما قال عزّ وجلّ في محكم كلامه: (إن الحكم إلا للّه) (يوسف:40) وقال تعالى: (وَلاَ يُشْرِكُ في حُكْمِهِ أَحَدا) (الكهف:26) ، وقال أيضا عن جميع من سواه: (قُل ادْعُوا الذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلكُونَ مِثْقَال ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لمَنْ أَذِنَ لهُ) (سبأ:23) وانظر إلى قوله في مخاطبة المشركين من خلقه: (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلكُونَ لكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لهُ إِليْهِ تُرْجَعُونَ) (العنكبوت:17) .

    فالمتوكل إذا نظر إلي قدرة اللّه في الأشياء ، وأنه منفرد بالخلق والتدبير ، وقائم بالملك والتقدير ، نظر أيضا إلي وجوه الحكمة في إظهار الأسباب وتصريفها ، وابتلاء العباد بتقليبها ، والأخذ بها على وجه الضرورة واللزوم ، وإيقاع الأحكام على المحكوم ، فمن وافق الشرائع والسنن استحق من الله الثواب ، ومن خالف وابتدع استحق من الله العقاب ، ليصل الكل في النهاية إلى ما دون في أم الكتاب ، قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة .
    هكذا كان ابتلاء العباد من خلال إيمانهم بتوحيد الربوبية من جهة وتوحيد العبودية من جهة أخرى: (فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَال إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلى عِلمٍ بَل هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلمُونَ) (الزمر:49) فتنة لأنه نظر إلى الأسباب في تقلبها وتغافل عن مصرفها ومقلبها ، فالله عز وجل لما جعل الناس مختلفين في الأرزاق على اختلاف أنواعها ، كالمال والصحة والذكاء ، والولد والجمال والنساء ، وما أشبه ذلك من ألوان النعيم أو الشقاء ، بين أن ذلك فعله بهم للاختبار والابتلاء ، فقال تعالى: (فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَليْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلا بَل لا تُكْرِمُونَ اليَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ على طَعَامِ المِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لمًّا وَتُحِبُّونَ المَال حُبًّا جَمًّا) ، فظن الجاهلون الغافلون من الأغنياء ، أن سعة الرزق محبة كتبت لهم في القضاء ، حتى لو خالفوا السنة والمحجة البيضاء ، وظن الجاهلون الغافلون من الفقراء ، أن ضيق الرزق إهانة لهم في أم الكتاب ، وأن الله قضي لهم بالوقوف ذلا على الأبواب ، وكل ذلك من قلة العلم وسوء الفهم ، وكل ذلك يعبر عن الجهل بحقيقة الحياة ، فالإهانة تظهر للغني في ماله ، إذا لم يكرم اليتيم ويطعمه ، ولا يعطي المسكين ويحرمه ، ويكنز المال ويحبه ويعظمه ، ولم يعلم أنه فتنة فيقاومه ، كما قال خالقه ومنظمه: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيم ٌ) ، وقال سبحانه: (وَكَذَلكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ ليَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَليْهِم مِّن بَيْنِنَا أَليْسَ اللهُ بِأَعْلمَ بِالشَّاكِرِينَ) وقال أيضا: (وَلوْ شَاءَ اللهُ لجَعَلكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِنْ ليَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إلي اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلفُونَ) ، فابتلي الله الرسل بأممهم ، وابتلي الأمم برسلهم ، وابتلي الحكام بشعوبهم ، وبتلي المحكومين بحكامهم ، وابتلي الأزواج بزوجاتهم ، وابتلي الآباء بأبنائهم ، وابتلي القوي بالضعيف ، وابتلي الضعيف بالقوي ، وهكذا في المجتمع الواحد تتنوع المستويات ، وتتعدد للجميع أنواع الابتلاءات ، تحقيقا للحكمة التي أراد الله عز وجل أن يخلقهم من أجلها ، وإظهارا للقدرة التي كلفهم بتوحيد الربوبية من خلالها ، فالمتوكل على الله قائم بأحكام الشريعة ملتزم بتوحيد العبودية ، موقن بأحكام القدرة وتوحيد الربوبية ، يعمل بشرع الله ويؤمن بقدر الله .

    وقد أخبر اللّه تعالى أنه هو الرزاق ، كما أنه الخالق المحيي المميت ، فقرن بين هذه الأربع في موضع واحد مع ترتيب الحكمة والقدرة ، وترابط الشرع والقدر ، فقال سبحانه وتعالى: (اللّه الذي خَلقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُميتُكُمْ ثُمَّ يُحْييكُمْ) (الروم:4 ، ، فكما أن الله هو وحده الخالق المحي المميت ، فكذلك هو وحده الرزاق ، فتنبه لذلك جيدا ألا ترى أنك لا تقول: خلقني أبي وإن كان سببا في وجودك ؟ ولا تقول أحياني أبي وإن كان سببا في حياتك ، ولا تقول أماتني فلان وإن كان وسيلة في الإحياء والقتل ، لأن هذا شرك ظاهر اشتهر قبحه للعقلاء من الموحدين فتركوه وانتقوا الألفاظ في التعبير عن أرادوه .

    ولذلك قال اللّه تعالى: (أَفرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الخَالقُونَ) (الواقعة:58-59 ، وكذلك قال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أأَنْتُمْ تَزْرَعُوَنهُ أمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (الواقعة:63-64 ، فأضاف الإمناء والحرث إلينا ، لأنها أعمال ونحن عبيدٌ عمال ، ولأنها صفاتنا وأحكامها عائدة علينا ، وأضاف الخلق والزرع إليه لأنها آيات عن قدرته وحكمته والله هو القادر الحكيم ، فالمتوكّل أيقن أنه لم يكن غير الله قادرا أن يخلقه ، فلما خلقه الله أيقن أنه يكن غير الله قادرا أن يرزقه (هَل مِنْ خَاِلقٍ غَيْرُ اللّه يَرْزُقُكُمْ) (فاطر:3) فالله عز وجل نفي الرزق عن سواه كما نفي الخلق عمن سواه .
    إن في إعطاء هذا المال فتنة ، وفي منعه فتنة ، يغدو الرجل إلى ابن عمه ، فيسأله حاجة كتب اللّه في اللوح قضاءها عنده ، فيعطيه ما أراد ، وهو في حقيقة ما كتب في اللوح لا يملك منعه ، فيعطيه ما كتب الله له في سابق العلم ، فيظل يشكره ويعظمه ، ويبالغ في وصفه بغير حق ، ويثني عليه بما لا يستحق ، ثم يعود إليه مرة أخرى فيسأله حاجة لم تكتب له في اللوح ولم يجعل الله قضاءها عنده ، فلا يعطيه ما أراد ، لا يعطيه ما كتب الله أنه ليس له في سابق العلم ، فيظل يذمه ويسبه ، ويقذفه في ماله وعرضه ويذكره بكل سوء وشر ، إلا أن في إعطاء هذا المال فتنة وفي منعه فتنة .

    قال بعض المفسرين في معنى قوله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّه إلاّ وَهُمْ مُشركُون) (يوسف:106) قال مؤمن بالإقرار أن اللّه هو المقدر المدبر ، ومشرك في الاعتماد على الأسباب ورد الأفعال والتأثير إليها ، وإنما مثل الأسباب التي يقلبها ربنا ، كمثل الآلة بيد الصانع ، ألا ترى أنه لا يقال: السيف ضرب العنق ولا السوط ضرب العبد وإنما يقال: السياف ضرب العنق ، وفلان ضرب فلانا بالسوط ، وإن كانت هذه الأشياء أسبابا مباشرة للأفعال إلا أنها آلةٌ بيد صانعها ، وكذلك الخليقة يباشرون الأسباب في ظاهر النظر عند البشر ، واللّه من ورائهم محيط ومتوحد في الربوبية ، هو القادر الفاعل بلطائف القدرة وخفايا المشيئة .

    وإنما ذكر اللّه تعالى الأسباب لأن الأسماء تتعلق بها وأحكام الشرع عائدة عليها بالثواب والعقاب ، فذكرها لكي لا تعود الأحكام على الحاكم سبحانه وتعالى ، يقول تعالى: (مَا عِنْدَكمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللّه بَاقٍ) (النحل:96) ، فالجميع عنده وفي خزائنه ، إلا أنه أضاف الدنيا إلينا لرجوع الأحكام علينا ، وليزهدنا فيها ، وأضاف الآخرة إليه تفضيلا لها وترغيبا لنا فيها ، وكما أخبر عن عيسى: (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ المَوْتَى بِإِذْنِي) (المائدة: من الآية110) وقال أيضا: (وَإِذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُو القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (النساء:8) فجعل عيسى خالقا إذ خلق اللّه على يده ، وجعل العبد رازقا لما أجرى على يده من رزق غيره ، وكقوله لمريم: (وَهُزِّي إليْكِ بِجِذْعِ النخِلةِ تُساقِطْ عَليْكَ رُطَباً جَنِيَّا) (مريم:25) ، وقد علمت أن الرطب لم يتساقط بهزها ، ولكن أراد أن يظهر كرامتها ويجرى أسباب الرزق بيدها نتيجة صبرها على بليتها ، وعند البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَنْ النَّبِيِّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ قَال: (أَصْدَقُ بَيْتٍ قَالهُ الشَّاعِرُ أَلا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلا اللهَ بَاطِلُ) فنفي ما سوى اللّه على اعتبار القدرة وتوحيد الربوبية لا على اعتبار الحكمة وتوحيد العبودية ، وهو صلى الله عليه وسلم يعلم أن الحياة التي ابتلانا الله بها هي أسباب حق تؤدي إلي نتائج صدق ، ثم لم يمنعه ذلك أن قال أصدق بيت قاله الشاعر: أَلا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلا اللهَ بَاطِلُ ، إيثاراً منه للتوحيد وتوحيدا للمتوحد .

    فأول أركان التوكل علي الله اعتقاد العبد أنه لا خالق إلا الله ولا مدبر للكون سواه ، واعتقاد الموحدين أن الرب الذي يرزق بأسباب قادر على أن يرزق من غير أسباب ، وكلاهما عند المؤمنين سيان طالما أنه الخالق المدبر في الوضعين ، أما الركن الثاني فهو الأخذ بالأسباب وعدم التواكل فلا يضرّ التصرف والتكسب لمن صحّ توكله ولا يقدح في مقامه ولا ينقص من حاله قال اللّه سبحانه: (وَجَعَلنَا النَّهَارَ مَعَاشاً) (النبأ:11 ، وقال تعالى: (وَجَعَلنَا لكُمْ فيهَا مَعَايِشَ قَليلاً مَا تَشْكُرُونَ) (الأعراف:10) وفي صحيح ابن حبان من حديث عمرو بن أمية عن أبيه أنه قال: قال رَجُلٌ للنبيِّ: أُرْسِلُ نَاقَتِي وَأَتَوَكَّلُ ؟ قال: اعْقِلها وَتَوَكَّل ، وقد كان الصانع بيده عن سلفنا أحبّ إليهم من التاجر ، والتاجر أحبّ إليهم من البطال ، فالمتوكل يعلم أن اللّه تعالى قد جعل في الأسباب منافع خلقه ومفاتح رزقه وخزائن حكمته ، وعلم أنه مقتد في ذلك لنبيه متبعٌ لسنته ، فهو في تكسبه وتصرفه أفضل ممن دخلت عليه الشبهة في توكله فساكنها وتواكل على غيره ، فالتكسب خير من ذل السؤال والحاجة ، والتارك للتكسب سالك على غير السنة ، طريقه طريق البدعة ، وعن البخاري من حديث أبي هريرةَ أن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (لأنْ يأخُذَ أحدُكم حَبلهُ ثم يَغدو إلى الجَبَل فيَحْتَطِبَ فيبيعَ فيأكل ويَتصدَّق خير لهُ من أنْ يسأل الناس) .

    ولا يضرّ الادخار مع صحة التوكل إذا كان مدخرا للّه وفيه ، وكان ماله موقوفا على رضا مولاه لا مدخرا لحظوظ نفسه وهواه ، فهو حينئذ مدخر على اعتبار حقوق اللّه التي أوجبها عليه ، فإذا رآها بذل ماله فيها ، والقيام بحقوق الله لا ينقص ذلك من إيمان العبد ودرجته بل يزيده علوّاً في مكانته ، من ادّخر لعياله ليسكن قلوبهم ويذرهم أغنياء ، فهو كريم في ادخاره قائم بحكم ربه راع لرعيته التي هو مسئول عنها .

    فأول أركان التوكل علي الله اعتقاد العبد أن الرازق هو الله وأنه لا خالق ولا مدبر للكون سواه ، والركن الثاني هو الأخذ بالأسباب وعدم التواكل ومراعاة الشرع والالتزام بحدود الله ، أما الركن الثالث والأخير فهو الرضا بالنتائج والسعادة بما قسمه الله إن أعطاه شكر وإن منعه صبر ، فيعلم بعد السعي والكسب أن الحياة ابتلاء من الله وأن السعيد من وفقه إلى طاعته وتقواه كما قال سليمان لما حقق الله له مبتغاه: (هَذَا مِنْ فَضْل رَبِّي ليَبْلُوَنِي) فالفضل ليس لي ولا لجندي ، وإنما هو فضل ربي ، وقد استرعاني في ملكه واستخلفني (ليَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) فوجب على الموحدين الصادقين في توكلهم على الله إن ابتلاهم الله بفقر بعد سعي أن يتمنوا السعادة للآخرين ، وأن يسألوا رب العالمين ، أن يمنحهم من فضله وعطائه ومدده ونعمائه ، فمن ابتلاه الله بالفقر فلم يصبر على بلواه ، لم يأخذ إلا ما قدره الله ، وسوف يهان في الدنيا والآخرة ، سيجمع بين التعاستين ، ويهينه الله مرتين ، مرة في الدنيا بحقده وحرمانه ومرة في الآخرة بعذابه وكفرانه ، (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لعِبَادِهِ الكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَليمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (الزمر:7) (وَلمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلكَ لمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) (الشورى:43) (قُل يَا عِبَادِ الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ للذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفي الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر:10) ، فالحياة ابتلاء وامتحان والتفاضل بين الناس مرهون بالإيمان (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَليمٌ خَبِيرٌ) ، فالأتقى هو الأفضل ، وإن كان غنيا شاكرا ، أو كان فقيراً صابراً ، لأن الله أسقط الغني والفقر من ميزان الكرامة والإهانة ، وجعل الميزان ميزان الإيمان وأداء الأمانة ، فالفقر والغني فعل الله وابتلاؤه للإنسان ، والحساب عند الله على مدي كسب العبد للإيمان وقد روي الإمام مسلم بسنده عن رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم أنه قال: (عَجَبًا لأمْرِ المُؤْمِنِ ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلهُ خَيْرٌ ، وَليْسَ ذَاكَ لأحَدٍ إِلا للمُؤْمِنِ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ ، فَكَانَ خَيْرًا له) .

    فهذه حقيقة التوكل وأركانه ، ووصف حال المتوكل وإيمانه جعلنا الله من صفوة المتوكلين الذين يدخلون الجنة بغير حساب فقد ثبت في وصفهم أنهم هُم الذين لا يَسْترْقون ، ولا يَتطيرون ، ولا يكتوون ، وعلى ربهم يتوكلون ، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .

  9. افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    مراتب القدر
    المرتبة الأولى العلم


    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الذِي خَلقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلقَ مِنْهَا زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الذِي تَتَساءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَليْكُمْ رَقِيبًا) (النساء/1) (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحشر/18) (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلمُون) (آل عمران/102) ، أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .

    اليوم نتحدث بإذن الله تعالى عن عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان بالقضاء والقدر ومسؤولية الإنسان عن أفعاله ، فمن آثار الإيمان بتوحيد الربوبية إفراد الله بمراتب القضاء والقدر ، مراتب القضاء والقدر من أهم الموضوعات التي استحوذت على فكر الناس وعقيدتهم ، أسئلة كثيرة تدور بينهم ، هل الإنسان مسير في أفعاله مجبور ، أم أنه حر مخير مسئول ؟ هل أفعال العباد مقدرة مكتوبة قبل خلقهم ووجودهم ؟ وإذا كانت الأعمال مقدرة على العباد سلفا فما الفائدة من الاجتهاد والعمل ؟ وهل العمر يطول أو يقصر عند الأخذ بالأسباب مع كونه مكتوبا في أم الكتاب ؟ وهل المقتول مات بأجله ؟ وغير ذلك من التساؤلات التي كثر فيها النقاش ؟ واليوم نبدأ معكم الحديث في هذه المحاضرة عن مراتب القضاء والقدر .

    الإيمان بالقدر هو الركن السادس من أركان الإيمان ، فأركان الإيمان حصرها رسول الله صلي الله عليه وسلم في ستة أركان ، روى الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عمر أنه قَال: حَدَّثَنِي أَبِي عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ قَال بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُول اللهِ صَلى اللهم عَليْهِ وَسَلمَ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلعَ عَليْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لا يُرَى عَليْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حَتَّى جَلسَ إِلى النَّبِيِّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلى فَخِذَيْهِ وَقَال يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلامِ فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ الإِسْلامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صَلى اللهم عَليْهِ وَسَلمَ وَتُقِيمَ الصَّلاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ البَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِليْهِ سَبِيلا قَال صَدَقْتَ قَال فَعَجِبْنَا لهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ قَال فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ قَال أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ قَال صَدَقْتَ قَال فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ قَال أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ قَال فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ قَال مَا المَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلمَ مِنَ السَّائِل قَال فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا قَال أَنْ تَلدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا وَأَنْ تَرَى الحُفَاةَ العُرَاةَ العَالةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي البُنْيَانِ قَال ثُمَّ انْطَلقَ فَلبِثْتُ مَليًّا ثُمَّ قَال لي يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ قُلتُ اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلمُ قَال فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلمُكُمْ دِينَكُمْ) .

    فأركان الإِيمَانِ التي ذكرها رسول الله لجبريل وهو في صورة الأعرابي أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ، وقد صدقه جبريل على ذلك ، وهذه الأركان حملت في ترتيبها معنا مقصودا ، يراه أصحاب البصيرة مشهودا ، وبين الكلمات موجودا ، فتأخير الركن السادس كان أمرا مقصودا ، فالمعنى الموضوع بين أركان الإيمان ، أن تؤمن بالله الذي أنزل ملائكته بكتبه على رسله ليحذروا العباد من اليوم الآخر ، فإذا انتهى الناس بعد العرض والحساب ، واستقروا في الآخرة للثواب والعقاب ، عندها يتم قدر الله كما ورد في أم الكتاب ، قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وهذه حقيقة الإيمان بالقدر خيره وشره ، فمن حديث عمرو بن العاص رضى الله عنه الذي رواه الإمام مسلم في كتاب القدر أنه قَال: (سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صلي الله عليه وسلم يَقُولُ:كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الخَلائِقِ قَبْل أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِخَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ) .
    وروى الإمام مسلم من حديث جابر بن عبد الله أن سُرَاقَة بْنَ مَالكٍ قَال: يَا رَسُول اللهِ بَيِّنْ لنَا دِينَنَا كَأَنَّا خُلقْنَا الآنَ فِيمَا العَمَلُ اليَوْمَ أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلامُ وَجَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ أَمْ فِيمَا نَسْتَقْبِلُ قَال لا بَل فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلامُ وَجَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ قَال فَفِيمَ العَمَلُ ؟ قَال: (فَقَال اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لعَمَلهِ) .

    وقبل أن نبد في تفصيل الموضوع لا بد من التنبيه على أن توحيد الربوبية هو أساس الفهم الصحيح لقضية الإيمان بالقضاء والقدر ، فالسلف يؤسسون فهمهم للقضاء والقدر على توحيد الربوبية ، وإفراد الله بالخلقية ، وما يلزم ذلك من صفات الله كالعلم والإدارة والقدرة ، فيستحيل عندهم حدوث شيء أو فعل بدون علمه أو قدرته سبحانه وتعالى ، فلا يخرج عن قدرته مقدور ، ولا ينفك عن حكمه مفطور ، ولا يعذب عن علمه معلوم ، يفعل ما يريد ، ويخضع لحكمه العبيد ، ولا يجرى في سلطانه إلا ما يشاء ، ولا يحصل في ملكه إلا ما سبق به القضاء ، ما علم أنه يكون من المخلوقات أراد أن يكون ، وما علم أنه لا يكون أراد ألا يكون ، فهو سبحانه وتعالى عالم بما كان وما هو كائن وما سيكون وما لو كان كيف يكون .

    فمن شروط صحة إيمان العبد أن يصدق بجميع أقدار الله تعالى خيرها وشرها ، أنها من الله تعالى ، سابقة في علمه جارية في خلقه بحكمه ، فلا حول لهم عن معصيته إلا بعصمته ، ولا قوة لهم على طاعته إلا برحمته ، ولا يستطعيون لأنفسهم ضرا ولا نفعا إلا بمشيئته .

    فتوحيد الربوبية هو إفراد الله بأفعاله ؟ أو إفراد الله بالخلق والتدبير ، فلا لا خالق إلا الله ، ولا مدبر للكون سواه ، فالرب في اللغة هو من أنشأ الشيء شيئا فشيئا إلى حد التمام ، وهو مبنى على التربية أو إصلاح شئون الآخرين ورعاية أمورهم ، وأول ركن في توحيد الربوبية إفراد الله بالخلق والتقدير والتكوين وإنشاء الشيء من العدم ، ومن ثم إفراده بلوازم ذلك من العلم والمشيئة والقدرة ، والملك والغنى والقوة والإحياء والإبقاء والهداية ، والرزق والإمداد والرعاية ، والإفناء والإماتة والإعادة ، والهيمنة والعزة والإحاطة ، وكل ما يلزم من صفات الذات وصفات الأفعال لتخليق الشيء وتصنيعه ، فالخالق هو الذي يستغنى بنفسه فلا يحتاج إلى غيره ، وأن يحتاج إليه كل من سواه .

    ومن اللوازم المترتبة على إفراد الله بالخلق ، إفراده بمراتب القضاء والقدر ، ما المقصود بمراتب القدر ؟ من المعلوم أن المُصَنِّعَ الذي يشيد البنيان لا بد أن يبدأ مشروعه أولا بفكرة في الأذهان ومعلومات مقننة بدقة وإتقان ، درسها جيدا وقام فيها بتقدير حساباته وضبط أموره وإمكانياته ، ثم يقوم بكتابة هذه المعلومات ويخط لها في بضع ورقات أنواعا من الرسومات التي يمكن أن يخاطب من خلالها مختلف الجهات ، ثم يتوقف الأمر بعد ذلك على مشيئته وإرادته في التفيذ وتوقيت الفعل إن توفرت لديه القدرة والإمكانيات ، ثم يبدأ في التنفيذ إلى أن ينتهي البنيان كما قدر له في الأذهان ، فهذه مراحل تصنيع الأشياء بين المخلوقات بحكم العقل والفطرة ، فلا بد لصناعة الشيء من العلم والكتابة والمشيئة ومباشرة التصنيع والفعل ، فالله سبحانه وله المثل الأعلى منفرد بمراتب القضاء والقدر ، وهى عند السلف المراحل التي يمر بها المخلوق من كونه معلومة في علم الله في الأزل إلى أن يصبح واقعا مخلوقا مشهودا ، وهى عندهم أربع مراتب تشمل كل صغيرة وكبيرة في الوجود ، قال ابن قيم الجوزية رحمه الله : مراتب القضاء والقدر التي من لم يؤمن بها لم يؤمن بالقضاء والقدر أربع مراتب: المرتبة الأولى علم الرب سبحانه بالأشياء قبل كونها ، المرتبة الثانية كتابته لها قبل كونها ، المرتبة الثالثة مشيئته لها ، والرابعة خلقه لها .

    وسوف نتناول هذه المراتب بشيء من التفصيل لما لها من دور كبير في بيان حقيقة القضاء والقدر ، فالمرتبة الأولى من مراتب القدر هي العلم السابق علم التقدير وحساب المقادير ، تقدير كل شيء قبل تصنيعة وتكوينه ، وتنظيم أمور المخلوقات قبل إيجادها وإمدادها ، فهذا العلم هو التقدير الجامع التام وحساب النظام العام ، الذي يسير عليه الكون من بدايته إلى نهايته ، وهذا العلم اتفق عليه الرسل من أولهم إلى خاتمهم واتفق عليه جميع الصحابة ومن تبعهم من الأمة ، وخالفهم مجوس الأمة القدرية المعتزلة وكتابته السابقة تدل على علمه بها قبل كونها ، وقد قال تعالى:
    (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ وَهُوَ الذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِالليْل وَيَعْلمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ليُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِليْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الأنعام:60) وفيها مراتب العلم .

    روى البخاري من حديث 1039 ابْنِ عُمَرَ قَال رَسُولُ اللهِ صَلى اللهم عَليْهِ وَسَلمَ مِفْتَاحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلمُهَا إِلا اللهُ لا يَعْلمُ أَحَدٌ مَا يَكُونُ فِي غَدٍ وَلا يَعْلمُ أَحَدٌ مَا يَكُونُ فِي الأَرْحَامِ وَلا تَعْلمُ نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ وَمَا يَدْرِي أَحَدٌ مَتَى يَجِيءُ المَطَرُ) .

    وقال تعالى: (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَليمٌ خَبِيرٌ) (لقمان:34) .

    وعند الإمام أحمد 15773 من حديث لقِيطِ بْنِ عَامِرٍ أنه خَرَجَ وَافِدًا إِلى رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ فقال: يَا رَسُول اللهِ مَا عِنْدَكَ مِنْ عِلمِ الغَيْبِ ؟ فَضَحِكَ وَقَال: ضَنَّ رَبُّكَ عَزَّ وَجَل بِمَفَاتِيحِ خَمْسٍ مِنَ الغَيْبِ لا يَعْلمُهَا إِلا اللهُ وَأَشَارَ بِيَدِهِ قُلتُ وَمَا هِيَ قَال عِلمُ المَنِيَّةِ قَدْ عَلمَ مَنِيَّةَ أَحَدِكُمْ وَلا تَعْلمُونَهُ وَعِلمُ المَنِيِّ حِينَ يَكُونُ فِي الرَّحِمِ قَدْ عَلمَهُ وَلا تَعْلمُونَ وَعَلمَ مَا فِي غَدٍ وَمَا أَنْتَ طَاعِمٌ غَدًا وَلا تَعْلمُهُ وَعَلمَ اليَوْمَ الغَيْثَ يُشْرِفُ عَليْكُمْ آزِلينَ آدِلين - متعبين مثقلين بالذنوب - مُشْفِقِينَ فَيَظَلُّ يَضْحَكُ قَال لقِيطٌ لنْ نَعْدَمَ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرًا وَعَلمَ يَوْمَ السَّاعَةِ .

    (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلمُهَا إِلا هُوَ) مفاتح في اللغة الفصيحة جمع مفتح ، ويقال مفتاح ويجمع مفاتيح ، والمفتح عبارة عن كل ما يحل غلقا محسوسا كالقفل الموضوع على البيت أو يحل غلقا معقولا كالفهم والنظر .

    و مَفَاتِحُ الغَيْبِ في الآية هي الأسرار التي بها يتم تكوين المخلوقات ، كما يتوصل بالمفتاح إلى خزانة متينة تحتوى أسرار المشرعات الكبرى والمقتنيات العظمى ، ولذلك قال بعضهم المفتاح مأخوذ من قول الناس افتح على كذا أي أعطني أو أعلمني ما أتوصل إليه به ، فالله تعالى عنده علم الغيب وبيده الطرق الموصلة إليه لا يملكها إلا هو ، فمن شاء إطلاعه عليها أطلعه ، ومن شاء حجبه عنها حجبه ، ولا يكون ذلك إلا لأنبيائه ورسله ، بدليل قوله تعالى:
    (وَمَا كَانَ اللهُ ليُطْلعَكُمْ عَلى الغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:179) .

    ومن هنا نعلم أن الكهان والعرافين والمنجمين كاذبون على رب العالمين ، في إدعائهم علم الغيب وإخبارهم عما يحدث للإنسان ، وذلك لأنهم لا يخلقون شيئا في الملك ، وليس لهم شركة مع الله في إنشاء الخلق ، وليس لهم شيء في تدبير الأمر .

    وفي صحيح مسلم عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلهُ عَنْ شَيْءٍ لمْ تُقْبَل لهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ ليْلةً) ، والعراف هو الحازر الذي يرجم بالغيب ، والمنجم الذي يدعى علم الغيب ، وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها ، والكهانة ادعاء علم الغيب .

    فالله عز وجل عنده مفاتح الغيب يَعْلمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلمُهَا ، فذكر سقوط الورقة ولم يذكر إنشاءها ، لأن ذلك أبلغ في الدلالة على علم الله ، فالعلم الله له مراتب:
    1- علمه بالشيء قبل كونه وهو سر الله في خلقة ، ضن به ربنا سبحانه وتعالى ، لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل وهو المقصود بالمرتبة الأولى من مراتب القدر ، وهو علم مفاتح الغيب وتقدير الأمور ، كما قال تعالى: (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَليمٌ خَبِيرٌ) (يعلم مابين أيديهم) (اللهُ يَعْلمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) (الرعد:8) (قُل لا يَعْلمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) (النمل:65) (قُل أَنْزَلهُ الذِي يَعْلمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً) (الفرقان:6) .

    ومن حديث عَليٍّ بن أبى طالب رَضِي الله تعالى عَنْه الذي وراوه البخاري ومسلم أنه قَال: (كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الغَرْقَدِ فَأَتَانَا النَّبِيُّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلهُ وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ - العود الصغير - فَنَكَّسَ -أطرق برأسه إلى الأرض - فَجَعَل يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ - يعنى يضرب بها في الأرض ضربا خفيفا - ثُمَّ قَال: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلا كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإِلا قَدْ كُتِبَ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً فَقَال رَجُلٌ يَا رَسُول اللهِ أَفَلا نَتَّكِلُ عَلى كِتَابِنَا وَنَدَعُ العَمَل ، فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْل السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلى عَمَل أَهْل السَّعَادَةِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْل الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلى عَمَل أَهْل الشَّقَاوَةِ ، قَال رسول الله ص: أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لعَمَل السَّعَادَةِ وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لعَمَل الشَّقَاوَةِ ثُمَّ قَرَأَ: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لليُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِل وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ للعُسْرَى) .

    2- علمه بالشيء وهو في اللوح بعد كتابته وقبل إنفاذ مشيئته ، فالله عز وجل كتب مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم ، فالمخلوقات في اللوح عبارة عن كلمات ، وتنفيذ ما في اللوح من معلومات تضمنتها الكلمات ، مرهون بمشيئته في تحديد الأوقات المناسبة لأنواع الابتلاءات ، وكل ذلك عن علمه بما في اللوح من حسابات وتقديرات ، يقول تعالى: (أَلمْ تَعْلمْ أَنَّ اللهَ يَعْلمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلكَ عَلى اللهِ يَسِيرٌ) (الحج:70) ، وقال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْل أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلكَ عَلى اللهِ يَسِيرٌ ، لكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُل مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (الحديد:23) يقول ابن كثير في تفسيره: (يخبر سبحانه وتعالى عن قدره السابق في خلقه قبل أن يبرأ البرية أنه ما من مصيبة تحدث في الآفاق أو في النفوس إلا كتبها في اللوح المحفوظ ، وقوله: (مِنْ قَبْل أَنْ نَبْرَأَهَا) أي من قبل أن نخلق الخليقة ، وفي حديث مسلم: (قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء) وعند أبى داود وصححه الشيخ الألباني: (أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب قال: رب وماذا أكتب ؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة) ، فعلمه بالمكتوب في اللوح أحد مراتب العلم .

    3- علمه بالشيء حال كونه وتنفيذه ، وخلقه وتصنيعه ، كما قال تعالى: (اللهُ يَعْلمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَار ٍ عَالمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَال) (وَإِذْ قَال رَبُّكَ للمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَليفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لكَ قَال إِنِّي أَعْلمُ مَا لا تَعْلمُونَ) (البقرة:30) (أَلمْ تَعْلمْ أَنَّ اللهَ يَعْلمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلكَ عَلى اللهِ يَسِيرٌ) (الحج:70) (يَعْلمُ مَا يَلجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الغَفُورُ) (سبأ:2) (هُوَ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ يَعْلمُ مَا يَلجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الحديد:4) (هُوَ أَعْلمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلمُ بِمَنِ اتَّقَى) (لنجم:32) .

    4- علمه بالشيء بعد كونه وتخليقه وإحاطته الشاملة والكاملة بعد تمامه وفنائه: فالله عز وجل لما قال: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ - للدلالة على الإحاطة بكل شيء من بدايته إلى نهايته - إِلا يَعْلمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ، وَهُوَ الذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِالليْل وَيَعْلمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ليُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِليْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الأنعام:60) ولما قال (يَعْلمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) قال: (وَمَا خَلفَهُمْ) (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلماً) .

    (قَدْ عَلمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ) (قّ:4) (أَوَلا يَعْلمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلنُونَ) (البقرة:77) (وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلمُ مَا تَكْسِبُونَ) (الأنعام:3) (أَلمْ يَعْلمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلامُ الغُيُوبِ) (التوبة:78) (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ليَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلنُونَ إِنَّهُ عَليمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (هود:5) (أَلا إِنَّ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قَدْ يَعْلمُ مَا أَنْتُمْ عَليْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِليْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللهُ بِكُل شَيْءٍ عَليمٌ) (النور:64) (وَرَبُّكَ يَعْلمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلنُونَ) (القصص:69) (فَاعْلمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لذَنْبِكَ وَللمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ يَعْلمُ مُتَقَلبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) (محمد:19) (أَلمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُل شَيْءٍ عَليمٌ) (المجادلة:7) (قُل إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلمْهُ اللهُ وَيَعْلمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران:29) (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (هود:6) ، فالله عز وجل علم ما كان وما هو كائن وما سيكون وما لو كان كيف يكون ، فهذه مراتب علم الله ، المرتبة الأولى من العلم هى المرتبة الأولى من مراتب القدر ، فعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه فقدر ذلك تقديرا محكما مبرما ليس فيه ناقض ولا معقب ولا مزيل ولا مغير .

    فالله عز وجل قد علم أن الأشياء تصير موجودة لأوقاتها على ما اقتضته حكمته البالغة ، فكانت كما علم فإن حصول المخلوقات على ما فيها من غرائب الحكم ، لا يتصور إلا من عالم قد سبق علمه على ايجادها ، كما قال تعالى: (أَلا يَعْلمُ مَنْ خَلقَ وَهُوَ اللطِيفُ الخَبِيرُ) (الملك:14) ، ربنا أمرت فعصينا ، ونهيت فلما انتهينا ، وما كان ذلك جزاء إحسانك إلينا ، أنت العليم بما أعلنا وما أخفينا ، والمحيط بما لم نأت وما أتينا ، (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَليْهِ وَسَلمُوا تَسْليما ً) (الأحزاب:56) فاللهم صلي وسلم وبارك علي سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

  10. افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    مراتب القدر
    المرتبة الثانية الكتابة



    الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علما ، من غير إغفال ولا نسيان ، من ذا يكيف ذاته أوصافه أفعاله ، وهو العظيم مكون الأكوان ، سبحانه ملكا على العرش استوى ، وحوى جميع الملك والسلطان ، وكلامه القرآن أنزل آيه ، وحيا على المبعوث من عدنان ، صلى عليه الله خير صلاته ، ما لاح في فلكيهما القمران ، هو جاء بالقرآن من عند الذي ، لا تعتريه نوائب الثقلان ، تنزيل رب العالمين ووحيه ، بشهادة الأحبار والرهبان .
    عبد الله إذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان ، فاستحي من نظر الإله وقل لها ، إن الذي خلق الظلام يراني ، كن طالبا للعلم واعمل صالحا ، فكلاهما في الحق مقترنان ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من أقر بأن الله منفرد بالقضاء وتقدير المقادير ، وتصريف الأحكام بأنواع التدبير ، هي المقادير تجري في أعنتها فاصبر فليس لها صبر على حال ، يوما تريك خسيس الأصل ترفعه إلى العلاء ويوما تخفض العالي ، أما بعد . .

    فقد تحدثنا في المحاضرة الماضية عن عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان بمراتب القدر وعلمنا أن المقصود بمراتب القدر المراحل التي يمر بها المخلوق من كونه معلومة قدرت في علم الله في الأزل إلى أن يصبح واقعا مخلوقا مشهودا ، وهى عندهم أربع مراتب تشمل كل صغيرة وكبيرة في الوجود ، وقد ضربنا لمراتب القدر مثلا بأن أي مشروع من المشروعات العملاقة ، لا بد أن تبدأ بدراسة جدوى ، وترتيب الأفكار في الأذهان ، معلومات مدروسة بدقة وإتقان تقدر فيها الحسابات والإمكانيات ، ثم بعد ذلك تكتب هذه المعلومات في بضع ورقات ، وتوضع مختلف الرسومات التي يخاطب بها أصحاب المشرع مختلف الجهات ، ثم يتوقف الأمر بعد ذلك على مشيئة من تتوفر لديه الإمكانيات ، ثم يبدأ في التنفيذ إلى أن ينتهي المشرع وفق ما قدر له من حسابات .

    هذه مراحل تصنيع الأشياء بحكم العقل والبديهيات ، فلا بد لصناعة الشيء وتكوينه من العلم والكتابة والمشيئة ومباشرة التصنيع والفعل ، فالله سبحانه وله المثل الأعلى منفرد بمراتب القضاء والقدر ، وهى عند السلف كما ذكرنا المراحل التي يمر بها المخلوق من كونه معلومة مقدرة في علم الله في الأزل إلى أن يصبح واقعا مخلوقا مشهودا ، وهى عندهم أربع مراتب تشمل كل صغيرة وكبيرة في الوجود ، وقد تحدثنا في المحاضرة الماضية عن المرتبة الأولى من مراتب القدر ، وهى علم الله السابق ، علم التقدير وحساب المقادير ، تقدير كل شيء قبل تصنيعة وتكوينه ، وتنظيم أمور الخلق قبل إيجاده وإمداده ، واليوم نستكمل الموضوع ونتحدث عن المرتبة الثانية من مراتب القدر ، المرتبة المتعلقة باللوح المحفوظ ، مرتبة كتابة المعلومات ، وتدوينها بالقلم في كلمات ، فكل مخلوق مهما عظم شأنه أو دق حجمه ، كتب الله ما يخصه في اللوح المحفوظ ، كتب تفصيل خلقه وإيجاده ، وما يلزم لنشأته وإعداده وإمداده ، وجميع ما يرتبط بتكوينه وترتيب حياته ، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة ، كما قال الإمام الطحاوى رحمه الله: (ونؤمن باللوح والقلم ، وبجميع ما فيه قد رقم) .

    وروى أبو داود في سننه وصححه الشيخ الألباني من حديث (4692) عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ أنه قال لابْنِهِ: (يَا بُنَيَّ إنَّكَ لنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الإيْمَانِ حَتَّى تَعْلمَ أنَّ مَا أصَابَكَ لمْ يَكُنْ ليُخْطِئَك َ ، وَما أخْطَأَكَ لمْ يَكُنْ ليُصِيبَكَ ، سَمِعْتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إنَّ أوَّل مَا خَلقَ الله تَعَالى القَلمَ فقال له: اْكْتُبْ ، فقَال: رَبِّ وَمَاذَا أكْتُب ؟ قال: اْكْتُبْ مَقَادِيرَ كُل شَيْء حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ، يَا بُنَيَّ إنِّي سَمِعْتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ مَاتَ عَلى غَيْرِ هذَا فَليْسَ مِنِّي) .
    وروى الترمذي (2181) من حديث عبد الوَاحِدِ بن سُليمٍ ، قال: قَدِمْتُ مَكَّةَ فَلقِيتُ عَطَاءَ بنَ أبي رَبَاحٍ فَقُلتُ لهُ: يَا أَبَا محمدٍ ، إِنَّ أَهْل البَصْرَةِ يَقُولُونَ في القَدَرِ ، قال: يَا بُنَيَّ ، أَتَقْرَأ القُرْآنَ ؟ قُلتُ: نَعَمْ ، قال: فَاقْرَأْ الزُّخْرُفَ قال: فَقَرَأْتُ: (حم وَالكِتَابِ المُبِينِ إِنَّا جَعَلنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لعَلكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ في أُمِّ الكِتَابِ لدَيْنَا لعَليٌّ حَكِيمٌ) .
    قال: أَتَدْرِي مَا أُمُّ الكِتَاب ِ ؟ قُلتُ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلمُ ، قال: فَإِنَّهُ كِتَابٌ كَتَبَهُ الله قَبْل أَنْ يَخْلُقَ السَّماءَ وَقَبْل أَنْ يَخْلُقَ الأَرْضَ ، فِيهِ أَنَّ فِرْعَوْنَ مِنْ أَهْل النَّارِ ، وَفِيهِ (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لهَبٍ وَتَبَّ) .
    قال عَطَاءٌ: فَلقِيتُ الوَليدَ بنَ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ صَاحِبَ رسول الله ، فَسَأَلتُهُ: مَا كَانَتْ وَصِيَّةُ أَبِيكَ عِنْدَ المَوْتِ ؟ قال: دَعَانِي فَقَال: يَا بُنَيَّ اتَّقِ الله ، وَاعْلمْ أَنَّكَ لنْ تَتَّقِىَ الله حَتَّى تُؤْمِنَ بِالله وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ كُلهِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ، فَإِنْ مُتَّ عَلى غَيْرِ هَذَا دَخَلتَ النَّارَ ، إِنِّي سَمِعْتُ رسول الله يقولُ: (إِنَّ أَوَّل مَا خَلقَ الله القَلمَ . فقال: اكْتُبْ ، قال: مَا أَكْتُبُ ؟ قال: اكْتُبْ القَدَرَ مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلى الأَبَد) .
    وعند أحمد في المسند (22327) أن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: (أَوْصَانِي أَبِي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى فَقَال: يَا بُنَيَّ أُوصِيكَ أَنْ تُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ فَإِنَّكَ إِنْ لمْ تُؤْمِنْ أَدْخَلكَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالى النَّارَ ، قَال: وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ يَقُولُ أَوَّلُ مَا خَلقَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالى القَلمُ ثُمَّ قَال لهُ اكْتُبْ قَال وَمَا أَكْتُبُ قَال فَاكْتُبْ مَا يَكُونُ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ) .

    أخبرنا الله عز وجل أنه قبل وجود السماوات والأرض كان العرش والماء ، فقال تعالى: (وَهُوَ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلى المَاءِ) ، وعند البخاري من حديث عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه قَال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (كَانَ اللهُ وَلمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلى المَاءِ ثُمَّ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْض وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُل شَيْءٍ) .

    ومن باب الفضول ربما يسأل سائل ويقول: وماذا قبل العرش والماء ؟ والجواب ، أن الله قد شاء أن يوقف علمنا بالمخلوقات عند معرفة العرش والماء ، فقال تعالى: (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ) ، وقال أيضا: (ومَا أُوتِيتُمْ مِنْ العِلمِ إِلا قَليلا) ، فالله أعلم بوجود مخلوقات قبل العرش والماء أم لا ، لكننا نعتقد أن وجودها أمر ممكن في قدرة الله تعالى ، لأنه أخبرنا أنه يخلق ما يشاء ويفعل ما يشاء ، (قال كَذَلكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، وقال: (ذُو العَرْشِ المَجِيدُ فَعَّالٌ لمَا يُرِيدُ) ، فالله متصف بصفات الأفعال ، ومن لوازم الكمال أنه فعال لما يريد على الدوام أزلا وأبدا ، سواء كان ذلك قبل العرش والماء أو بعد العرش والماء ، لكن الله أوقف علمنا عند هذا الحد ، فقال تعالى: (وَلا يُحِيطُونَ بِه عِلما) .

    ثم خلق الله عز وجل بعد العرش والماء القلم واللوح ، روى الحاكم في المستدرك ، والطبراني في الكبير بسند صحيح (81611) من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: (إن مما خلق الله لوحا محفوظا من درة بيضاء ، دفتاه من ياقوتة حمراء قلمه نور وكتابه نور ينظر فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة ، ففي كل مرة منها يخلق ويرزق ، ويحيى ويميت ، ويعز ويذل ، ويفعل ما يشاء فذلك قوله تعالى: (كل يوم هو في شأن) .

    وقد اختلف العلماء هل القلم أول المخلوقات أو العرش ؟ والصحيح أن العرش قبل القلم ، لما ثبت في صحيح مسلم من عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ أنه قَال: (سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ يَقُولُ كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الخَلائِقِ قَبْل أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ ، وَعَرْشُهُ عَلى المَاءِ) وفي رواية الترمذي 2156 (قَدَّرَ اللهُ المَقَادِيرَ قَبْل أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ) .

    فهذا الحديث صريح في أن التقدير وقع بعد خلق العرش ، أما ما جاء في حديث عُبَادَة بنُ الصَّامِتِ رضي الله عنه: (إن أوَّل مَا خَلقَ الله تَعَالى القَلمَ فقال له: اْكْتُبْ ، فقَال: رَبِّ وَمَاذَا أكْتُب ؟ قال: اْكْتُبْ مَقَادِيرَ كُل شَيْء حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ) فعلى معنيين عند العلماء:
    الأول: أنه عند أول ما خلق القلم قال له اكتب ؟ فقَال: رَبِّ وَمَاذَا أكْتُب ؟ قال: اْكْتُبْ مَقَادِيرَ كُل شَيْء .
    المعنى الثاني: هو أول المخلوقات من هذا العالم بعد العرش والماء ، إذ أن الحديث صريح في أن العرش سابق على التقدير ، وأن التقدير مقارن لخلق القلم .
    والأقلام التي وردت في كتاب الله وفي سنة رسوله أنواع سوف نتحدث عنها بالتفصيل في أنواع التقدير والتدبير ، وعند البخاري من حديث 3342 ابْن عَبَّاسٍ وَأَبى حَيَّةَ الأَنْصَارِيَّ أنهما كَانَا يَقُولانِ إن النَّبِي صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قال ليلة المعراج: (ثُمَّ عُرِجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ لمُسْتَوًى أَسْمَعُ صَرِيفَ الأَقْلامِ) حيث فَرَضَ اللهُ عَلي نبيه خَمْسِينَ صَلاةً ثم صارت خَمْسا في الفعل وخَمْسين في الأجر .
    وما دون في أم الكتاب لا يقبل المحو والتبديل أو التعديل والتغيير ، فكل ما كتب فيه واقع لا محالة ، كما قال تعالى: (قُل لنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللهُ لنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلى اللهِ فَليَتَوَكَّل المُؤْمِنُون َ) (التوبة:51) .

    ما السر في عدم التغيير والتبديل ؟ السر في عدم التغيير والتبديل ، أن الخلق والتصنيع والتكوين قائم علي ما دون فيه ، فالمخلوقات وسائر المصنوعات إلى قيام الساعة ، أحكم الله غاياتها وقضى في اللوح أسبابها ومعلولاتها ، فلا يتغير بنيان الخلق الذي حكم به الحق إلا بعد استكماله وتمامه ، ولا يتبدل سابق الحكم في سائر الملك إلا بقيامه وكماله ، وهذه مشيئة الله في خلقه ، وما قضاه وقدره في ملكه ، فالله عز وجل على عرشه في السماء يفعل ما يشاء ، وبيده أحكام التدبير والقضاء ، حكم بعدله أن يقوم الخلق على الابتلاء ، ثم يتحول العالم إلى دار الجزاء ، فالله عز وجل يخلق ما يشاء ، ولكن حكمة سبقت فيما تم به القضاء ، ولذلك ينبهنا الله في بعض المواطن إلى هذه الحقيقة ، وأنه سبحانه وتعالى قادر على أن يفعل ما يشاء ، لولا ما دون في الكتاب من أحكام القضاء:
    (لوْلا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) (لأنفال:68) (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلفُوا وَلوْلا كَلمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلفُونَ) (يونس:19) (وَلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ فَاخْتُلفَ فِيهِ وَلوْلا كَلمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (هود:110) (وَلوْلا كَلمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لكَانَ لزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً) (طه:129) (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلوْلا كَلمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمّىً لقُضِيَ بَيْنَهُمْ) (الشورى:14) (أَمْ لهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلوْلا كَلمَةُ الفَصْل لقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالمِينَ لهُمْ عَذَابٌ أَليمٌ) (الشورى:21) .

  11. افتراضي

    والعقلاء يعلمون أن العلماء من البشر ، لو اجتمعوا على وضع خطة محكمة لبناء مشروع عملاق أو أي مشروع من المشروعات ، درسوا فيها جميع الجوانب بمختلف المقاييس والدراسات ، وراعوا في خطتهم الموازنة بين السلبيات والإيجابيات ، ثم وضعوا تخطيطا محكما لا مجال فيه للإضافات ، ثم انتهوا إلى تقرير شامل دونوه في كتاب كامل أو مجموعة من الملفات ، ثم قدموا هذا المكتوب لإدرارة التنفيذ والمشروعات ، هل يصح بعد ذلك لعامل جاهل ينقصه العلم والفهم أن يعترض أو يغير أو يبدل في هذا المشروع الضخم ؟

    هل يصح أن يعبث فيه حسب هواه ، أو يغير في تخطيطه على وفق ما يراه ؟ فالله وله المثل الأعلى كتب مقادير كل شيء ورفعت الأقلام وجفت الصحف حتى يتم الخلق على ما قضى به الحق ، روى الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث 2516 ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: (كُنْتُ خَلفَ رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ يَوْمًا فَقَال يَا غُلامُ إِنِّي أُعَلمُكَ كَلمَاتٍ احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلتَ فَاسْأَل اللهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَاعْلمْ أَنَّ الأُمَّةَ لوِ اجْتَمَعَتْ عَلى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لكَ وَلوِ اجْتَمَعُوا عَلى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَليْكَ رُفِعَتِ الأَقْلامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ) .

    وفي المسند 2800 (يَا غُلامُ أَوْ يَا غُليِّمُ أَلا أُعَلمُكَ كَلمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهِنَّ فَقُلتُ بَلى فَقَال احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ تَعَرَّفْ إِليْهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ وَإِذَا سَأَلتَ فَاسْأَل اللهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ قَدْ جَفَّ القَلمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ فَلوْ أَنَّ الخَلقَ كُلهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَليْكَ لمْ يَقْدِرُوا عَليْهِ وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَليْكَ لمْ يَقْدِرُوا عَليْهِ وَاعْلمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ وَأَنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا) .

    فالمخلوقات ولله المثل الأعلى كمشروع عملاق كامل ، موضوع على تخطيط محكم شامل ، لا يصح العبث فيه من قبل أحمق جاهل ، روى الإمام مسلم من حديث جابر بن عبد الله أن سُرَاقَة بْنَ مَالكٍ قَال: يَا رَسُول اللهِ بَيِّنْ لنَا دِينَنَا كَأَنَّا خُلقْنَا الآنَ فِيمَا العَمَلُ اليَوْمَ أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلامُ وَجَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ أَمْ فِيمَا نَسْتَقْبِلُ قَال لا بَل فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلامُ وَجَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ قَال فَفِيمَ العَمَلُ ؟ قَال: (فَقَال اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لعَمَلهِ) .

    روى البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال التَقَى آدَمُ وَمُوسَى فَقَال مُوسَى لآدَمَ آنْتَ الذِي أَشْقَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الجَنَّةِ قَال آدَمُ أَنْتَ مُوسَى الذِي اصْطَفَاكَ اللهُ بِرِسَالتِهِ وَاصْطَفَاكَ لنَفْسِهِ وَأَنْزَل عَليْكَ التَّوْرَاةَ قَال نَعَمْ قَال: أَتَلُومُنِي عَلى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللهُ عَليَّ قَبْل أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً) .

    ولا تعارض بين ذكر الأربعين وبين ما ثبت في صحيح مسلم من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ أن رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال: (كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الخَلائِقِ قَبْل أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ ، وَعَرْشُهُ عَلى المَاءِ) .
    وذلك كما ذكر العلماء أن ابتداء المدة وقت الكتابة في الألواح خَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ ، وآخرها ابتداء خلق آدم ، وقال ابن الجوزي: المعلومات كلها قد أحاط بها علم الله القديم قبل وجود المخلوقات كلها ، ولكن كتابتها وقعت في أوقات متفاوتة ، وكذلك ما رواه الترمذي وصححه الشيخ الألباني 2882 من حديث النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال إِنَّ اللهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْل أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِأَلفَيْ عَامٍ أَنْزَل مِنْهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ البَقَرَةِ وَلا يُقْرَأَانِ فِي دَارٍ ثَلاثَ ليَالٍ فَيَقْرَبُهَا شَيْطَانٌ .

    فالزمان السابق يختلف في مقداره عن الزمان اللاحق ، فضلا عن الزمان الذي يسبق خلق السماوات والأرض ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
    (فالذي جاء به القرآن والتوراة واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها مع أئمة أهل الكتاب ، أن هذا العالم خلقه الله وأحدثه من مادة كانت مخلوقة قبله كما أخبر في القرآن أنه استوى إلى السماء وهي دخان أي بخار فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها ، وقد كان قبل ذلك مخلوق غيره كالعرش والماء ، كما قال تعالى: (وَهُوَ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلى المَاءِ) (هود/7) وخلق ذلك في مدة غير مقدار حركة الشمس والقمر ، كما أخبر أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، والشمس والقمر هما من السموات والأرض وحركتهما بعد خلقهما والزمان المقدر بحركتهما وهو الليل والنهار التابعان لحركتهما إنما حدث بعد خلقهما ، وقد أخبر الله أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، فتلك الأيام مدة وزمان مقدر بحركة أخرى غير حركة الشمس والقمر) .

    واللوح فوق العرش عند رب العرش لما ثبت عند البخاري 7554 من حديث أبى هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنْهم أن رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قال: (إِنَّ اللهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْل أَنْ يَخْلُقَ الخَلقَ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ) ، ويقول تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُل شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) (يّس:12) فجمع الله في الآية بين كتابين اثنين ، اللوح المحفوظ وهو الكتاب السابق لأعمالهم قبل وجودهم وخلقهم ، والكتاب الحافظ لأعمالهم المقارن لأفعالهم ، وأخبر قبل ذلك أنه يحييهم بعد ما أماتهم ، يحييهم للبعث ويجازيهم بأعمالهم (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُل شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) .

    وقال أنس وابن عباس: نزلت هذه الآية في بني سلمة أرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد النبوي وكانت منازلهم بعيدة فلما نزلت قالوا بل نمكث مكاننا ، وروى مسلم من حديث (1469) جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ، قَال: خَلتِ البِقَاعُ حَوْل المَسْجِدِ . فَأَرَادَ بَنُو سَلمَةَ أَنْ يَنْتَقِلُوا إِلى قُرْبِ المَسْجِدِ . فَبَلغَ ذلكَ رَسُول اللّهِ . فَقَال لهُمْ: (إِنَّهُ بَلغَنِي أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَنْتَقِلُوا قُرْبَ المَسْجِدِ) قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُول اللّهِ قَدْ أَرَدْنَا ذلك ، فَقَال: (يَا بَنِي سَلمَةَ دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ ، دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ)

    فقوله تعالى في سورة يس: (وَكُل شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) يعنى اللوح المحفوظ أو أم الكتاب أو الذكر الذي كتب فيه كل شيء ، وقوله أَحْصَيْنَاهُ يتضمن كتابة أعمال العباد قبل أن يعملوها ، والإحصاء في الكتاب يتضمن علمه بها ، وحفظه لها ، والإحاطة بعددها ، واثباتها في اللوح .

    ويقول تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (الأنعام:38) وقد قيل إن الكتاب في قوله مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ هو اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه كل شيء ، فإنه قال وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ، وهذا يدل على أنها أمم أمثالنا في الخلق والرزق والتدبير والتقدير ، وأنها لم تخلق سدى بل لها حكم وعلل مدونة فيما قضى ، قدر خلقها وأجلها واستوفي لها رزقها ، وما تصير إليه ، ثم ذكر عاقبتها ومصيرها بعد فنائها ، فقال: (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) فذكر مبدأها ونهايتها ، وذكر بين المبدأ والنهاية قوله: (مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) أي كلها قد كتبت وقدرت وأحصيت قبل أن توجد .

    وقال تعالى: (حم وَالكِتَابِ المُبِينِ إِنَّا جَعَلنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لعَلكُمْ تَعْقِلُون وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ لدَيْنَا لعَليٌّ حَكِيمٌ) (الزخرف:4) أُمِّ الكِتَابِ هو اللوح المحفوظ كما قال ابن عباس ، وأم الكتاب أصل الكتاب وأم كل شيء أصله والقرآن كتبه الله في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض كما قال تعالى: (بَل هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لوْحٍ مَحْفُوظٍ) (البروج:22) يقول ابن القيم: (أجمع الصحابة والتابعون وجميع أهل السنة والحديث أن كل كائن إلى يوم القيامة فهو مكتوب في أم الكتاب) .

    فكتابة العلم هي المرتبة الثانية من مراتب القدر ، ولك أن تتصور لو أن البشر ، اجتمعوا على كتابة ما يخص إنسانا واحدا أو مخلوقا واحد ، من أمور العلم والتقدير التي تخص عدد خلاياه ، وعدد نبضات القلب على مدار الوقت الذي يعيشه في هذه الحياة ، وعدد ذرات الهواء في كل نفس أخرجته رئتاه ، وما عدد ذرات الدم الذي سيره الله في مجراه ، وما مقدار طعامه وشرابه ، ورزقه الذي سيناله في دنياه ، ثم عمله ومقدار الحسنات والسيئات التي قدمها لأخراه ، أو اسأل المتخصصين عن عدد الكلمات التي كتبوا بها تنوع الشفرة الوراثية في الأحماض النووية في كل خلية بشرية ، أو حيوانية أو نباتية ؟

    ستعلم أن البحر لو كان مِدَاداً لكَلمَاتِ رَبِّي لنَفِدَ البَحْرُ قَبْل أَنْ تَنْفَدَ كَلمَاتُ رَبِّي وَلوْ جِئْنَا بِمِثْلهِ مَدَداً ، (قُل لوْ كَانَ البَحْرُ مِدَاداً لكَلمَاتِ رَبِّي لنَفِدَ البَحْرُ قَبْل أَنْ تَنْفَدَ كَلمَاتُ رَبِّي وَلوْ جِئْنَا بِمِثْلهِ مَدَداً) (الكهف:109) (وَلوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (لقمان:27) فالكتاب الذي فوق العرش احتوى على الكلمات ، والكلمات احتوت على المعلومات ، وكل ذل ذلك مكتوب في اللوح قبل أن يخلق الله المخلوقات ، أو قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة .

    لكن هنا سؤال هام ؟ نحن علمنا أن المرتبة الأولى من مراتب القدر هي العلم والمرتبة الثانية هي الكتابة في اللوح ، والمرتبة الثالثة التي سنتحدث عنها هي المشيئة ، ثم المرتبة الرابعة وهي الخلق والتنفيذ ؟ السؤال لما ذا كتب الله المقادير ؟ ألا يكفي علم الله وتقديره السابق ؟ وهل الله ينسي حتى يتذكر بالكتابة في اللوح ؟

    والإجابة على ذلك أن الكتابة من لوازم كمال الحكمة ، ومن الأمور الضرورية لقيام الحجة ، وإذا كان الصانع الحكيم ، لا يصنع إلا ومخطط الصناعة بين يديه ، والمهندسون ينفذون ويشرفون عليه ، ثم بعد ذلك يطابقون المصنوع علي دليل التصنيع وقياس الرسومات ، ومراقبة الجودة تدقق في المواصفات وتطبيق القياسات ، ولا يمكن أبدا الاستغناء عن الكتابة في مثل هذه الضروريات ، أليست للخالق من باب أولي ، فكتابة مقادير المخلوقات من لوازم الحكمة والكمال ، ولا يحتاج إليها رب العزة والجلال ، كما أنه لا يحتاج إلي خلقه ولا يفتقر إليهم بأي حال ، وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر عن النبي عن رب العزة: (يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي ، وَلنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي ، يَا عِبَادِي لوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ ، كَانُوا عَلى? أَتْقَى? قَلبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ ، مَا زَادَ ذ?لكَ فِي مُلكِي شَيْئاً ، يَا عِبَادِي لوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ ، كَانُوا عَلى? أَفْجَرِ قَلبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، مَا نَقَصَ ذَلكَ مِنْ مُلكِي شَيْئاً ، يَا عِبَادِي لوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي ، فَأَعْطَيْتُ كُل إِنْسَانٍ مَسْأَلتَهُ ، مَا نَقَصَ ذ?لكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إِذَا أُدْخِل البَحْرَ ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لكُمْ ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَليَحْمَدِ اللّهَ ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذ?لكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ) .

    كما أن كتابة الأعمال والمقادير فيها قيام الحجة على الخلق ، فربما يوجد أحمق كفرعون أو غيره يشكك في حكمة ربه (قَال فَمَا بَالُ القُرُونِ الأُولى قَال عِلمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى الذِي جَعَل لكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلكَ لكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَل مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلكَ لآياتٍ لأُولي النُّهَى مِنْهَا خَلقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) (طه:55) ، والعبد يكون بين يدي الحق ويكذب ربه ويقسم علي أنه يقول الصدق: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلفُونَ لهُ كَمَا يَحْلفُونَ لكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الكَاذِبُونَ) (المجادلة:18) (ثُمَّ لمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَل عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) (الأنعام:24) ، (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَليْكُمْ بِالحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الجاثـية:29) (وَكُل إِنْسَانٍ أَلزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لهُ يَوْمَ القِيَامَةِ كِتَاباً يَلقَاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفي بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَليْكَ حَسِيباً) (الإسراء:14) (وَوُضِعَ الكِتَابُ فَتَرَى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلتَنَا مَال هَذَا الكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلمُ رَبُّكَ أَحَداً) (الكهف:49) (اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (يّس:65)

  12. افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    مراتب القدر
    المرتبة الثالثة المشيئة

    الحمد لله الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى ، والذي أمات وأحيا ، والذي حكم على خلقه في هذه الدار بالموت والفنا ، والبعث إلي دار الجزاء والفصل والقضا ، لتجزى كل نفس بما تسعي ، كما قال في كتابه جل وعلا: (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِل الصَّالحَاتِ فَأُوْلئِكَ لهُمْ الدَّرَجَاتُ العُلا جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالدِينَ فِيهَا وَذَلكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّي) ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لم تزل على ألسنة الرسل ، شهادة تضيء لنا أقوم السبل ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أظهر الله دينه على سائر الملل ، وأصلي وأسلم على سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله ، صاحب المقام المحمود والحوض المورود ، واللواء المعقود ، فأكرم بمقامه وحوضه ولوائه ، وارضي اللهم عن آله وصحبه وأوليائه ، (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلئِكَ هُمْ الفَاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ الفَائِزُونَ لوْ أَنْزَلنَا هَذَا القُرْآنَ على جَبَلٍ لرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا للنَّاسِ لعَلهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أما بعد .

    يقول ابن القيم رحمه الله: مراتب القضاء والقدر التي من لم يؤمن بها ، لم يؤمن بالقضاء والقدر أربع مراتب المرتبة الأولى علم الرب سبحانه بالأشياء قبل كونها ، المرتبة الثانية كتابته لها قبل كونها ، المرتبة الثالثة مشيئته لها ، والرابعة خلقه لها ، والمقصود بمراتب القدر عند السلف المراحل التي يمر بها المخلوق من كونه معلومة في علم الله في الأزل إلى أن يصبح واقعا مخلوقا مشهودا ، وهذه المراتب تشمل كل صغيرة وكبيرة في الوجود ، كل مخلوق مهما كبر حجمه أو دق وزنه أو زاد قدره أو قل شأنه ، وقد ضربنا مثلا لذلك بأن أي مشروع أو بنيان تراه في أي مكان لا يأتي في لحظة أو ثوان ، بلا لا بد أن يمر بعدة مراحل ، فيبدأ المشروع أولا بفكرة في الأذهان ودراسة جدوى بدقة وإتقان ، قام فيها المهندسون بتقدير الحسابات وتحديد الإمكانيات ، ثم أعدوا تقريرا كتبوا فيه هذه المعلومات ، وجعلوا لها مجموعة من الملفات ، ثم يتوقف الأمر بعد ذلك على مشيئة صاحب المشروع ، وإرادته لتفيذ الموضوع ، فإن وافق تأتى المرحلة الأخيرة وهي مرحلة التنفيذ الفعلي للمشروع فينموا تحت إشراف المهندسين المختصين إلى أن يحين وقت كماله وتمام بنيانه ، فهذه مراحل تصنيع الأشياء بحكم العقل والفطرة ، فلا بد لصناعة الشيء من العلم والكتابة والمشيئة ثم مباشرة التصنيع والفعل ، فالله سبحانه وله المثل الأعلى منفرد بمراتب القضاء والقدر ، وهى العلم والكتابة والمشيئة ثم الخلق والتكوين .

    وقد تحدثنا فيما سبق عن مرتبة العلم ومرتبة الكتابة ، واليوم نتحدث عن المرتبة الثالثة وهى مشيئة الله وإرادته الكونية ، فالمرتبة الثالثة من مراتب القضاء والقدر هي مرتبة المشيئة ، وهذه المرتبة قد دل عليها إجماع الرسل من أولهم إلى آخرهم وجميع الكتب المنزلة من عند الله ، والفطرة التي فطر الله عليها خلقه ، وجميع أدلة المعقول والمنقول ، وليس في الوجود أمر إلا بمشيئة الله وحده ، فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وهذا أصل عقيدة التوحيد ، وأساس بنيانها الذي لا يقوم إلا به ، والمسلمون من أولهم إلى آخرهم مجمعون على أنه ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن .

    التوحيد الحق أن يعلق العبد أفعاله علي مشيئة الله عز وجل في جميع الأوقات ، سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل فكل يجري بتقديره ومشيئته ، ومشيئته تنفذ ، لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم ، فما شاء لهم كان ، وما لم يشأ لم يكن يهدي من يشاء ، ويعصم ويعافي فضلاً ، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً ، وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله .

    التوحيد الحق أن يعلق الموحد أفعاله بمشيئة الله عز وجل في جميع الأوقات ، سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل ، فقد علمنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن المسلم يقول فيما وقع من الأحداث ومضى انتهى: قدر الله وما شاء فعل ، ولا يقول: لو كان كذا وكذا ، لكان كذا وكذا ، فلا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ، لاسيما بعد نفاذ أمره ووقوعه ، وإنما يجوز أن يقول ذلك فيما يستقبل ، فقد روى مسلم في صحيحه (6725) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، أن رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قال: (المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلى اللّهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُل خَيْرٌ ، احْرِصْ عَلى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللّهِ وَلاَ تَعْجِزْ ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُل: لوْ أَنِّي فَعَلتُ كان كذا وكذا ، لم يُصبني كذا ، وَلكِنْ قُل: قَدَرُ اللّهِ وَمَا شَاءَ فَعَل ، فَإِنَّ لوْ تَفْتَحُ عَمَل الشَّيْطَانِ) .

    وهنا تأتي المحاجة التي حدثت بين آدم وموسي عليهما وعلي نبينا أفضل الصلاة والسلام ، وموقف المسلم من الاحتجاج بالقدر ومشيئة الله علي معصيته فعند البخاري عن أبي هريرةَ رضيَ الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: حاجَّ موسى آدَمَ فقال له: أنتَ الذي أخرجتَ الناسَ من الجنةِ بذَنبكَ وأشقَيتَهم ، قال آدمُ: يا موسى أنتَ الذي اصطَفَاكَ اللهُ برسالاتِهِ وبكلامِهِ ، أتلومُني على أمر كتبهُ اللهُ عليّ قبل أن يَخلُقَني ، أو قَدَّرَهُ عليَّ قبل أن يَخلُقني ؟ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: فحج آدمُ موسى ، والاحتجاج بمشيئة الله وقضائه وقدره على المعصية له نوعان:

    النوع الأول: وهو باطل عند السلف وهو الاحتجاج بمشيئة الله وقضائه وقدره علي المعصية التي وقعت ولم يتب منها العبد أو ما زال قائما عليها وهذا هو مذهب الجبرية ، يفعلون المنكر ويحتجون بقدر الله وأن ذلك فعله بهم ومشيئته التي لا يستطيعون دفعها كقولهم: (سَيَقُولُ الذِينَ أَشْرَكُوا لوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلكَ كَذَّبَ الذِينَ مِنْ قَبْلهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُل هَل عِنْدَكُمْ مِنْ عِلمٍ فَتُخْرِجُوهُ لنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ) (الأنعام:148) (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَليْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُل إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلى اللهِ مَا لا تَعْلمُونَ) (لأعراف:28) يقول ابن الجوزي : (ومن جملة ما لبس عليهم إبليس أنهم قالوا لو شاء الله ما أشركنا ، أي لو لم يرض شركنا لحال بيننا وبينه ، فتعلقوا بالمشيئة وتركوا الأمر ، ومشيئة الله تعم الكائنات) وقد احتج سارق على عمر رضي الله عنه بالقدر فقال وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره .

    فالذين يعتقدون أن العبد مجبور على أفعاله قسرا ، ولا فعل له أصلا كالريشة تحركها الريح في اتجاه الهواء ، رفعوا اللوم عن كل كافر وفاسق وعاص وأن الله يعذبهم على فعله لا على فعلهم وأعمالهم القبيحة ، ثم اعتقدوا أن المعاصي التي نهى الله عنها في كتبه وعلى ألسنة رسله إذا عملوها صارت طاعات لأنهم يقولون أطعنا مشيئة الله الكونية فينا ، وهذا كفر لم يسبقهم إليه إلا إمامهم إبليس اللعين ، إذ يحتج على الله تعالى بحجتهم هذه فقال: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (الحجر:39) (قَال فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ) (لأعراف:16) .

    وقد جاء واحد من أهل الكتاب إلي شيخ الإسلام ابن تيمية يسأله عن القدر ويحتج به على معصيته فقال: أيا علماء الدين ذمي دينكم تحير دلوه بأوضح حجة ، إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم ولم يرضه منى فما وجه حيلتي ، دعاني وسد الباب عنى فهل إلى دخولي سبيل بينوا لي قضيتي ، قضى بضلالي ثم قال ارض بالقضا فما أنا راض بالذي فيه شقوتي ، فإن كنت بالمقضي يا قوم راضيا فربى لا يرضى بشؤم بليتي ، فهل لي رضا ما ليس يرضاه سيدي فقد حرت دلوني على كشف حيرتي ، إذا شاء ربى الكفر منى مشيئة فهل أنا عاص في إتباع المشيئة ، وهل لي اختيار أن أخالف حكمه فبالله فاشفوا بالبراهين غلتي ، فأجاب شيخ الإسلام الشيخ ابن تيمية مرتجلا الحمد الله رب العالمين سؤالك يا هذا سؤال معاند مخاصم رب العرش بارى البرية ، فهذا سؤال خاصم الملأ العلا قديما به إبليس أصل البلية .

    النوع الثاني: من الاحتجاج بمشيئة الله وقضائه وقدره على المعصية ، هو الاحتجاج بمشيئة الله وقضائه وقدره علي المعصية التي وقعت ، وتاب منها العبد ، وندم علي فعلها ، وهذا جائز مشروع ، فعند البخاري من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: احتجَ آدمُ وموسى ، فقال له موسى: يا آدمُ أنتَ أبونا ، خيَّبتنا وأخرجتَنا من الجنَّة ، قال له آدم: يا موسى اصطفاكَ اللّهُ بكلامه وخطَّ لكَ بيده ، أتلومني على أمر قدَّرَهُ اللّه عليَّ قبل أن يخلُقَني بأربعين سنة ؟ فحجَّ آدمُ موسى ، فحجَّ آدمُ موسى ، ثلاثاً .

    احتج علي موسي بالقدر وصح احتجاجه لأنه يجوز الاحتجاج بمشيئة الله وقضائه وقدره علي المعصية التي وقعت ، وتاب منها العبد ، وندم علي فعلها ، كالعاصي بعد توبته عندما يتذكر العصيان ، فيحمد الله على نعمة الإسلام ، ويقول قدر الله وما شاء فعل .

    هذا بالنسبة لرد الأمر وفعل العبد إلى مشيئة الله فيما مضي من أفعال وأحداث أما رد الأمر إلي المشيئة في الحاضر فهو كقول الله تعالي: (وَلوْلا إِذْ دَخَلتَ جَنَّتَكَ قُلتَ مَا شَاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَل مِنْكَ مَالاً وَوَلداً) (الكهف:39) وهنا ينسب الموحد النعمة إلي المنعم ويرد الأمر فيها إلى مشيئة الله ، فالعبد الصادق الموحد مؤمن بأن الله قائم بالقسط والتدبير ، ومنفرد بالمشيئة والتقدير ، يتولى تدبير شئون العالمين ، وهو أحكم الحاكمين ، وخير الرازقين ، لا يطمع في سواه ، ولا يرجو إلا إياه ، ولا يشهد في العطاء إلا مشيئته ، ولا يرى في المنع إلا حكمته ، ولا يعاين في القبض والبسط إلا قدرته ، فعند ذلك يقول عندما يرى نعم الله ، ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، وقال شعيب: (قَال يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالفَكُمْ إِلى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصلاح مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللهِ عَليْهِ تَوَكَّلتُ وَإِليْهِ أُنِيبُ) (هود:88) .

    روى النسائي 3773 وصححه الشيخ الألباني أَنَّ يَهُودِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ فَقَال إِنَّكُمْ تُنَدِّدُونَ ، وَإِنَّكُمْ تُشْرِكُونَ تَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللهُ وشئت وَتَقُولُونَ وَالكَعْبَةِ ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَحْلفُوا أَنْ يَقُولُوا وَرَبِّ الكَعْبَةِ وَيَقُولُونَ مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شئت ، وعند أحمد في المسند 2557 من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلا قَال يَا رَسُول اللهِ مَا شَاءَ اللهُ وشئت فَقَال جَعَلتَنِي للهِ عَدْلا بَل مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ .
    روى الإمام مسلم (5816) وفي إثبات المشيئة المطلقة لرب العزة والجلال من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أن رَسُول اللّهِ قال: (قَال اللّهُ عَزَّ وَجَل: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ ، يَقُولُ: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ فَلاَ يَقُولنَّ أَحَدُكُمْ: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ فَإِنِّي أَنَا الدَّهْرُ أُقَلبُ ليْلهُ وَنَهَارَهُ ، فَإِذَا شئتُ قَبَضْتُهُمَا) .

    وقوله: فَإِنِّي أَنَا الدَّهْرُ أي صاحبه ومقلبه بدليل قوله بعدها: أُقَلبُ ليْلهُ وَنَهَارَهُ ، لأن بعض من لا تحقيق له في العلم زعم أن الدهر من أسماء الله ، وهو غلط فإن الدهر مدة زمان الدنيا ، وعرفه بعضهم بأنه أمد مفعولات الله في الدنيا ، ولا يخفي أن من سب الصنعة فقد سب صانعها ، فمن سب نفس الليل والنهار أقدم على أمر عظيم بغير معنى ، ومن سب ما يجري فيهما من الحوادث ، وذلك هو أغلب ما يقع من الناس ، يقول بعضهم لعنة الله على الأيام أو غير ذلك ، فالدهر أو الليل والنهار لا فعل لهم ولا تأثير ، بل كل شيء بمشيئة الله ومراده الكوني .

    ويذكر الإمام الشافعي أن العرب كان شأنها أن تذم الدهر وتسببه عند المصائب التي تنزل بهم من موت أو هرم أو تلف أو غير ذلك ، فيقولون إنما يهلكنا الدهر ، وهو تعاقب الليل والنهار ، ويقولون أصابتهم قوارع الدهر وأبادهم الدهر فيجعلون الليل والنهار يفعلان الأشياء ، فيذمون الدهر بأنه الذي يفنيهم ويفعل بهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا الدهر على أنه الذي يفنيكم ، والذي يفعل بكم هذه الأشياء ، فإنكم إذا سببتم فاعل هذه الأشياء فإنما تسبون الله تبارك وتعالى ، فإنه فاعل هذه الأشياء .

  13. افتراضي

    أما رد الأمر إلي المشيئة في المستقبل: فهو كقول الله تعالى: (وَلا تَقُولنَّ لشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلكَ غَداً إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُل عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدا ً) (الكهف:24) ، روى البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال سليمانُ بن داودَ عليهما السلام: لأطُوفنَّ الليلةَ بمائةِ امرأةٍ ، تَلدُ كلُّ امرأةٍ غلاماً يُقاتلُ في سبيل الله ، فقال له المَلكُ: قُل إن شاء الله ، فلم يقُل وَنَسيَ ، فأطافَ بِهِنَّ ، ولم تَلدْ منهُن إلا امرأةٌ نِصفَ إنسان ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: لو قال إن شاء اللهُ لم يَحنَثْ ، وكان أرجَى لحاجَتِهِ ، وفي رواية أخرى: (فلم تَحمل منهنَّ إلا امرأةٌ واحدةٌ جاءت بشقِّ رجل ، وأيمُ الذي نفسُ محمدٍ بيده ، لو قال إن شاء اللّه لجاهَدوا في سبيل اللّه فرساناً أجمعون) .

    وروى البخاري (5528) من حديث ابن عبّاس رضيَ الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابيّ يَعودُه ، يقول ابن عباس: وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا دخل على مريض يَعوده قال له: لا بأس ، طَهورٌ إن شاء الله ، فقال الأعرابي للنبي: قلتَ طهور ؟ كلا ، بل هي حُمى تَفور ، أو هي حُمى تثور على شيخ كبير ، تُزيره القبور ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فَنَعم إِذاً .

    فالرسول يقول للأعرابي: لا بأس طهور إن شاء الله ، أي أن المرض يكفر الخطايا وهو طهور لك من ذنوبك إن شاء الله ، فإن حصلت العافية وتحقق الشفاء فقد حصلت الفائدتان ، وإلا حصل ربح التكفير ، فرد الأعرابي على النبي منكرا وقائلا أي طهور بل هي حمى تفور أي حرارة الجسم تغلي وتثور ، على شيخ كبير تزيره القبور ، وكان الواجب على الأعرابي أن لا يرد دعاء النبي ويسأل الله العافية ، فقال له رسول الله: (فنعم إذا) إذا أبيت طلب الشفاء فنعم يأتيك الموت والبلاء ، فيحتمل أن يكون قوله (فنعم إذا) دعاء عليه ، ويحتمل أن يكون خبرا عما يؤول مصيره إليه ، وهناك من قال احتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه سيموت في هذا المرض فدعا له بأن تكون الحمى مطهرةً لذنوبه وخطاياه ، وهناك من قال احتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الأعرابي بأنه سيموت أجابه وردا على أجابته ، ولذلك ورد أن الأعرابي أصبح ميتا ، فينبغي على المسلم حتى ولو كان مريضا أن يتلقى الموعظة بالقبول ، ويحسن الجواب فيما يقول ، طمعا في عفو الله وعافيته .

    روى الإمام أحمد في مسنده (6398) من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ حَلف فاسْتَثْنَى ، فَإن شاء مَضَى ، وإِن شَاءَ رَجَع غَيْرَ حَنِثٍ) .

    أجمع المسلمون على أن الحالف إذا استثنى في يمينه متصلا بها فقال لأفعلن كذا أو لا أفعله إن شاء الله ، أجمعوا أنه لا يحنث إذا خالف ما حلف عليه ، لأن من أصل أهل الإسلام أنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله ، فإذا علق الحالف الفعل أو الترك بالمشيئة لم يحنث عند عدم المشيئة ولا تجب عليه الكفارة ، أما إذا استثنى في الطلاق والعتق وغير ذلك سوى اليمين بالله تعالى فقال: أنت طالق إن شاء الله تعالى ، أو أنت حر إن شاء الله تعالى ، أو أنت علي كظهر أمي إن شاء الله تعالى ، أو لزيد في ذمتي ألف درهم إن شاء الله ، أو إن شفي مريضي فلله علي صوم شهر إن شاء الله ، أو ما أشبه ذلك ، فالمسألة فيها خلاف: مذهب الشافعي والكوفيين وأبي ثور وغيرهم صحة الاستثناء في جميع الأشياء كما أجمعوا عليها في اليمين بالله تعالى ، فلا يحنث في طلاق ولا عتق ، ولا ينعقد ظهاره ولا نذره ولا إقراره ولا غير ذلك مما يتصل به قوله إن شاء الله ، وقال مالك والأوزاعي: لا يصح الاستثناء في شيء من ذلك إلا اليمين بالله تعالى ، وقو الشافعي هو الأقرب إذا تحقق في الاستثناء شرطان:

    أحدهما: أن يقوله متصلاً باليمين ، والثاني: أن يكون نوى قبل فراغ اليمين أن يقول إن شاء الله تعالى .
    أما اللو المستقبلية التي تكون في القتال وإعداد الخطط أو عدم الاعتراض على القدر فلا تدخل تحت النهي في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه الذي رواه مسلم (6725) (فَإِنَّ لوْ تَفْتَحُ عَمَل الشَّيْطَانِ) لأن النهي مقرون بوقوع الفعل وعدم تغيير شيء من القدر والرسول صلى الله عليه وسلم يقول قبلها: (وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُل: لوْ أَنِّي فَعَلتُ كذا وكذا ، لم يُصبني كذا ، وَلكِنْ قُل: قَدَرُ اللّهِ وَمَا شَاءَ فَعَل) .

    أما ما كان من أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الغار كما روى البخاري من حديث أنس أن أبا بكرٍ رضيَ اللهُ عنه قال: (قلت للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار ِ: لو أنَّ أحدَهم نظرَ تحت قَدَمَيهِ لأبصَرَنا . فقال: ما ظنُّكَ يا أبا بكرٍ باثنينِ اللهُ ثالثُهما) لو أن أحدهم رفع رأسه لرآنا ، وكذلك ما ورد عند البخاري من حديث عائشةَ رضيَ الله عنهم زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألم تَرَيْ أنَّ قومَكِ لما بَنُوا الكعبة اقتصَروا عن قواعِدِ إِبراهيمَ . فقلتُ: يا رسول الله ألا تَرُدُّها على قواعدِ إبراهيم ؟ فقال: لولا حِدْثانُ قومِكِ بالكفر)

    وعند البخاري عن أنَسٍ رضيَ الله عنه قال: (مرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بتمرةٍ مَسْقوطةٍ فقال: لولا أن تكونَ صَدَقةً لأكَلتُها) وعنده أيضا قال أبو هريرةَ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أَشُقَّ على أُمَّتي لأمرتُهمْ بالسِّواكِ عندَ كل وُضوء) ، وما شابه ذلك ، فكله يدخل تحت لو المستقبلية ولا اعتراض فيه على قدر فلا كراهة فيه ، لأنه إنما أخبر عن اعتقاده فيما كان يفعل لولا المانع وعما هو في قدرته ، فأما ما ذهب فليس في قدرته ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن لو تفتح عمل الشيطان) أي يلقى في القلب معارضة القدر ويوسوس به الشيطان ، فالذي يتعين بعد وقوع المقدور التسليم لأمر الله ، والرضي بما قدر ، والإعراض عما فات ، أو عدم الالتفات لما فات ، فإنه إذا ذكر فيما فاته من ذلك فقال لو أني فعلت كذا لكان كذا ، جاءته وساوس الشيطان فلا تزال به حتى يفضي إلى الخسران ، فيعارض بتوهم التدبير سابق المقادير ، وهذا هو عمل الشيطان المنهي عن تعاطي أسبابه بقوله: (فلا تقل لو فإن لو تفتح عمل الشيطان) .

    وإخبار الله عن مطلق المشيئة يتنوع في القرآن ، فتارة يخبرنا أن كل ما في الكون إنما هو بمشيئته ؟ (قُل اللهُمَّ مَالكَ المُلكِ تُؤْتِي المُلكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولجُ الليْل فِي النَّهَارِ وَتُولجُ النَّهَارَ فِي الليْل وَتُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَتُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران:27) (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْل العَظِيمِ) (البقرة:105) ، (يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلبَابِ) (البقرة:269) ، (يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ) (النور:45) (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لهُمُ الخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (القصص:68) ، (اللهُ الذِي خَلقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَل مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَل مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ العَليمُ القَدِيرُ) (الروم:54) (لهُ مَقَاليدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُل شَيْءٍ عَليمٌ) (الشورى:12) .

    في كل هذه الآيات يخبرنا الله أن كل ما في الكون إنما هو بمشيئته ؟ وتارة يخبرنا أن ما لم يشأ لم يكن ، وأنه لو شاء لخلق الخلق على خلاف الواقع المشهود وأنه لو شاء لكان خلاف القدر الموجود ، وأنه لو شاء ما عصاه أحد من خلقه ، وأنه لو شاء لجمعهم على ذكره ، وجعلهم أمة واحدة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللهُ عَلى ذَلكَ قَدِيراً) (النساء:133) (وَرَبُّكَ الغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) (الأنعام:133) (أَلمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلقٍ جَدِيدٍ) (ابراهيم:19) (رَبُّكُمْ أَعْلمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلنَاكَ عَليْهِمْ وَكِيلاً) (الإسراء:54) (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَأِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلبِكَ وَيَمْحُ اللهُ البَاطِل وَيُحِقُّ الحَقَّ بِكَلمَاتِهِ إِنَّهُ عَليمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (الشورى:24) (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْللنَ رَوَاكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلكَ لآياتٍ لكُل صَبَّارٍ شَكُورٍ) (الشورى:33) (وَلئِنْ شِئْنَا لنَذْهَبَنَّ بِالذِي أَوْحَيْنَا إِليْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لكَ بِهِ عَليْنَا وَكِيلاً) (الإسراء:86) (وَلوْ شِئْنَا لبَعَثْنَا فِي كُل قَرْيَةٍ نَذِيراً) (الفرقان:51) (وَلوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُل نَفْسٍ هُدَاهَا وَلكِنْ حَقَّ القَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (السجدة:13) (نَحْنُ خَلقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلنَا أَمْثَالهُمْ تَبْدِيلاً) (الإنسان:28) (وَكَذَلكَ جَعَلنَا لكُل نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْل غُرُوراً وَلوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) (الأنعام:112) (وَلوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس:99) (وَلوْ شَاءَ رَبُّكَ لجَعَل النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلذَلكَ خَلقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (هود:119) .

    ما هي مراتب القضاء ؟ وما الفرق بين القضاء والقدر ؟ مراتب القضاء العلم والكتابة والمشيئة ومراتب القدر العلم والكتابة والمشيئة والخلق . (ذَلكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْل الحَقِّ الذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ للهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لهُ كُنْ فَيَكُونُ) (مريم:35) ، نلتقي معكم في المحاضرة القادمة للحديث عن المرتبة الرابعة من مراتب القدر ، (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَليْهِ وَسَلمُوا تَسْليماً) (الأحزاب:56) فصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

  14. افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    مراتب القدر
    المرتبة الرابعة الخلق



    (الحَمْدُ للهِ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَل الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُون) ، لا يحصى عدد نعمه العادون ، ولا يؤدى حق شكره الحامدون ، ولا يبلغ مدى عظمته الواصفون ، بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ، أحمده سبحانه وتعالى وأشكره ، وأستعينه وأستغفره أوحده سبحانه عند الشدة والرخاء ، وأتوكل عليه فيما حكم به من أنواع القضاء ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، شهادة من يعتقد أنه لا رب سواه ، شهادة من لا يرتاب في شهادته ، واعتقاد من لا يستنكف عن عبادته ، وأشهد أن محمدا عبده الأمين ، وخاتم الأنبياء والمرسلين ، أرسله ربنا إلى الخلق أجمعين ، بلسان عربي مبين ، فبلغ الرسالة وأظهر المقالة ، ونصح الأمة ، وكشف الغمة ، وجاهد في سبيل الله حتى أظهر به الدين ، وأظهره على الكافرين والمشركين ، وعبد ربه حتى أتاه اليقين ، فصلى الله على محمد سيد الأنبياء والمرسلين ، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين ، ونسائه أمهات المؤمنين ، وسائر أصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد . .

    مراتب القدر هي انتقال المخلوقات من كونها معلومة في علم الله في الأزل إلى الواقع المشهود ، وقد تحدثنا فيما سبق عن المرتبة الأولى من مراتب القدر ، وهى علم الله السابق ، علم التقدير وحساب المقادير ، تقدير كل شيء قبل تصنيعة وتكوينه ، وتنظيم أمور الخلق قبل إيجاده وإمداده ، وتحدثنا أيضا عن المرتبة الثانية من مراتب القدر ، وهى مرتبة الكتابة ، كتابة المعلومات ، وتدوينها بالقلم في كلمات ، وبينا أن كل مخلوق مهما عظم شأنه أو دق حجمه ، كتب الله ما يخصه في اللوح المحفوظ ، كتب تفصيل خلقه وإيجاده ، وما يلزم لنشأته وإعداده وإمداده ، وجميع ما يرتبط بتكوينه وترتيب حياته ، ثم تحدثنا عن المرتبة الثالثة من مراتب القضاء والقدر وهي مرتبة المشيئة ، فليس في الكون مشيئة عليا إلا مشيئة الله ، فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وهذا أساس التوحيد الذي لا يقوم بنيانه إلا به ، والمسلمون من أولهم إلى آخرهم مجمعون على ذلك ، واليوم نتحدث عن المرتبة الرابعة من مراتب القدر وهى مرتبة خلق الأشياء وتكوينها ، وتصنيعا وتنفيذها ، على وفق ما قدر لها بمشيئة الله في اللوح المحفوظ .

    فالله عز وجل هو خالق كل شيء ، والخالق عند أهل التوحيد واحد ، وما سواه مخلوق ، هذا الأمر متفق عليه بين الرسل ، اتفقت عليه الكتب الإلهية ، والفطرة البشرية ، وجميع الأدلة العقلية ، ولم يخالف في ذلك إلا مجوس الأمة من القدرية ، حيث زعموا أن العبد يخلق فعله من دون الله وقدرته ، فأخرجوا أفعال العباد عن تقدير الله وربوبيته ، ولم يوحدوا الله في مشيئته ، فجعلوا العباد هم الخالقون لأفعالهم ، فعندهم أنه سبحانه لا يقدر أن يهدي ضالا ، ولا يقدر أن يجعل المسلم مسلما ، ولا الكافر كافرا ، ولا المصلي مصليا ، وإنما ذلك يعود إلي قدرة العبد ومشيئته ، وفي المقابل لضلالهم وبدعتهم ، ظهرت طائفة ترد على بدعتهم ببدعة تقابلها ، وقابلوا باطلهم وبدعتهم ببدعة تماثلها ، فقالوا بل العبد في أفعاله مسير مجبور ، ولا تأثير له فيها وإنما هو ملزم مقهور ، وغلا بعضهم فقال أفعال العبد هي عين أفعال الرب ، (إِنَّ اللهَ لا يَظْلمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلمُونَ) (يونس:44) ، ولا ينسب الفعل إلى العبد إلا على سبيل المجاز ، وزعم هؤلاء الجاهلون أن الله سبحانه يلوم العبد ويعاقبه ، ويخلده في النار ويعذبه ، على أمور لم يكتسبها العباد ، فالعباد مسيرون لا مخيرون ، فوصفوا الله بأنه يظلم الكافرين ، وأنه لا يحق له أن يعذب المشركين ، تعالى الله عن قول الظالمين علوا كبيرا ، هذا قول الجبرية في مقابل قول القدرية ، وكلاهما باطل وشر معلوم ، وفيهما من الباطل بدلالة اللزوم ، ما أنكره أهل السنة والجماعة ، فمذهب أهل السنة والجماعة مذهب الحق لأن اعتقادهم وسط وهذا هو شأنهم ، فالوسطية وصفهم كما قال تعالى في مدحهم: (وَكَذَلكَ جَعَلنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَليْكُمْ شَهِيداً) (البقرة:143) فأهل السنة لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء ، لا ينظرون بعين واحدة ، كالأعور الذي يرى من وجهة واحدة ، وإنما ينظرون بعينين سليمتين يرون الأمور فيها باعتدال ، ولا يردون شيئا مما قاله رب العزة والجلال ، كما أنهم يقدمون سنة نبيهم على عقولهم وآرائهم ، فأهل السنة يثبتون قدرة الله على جميع الموجودات ، ويؤمنون بخلقه وتكوينة لجميع الكائنات ، وينزهون الله عز وجل أن يكون في ملكه شيء لا يقدر عليه ، أو أن مشيئته أو إرادته الكونية لا تقع عليه ، ويثبتون العلم والتقدير السابق على الخلق ، وأن العباد يعملون على ما وفق ما قدره الحق ، وأن ما جف به القلم في اللوح عند الله ، واقع محتوم بالمشيئة وقدرة الله ، وأنهم لا يشاءون إلا أن يشاء الله ، ولا يفعلون إلا من بعد علمه وكتابته ومشيئته وتنفيذ صنعته ، وأنه ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وهذا عام لكل ما خلق وما يخلق وما سيخلق ، (أَلا يَعْلمُ مَنْ خَلقَ وَهُوَ اللطِيفُ الخَبِيرُ) (الملك:14) .

    فالقدر عند السلف مبنى على أمرين اثنين: التقدير والقدرة ، فبدايته في التقدير ، وهو العلم السابق علم التقدير وحساب المقادير ، تقدير كل شيء قبل تصنيعه وتكوينه ، وتنظيم أمور الخلق قبل إيجاده وإمداده ، فهذا العلم هو التقدير الجامع التام ، وهو حساب النظام العام ، الذي يسير عليه الكون بمنتهى الإتقان من بدايته إلى نهايته ، كما قال تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (الأنعام:59) .

    فبداية القدر في التقدير ونهايته في القدرة وتحقيق المقدر ، قدرة الله تعالى على تحقيق ما علمه ، وما كتبه ، وما شاء خلقه وتكوينه ، فلا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بعلمه ، وبعد كتابته ومشيئته وقدرته ، فبداية القدر العلم والتقدير ، والنهاية في القدرة ، ولذلك يقول تعالى: (وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) (الأحزاب:38) .

    ويذكر العلامة ابن القيم في كتابه طريق الهجرتين أن القضاء والقدر منشؤه عن علم الرب وقدرته ، ولهذا قال الإمام أحمد القدر قدرة الله واستحسن ابن عقيل هذا الكلام من أحمد غاية الاستحسان ، وقال: إنه شفي بهذه الكلمة وأفصح بها عن حقيقة القدر ، ولهذا كان المنكرون للقدر فرقتين ، فرقة كذبت بالعلم السابق ونفته ، وهم غلاتهم الذين كفرهم السلف والأئمة وتبرأ منهم الصحابة ، وفرقة جحدت كمال القدرة وأنكرت أن تكون أفعال العبادة مقدورة لله تعالى وصرحت بأن الله لا يقدر عليها ، فأنكر هؤلاء كمال قدرة الرب وأنكرت الأخرى كمال علمه ، وقابلتهم الجبرية فجاءت على إثبات القدرة والعلم ، وأنكرت الحكمة والرحمة ، ولهذا كان مصدر الخلق والأمر ، والقضاء والشرع عن علم الرب وعزته وحكمته ، ولهذا يقرن تعالى بين الإسمين من هذه الثلاثة كثيرا - العليم والعزيز والحكيم - كقوله: (وَإِنَّكَ لتُلقَّى القُرْآنَ مِنْ لدُنْ حَكِيمٍ عَليمٍ) (النمل:6) وقال: (تَنْزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ) (الزمر:1) وقال في سورة فصلت (ذَلكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَليمِ) بعد ذكر تخليق العالم وترتيبه لمعاني الحكمة ، فكما لا يخرج مقدور عن علمه وقدرته ومشيئته فهكذا لا يخرج عن حكمته وحمده .

    والله عز وجل خلق الدنيا بأسباب تؤدي إلى نتائج ، وعلل تؤدي إلى معلولات ، السبب والنتيجة ، أو العلة والمعلول مخلوقان بمراتب القدر سواء ارتبط المعلول بعلته أو انفصل عن علته ، أو ارتبط السبب بنتيجته أو انفصل عن نتيجته ، فالعلل والأسباب سواء ترابطت أو انفصلت فلا يؤثر ذلك في تعلقها بمراتب القدرة ، ولكن العلل والأسباب ترابطها أو انفصالها ظاهر عن كمال الحكمة ، وبيان ذلك أن الله بنى الحياة على ترابط الأسباب بحيث لا يخلق النتيجة إلا إذا خلق السبب فيها ، ولا يخلق المعلول إلا إذا خلق علته ، فلا يخلق النبتة إلا إذا خلق البذرة أو الحبة ، ولا يخلق الثمرة إلا إذا خلق النبتة ، لا يخلق الإبن إلا إذا أوجد الأب والأم ، ومن هنا ظهرت الأسباب للعقلاء كابتلاء يصح من خلاله العمل بأحكام البديهيات ، وحكم التجارب والأوليات ، فأهل اليقين ينظرون إلى الأسباب ويعلمون أن الله خلقها بمراتب القدر ، فيجدون أن الله عز وجل تارة ينسب الفعل إليه لأنه الخالق بتقدير وقدرة ، وتارة ينسب الفعل إليهم عند دعوتهم إلي العمل بمقتضى الشريعة والعقل والحكمة ، فمرة يقول في بيان التقدير والقدرة: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (الواقعة:64) وقال أيضا: (فَليَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا المَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلا وَحَدَائِقَ غُلبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَتَاعًا لكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ) ، فنفي عن الناس أفعالهم ، وتأثير الأسباب في رزقهم ، وأثبت لنفسه الأفعال وتصريف الأسباب ، لأنه الخالق في الحقيقة ، الذي علم وكتب وشاء وخلق ، قدر كل شيء بعلمه ، وكتبه في أم الكتاب بقلمه ، وأمضاه بمشيئته ، وخلقه بقدرته ، ثم أثبت أمر الناس أن يخذوا بالأسباب التي خلقها ، وأحكم لهم تدبيرها ، عملا بشرع الله كما قال جل في علاه: (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلهِ إِلا قَليلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) (يوسف:47) ويقول أيضا: (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ليَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ) (الفتح:29) فسماهم زراعا وقال تزعون ، وسماهم كفارا لأنهم يضعون البذرة يغيبون البذرة في الأرض ويغطونها ، وذلك لأننا في دار ابتلاء وامتحان ، والأخذ بالأسباب حتم على بني الإنسان ، فهم مستخلفون في ملكه ، مخولون في أرضه ، فطالبنا بالعمل والإنفاق ، ليصل كل منا إلي ما قدره من الأرزاق: (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلكُمْ مُسْتَخْلفِينَ فِيهِ فَالذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لهُمْ أَجْرٌ كَبِير ٌ) (الحديد:7) فالدنيا دار ابتلاء وامتحان ، ولا بد أن يجتازها الإنسان ، وهو في هذه الدار بالخيار ، حر بين جنة أو نار ، كل ذلك ليؤول الناس إلى مصيرهم بعد الحساب ، ويتم ما قدره الله في أم الكتاب: (فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (الشورى:7) فكل ميسر لما خلق له ، وكل سينال ما قدر له . فاللّه عز وجل قد أظهر الدنيا أسبابا ونسب الفعل إلي أهلها لإظهار حكمته ، ونسب الفعل وأثبته لنفسه في موضع آخر لإظهار قدرته ، فلا يتغافل العبد عن قدرته بدعوى الانشغال في النظر إلى حكمته ، وأن الأسباب حاكمة على مشيئة الله وقدرته ، صارمة لا يمكن أن يتخلف المعلول فيها عن علته ، فالله عز وجل يخلق بأسباب وبغير أسباب إن خلق بأسباب فهي العادات ، وإن خلق بغير أسباب فهي خوارق العادات أو الكرامات والمعجزات .

  15. افتراضي

    الثمرة يخلقها الله بعد خلق النبتة ويربط خلق الثمرة بوجود النبتة ، ويمكن أن يخلق الثمرة من غير نبتة ودون وجودها ، فهذه مريم (كُلمَا دَخَل عَليْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَال يَا مَرْيَمُ أَنَّى لكِ هَذَا قَالتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) يقول المفسرون: كانت ترزق بفاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف ، وهى قد علمت أن الذي يخلقها بأسباب يخلق بغير أسباب ، ويرزق بحساب من العبد أو بغير حساب ، ولذلك كان من قوة يقينها أن الله اختارها لأعظم ابتلاء ، ستحمل على غير عادة النساء ، ويخرج منها عيسى كمعلول بغير علة ونتيجة بلا سبب (وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلنَا إِليْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّل لهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا قَال إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لكِ غُلامًا زَكِيًّا قَالتْ أَنَّى يَكُونُ لي غُلامٌ وَلمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلمْ أَكُنْ بَغِيًّا قَال كَذَلكِ قَال رَبُّكِ هُوَ عَليَّ هَيِّنٌ وَلنَجْعَلهُ آيَةً للنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا قَال كَذَلكِ قَال رَبُّكِ هُوَ عَليَّ هَيِّنٌ وَلنَجْعَلهُ آيَةً للنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ) ما المقصود بقوله هين ؟ هل هناك شيء يعز خلقه على الخالق أبدا ، ولكن الأسباب يخلقها الله بمراتب القدر ، ومراتب القدر في الخلق بأسباب ومن خلال العادات أكثر من مراتب القدر في الخلق بغير أسباب ومن خلال خوارق العادات ، الولد في الأسباب يوجد من أب وأم ، فالأب له أربع مراتب والأم كذلك والولد كذلك فجموع المراتب اثنتا عشرة مرتبة ، أما الولد في حالة عيسى فقد وجد من أم بلا أب ، فجموع المراتب ثمان مراتب ، فأيهما أهون العادات أو خوارق العادات ؟ وأهون من ذلك خلق آدم من غير أب ولا أم ، ولذلك قال تعالي في إجمال الخلق: (وَهُوَ الذِي يَبْدأُ الخَلقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَليْهِ وَلهُ المَثَلُ الأَعْلى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) (الروم:27) (أَوَليْسَ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلهُمْ بَلى وَهُوَ الخَلاقُ العَليمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُول لهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الذِي بِيَدِهِ مَلكُوتُ كُل شَيْءٍ وَإِليْهِ تُرْجَعُونَ) (يّس:83) .

    فقد يخلق العلة ولا يخلق معلولها ، كما فعل بإبراهيم عليه السلام: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلينَ قُلنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْرَاهِيمَ) (الأنبياء:69) (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلكَ لآياتٍ لقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (العنكبوت:24) أضرموا نارا لا يقوى الطير على المرور من فوقها ، توفرت لهم العلة ولكن الله لم يخلق معلولها .

    البخاري عن أنَسِ بنِ مالكٍ رضيَ اللهُ عنه: (أنَّ يَهودِيَّةً أتَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بشاةٍ مَسمومَةٍ فأكَل منها فجيء بها ، فقيل: ألا نقتُلُها ؟ ، وفي رواية مسلم فَجِيءَ بِهَا إِلى رَسُول اللّهِ . فَسَأَلهَا عَنْ ذلكَ ؟ فَقَالتْ: أَرَدْتُ لأَقْتُلكَ . قَال: مَا كَانَ اللّهُ ليُسَلطَكِ عَلى ذَاكِ ، ق أَوْ قَال : عَليَّ قَال قَالُوا: أَلاَ نَقْتُلها ؟ قَال لاَ .

    وعند البخاري من حديث عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَال سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا تَقُولُ َلمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ قَال ليْتَ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِي صَالحًا يَحْرُسُنِي الليْلةَ إِذْ سَمِعْنَا صَوْتَ سِلاحٍ فَقَال مَنْ هَذَا فَقَال أَنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ جِئْتُ لأَحْرُسَكَ وَنَامَ النَّبِيُّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ .

    أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ فَأَدْرَكَتْهُمْ القَائِلةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ العِضَاهِ فَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي العِضَاهِ - شجرة ذات شوك- يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ فَنَزَل النَّبِيُّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَعَلقَ بِهَا سَيْفَهُ ثُمَّ نَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ وَهُوَ لا يَشْعُرُ بِهِ ، فَقَال النَّبِيُّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفِي فَقَال مَنْ يَمْنَعُكَ قُلتُ اللهُ فَشَامَ السَّيْفَ ، قيل فنزلت (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلغْ مَا أُنْزِل إِليْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لمْ تَفْعَل فَمَا بَلغْتَ رِسَالتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ) (المائدة:67) وقد يخلق المعلول بلا علة ، كما فعل بناقة صالح: (وَإِلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالحاً قَال يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُل فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَليمٌ) (لأعراف:73) (هود:64) (قَال هَذِهِ نَاقَةٌ لهَا شِرْبٌ وَلكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (الشعراء:155) (فَقَال لهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا) (فَعَقَرُوهَا فَقَال تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) (هود:65) (فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ) (الشعراء:157) (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَليْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا) (الشمس:14) .

    وعند البخاري من حديث عبدِ الرحمنِ بنِ أبي بكرٍ: «أنَّ أصحابِ الصُّفَّةِ كانوا أُناساً فُقراءَ ، وأَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَن كان عندَهُ طعامُ اثنينِ فليَذْهَبْ بثالثٍ ، وإِنْ أَربعٌ فخامسٌ أو سادس» . وإنَّ أَبا بكرٍ جاءَ بثلاثةٍ فانطلقَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعشَرةٍ . قال: فهوَ أَنا وَأَبي وَأُمي ـ فلا أدري قال: وامرأتي ـ وخادِمٌ بينَنا وبينَ بَيتِ أبي بكر . وإِنَّ أَبا بكرٍ تَعشَّى عندَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ثم لبِثَ حيثُ صُليَتِ العِشاءُ ، ثم رجعَ فلبِثَ حتّى تعَشَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، فجاءَ بعدَ ما مضى مِنَ الليل ما شاءَ اللهُ . قالت له امرأَتهُ: وما حبَسكَ عن أضيافِكَ ـ أو قالت ضيفِكَ ـ ؟ قال: أَوَ ما عَشيِتيهم ؟ قالت: أَبَوا حتّى تَجيء ، قد عُرِضوا فأَبَوا . قال: فذهبتُ أَنا فاختبأْتُ . فقال: يا غُنثَرُ ـ الثقيل الوخيم طويل البال ، فجدَّعَ وسَبَّ ، دعا عليه بقطع الأنف وغيره من الأعضاء والسب الشتم ـ وقال: كُلوا لا هَنِيّاً . فقال: وَاللهِ لا أَطعَمُه أبداً . وأَيمُ اللهِ ، ما كنا نأْخُذُ من لُقمةٍ إلاّ رَبا من أَسْفلها أكثرُ منها . قال: يعني حتى شَبِعُوا ، وصارتْ أَكثَرَ مِما كانت قبل ذلك . فنظرَ إِليها أبو بكرٍ فإِذا هيَ كما هيَ أو أكثرُ . فقال لامرأتِه: يا أُختَ بني فِراسٍ ما هذا ؟ قالت: لا وقُرَّةِ عيني ، لهيَ الآنَ أَكثرُ منها قبل ذلكَ بثلاثِ مرّاتٍ . فأَكل منها أبو بكرٍ وقال: إِنما كان ذلكَ منَ الشيطانِ ـ يعني يَمينَهُ ـ ثمَّ أَكل منها لُقمةً ، ثمَّ حَملها إِلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فأصبحتْ عندَه . وكان بينَنا وبينَ قومٍ عَقدٌ ، فمضى الأجلُ ففرَّقَنا اثْنَيْ عشرَ رجُلاً معَ كل رجلٍ منهم أُناسٌ اللهُ أعلم كم مَع كل رجُلٍ ، فأكلوا منها أجمعون ، أَو كما قال .

    وعند البخاري من حديث أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَال أُتِيَ النَّبِيُّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ بِإِنَاءٍ وَهُوَ بِالزَّوْرَاءِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ فَجَعَل المَاءُ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ فَتَوَضَّأَ القَوْمُ قَال قَتَادَةُ قُلتُ لأَنَسٍ كَمْ كُنْتُمْ قَال ثَلاثَ مِائَةٍ أو قريبا من ذلك .

    علمنا أن مراتب القدر أربع مراتب علم وكتابة ومشيئة وخلق ، ما الفرق بين القضاء والقدر ؟ قد يأتي القضاء بمعنى القدر لاشتراكهما في ثلاث مراتب أما من جهة الفرق بينهما فيمكن حصر ذلك في أربعة أمور:

    1- القضاء ثلاث مراتب والقدر أربع: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لهُ كُنْ فَيَكُونُ) (البقرة:117) (قَالتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لي وَلدٌ وَلمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَال كَذَلكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لهُ كُنْ فَيَكُونُ) (آل عمران:47) (هُوَ الذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لهُ كُنْ فَيَكُونُ) (غافر:68) ، القضاء يستصدر منه الأحكام والقدر تنفيذه لأنه من القدرة كما في السلطة القضائية والسلطة التنفيذية ، (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُل سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَليمِ) (فصلت:12) .

    2- القضاء غيب ويكون مشهودا بالقدرة ، وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل) ، يقول الغزنوى: (اعلم بأن القدر سر والقضاء ظهور السر على اللوح) .

    3- القضاء يسبق القدر ، أو يسبق القدر من جانب القدرة ، ويشترك معه من جانب التقدير ، انظر إلى الفرق بين القضاء والقدر عند الهدهد الموحد: (أَلا يَسْجُدُوا للهِ الذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلنُونَ اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ) (النمل:26) .

    4- القضاء أعم من حيث التعلق والقدر أخص ، والقدر أعم من حيث المراتب والقدر أخص ، القضاء يتعلق بما كان وما هو كائن وما سيكون ، أما القدر من جانب القدرة والخلق والتكوين فيتعلق بما كان وما هو كائن ، أما من جهة المراتب فالقدر أعم لأنه أربع مراتب والقضاء أخص لأنه ثلاث .

    هذه مراتب القدر قد بيناها ووضحناها فيجب على الموحدين الإيمان بها والعمل بالأسباب من خلالها ، معتقدين أن ما قدره الله سوف يكون وأن حكمته في خلقه أبلغ ما يكون ، يسوق أولى التعذيب بالسبب الذي يقدره نحو العذاب بعزة - ويهدي أولى التنعيم نحو نعيمهم بأعمال صدق في رجاء وخشية - وأمر إله الخلق بين ما به يسوق أولى التنعيم نحو السعادة - فمن كان من أهل السعادة أثرت أوامره فيه بتيسير صنعة - ومن كان من أهل الشقاوة لم ينل بأمر ولا نهى بتقدير شقوة - ولا مخرج للعبد عما به قضى ولكنه مختار حسن وسوأة - فليس بمجبور عديم الإرادة ولكنه شاء بخلق الإرادة - ومن أعجب الأشياء خلق مشيئة بها صار مختار الهدى بالضلالة - ولله رب الخلق أكمل مدحة وصلى إله الخلق جل جلاله على المصطفي المختار خير البرية .

    سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. القضاء والقدر وكفر من كذب بها من البشر
    بواسطة باسل في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 09-09-2009, 07:04 PM
  2. ما هو القضاء والقدر ..؟!
    بواسطة حائر في زمن الشكوكـ! في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 07-12-2009, 04:05 AM
  3. القضاء والقدر
    بواسطة ناصر التوحيد في المنتدى قسم العقيدة والتوحيد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 04-30-2009, 06:16 PM
  4. إلى الراغبين في دراسة عقيدة السلف في القضاء والقدر وكيف تكون علاجا
    بواسطة د. محمود عبد الرازق الرضواني في المنتدى قسم العقيدة والتوحيد
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 04-20-2005, 07:57 AM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء