الحمد لله الذي أنزل الكتاب بالحق فأظهره على الدين، وخلق عقول بني آدم فألهمها فجورها وتقواها وبعث فيهم رسلا مبشرين ومنذرين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، محمد وآله الطيبين الطاهرين، أما بعد،

فمما صار يتحذلق به سفهاء الإلحاد اليوم ويتشدقون به قولهم "إن نصوصكم التي ترجعون إليها أيها المسلمون فقيرة "فلسفيا" وخالية من العمق العلمي والعقلي الذي يقدم الجواب الكافي لما يثيره فلاسفتنا من تساؤلات"! فتراهم إذا ما سيق إليهم شيء من كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أو من جوامع الكلم التي ورثناها من سيد المرسلين عليه صلاة ربي وسلامه، قابلوه بالتهكم والسخرية وبمثل قولهم: "هذا لا يجيب عن كذا ولا يجيب عن كذا، ولا يفسر كذا وكذا"، حتى راح بعضهم من سفاهته وجحوده يقول: لماذا لا نجد في القرءان جواب السؤال: "لماذا اختار الله أن يخلق الخلق وأن يجعلهم عبيدا له طوعا وكرها؟؟"؟ وكيف تزعمون أن هذه النصوص القليلة تكفي للرد على أطنان من التساؤلات الفلسفية التي كان ولا يزال يثيرها رؤوس الفكر الفلسفي من قبل ومن بعد ظهور نبيكم ورسالته؟ هل حقا تظنون أن نبيكم قد حسم قضية الإلحاد وسد الباب أمامها بقوله في جواب من يسأل "فمن خلق الله؟": " فمن وجد من ذلك شيئا فليقل : آمنت بالله"؟

ونقول لهؤلاء الجحدة المكابرين، إن الوحي لم ينزل بجواب سائر شبهات وسفسطات وتخاليط الفلاسفة، ولو أراد الرب ذلك لأنزل من السماء مئة مجلد، ولو أنه فعل لما كانت لتغطي ما هو حادث فيما بعد زمان الوحي من شبهات، كسفسطات الدراونة ونحوهم من أهل الملل المستحدثة في متأخر الأزمان! وإنما نزل الوحي (في شقيه الكتاب والسنة) برؤوس المسائل وجاء بالحجج العقلية الجامعة، الهادمة لأصول تلك الشبهات جميعا، بما يفرع عليه العقلاء من أهل العلم الضابطين له الفقهاء بمراميه ومقاصده وحججه ما يصلح جوابا لكل مبطل في كل زمان، كل منهم على وفق بدعته وسفسطته! ولا يزال علماء هذه الملة من زمان التنزيل وإلى يوم الناس هذا يتوسعون في دراسة وتمحيص دعاوى المبطلين من الفلاسفة من أهل الملل، يحررون المصطلحات ويفرقون بين المختلفات ويجمعون المتشابهات ويستخرجون الحكمة الصافية في الرد على الشبهات من معين الوحي الذي لا يتكدر، تفريعا على أصوله وتخريجا على مسائله، يأتون بنيان المبطلين من القواعد! ومن نظر في تراث أئمة أهل السنة رحمهم الله فإنه يرى بجلاء كيف أنهم ما جاوزوا في نظرهم أصلا واحدا من الأصول التي مضت القرون الأولى وإجماع المسلمين معقود عليها، وما جاءوا فيما أبطلوا به انتحال المبطلين وتأويل الغالين بشيء يجاوز أفهام الأولين أو يشذ عما كانوا عليه، رضي الله عنهم وأرضاهم!

فالذي يطالبنا الآن بإخراج الجواب عن كل شبهة يستحدثها الناس في زمان من الأزمان، من صريح النصوص في متن القرءان أو في كلام النبي العدنان أو فيما ورثناه عن صحابته وأئمة تابعيهم، فإنما هو جاهل أو مماحك! فقد جاء القرءان والسنة بصنفين من الأجوبة عن شبهات المبطلين: أجوبة مجملة وأجوبة مفصلة! فأما المجملة فهي محكمات النصوص المثبتة لوجود الخالق جل وعلا ولصفات ربوبيته وكماله والمستحثة لعقول العقلاء للتأمل في آيات ذلك في الأنفس وفي الآفاق، وكذا النصوص الدالة على وحدانيته تبارك وتعالى، وعلى بطلان الشرك في أصله وفساده العقلي، ففي هذا ونحوه من مجمل الرد ما تبطل به أصول سائر الملل الشركية بصرف النظر عما في كل منها من تفصيل وما كتبه كل فيلسوف من فلاسفتها من شبهات وانتصارات لها! وأما الأجوبة المفصلة فهي ما كان متوجها إلى فئات بعينها من الكفار كمشركي قريش وأهل الكتاب من اليهود والنصارى. والحكمة في الاقتصار على هؤلاء في الجواب المفصل تكمن كما لا يخفى في أن تلك الطوائف هي التي نزل القرءان فيها وخرج النبي عليه السلام في أول البعثة لمخاطبتها، فاحتاج الأمر في خطابهم إلى شيء من التفصيل. وعندما نقول "جواب مفصل"، فإننا لا نعني بذلك الرد على شبهات هذا الفيلسوف أو ذاك من فلاسفة أهل تلك الملل في زمان التنزيل، فإنما العبرة في الجواب بأخصره وأبلغه وأنفذه إلى قواعد بنيان الباطل، وهذا ما نراه في جواب القرءان عن ملة النصارى على سبيل المثال. فلا نراه يفيض في الرد على شبهات فلاسفتهم وعلمائهم في الثالوث أو في البنوة والصلب، بقدر ما يخاطبهم بالزجر وبالتذكير بما هو جلي لكل عاقل منصف من فساد تلك الأقوال وما فيها من بطلان عقلي ومن عدوان على ذات الرب العلي سبحانه وتعالى! فإنه لا يحتاج النصراني العاقل المنصف حتى يفيء إلى صوت الفطرة وبداهة العقل، ويقبل الحق المنزل بحجته الظاهرة الجلية، إلى أكثر من أن يسمع قوله تعالى: ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً)) [النساء : 171] ! فإن هو ماحك وتمحل، ولجأ إلى طرائق الفلسفة والسفسطة، وراح يبث الشبهات الواهية ويخترع الحجج الكلامية الباطلة لإقناع نفسه ومن حوله بصحة ملته، فلا يعجز حينئذ علماء الملة الحنيفية عن استخراج مكامن التناقض والفساد العقلي في حججه تلك، وإبطالها وهدمها من قواعدها، دون الحاجة إلى استخراج نص من القرءان بكل جواب يجيبون به، كالنص على أن الذوات الثلاثة لا يصح في العقل أن تكون ذاتا واحدة وثلاثة معا، أو على أن مفهوم الأقنوم المزعوم هذا فاسد في العقل والنظر من عدة وجوه، وبيانها كذا وكذا، أو النص على بطلان ما وراء ذلك مما كانوا ولا يزالون يتفلسفون به، يصنفون فيه المجلدات الثقيلة من مئات الصفحات!

قال تعالى في أهل الكتاب: ((وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) [آل عمران : 78] فهل نحتاج إلى أن يأتينا القرءان بكل صفحة وقع فيها تحريف من صحفات كتابهم وموضع التحريف حتى تقوم الحجة على أهل الكتاب بفساد ملتهم واختلاط الحق بالباطل في نصوصهم؟ كلا! فلو أن عالما ألجأته المحاججة إلى اجتهاد ذلك الأمر بنفسه، مستعينا فيه بأصول الحق التي جاء بها الوحي، سواء في صفات الرب ولوازمها أو فيما سوى ذلك مما حرفه القوم وبدلوه، فإنه لن يعجز عن إتيانه على خير وجه!
فالقصد أن الوحي إنما جاءنا بأصول الحق والهداية والحجة الظاهرة على كل عاقل في كل زمان ومكان، بألفاظ محكمة هي الغاية في البلاغة وحسن البيان، فلا يحتاج العاقل إلى أكثر من إعمال أداة العقل التي حباه الله بها تأسيسا على تلك الأصول جميعا، حتى يخرج بأحكم الردود وأقواها وأقدرها على هدم ما يتهافت به فلاسفة الكفر والإلحاد في كل زمان ومكان. وقد ورد في الأثر عن علي رضي الله عنه أنه قال: "العلم نقطة كثرها الجاهلون"! وصدق! فالحق الواضح البين سهل يسير، ومجموعه قليل لا لغو فيه ولا تطويل، وإنما اضطر أهل العلم والحكمة إلى التحرير والتحبير والتوسع في التأليف والتصنيف، بعدما ظهر من صنوف وألوان الجهالات وتهافتات الفلاسفة وشبهاتهم على الحق والدين ما ظهر، فمن جاوز حد الحاجة في ذلك فقد جنح من البيان إلى اللغو ومن الحكمة إلى الإسراف! فإن الحكمة غاية الحكمة إنما هي في الاقتصار على ما يلزم لتحقيق المطلوب بلا زيادة ولا نقصان!
فعندما ينظر تافه من تفهة الداروينية المعاصرة إلى موروثنا عن سلفنا الأولين رضي الله عنهم أجمعين، فيقول متهكما: "أنى لهؤلاء "البدائيين" رعاة الغنم من أصحاب نبيكم أن يعقلوا نظرية داروين أو يتصوروها وأنى لهم أن يجدوا ردا عليها"، فإننا نقول له والله إن هؤلاء الذين استصغرتهم وحقرت عقولهم وعلومهم، لشراك نعل أحدهم أثقل في ميزان العقل من سائر من كبروا في نفسك! ولو أن الله قضى أن يخلق داروينكم هذا في زمانهم أو فيما قبلهم، وكانت تلك النظرية مما يُدعى به الناس في زمانهم وفي بلادهم إلى الكفر والإلحاد، لرأيت اليوم في موروثنا أحكم وأبلغ الرد من أئمتهم وسادتهم عليها ولا شك! ولكن لما كانوا في عافية من ذاك الهراء في زمانهم، ولم يكن لسفاسطة الإلحاد وجود في بلادهم، ولم يقفوا على ما جاء به سفهاؤكم في متأخر الأزمان، لم يظهر بينهم من يتصور – أصلا – أن يأتي يوم يذهب فيه قوم من بني آدم يعقلون، ويسمعون ويبصرون، إلى القول بأن الحياة نشأت على الأرض في صدفة ليست هي بصدفة واحدة وإنما صدف متراكمة، أنشأت – بلا منشئ - نظاما ليس هو بنظام له ناظم أو حافظ، فأوهمت الناس بأن المخلوقات مخلوقة وليست هي مخلوقة.. إلى آخر هذه الترهات! وأقول لو أنهم عُرض عليهم هذا الكلام في زمانهم – رضي الله عنهم وأرضاهم – لسقطوا على ظهورهم من الضحك منه، ولما وجدوا حاجة للتصدي له والرد عليه أصلا!

فقول القائل من هؤلاء الجرذان – في كبر وغرور متناهيين – إن هؤلاء "البدائيين" من أصحاب نبي الإسلام، كانوا لا ناقة لهم ولا جمل في العلم الحديث والفلسفة وفي الرد على مثل هذا، وبأن من جاء بعدهم كان أعلم منهم وأحكم وأقرب إلى معرفة الجواب عن "الأسئلة الفلسفية الكبرى"، إنما هو ضرب من ضروب الجهل والحماقة عظيم! فإن العقلاء والحكماء لا يعيبون على راع للغنم جهله بتركيب الذرة ما دام على علم بغاية وجوده نفسها وبما يلزمه العلم به وما لا يلزمه ليتحقق له الخير في حياته وبعد موته، وإنما يعيب العقلاء أشد ما تكون المعيبة على عالم للفيزياء كبير يجهل بالعلة من وجوده نفسه في الحياة الدنيا وهو ماض يحرق عمره في "التسلي" بالتوسع في تلك العلوم ولا يدري أي شيء يلقى من أمره إن مات على ما هو عليه! إن رجلا يركب دابة من بهيمة الأنعام وهو يعلم إلى أين يقصد بها، لهو أعقل وأحكم أضعافا كثيرة من رجل يركب سفينة فضاء ولا يدري إلى أين هو ذاهب بها! بل لا يوصف هذا الأخير بالعقل أصلا، ولا ينفعه علمه في قليل ولا كثير!

لقد كان في زمان النبي عليه السلام ملاحدة ودهريون، وكان أكثرهم يتعلقون بشبهات الدهرية وأزلية الكون، ويثيرون ذات الشبهة التي نسمعها الآن كما في كل زمان: "إذا كان الله هو الخالق فمن الذي خلقه؟"، ولكن هؤلاء لم يكونوا بتلك الشبهات والفلسفات ظاهرين في مهبط الوحي، ولا كانت شبهاتهم وكلام فلاسفتهم بما تصل إليه أيدي أهل الجزيرة في زمانهم من مشركين وأهل كتاب! ودليلنا على ذلك إنما هو خلو ما جاءنا من الأثر من احتكاك بهم أو جواب عن شبهاتهم على نحو ما نرى مع اليهود والنصارى ومشركي قريش! غير أن السفسطة لا حد لها ولا انتهاء! والذي يستجيز نفي وجود الخالق جل وعلا، هذا لا حد ولا منتهى لما قد يجيزه له عقله من أمور لا يستقيم العقل بغير قيام عليها، ولا لما يجيز له عقله أن يسأل عنه!

كيف يتصور هؤلاء السفاسطة اليوم أن يروا في كلام النبي عليه السلام حين يحذر الصحابة من أولئك، كلاما من جنس: "إن قالوا لكم ذلك فأجيبوهم بأن كلامهم يلزم منه التسلسل في العلل، وهذا باطل بضرورة العقل، لوجوب وجود علة أولى تنتهي عندها العلل جميعا" أو من جنس قول القائل: "قولوا لهم إن الخالق الموصوف فيما يوجبه العقل الصحيح وجاء به النص الصريح بأنه الأول والآخر والظاهر والباطن، لا يصح في العقل أن يكون مخلوقا وإلا لزم التسلسل" أو نحو ذلك من الأجوبة الكلامية التي كانوا في عافية من تطلب مثلها؟ هذا لا يكون أبدا ولا يتصور! ومع هذا نقول إن العاقل منهم لو أراد أن يخرج برد بهذا المعنى (بصرف النظر عن مصطلحات المتكلمين التي لم تحدث إلا بعدهم) فيقينا لن يعجزه ذلك! لأن المعنى واضح جلي شديد الجلاء! ولعله يأتي بجواب من مثل قول القائل: "إن الخالق الذي خلق كل شيء لا يُعقل أن يكون مخلوقا كخلقه، وإلا كان مفتقرا إلى خالق فوقه ليس بمخلوق"! ولربما صاغه بما هو أخصر وأبلغ وأحكم من هذا، ولكفاه ذلك وما زاد عليه! أما ما امتلأت به كتب الفلاسفة من سفسطة ولغو، وتدبيج وتزيين لفظي لكلام ساقط متهافت، فإنما يرد عليها من دعته الحاجة الشرعية للتفرغ لإبطالها، وإن فعل فلن يخرج في جوابه عن فهم القرون الأولى وعلم الأولين رضي الله عنهم وأرضاهم، ولو خرج عنه لكان ذلك منه زيغا يلام عليه ويراجع فيه! وقد رأينا من العلماء المشتغلين بدراسة فلسفات الفلاسفة وعلم الكلام من أخذته الشبهة، فجنح إلى التأثر بشيء من شبهاتهم إما بجهل أو بهوى، فظهرت فرق وطوائف مبتدعة تنسب بدعتها للدين وتقول إن الذي جئنا به قد قصرت عنه أفهام الأولين وهو الحق في فهم النص والدين، فقيض الله لهؤلاء من أئمة الحق من يفند أقوالهم ويقيم حجة العقل عليهم جميعا بلا شذوذ أو خروج على سبيل المؤمنين ولكن بفهم السالفين لكلام رب العالمين!

فليعلم كل عاقل أنه ليس كل سؤال يطرحه سائل ما، هو حقيق ولابد بأن يجاب عنه ويستوي له أولو العلم والعقل من أهل الحق بالنظر، يكسبونه بذلك وزنا وقيمة! إن الاستكثار من السؤال بلا غاية ولا نهاية، سفاهة لا يحمد بها صاحبها! فليس بكثرة السؤال يُنال العلم، وإنما بحسن السؤال! متى نسأل وفيم نسأل وإن سألنا فمن نسأل ولأي غاية وما هي حدود السؤال وما ضوابطه وما موانعه.. الخ. فمن حاز هذا العلم ابتداء، لم يزده سؤاله إلا علما ورشدا وهداية، ومن لم يحزه فإنما يروده سؤاله المهالك! لقد رأينا من أئمة الهدى رضي الله عنهم من جاءه سائل يسأل، فلم يجبه إلا بأن سؤاله بدعة وطرده من مجلسه! وكان السؤال: "كيف استوى الله على العرش"؟
ولما كان الصحابة في أول التنزيل يكثرون من الاختلاف على النبي عليه السلام يسألونه في أشياء لم ينزل من الله نص شرعي فيها، كره ذلك منهم بأبي هو وأمي، وأشفق عليهم أن يورثهم ذلك السؤال عنتا إن تنطعوا فيه، فيشدد عليهم في التشريع كما شُدد على بني إسرائيل، ونزل قول الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ)) [المائدة : 101]

والعقلاء يتفقون على أن من السؤال ما لا يحق لبعض الناس أن يطرحوه لبعضهم البعض، كسؤال الرجل عن شيء يعده أحدهم من خاصة أمره ويكره أن يطلع عليه الناس! وأن من السؤال ما لا فائدة من تحصيل جوابه ولا ينبني عليه عمل! كأن يكون جوابه تحصيلا لحاصل أو تحصيلا لشيء من فضول العلم التي لا تفيد معرفتها ولا يضر الجهل بها! فما كان كذلك فإنه حقيق بأن تلحق به المذمة ولا يحمد صاحبه! أيُحمد على أمر شغل نفسه فيه بما غيره أولى منه؟
كما أن من السؤال عما لا جواب له أصلا لفساده في نفسه، أو لكون المسؤول عنه لا سبيل لبني آدم لمعرفته ولا يجوز لهم طلب ذلك! فسواء كان السؤال من قبيل السفسطة العقلية أو كان من قبيل التنطع والتطلع لما لا سبيل إلى معرفته، فإنه باطل لا يلتفت إلى صاحبه ولا يقام له وزن!

فسؤال السائل نحو قولهم: "هل يستطيع الرب أن يخلق صخرة يعجز عن حملها؟" = سؤال باطل من قبيل السفسطة، لا يُعقل أصلا حتى يجاب عنه! وسؤال السائل نحو قولهم: "كيف يكون الرب في جهة العلو المطلق والأرض كروية؟" = هذا من جنس التنطع والسؤال عما لا قبل لنا بتصوره، وإلا فهل يمكنهم تصور ذات لا نهاية لها أصلا، ولا يحدها إلا ما يفصلها عن العرش وما تحته من الخلق؟ إن تصور ذات الله وكيفيتها ممنوع بالشرع ممتنع في العقل، فبأي وجه يُسأل هذا السؤال؟ وأشد من ذلك – وهو مثله – سؤال السائل: "لماذا اختار الله أن يخلق الخلق"، و"لماذا اختار أن يجعل الدنيا دار ابتلاء لقوم يكلفهم بالإيمان به في الغيب، ولماذا لم يدخلنا الجنة والنار من أول الأمر، لماذا اختار أن يبتلينا أصلا وما الذي "يستفيده" الخالق من كل هذا"، إلى آخر تلك الأسئلة السخيفة التي يتسلى بها الملاحدة، كل هذا لا ينبغي أن يقام له وزن أصلا ولا يلتفت لصاحبه! وإنما يقال لهؤلاء كما قال الخالق البارئ جل وعلا: ((لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)) [الأنبياء : 23] فإن هذا الصنف من الجهل يعد تقريره والتسليم به في حق البشر من بدهيات العقل في الحقيقة، والعلم بامتناع ذلك العلم وانقطاع السبيل إليه والإقرار بذلك وقبوله إنما هو عين الحكمة والعقل! نعم هو جهل ولكنه جهل حميد لا تلحق المذمة بنا إذ رضينا به، ولا تلحق النقيصة بذات الرب سبحانه وتعالى وتقدس إذ ارتضاه لنا!
فإن جهلي بكيفية ذات قد شهد عقلي بضرورة خروجها عن كل قياس يطيقه العقل البشري لأنها ليست من جنس المخلوقات المركبة التي يتعامل معها العقل بأدواته، هذا جهل أقبله ببداهة العقل ولا أكرهه ولا أمتنع عن قبول الحق بسببه! فمهما جاءني من سؤال يجاوز هذا الحد فإنني أرده بالعقل والنقل جميعا ولا أبالي! وكذلك فإن جهلي بالسبب الذي من أجله اختار الله أن يخلق خلقا يسخرهم لعبادته وخلقا آخر يبتليهم بتكليف العبادة، هذا لا يُنتهض منه بالاعتراض أو الاستشكال على حقيقة الخلق نفسها، ولا يضيرني التفويض فيه ولا علمي بأنه مما استأثر الرب الخالق به لنفسه! إذ لو كان يلزمني معرفته لمصلحة التكليف الذي كلفني به سبحانه لأنزله فيما أنزل على رسوله! فإن ربا يوصف بأنه عند الغاية من الحكمة والإحسان، يتنزه عن التفريط فيما أرسل به رسله وعن حجب ما يلزمنا معاشر المكلفين معرفته للإتيان بالتكليف على وجهه، كما أنه كذلك يتنزه عن اللغو والعبث والإفراط بإخبار الرسل بما لا يلزمنا معرفته ولا يضيرنا الجهل به، ولا يعنينا السؤال عنه أصلا! والعاقل من عرف أين يقف!
ومع ذلك ترى الملحد إذا ما انتهى إلى نقطة جاءه فيها الجواب: "هذه إرادة الله"، أو الجواب: "هذا ليس لنا أن نسأل عنه"، يحمر وجهه ويزمجر ويقول أنتم جهلاء تحاربون العلم والمعرفة! يعميه الغرور والكبر فلا يبالي في أي مضيق يحشر نفسه ولا في أي واد يهلك!

تراه يسأل: إن كنتم تقولون بالخلق فأجيبوا: كيف خلق الله الخلق الأول؟! قولكم بالخلق لا يغطي جواب هذا السؤال! ونقول له: ما شأنك أنت كيف خلق الله الخلق الأول، وكيف أوجد السماوات والأرض؟ هلا وقف هؤلاء العلماء من الفلكيين والكونيين وقفة صدق واحدة مع أنفسهم يتساءلون فيها: لماذا نريد جوابا لهذا السؤال؟ إن كانت غايتكم التوصل بصنعة العلم التجريبي إلى إثبات أنه لم يحدث خلق أصلا، ولا يوجد خالق، فهذا محض سفاهة لا تخفى، وضروريات العقل تبطله! وإن لم تكن تلك هي الغاية فأي؟ أتريدون أن تكونوا لله أندادا وشركاء فيما خلق؟ أتريدون أن تخلقوا كما خلق؟
ليس كل سؤال يرد على الذهن، يصح طرحه والسعي في معرفة جوابه، وليس كل العلم يمكن للناس اكتسابه، وليس كل ما يمكن معرفته ينفع أو يفيد الناس، وليس كل ما يفيد تعلُّمه يجب أو يستحسن أن يتعلمه كل أحد! هذه المعاني لا تغيب إلا عن سفيه جاهل أو صاحب هوى!

ولأن الملاحدة يعلمون أنهم في جحودهم واستكبارهم قد تنكروا لأمور ليس لهم ببداهة العقل ولا بحس أو قياس أن ينكروها، ولأنهم يعلمون أنهم قد ((كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ))، وكانت فتنتهم في هذا الزمان بالعلم الطبيعي وما حققته التكنولوجيا الحديثة من إنجازات، أصبح دينهم وعقيدتهم الكفر بالغيب، والإيمان بأن هذا العلم الطبيعي المادي وما يدخل تحته من تجريب وحس وقياس، إنما هو الطريق الوحيد لتحقيق العلم بكل شيء، ولاكتساب معرفة تغنيهم عما كذبوا به من أمر الغيب، فلا شيء يخرج عن دائرته، ولا وجود لغيب مطلق ولا لعلم لا يمكن تطلبه من طريقه! ولهذا يجب ألا ينتهي البحث "العلمي" عندهم إلى نهاية أو حد أبدا، ويجب أن يظهر الخلق على أنه "جواب" ضعيف وتفسير عاجز لوجودنا في هذه الحياة الدنيا، يفتح "الباب" لمزيد من "التساؤلات العلمية" التي يعجز أهل الدين عن جوابها!
فإذا قيل لمثل هذا أقصِر وأمسك، وانظر فيما تسأل وما تشترط من جواب، راح يتهم الوحي بالقصور، وعقول الأولين بالعجز والضعف، وما جاء به الوحي بأنه أساطير الأولين التي لا تسمن ولا تغني من جوع!
فليبق الجاحدون إذن في جوعهم ما مد الله لهم من العمر، وليأكلوا التراب إن شاءوا، فلن يمتلئ جوف أحدهم إلا به، والله المستعان لا رب سواه، ولا حول ولا قوة إلا بالله!