56 نظرات في التصوف الإلحادي
تربّع أبو الإلحاد على حصيره, مبحرا على زبد تفكيره, يراجع كتاب حياته, يقلّب صفحاته. فإذا بعضها ملطّخ بكل مستقذر, وأكثرها رتيب باهت مكرّر. توقف عند أيام الزهو واللهو, واجتهد أن يقتبس من ذكرى لذائذها ما يخفف أحزانه, فلم ينله منها إلا حسراتٌ تتردد في صدره, كما لا يجني الأكول من شرَهه إلا الجشاء وثقل الأعضاء. لم يجد في مسيرته موطنا يحنّ إليه سوى طفولته.
حالت أحواله واشتدت أهواله وتحقّقت كوابيسه, وامتلأ من النّكسات كيسه, ودهمته نكبات متتاليات, تغشاهن فتن ملتهبات, ذاب لهن عالمه كأنه قطعة ثلج, فيا له من بائس يائس مُفلس.
نظر حواليه فلم ير شيئا من متاع الدنيا, إلا حذاء باليا, وحقيبة ظهر, والثياب على عظامه, والحصير البلاستيكي من تحته. كانت الغرفة على السطح هذا الصيف كالأتون المستعر, كأن الشمس لا تشرق إلا لها وعليها.
قضى بعد استقالته من منصبه الشيمبانزي أياما باع فيها كل ما يملك: الأثاث والكتب والهاتف والتلفاز والحاسوب, واكترى هذه الزنزانة الضيقة المحرقة ليستر فيها حتى حين خيبته.
سرعان ما طلبت زوجه الطلاق, وأرسلت من يأتي بأغراضها. لما أراد أن يمحو ذاكرة الحاسوب ليبيعه, وجد ملفا بعنوان: رسائل الفرصة الأخيرة فقرأ فيه رسالتين: إحداهما وُضعت في قارورة على شاطئ البحر قضى بعدها أسابيع يحاول دون جدوى فك لغزها المحير! ثم وجد الثانية في علبة الرسائل. حصل ذلك قبل عام, ولم يدر في خلده هنيهة أنّ زوجه سميّة هي المرسلة, لقد استعانت قطعا بكاتب لعلها توقظه, لم ينتبه إلى محنتها معه, لم ير يدها ممدودة إليه. كان آخر بحث لها على الشبكة الإسلامية: ما حكم بقاء المسلمة مع زوج ملحد؟
يا لمصيبته كانت سمية أجمل شيء في حياته, لكن إلحاده سلبها منه كما سلب منه كل شيء جميل, كان المعتوه يدعوها نوال تيمنا بإحدى رائدات الزندقة الشرقيات. ويله كيف تجرأ أن يدعوها باسم عجوز شمطاء ملحدة؟ آه, إنه كان يخشى من الحمولة المعنوية لاسمها, وقد حصل ما كان يخشاه.
غشيته سحابة حزن سوداء مظلمة, نظر إلى سقف الغرفة وتساءل: أيقوى خيط الكهرباء على حمل جثته؟ لكنه مفلس لا يملك حبلا, حرك رأسه مستنكرا ما راوده, كلا كلا, إنه قانع من الحياة بما تهبه الحياة, ولو بقي له في بحر النكد ومحيط الشقاء قشّة لتشبت بها.
قام ينظر إلى الجدار فرأى نملة مسرعة, قال يحدث نفسه: يا ليتني فيها نملة, فإنّي حُمِّلتُ ما لا أطيق حمله, يا ليتني شعرة في ناصية حمار, ليتني مسمار مغروز في جدار, ليت التطور ما كان ولا كنت, ما لي ولهذه الأعاصير الوجودية؟ ليتني بقيت كائنا أحادي الخلية, ما لي وللوعي, ما لي وللحزن, ما لي وللفكر؟ ليتني ما أدركت قطّ معنى ليت وعسى ولعلّ.
تمتم: لا تجزع يا ابن المادة العاقّ, أولست تزعم أن المادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم! لا تجزع فالمادة إن منعت, فطالما أعطت, وإن امتحنت فطالما منحت, تأمل أيها الزميل في حالك, ولا تيأس من ليلك الحالك, فبعد حين يجيء النهار, وتسطع الأنوار. كرر هذه الجملة لأحد الزملاء رواد التنمية الذاتية عساه يطمئن قليلا, لكنه ما ازداد إلا قنوطا, يا ويله من تاجر كلام, لما أصبح مليونيرا مثله, فلربما وجدت طعم هذا الكلام!
حين باع جميع تراثه الأرضي, وحذف مدونته من العالم الافتراضي, ولم يبق له سوى ما يغطي عورته, وهم بمغادرة الشقة وجد شيئين قرر الاحتفاظ بهما: كتابا اشتراه قديما لعنوانه الطريف: (((هداية الملحد المتخوف إلى فضائل التصوف))). ومسبحة إلكترونية كانت زوجه تحتفظ بها بين أغراض زينتها.
اعتبر هذين الكنزين المنتناغمين هبة من الطبيعة, وإشارة منها لطيفة, فعكف على كتابه يطالعه في نهم, فولج ما يسميه صناديد الجرب والجذام بـعالم "الماورائيات", قرأ عن زهاد الملاحدة عبر التاريخ, وعن عالم التأمل, وعلم الطاقة, وطاقة الفكر, وعن وحدة الوجود, وعن الطاوية والبوذية, وعن اليوغا الهندية والتاي تشي الصينية, وصعد مع فصول الكتاب إلى الهيمالايا, ثم سبح في نهر الغانج, وجلس يقرأ عن بوذا ويتعجب من ضخامة كرشه, ويتساءل عن طول أحشائه, ثم ثنّى بالفصول التطبيقية, بعدما حفظ مدارج سلوك التصوف الإلحادي, و تشرّب مقامات العرفان المادي, فعقد العزم واستصحب الحزم ليقرن العلم بالعمل, فأناخ عند مشيخة صوفية الإلحاد راحلته, واستفتح بلفافة حشيش خلوته, وبدأ رحلة التأمل.
بدا كأنه بوذا نحيف برى الجوع عظمه وأذبل لحمه. أغمض عينيه ومكث ساعة حارسا على سره, لا ترِدُه فكرة إلا زجرها, ولا خطرة إلا هجرها, ولا سؤال إلا أعرض عنه, ولا اعتراض إلا انصرف عنه, حتى هدأت أمواج نفسه, وسكنت رياح رأسه, فغمره سكون لا ينغصه كسر ولا ضمّ, فاستبشر بسرعة هذا الفتح.
تخيل عينا جاحظة في جوفه, وجعلها بقوة بليون ميغا بيكسل, ليبصر بها ما نأى وغاب, فرأى نفسه يذوب ذوبان الملح في الماء, نظر إلى جثمانه وقد استحال بقعة تسيل على الأرض, تساءل إن كنت أنا المنظور هناك فمن الناظر؟ إن كنت أبصر بعد إغماض عيني فمن المبصر؟ تساءل: أهكذا حقيقة الموت؟ انتقال من طور إلى طور؟
صارت ذاته كينونة لطيفة لا يُدرى كنهها, تطير حيثما شاءت, نفذ من سقف الغرفة فوجد نفسه على قرص الشمس, طاف بها ولم يجد لها حرّا, ثم حط على القمر, فلم يجد عليه أثرا لبشر, طاف بين النجوم وأشرف على العالم المنظور بذراته ومجراته. فعل ذلك كله بلا جِرْم ولاجسم, ولا مادة ولا ذرة ولا إلكترون, طرد هذه الخواطر المتطفلة على خلوته, فلا حاجة له لشيء, لكن فكره أبى إلا أن يجول, قرر أن يطفئ الشمس ويطمس القمر والنجوم, تخيل ممحاة عظيمة تمر عليها فتحيلها أثرا بعد عين, فأظلم الكون أيما ظلام. أشرف على الأرض فألفاها بساطا ممتدا يتجارى فيه البشر. مقتهم واستكثرهم وتمنى زوالهم, نظر إليهم يذوبون ويتلاشون, فلم تبق إلا ذاته, تمتم: أليس هكذا أحسن؟ لا معنى الآن للضغائن والأحقاد, لم يبق عليها من يتحاسد, بقيت فردا فلا تحاسد ولا تنافس, ذهب الشركاء في البشرية فانتفت المشاركة. هاهي الأرض التي كنتم فيها تتنافسون بخيراتها, كلها تحت قدمي, فهل أسعد بها يا ترى؟ لم يجد لكل مُتع الأرض طعما, فزهد فيها فذابت كما ذاب أهلها, وذهبت أحجارها وأشجارها, واندكّت جبالها, حتى استوت صعيدا واحدا, فسقطت من عينه, وماذا عساه يفعل على صفحة مستوية ليس فيها معالم ولا ألوان.
تلاشت الأرض كما تلاشى كل شيء, وبقي أبو الإلحاد في كينونته العجيبة يطفو في الخواء كأنه ذرة من هباء. زالت المادة وما زال الفكر, زال كل شيء وبقي كل شيء, ذهب كل ما يستعمله الماديون لتفسير الوجود, فأعجزه إيجاد تفسير, إلا تفسيرا يحتاج بدوره لتفسير.
فني العالم من حوله ولم يفن العالم فيه. خيل إليه أن كينونته اللطيفة الحالمة المفكرة قد اختزلت الكون برمته, وأن الكون كله غدا شحنة مجهرية مركزة صُبّت في ذاته صبّا, وحلت فيه وبه اتحدت: حلول واتحاد, هذه عقيدة الإلحاد المحض.
اجتهد ثانية ليكنس من ذهنه ركام الفكر, لبث ساعة يمارس تمارين التنفس كما نقلها الكتاب عن شيخ شيوخ مشايخ اليوغا الذين نقلوها عبر القرون بالإسناد المنفصل فعاوده السكون, رأى الوجود فراغا لا شيء فيه, ورأى نفسه ينقلب دبّوسا صغيرا له رأس مدبّب, انغرز في بقعة ما من اللاشيء, اختمر في رأسه كل شيء, ثم انفجر فجأة صدفة, ونتج عن انفجاره العظيم طاقة هائلة فولد الكون من جديد, ودارت عجلة التطور طورا آخر, يا اللهول, عليه أن يوقف هذه العجلة البغيضة, لن يحصل من وجود الإنسان في هذا العالم إلا المآسي والطغيان, عاد بقوة التأمل إلى طوره اللطيف, وآثر أن يبقى وحيدا يطفو في عالم انطوى فيه بمجراته وأفلاكه. هذا هو العرفان المادي الحلولي إذن.
تفكّر: أنا الكون والكون أنا, ولستُ بالمُكَوِّن -بكسر الواو-, فمن تراه يكون؟ وُجِدتُ ههنا وما شهدتُ التكوين. تذكر أن مشيخة الإلحاد يفزعون عند هذه الأسئلة الوجودية العويصة إلى الفضائيين الخضر, إنهم "آلهة الفجوات الإلحادية" عند المتنورين, لكنه لم يفسح لهم المجال ليزاحموه في رحلة تأمله, فهو لا يأمنهم, ويتقزز من ضخامة رؤوسهم وبشاعة مناظرهم.
بدأ يقرأ أوراده وينتظر وارده, يكنس أفكاره ويتلو أذكاره, افتتح دعاء الصدفة:
يا أيتها الصدفة العمياء...
لك ندين وبك نستعين...
يامن لا نعرف لك مكانا فنأتيه...
ولا وجها فنقصده...
أزيلي عنا الغم وأفيضي علينا الحكمة...
نسألك العرفان والكشف...
والفيض والفتح...
ثم بدأ ينقر زر مسبحته الإلكترونية ذاكرا خاشعا متذللا يتلو ((( الحزب الكواركي الكبير))):
شين, شين, شين, شين...
يا شين, يا شين, يا شين...
لا شيء, لا شيء, لا شيء...
شيء, شيء, شيء, شي...
كل شيء, كل شيء...
كل شيء من لا شيء
كل شيء لا شيء
يا أيها اللاشيء ما أعظمك,
يا أيها اللاشيء ما أعلمك,
يا أيها اللاشيء ما أحكمك,
يا حساء الكوانتوم ذا السرّ المكتوم
فوتون, بروتون, إلكترون
يا كل شيء أنا لا شيء فعلمني كل شيء
يا أيتها المادة المظلمة علميني الحكمة
وانتشليني من هذا الثقب الأسود
غلوون جرافتون بوزون هيجز
بوزون, بوزون, بوزون,
كوارك, كوارك, كوراك...
لما بلغ من ابتهاله الكواركي ثلاثين ألفا ظهرت أمامه سحابة بيضاء, ورأى عليها أمّة من قردة المارموزيت تنظر إليه بأعينها الداكنة, فتح عينيه فرآها بالفعل تملأ فضاء الغرفة, فرك عينيه غير مصدّق, فبدأت كلها تفرك أعينها الصغيرة الجميلة, مد سبابته فحمل عليها أحدها, لم يدر صاحبنا هل هي مقدمات الكشف الصوفي الإلحادي, أم أنها إرهاصات الجنون, أم لعله الحشيش المغشوش أم أنه الجوع!
تدحرج على حصيره وأسلم نفسه للنوم بعد فنائه في المادة وفنائها فيه.
Bookmarks