النتائج 1 إلى 1 من 1

الموضوع: من سفسطة الملاحدة قولهم: العدم خير لنا من التكليف، والابتلاء من الظلم!

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2009
    المشاركات
    189
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي من سفسطة الملاحدة قولهم: العدم خير لنا من التكليف، والابتلاء من الظلم!

    الحمد لله وحده، المتنزه عن مماثلة المخلوقين، المترفع عن عبث العابثين وجهالة الجاهلين، المتفرد بالملك والجبروت وصفات الكمال وحده لا شريك له. والصلاة والسلام على المبعوث بالمحجة البيضاء الناصعة، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا من لا خلاق له!

    أما بعد، فإنه مما يحلو لبعض أهل الجحد والإلحاد أن يقذفوا به في وجوه المسلمين من حوض شبهاتهم الخبيثة وأمراضهم العقلية المستعصية، قولهم: ألم يكن العدم خيرا لنا من الوجود؟ لماذا نتكلف مشقة التكليف ولو لعشر سنوات فقط، بما فيها من مرض وأذى وبلاء، في سبيل أن يفوز الفائز منا بنعيم أبدي ويخسر الخاسر منا فيهلك الهلاك الأبدي؟ لو كان الخالق عادلا لاختار ألا يخلقنا أصلا ولأراحنا من ذلك، ولو كان عالما لعلم أن عدم الخلق أصالة خير من الخلق مع التكليف أو الخلق مع التسخير!
    وبداية أقول إن هذا ضرب من السفسطة لا يخفى! والسفسطة لا تناظَر ولا تجادَل ولا يصح فتح الحوار مع أصحابها! فليس هو من هدي السلف ولا من فقه العلماء والأئمة الكبار أن يفتحوا الباب للحوار مع جاحد معاند يأتي ليقول كلاما من مثل: "ألم يكن من الأفضل والأعدل ألا يخلقنا الله أصلا؟"! ذلك أن السفساط لا يقيم وزنا لما يخالف هواه وإن كان ذلك قاعدة من أرسخ قواعد العقل المجمع على صحتها بين العقلاء! فإن كان مخالفك لا يقبل الاحتكام إلى أصول العقل السوي وضرورياته، فبأي فقه تطمع في أن تصل معه إلى نتيجة في حوار أو نقاش؟ وإن كان من أصول الجدل تحرير مواضع الاتفاق قبل مواضع الاختلاف، فكيف بمن يخالفك فيما لا تُعقل المخالفة فيه أصلا؟ وكيف يرام إقناع مثل هذا بما لا يصح في الأذهان شيء لو احتجنا إلى التدليل عليه؟ هذا إنما حقه أن يحال إلى مصحة عقلية، لا أن يأتي إليه العلماء وطلبة العلم لينشغلوا عن شريف مقاصدهم وليقتطعوا من نفيس أوقاتهم طلبا لمحاورته في (شبهاته)، والله المستعان!

    لقد قال الأوائل في حدّ العقل إنه مجموع العلوم الضرورية التي لا يخلو منها عاقل مميز. تلك العلوم التي توصف عند الفلاسفة بأنها بدهية فطرية A-priori، كالقطع بأن الواحد نصف الاثنين مثلا، فمن جهل بمثل ذلك أو تجاهله أو ادعى أنه لا يقوم في منزلة اليقين والقطع عنده فهو سفساط ممروض في عقله، لا يستقيم لعاقل أن يجادله أو يرجو من محاورته خيرا! ولهذا كان كل من يدعي أنه لا يتيقن ولا يقطع بشيء على الإطلاق، كاذبا مماحكا لا مقام لسفسطته بين العقلاء! وأهون شيء أن يقال لمثل هذا إن كنت لا تدري أو لا تقطع بأنك عاقل، فلا حوار لنا مع سفيه!
    ومن تلك القطعيات العقلية أو العلوم الضرورية التي تنتفي عن المتنكر لها صفة العقل جملة واحدة، ويوصف كل منازع فيها بالسوفسطائية: تقرير أن المعدوم ليس بموجود، وليس ذاتا تُنسب لها صفات!

    فعندما يأتينا من يقول إننا لو كنا الآن معدومين غير موجودين لكان ذلك خيرا لنا وأعدل في حقنا من كوننا موجودين، فإن هذا السفساط لا يجاب إلا بالإحالة إلى طبيب! ذلك أننا لا نعقل العدم في حق ذواتنا الموجودة! فكيف يقال إن عدم ذواتنا خير لها – أو شر لها - من وجودها، والخير والشر لا ينسبان إلى معدوم أصلا؟ إن شئنا أن ننصب المقارنة بين موجود وموجود فهذا تستقيم به العقول ولا تمنعه! أما أن نعقد الكلام على ذات موجودة للحكم على "حالها" في العدم أو قبل أن توجد، فنقول إن العدم أفضل لها من الوجود أو الوجود أفضل لها من العدم، فهذا محض سفسطة وسخف! فإن أحكام العدل والظلم وأحكام الخير والشر وصفات الأحوال والأفعال لا تتعلق بالشيء إلا إن كان له وجود في الواقع، أما المعدوم فلا يتعلق به حكم ولا تنسب له صفة!

    ومن هنا كان قول القائل "إن في خلق الله لنا ظلما لنا" ومثله قوله "إن خلقه لنا خير من عدمه" مغالطة عقلية واضحة، لجعله الوجود وكأنه صفة اكتسبتها ذات حقيقية في العدم، فوقع عليها الظلم – أو العدل – بمجرد فعل الإيجاد فيها، فكأنه يقول: لو أن تلك الذات الحقيقية بقيت على ما كانت عليه في العدم قبل أن توجد لكان خيرا لها (أو شرا لها)! ولكن المعدوم ليس ذاتا حقيقة، ولا يجوز أن تنسب صفة لذات معدومة حتى تصح تلك المقارنة بين ما "كانت عليه" تلك الذات قبل أن توجد، وما صارت إليه بعدما وُجدت!!
    ولهذا نقول إنه ليس في مجرد إيجاد المخلوق المكلف أو المُسخَّر منَّة عليه من خالقه، وإنما المنة والعدل والخير والشر معان وأحكام تتعلق بما يكون من أمر الكائن المخلوق في حيز الوجود تحقيقا، فتطلق على ما يصنع الرب بذلك الكائن كمخلوق وعلى مآل ذلك المخلوق فيما يأتي بعدُ من أمره! أما قبل أن يُخلق المخلوق فلا ذات له ولا صفات ولا عدل يقع عليه ولا ظلم ولا شيء! فنقول لمن قال "لماذا خلقني الله ولم يتركني في العدم": أنت في العدم لست بشيء حتى تقول "يتركني في العدم"، وليست لك حال فيه أو صفة حتى تقارنها بحالك بعد خلق الله لك! لم تكن شيئا، ثم أراد الله أن يخلقك فخلقك، فليس هو بذلك متفضلا عليك بأن "نقلك" من صفة العدم إلى صفة الوجود، أو من حال الراحة إلى حال الشقاء! ولا توصف إرادته خلقك بأنها عدل لك أو ظلم لك، ولا بأنها خير أو شر لك! إنما هي إرادة معللة عنده بشيء في علمه وحكمته يخرج – بطبيعة موضوعه - عن علمنا وإحاطتنا معاشر المخلوقين، ولا يجوز لنا – بالعقل المجرد فضلا عن الشرع – أن نتطلع إلى الإحاطة به! هي أمر شاءه ففعله جل وعلا، ولو شاء ما فعل، ولو أنه شاء ألا يخلقك أصلا ما ظلمك بذلك ولا أحسن إليك!

    سبحانه لا يظلم مثقال ذرة، ((لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون)).

    ومن تلك السفسطة قولهم إن مطلق خلقنا في الدنيا ظلم من الخالق، لأننا نتعرض فيها لضرر لم نكتسبه بذنوب لنا، فلم يكن من العدل أن نعاقََب على ما لم نقترفه من الذنب! وهذا من السفسطة لأنهم أسسوه على إطلاق صفة العقوبة على مطلق الضرر الواقع بالإنسان أيا ما كان ذلك الضرر، فانتهى بهم ذلك إلى القول بأنه ظلم، لأن العقوبة بلا ذنب من الظلم. ونقول من الذي قال إن مطلق الضرر في الدنيا من العقوبة؟ وإذا كان بعضه من العقوبة فمن الذي قال إنه عقوبة بلا استحقاق؟ العقوبة مفهومها عند جميع العقلاء وفي سائر ألسنة البشر: إنزال الأذى على مستحق، إعمالا للعدل في الجزاء. فإذا ما نزل الأذى أو الضرر بمخلوق على هذا الوجه فإنه يكون حينئذ من العقوبة، ولا يظلم ربنا أحدا. أما ما ينزل من ضرر من عند الخالق جل وعلا بالمخلوق ولا يكون من قبيل الجزاء في الدنيا، فإنه لا يقال له "عقوبة بغير استحقاق"، أو غير ذلك من الألفاظ المرادفة التي تحوي الدلالة المعنوية على الجزاء! نعم يصح أن يقال إن كل عقوبة أذى، ولكن لا يصح أن يقال إن كل أذى عقوبة!! والإنسان قد يستعذب الأذى طلبا لغاية سامية يطمح إليها، ولا يرى في ذلك عقوبة له بوجه من الوجوه! فإن انتهى أمره إلى الفوز بما ضحى من أجله أول الأمر فإنه يرى في ذلك لذة وهناء ينسيه ما بذله ويعوضه عنه، بل إنه يجعله فخورا بموقفه منه وبصبره عليه، ولا يُتصور منه – عقلا - أن يقول إنه قد عوقب بما لم يستحق إذ تضرر بكذا وكذا، فإنما الأمور بخواتيمها ومآلاتها!!
    ولا يصح في العقل أن يقال إن كل أذى يقع على مخلوق ما على سبيل العقوبة فإنه ظلم! فإنه لو صح أن يكون مطلق نزول الأذى أو الضرر أو المساءة والمكرهة على المخلوق من الظلم، لكانت سائر العقوبات من الظلم، ولبطل مفهوم الجزاء والعقوبة رأسا، وهذا باطل واضح!
    إن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه. فإن قال قائل إن نزول الأذى أو الضرر أو المرض على المخلوق بغير ذنب استحق به ذلك = هو من الظلم، قلنا له كذبت، فأنت لا تدري هذا الأذى الذي نزل بذاك المخلوق على غير وجه العقوبة، على أي وجه كان نزوله؟ وتظن بلا أثارة من علم أو دليل أن العقوبة المستحقة هي الوجه الوحيد أو الموضع الوحيد الذي يصح به نزول الأذى والضرر من الخالق إلى المخلوق! وإذا نزل فلا تملك من العلم ما تقرر به هل هو من جنس العقوبة أصلا أم مما سواها، وإن كان مما سواها فمن أي شيء هو؟ أنت في ذلك جاهل محض لا علم لك، فبأي عقل تجترئ على إطلاق الحكم في قضية تخلف علمك عن تصورها؟

    لو كنتَ قاضيا وجاءك في المحكمة رجل يقول لك لقد ضربني فلان، فهل تجيز لنفسك أن تحكم على ضاربه بأنه ظلمه، فتحكم عليه بالعقوبة، دون أن تسمع من هذا الضارب ما عنده أو تراه، ودون أن تستكمل العلم بسائر القرائن والأدلة وشهادة الشاهدين؟ فمن الظالم إذن أيها العاقل إن أنت حكمت في هذا مع علمك بتخلفك عن العلم اللازم لتصحيح التصور وللخروج بالحكم العادل الصحيح؟ ولماذا تمنع نفسك من مثل هذا في الحكم على مخلوق مثلك وتستجيزه لنفسك في الحكم على خالقك تبارك وتعالى، رب السماوات والأرض؟ إذا كان قد تقرر لديك من قطعيات العقل والنقل أن خالقك عند حد الكمال في العلم – الذي هو شرط الحكم والتصور – وفي الحكمة – التي هي وضع الشيء في موضعه الصحيح – وفي العدل والإحسان والرحمة، ثم رأيت أنك تجهل سبب نزول هذا الضرر أو الأذى الدنيوي بهذا المخلوق أو ذاك، وخفي عليك وجه ذلك والحكمة منه ولم تره من العقوبات، فبأي حق وبأي سلطان تسمح لنفسك بالحكم بأنه ظلم وهضم وإنزال للشيء في غير محله، وأنت تدري أن ضرورة العقل وقطعيات النقل تمنع من وقوع الظلم من الرب المتفرد بصفات الكمال؟ إنه الهوى قاتله الله!

    لقد جاءنا الخبر من خالقنا معاشر الموحدين بأن ذاك الضرر القصير مهما طال، القليل مهما كثر، وذاك الأذى العاجل الذي هو جزء لا يتجزأ من حقيقة هذه الحياة الدنيا، إنما خلقه الخالق ابتلاء وامتحانا لنا، لنحقق معاني الصبر والتضحية وغيرها من مستعظم المعاني الشريفة في سائر لغات البشر، طلبا لغاية هي الأسمى عند خالقنا من خلقنا، تكون جائزة الفائزين بها نعيما أبديا يقول من يذوقه عند أول غمسة فيه "لا يا رب ما رأيت عذابا قط". فإذا ما علمنا بهذا، وجاءنا الخبر به بنقل لا مطعن فيه، من رسول ثابت الرسالة والنبوة، فإننا ينقضي الأمر عندنا – بالعقل المجرد – في مسألة الحكمة من خلق الشر والأذى والضرر في هذه الحياة الدنيا، إذ يتحقق لدينا بذلك ما كان ينقصنا من العلم القاطع للنزاع بشأنها، من المصدر الوحيد الذي يملك أن يبين لنا الحكمة من خلق كذا وخلق كذا، ألا وهو الخالق نفسه جل وعلا!

    فمن زعم أن علة "الابتلاء" في نزول الضرر والأذى الدنيوي بالمكلفين لا تدفع شبهة الظلم عن حالهم في الحياة الدنيا، فما حقيقة التكليف عنده وما معناه؟ وهل يُتصور تكليفٌ لا ابتلاء فيه ولا امتحان؟ وهل التكليف إلا بالابتلاء والامتحان؟ إنهم يشترطون على الخالق في تعسف لا يخفى، ألا يخلق خلقا إلا للنعيم المحض، بلا تكليف ولا امتحان ولا شيء! فإما هذا وإما يكون الخلق من الظلم ومن العقوبة بلا جريرة! فبأي عقل يُجعل مطلق التكليف من الظلم ومن العقوبة بلا ذنب؟ إنه عقل سوفسطائي خرب، يسوي بين أمور لا يحتاج بيان الاختلاف بينها لأكثر من البداهة وضروريات العقل السليم واللسان المستقيم! وهو عقل محمول على ذلك الخُلف بخبيئة الهوى في نفسه، إذ هو يدري ما يلزمه من الخضوع والتسليم والعبودية، إن هو أقر بحق الخالق في تكليفه وابتلائه في الحياة الدنيا، وبأن العدل والظلم إنما يُشترط للحكم بهما إحاطة العلم بالحال والمآل وبمقادير سائر الأفعال والأقوال، وهو ما لا يتحقق – بضرورة العقل - في أحد على وجه الكمال إلا في الخالق المتعال، تبارك وتعالى.

    فالحاصل أنه لا صلة لمشاعر السعادة والحزن بتنزيل تلك الأوصاف والأحكام أصلا! ونقول لهؤلاء المرضى، أرأيتم لو أن مجرما من القتلة المحترفين المفسدين في الأرض، بكى ونزلت من عينيه الدموع عند تنفيذ الحكم بإعدامه، وبكت أمه وامرأته وأولاده وراحت تصرخ لا تيتموا الأولاد لا تيتموا الأولاد.. أفيكون إعدام ذلك الرجل بما استحق وبما كسبت يداه ظلما له عندكم؟ أفيكون ظلما لامرأته وأولاده؟ إذن فاهدموا المحاكم وسرحوا القضاة واتركوا البلاد بلا قانون ولا شريعة، ولا تتباكوا بعدئذ من بطش المجرمين!

    فإن قيل لهم هذا قالوا: الظلم إذن أصيل في تركيبة الحياة الدنيا، لأن خالقها اضطرنا إلى أن يضيق بعضنا ببعض فيها لا محالة وأن يصيب بعضنا البعض بما يكره لا محالة! ونحن نقول لهم: نعم الله خلق الظلم في الدنيا كما خلق العدل، وابتلانا بدفع الناس بعضهم ببعض جميعا. فالذي يقول إن مطلق خلق الظلم في الأرض ظلم، هذا ما جوابه عن مطلق خلق العدل؟ إن قال كان يجب أن يكون الأمر كله في الأرض على ألا يظهر فيها إلا العدل من الخلائق وفيما بينهم بلا ظلم، فبأي عقل يُعرف العدل أصلا دون أن يوجد الظلم في الأرض؟ وإن قال كان يجب أن يخلق الله الأرض دار رفاهية ونعيم لكل ما فيها من المخلوقات لا بأس فيها ولا مكروه ولا ظلم ولا ضرر، فبأي حق يوجب هذه الصورة للحياة الدنيا على خالقها، وبأي علم عن غاية الخلق نفسه يتكلم؟ إنما ينطلق في ذلك من ذات الخلط الذي اتخذه قاعدة لنفسه في حد الظلم وتعريفه، يجعله مطلق الأذى الواقع على كل أحد وعلى كل وجه، ومطلق إصابته هو نفسه بما يكره وبما يخالف هواه أيا كان ذلك!
    فحقيقة المسألة أنهم يشترطون أن يجعلهم الخالق في ما يحبون جميعا، كل منهم يعيش في جنته التي يحلم بها ويهواها، فلا ألم ولا عمل ولا حزن ولا بلاء ولا شيء من ذلك.. هذا وإلا كان ظالما أو عاجزا ولا يستحق العبادة!! فأي عقل هذا الذي يملك أن يشترط شرطا كهذا على الذي خلقه وسواه؟ ليس هو العقل والله كلا! وإنما هو الهوى والكبر المحض!

    يقول قائلهم: إن العذاب الأخروي الذي تقولون إنه من العقوبة، ومن جنسه العذاب الدنيوي الذي يعاقب به المجرمون في الدنيا، هذا نراه يقع كثيرا على أناس نعلم أنهم لا يستحقونه، أليس هذا من الظلم؟؟ وجوابهم واضح جلي، ميسور على كل عاقل! وهو نفس ما أجبنا به آنفا! يقال لهم ما الظلم أصلا؟ إن كان الظلم عندك أن يصاب الإنسان بما يكره، بهذا الإطلاق، فلا يتصور أي معنى للعدل في الأرض أصلا ولا حقيقة له البتة! فإن القصاص من الظالم أمر يكرهه ذلك الظالم قطعا! والحكم على إنسان بترك شيء أخذه بغير حق، أمر يكرهه ذلك الإنسان لا محالة! وأكثر ما يكون من فض النزاع بين المتنازعين ما نراه يأتي على خلاف هوى أحدهما ويكون حكما عليه بما يكره وبما يحبه الخصم المنازع! فبأي عقل يقال إن مجرد كره هذا الإنسان لما نزل عليه من الحكم، دليل على بطلان ذلك الحكم وعلى أنه من الظلم لا من العدل؟ لا حقيقة للعدل أصلا إن كان هذا حده وتعريفه لديكم، لا في اللغة ولا في العقل! وحتى على التسليم بأن هذا البلاء من العقوبة (وليس كل البلاء كذلك ولابد)، فلا علم لديكم بالحكم على أن هذا الإنسان بعينه يستحق وهذا لا يستحق، وقد خفي عليكم تسعة أعشار حاله، ولا يعلم بخباياه إلا الذي خلقه!!
    ونظير تلك السفسطة قول وقفت عليه لبعض سفهائهم يقول: "إن كان الخالق كاملا، فلماذا يخلق الناس؟ إن كان يخلقهم لحاجه فهو ناقص، وإن كان لا يخلقهم لحاجة فهو عابث، والعبث منه نقص، فهو ناقص على أي حال"!!

    قلت هذه الحالة من الكبر والغرور المحض هي عين داء الملاحدة جميعا وأصل علتهم التي زينت لهم البقاء على ما هم فيه من خطل عقلي وسفسطة بينة! فيا أعداء أنفسكم من ذا الذي يجرؤ على أن يدعي أن الحاجة (كعلة للخلق والتكوين) لا قسيم لها إلا العبث؟؟ وبأي علم يدعي أحدكم لنفسه الحق في إقامة دعوى كهذه؟؟ ها نحن نرى فينا معاشر بني آدم كيف تتعدد أغراضا ومقاصدنا مما تعمله أيدينا، فبأي علم نحكم على شيء يصنعه أحدنا بأنه من العبث أو من اللهو الباطل؟ إنما نطلق نحن معاشر البشر ذلك الحكم فيما بيننا بناء على علمين:
    - علم تفصيلي بالغاية التي لأجلها صنع ذاك المصنوع،
    - وعلم دقيق بضوابط ومعايير الحكم الأخلاقي على تلك الغاية وعلى الوسيلة المفضية إليها.

    فإن تخلف أي من هذين الشرطين العلميين في نظرنا في شيء من المصنوعات أيا كان، لم يجز لنا الاجتراء على الحكم بأن هذا المصنوع من العبث، أو على أن به نقصا وأن أجزاءه لا تكفي لخدمة الغاية التي من أجلها صنع! هذان الشرطان، من عقلهما بروية وتجرد فإنه يظهر له بجلاء كيف أنه من الظلم البين أن ينطلق أحد الناس للحكم على صنعة من الصناعات بأنها لا قيمة لها أو أن فيها عيبا ونقصا وهو لا يدري لماذا صنعت، أو أن يحكم عليها بأنها لا أخلاقية أو عبثية أو في مجرد صنعها وإيجادها ظلم وفساد، وهو لا يقف على معيار علمي صحيح للحكم الأخلاقي عليها وعلى ما يناظرها!! وإلا فبأي عقل يُستحسن من جامع قمامة أمي لا يعرف قراءة عقارب الساعة، أن يحكم على دائرة كهربية في جهاز من أجهزة الكمبيوتر بأنها لا فائدة منها، أو بأنها يمكن الاستغناء عنها، أو بأن مجرد صنع هذا الصنف من الصناعات من العبث أصلا؟

    لهذا نقول – معاشر الموحدين – لكل جاحد من سفهاء الإلحاد كلما جاءنا يدعي أن في خلق السماوات والأرض نقصا لأنه يرى الكوارث والزلازل والمصائب من كل لون تجتاح الأرض ليل نهار: أنت جهول، ليس لك أن تسأل لماذا خلق الله كذا وكذا، ثم تدعي أن مجرد استيائك منه وشعورك بالألم والضيق بسببه دليل على أنه نقص في قدرة الخالق إن كان عن علم، أو تحكم بأنه من الظلم إن كان عن عمد!! كما أنه ليس لك أن تسأل لماذا اختار الله أن يخلق الخلق كله وهو مستغن عنه غير محتاج إليه!!
    كل عاقل منصف لا يملك إلا أن يتساءل بإزاء موقفكم هذا: إذا كان قد تقرر أن خالق الكون يجب أن يكون عند الغاية من الكمال – بضرورة العقل نفسه – في الحكمة والعلم، وكنا نعلم – بما أخبرنا به ذلك الخالق على رسله وأنبيائه – أن المطلوب منا في هذه الدنيا هو كذا وكذا، وأن العلم الحق بضوابط الحكم الأخلاقي الصحيح على سائر الصناعات جميعا إنما هو ما يأتي من ذلك الخالق وحده، لأنه صاحب الكمال في العلم والحكمة وهو أعلم بما خلق، ولا يضاهيه في ذلك أحد من خلقه، وهذا مشهود به بضرورة العقل ولابد، فبأي حجة من حجاج العقل السوي تجيزون أنتم لأنفسكم أن تطرحوا أمثال تلك الأسئلة السخيفة، وتقررون بكل وقاحة أن الخالق إن كان محتاجا للخلق فهو ناقص، وإن لم يكن محتاجا فهو عابث؟
    سبحان الله وتعالى عما تقولون علوا كبيرا!

    إن من التناقض المحض – الذي يحركه غرور وكبر منقطع النظير - أن ترى رجلا يقول في عقيدته: (أنا لا أدري)، ينسب نفسه إلى مذهب الواقفة في سائر الغيبيات حتى في ضروريات العقل نفسه وأولياته يقول لا يمكننا أن نعلم هل الخالق موجود أم لا، ثم إذا ما قيل له إن العلم بما رواء ما أخبرنا به ربنا من غاية لخلقنا وبما له سبحانه من غرض في ذلك ممتنع ويجب التوقف والتفويض فيه والانقطاع عن طلبه، تماما كالعلم بحقيقة ذاته وكنه صفاته والكيفية التي يفعل بها كذا وكذا، والعلم بالحكمة المفصلة التي من أجلها أنزل المطر هنا وأمسكه هناك، وضرب أولئك بزلزال أو إعصار وأنزل الخيرات لهؤلاء، واختار أن يخلق طفلا مريضا ودابة كسيحة وغير ذلك مما يشاء، قال لنا أنتم جهلاء تؤمنون إيمان العميان، ثم راح يتنطع ويشترط الإحاطة بذلك العلم حتى يتفضل على خالقه ويتنزل من علياء كبره وغروره ويقبل أن يؤمن بوجوده وبما له – سبحانه – من الحق عليه وعلى سائر العباد!!

    أتتعالون على الذي خلقكم يا سفهاء الأرض؟؟ أتستكبرون عن عبادة رب السماوات والأرض؟؟ في أي شيء تريدون الحوار والمناظرة وفي أي شيء تتمارون، وبأي علم جئتمونا قاتلكم الله؟؟
    إن الكبر والغرور إذا ما اجتمع بالجهل في قلب الإنسان فإنه لا يدع أمرا مهما كان باطلا ومهما كان من السفسطة البينة الواضحة إلا زينه لصاحبه نصرة لهواه! فمن كان هذا حاله فبأي عقل وبأي حكمة يناقش ويحاور، وعلى أي أساس من أسس العقل يقف معه من يحاوره وهو لا عقل له أصلا، ولا يرى في شيء من البدهيات أي ضرورة ملزمة أو قاعدة ثابتة؟

    إن السفساط لا يحاوَر ولا سبيل لمناقشته، وإنما يجعله العقلاء فاكهة مجالسهم، يسفهونه بما هو أهله! فأربعوا على أنفسكم معاشر الموحدين، واشتغلوا بما ترجى من ورائه الثمرة ويراد منه الخير، والله من وراء القصد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
    التعديل الأخير تم 03-17-2011 الساعة 10:43 AM

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. بطلان قولهم لماذا لم يخير الله الإنسان بين البقاء أو العودة إلى العدم؟
    بواسطة حمادة في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 09-15-2013, 12:15 AM
  2. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 12-30-2012, 03:02 PM
  3. سؤال: كيف يرد الملاحدة على هذا السؤال ؟من أنشا ذرات الكون من العدم
    بواسطة إسحاق في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 03-15-2011, 11:54 PM
  4. كشف شبهات الملاحدة : قولهم بـ ( نسبية الحقيقة )
    بواسطة سليمان الخراشي في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 10-13-2005, 10:10 PM
  5. كشف شبهات الملاحدة : قولهم بـ ( نسبية الحقيقة )
    بواسطة سليمان الخراشي في المنتدى سليمان الخراشى
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 10-01-2005, 08:27 PM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء