بقلم : د زغلول النجار - التاريخ : 2005-12-05


ومتوسط ما يتصاعد من بخار الماء في كل ثورة وصل العلماء إلي نفس كمية الماء المتجمعة علي سطح الأرض وفي صخور ورسوبيات قشرتها‏ ,‏ وفي الغلاف الغازي المحيط بها ‏(‏أي حوالي‏1.400‏ مليون كيلو متر مكعب‏) ‏، وبذلك ثبت أن كل ماء الأرض قد أخرجه ربنا تبارك وتعالى أصلا من داخل الأرض وفي ذلك قال عز من قائل: " وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا . أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا " (‏النازعات‏:31-30 ).
وتحدث القرآن الكريم عن دورة الماء حول الأرض في آيات أخرى عديدة‏ .‏ ولكن نسبة الماء إلى الأرض في الآية الرابعة والأربعين من سورة هود فيه تأكيد على حقيقة إخراج كل ماء الأرض من داخلها‏ ,‏ وهو سبق قرآني واضح حيث لم تتوصل العلوم المكتسبة إلى معرفة ذلك إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين‏ ,‏ وهو كذلك تأكيد على اشتراك عيون الأرض المتفجرة في إحداث طوفان نوح عليه السلام وهو ما يؤكده القرآن الكريم بقول ربنا تبارك وتعالى ‏:‏" كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ . فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ . فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ . وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى المَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ . وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ . تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ . وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ . فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ . وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ "‏(‏القمر‏:9‏-‏17).

ثانيا‏ :‏ في قوله تعالى ‏:
" وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي "(‏هود‏:44)‏ .
يؤكد هذا النص القرآني الكريم كما يؤكد المقطع السابق عليه من نفس الآية رقم‏ (44)‏ من سورة هود أن طوفان نوح عليه السلام كان بالماء العذب ‏,‏ تمييزا له عن العديد من صور الطغيان البحري الذي تعرضت له الأرض عبر تاريخها الطويل ‏.‏ وعلى الرغم من ذلك يأتي اثنان من علماء فيزياء الأرض الأمريكيين في سنة ‏1998‏ م وهما وليام ريان‏ ,‏ والتربتمان ليجزما بأن الطوفان كان بماء البحر ‏,‏ وذلك في كتابهما المعنون طوفان نوح‏ :‏ الاكتشافات العلمية الجديدة عن الحدث الذي غير مجري التاريخ ويؤكد هذان العالمان أن ما وصفاه من طوفان بحري فوق بحيرة من الماء العذب كان حدثا طبيعيا لا علاقة له بما جاء من أخبار قوم نوح عليه السلام
‏William Ryan , Walter Pitman (1998): Noahs Flood The New Scientific Discoveries About Changed History the Event that Simon Schuster, NewYork, Ny10020, PP.1-.3197‏
وفي هذا المؤلف يذكر الكاتبان أن هذا الحدث قد تم قبل‏ 7600‏ سنة حين أدى ارتفاع منسوب الماء في البحار والمحيطات إلى اندفاع هذا الماء المالح من البحر الأبيض المتوسط عبر وادي البوسفور ليدمر كل شيء مر به ‏,‏ ويؤدي إلى عدد من الهجرات البشرية الكبيرة‏ .‏


ولكن الاكتشاف لسفينة نوح عليه السلام في أعلى قمة جبل الجودي مطمورة وسط سُمْكٍ هائل من رسوبيات الماء العذب التي تمتد من جنوب تركيا إلى رأس الخليج العربي ‏,‏ مرورا بالمساحة الهائلة من أرض ما بين النهرين ‏(‏دجلة والفرات‏) ,‏ ينفي مزاعم الكاتبين الأمريكيين نفيا قاطعا ‏,‏ ويؤكد حقيقة أن الطوفان كان بالماء العذب الذي هطلتبه الأمطار الشديدة‏ ,‏ وتفجرت به عيون الأرض كما وصفت آيات القرآن الكريم من قبل ألف وأربعمائة سنة‏.‏

ثالثا‏ :‏ في قوله تعالى‏:
" وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ ‏" (‏هود‏:44)‏ .
في اللغة العربية ‏(‏غاض‏)‏ الماء أي ‏:‏ قل ونضب‏ ,‏ و‏(‏انغاض‏)‏ الماء مثله‏ ,‏ و ‏"‏ وَغِيضَ المَاءُ ‏" أي‏:‏ فعل به ذلك بمعني ‏(‏ غاضه‏)‏ أو ‏(‏ أغاضه‏)‏ الله تعالى و ‏(‏الغيضة‏)‏ هي الأجمة بمعنى مفيض ماء يجتمع فينبت فيه الشجر ‏,‏ والجمع‏(‏ غياض‏)‏ و‏ (‏أغياض‏) .‏ وفي هذا النص القرآني إشارة واضحة إلي انحسار الماء عن اليابسة بابتلاع الأرض لجزء منه ولفيض الباقي إلي البحار والمحيطات وإلي غيرها من منخفضات الأرض‏ ,‏ بينما يذكر سفر التكوين ما نصه‏ :‏ وأجاز الله ريحا علي الأرض فهدأت المياه‏ ..‏ ولست أدري ما علاقة الريح بانحسار الماء عن الأرض‏!!‏ وهنا يثار سؤال هام مؤداه ‏:‏ هل عم طوفان نوح جميع الكرة الأرضية ‏,‏ أم كان محدودا بالمنطقة التي سكنها قوم نوح؟ وهذه المنطقة يجمع الأثريون والمؤرخون على كونها المنطقة الممتدة من جبال جنوب تركيا إلى ما بين نهري دجلة والفرات والسهول المنبسطة من حولهما‏ .‏ وهذا السؤال لم يحسم بعد وإن كان اليهود يؤمنون بعالمية الطوفان ‏(‏سفر التكوين‏18‏ ‏24) ,‏ والمنطق ينادي بمحدوديته بأرض قوم نوح حيث كان استقرار جميع بني آدم‏ ,‏ ثم تفرق أبناء الناجين من الطوفان بعد ذلك إلي مختلف مناطق الأرض ‏.‏ وطوفان نوح من معجزات هذا النبي‏,‏ والأصل في المعجزات أنها لا تعلل لأنها خوارق للسنن‏ ,‏ والذي يخرق السنن لا تستطيع السنن تفسيره‏ .‏ ومن هنا كان التوقف عند حدود ما جاء في كتاب الله تعالى واجبا علي المؤمنين من العباد‏,‏ دون الخوض في التفاصيل التي لا طائل من ورائها‏,‏ وذلك من مثل ما جاء في سفر التكوين‏ (‏الإصحاح السادس إلى التاسع‏)‏ وفي السابع من هذا السفر جاء ما قراءته‏ :‏ وكان الطوفان أربعين يوما علي الأرض ‏,‏ وتكاثرت المياه ورفعت الفلك فارتفع عن الأرض‏.‏ وتعاظمت المياه وتكاثرت جدا علي الأرض‏.‏ فكان الفلك يسير على وجه المياه‏,‏ وتعاظمت المياه كثيرا جدا على الأرض ‏.‏ فتغطت جميع الجبال الشامخة التي تحت كل السماء‏ .‏ خمس عشرة ذراعا في الارتفاع تعاظمت المياه ،‏ فتغطت الجبال ‏. وأنا أعجب كيف أمكن لخمس عشرة ذراعا من الماء أن تغطي جميع الجبال الشامخة‏!!‏؟ أما ما جاء في النص القرآني الذي نحن بصدده فيوحي بابتلاع الأرض لجزء من مياه الطوفان ‏,‏ وتسرب الباقي إلى منخفضات الأرض بعد أن حقق الطوفان الغاية منه وهي القضاء على كفار ومشركي قوم نوح ولذلك قال تعالي ‏: " وَقُضِيَ الأَمْرُ " ‏(‏هود‏:44)‏ .

رابعا‏ :‏ في قوله تعالى‏:
"‏ وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيِّ " (‏هود‏:44)‏ .
في هذا النص القرآني الكريم تأكيد على أن سفينة نوح عليه السلام استقرت على جبل اسمه الجودي ‏,‏ وهذا الجبل يقع في جنوب شرقي تركيا إلى الشمال الشرقي من جزيرة ابن عمر ‏(‏على ضفاف نهر دجلة‏)‏ بالقرب من الحدود التركية العراقية السورية وإلى الشمال من مدينة الموصل‏ .‏ وقد أثبتت الدراسات الأثرية من مثل دراسات كل من مارتين روي ‏(Martin Wroe)‏ في سنة ‏1994‏م ‏,‏ وتشارلس ويلليس‏ (Charles Willis)‏ في سنة‏ 1980‏م وجون مونتوجمري ‏(John Warwick Montgomery)‏ في السبعينيات من القرن العشرين أن بقايا السفينة موجودة فعلا فوق جبل الجودي‏
(Mount Cudior Judi Dagh)‏ على بعد ‏250‏ ميلا إلى الجنوب الغربي من جبل أراراط‏ ,‏ وذلك بعد اكتشاف الموقع بواسطة أحد رعاة الغنم من الأكراد في منتصف شهر مايو من سنة ‏1948‏م‏ .‏ وجبل الجودي يمثل واحدة من أعلى القمم في سلسلة جبال جنوب تركيا إذ يزيد ارتفاعه على سبعة آلاف قدم ‏(‏ أي حوالي:‏2300‏م‏)‏ فوق مستوى سطح البحر‏ .‏ وفي منتصف شهر مايو من سنة ‏1948‏م اكتشف أحد رعاة الغنم من الأكراد واسمه رشيد سرحان ‏(Reshit Sarihan)‏ سفينة نوح عليه السلام وبقايا من أخشابها مطمورة في رسوبيات مياه عذبة‏ في قمة جبل الجودي‏ .‏ وتتابعت دراسات الموقع بعد ذلك في السنوات ‏1953‏م , ‏1959‏م ‏, 1980‏م ‏, 1987‏م ‏, 1994‏م وإلى يومنا هذا ‏.‏ كذلك وجد سُمْكٌ هائل من رسوبيات المياه العذبة في سهول ما بين النهرين‏ (‏ دجلة والفرات‏)‏ والتي كانت مهدا لعدد من الحضارات القديمة التي تم اكتشاف بعضها‏.‏ ومن المرجح أن تكون هذه الرسوبيات من بقايا الطوفان لانتشارها الأفقي على مساحات شاسعة من الأرض .‏ ولسُمْكِها الذي يزيد علي عشرة أقدام ‏,‏ ولعمرها الذي يمتد بين سبعة آلاف وثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد‏ .‏ ولطمرها للعديد من القرى القديمة التي استمر التنقيب عنها في الفترة من ‏1922‏م إلى‏ 1934م‏ , وتتابع متقطعا بعد ذلك إلى اليوم ‏.‏ وقد تأكدت هذه الاستنتاجات بدراسة الرسوبيات المتجمعة في أحد كهوف شمال العراق والمعروف باسم كهف شانيدار العظيم‏(The Great Shanidar Cave)‏ ويرجع عمر الرسوبيات فيه إلى حوالي مائة ألف سنة مضت ‏,‏ وتحوي رسوبياته عددا من البقايا الإنسية .

وقام بدراسته دكتور رالف سولسكي ‏(Ralph S.Solecki)‏ من معهد سمسثو نيان بالولايات المتحدة‏ .‏ وتأكدت هذه الاستنتاجات كذلك بتحديد العمر المطلق للأجزاء الخشبية المتبقية من السفينة بواسطة الكربون المشع في حدود‏ 4500‏ سنة قبل الميلاد كما أعلن مارتين روي‏(Martin Wroe)‏ بجريدة الأوبزرفر اللندنية بتاريخ ‏16‏ يناير سنة ‏1994‏م ‏.‏ هذا مع أن الإصحاح الثامن من سفر التكوين يذكر ما يلي ‏:‏ واستقر الفلك في الشهر السابع في اليوم السابع عشر من الشهر على جبل أراراط‏ وكانت المياه تنقص نقصا متواليا إلى الشهر العاشر‏ ، وفي العاشر في أول الشهر ظهرت رءوس الجبال ‏.‏ وهذا على الرغم من أن العديد من الروايات التاريخية القديمة التي تم اكتشافها مؤخرا تشير إلى رُسُوِّ سفينة نوح عليه السلام فوق جبل الجودي‏ ,‏ وذلك من مثل كتابات بيراسوس ‏(Berasus)‏ من كهان الحضارة البابلية‏ .‏ وأبيدنوس ‏(Abydenus)‏ من تلامذة سقراط ‏,‏ ومن رموز الحضارة اليونانية القديمة‏.‏ وعلى الرغم من ذلك ظلت محاولات الغربيين مستميتة في إثبات رُسُوِّ سفينة نوح على جبل أراراط دفاعا عما جاء في عهدهم القديم‏ .‏ وظل الحال كذلك حتى أعلنت مجموعة من العلماء الروس في يوم الجمعة الموافق 25/3/2005م في مؤتمر صحفي نقلته وكالة إنترفاكس للأنباء ‏(The Interfax News Agency)‏ أنه لا توجد أية آثار لسفينة نوح على جبال أراراط‏ .‏ وأن جميع العينات التي درست تؤكد ذلك‏ .‏ كما أكدته دراسات فادين تشيرنوبورف ‏(Vadin Chernoborv)‏ مدير مركز كوزمو بويسك للأبحاث العلمية ‏(Cosmopoisk Scientific Research Center)‏ الذي أوفد مجموعة العلماء هذه للقيام بتلك الدراسة‏ ,‏ وقاد المؤتمر الصحفي المشار إليه قائلا‏ :‏ بعد الثورة البركانية التي وقعت في جبل أراراط سنة ‏1840‏م فإن كل شيء في هذا الجبل قد تمزق بما في ذلك الكتل النباتية المتحجرة‏ (‏ والتي ظنها نفر من السابقين خطأ على أنها قد تكون من بقايا سفينة نوح ‏,‏ ومن هنا فلا يمكن القول بأية إمكانية لوجود بقايا محفوظة لتلك السفينة فوق جبال أراراط‏ .‏ وقد قامت هذه المجموعة العلمية بدراسة جبل أراراط في خريف سنة ‏2004‏م وعادت بالكثير من أشرطة الفيديو والعينات الصخرية ‏(‏من مثل النباتات المتحجرة‏ ,‏ وكتل الصخور التي شكلتها عوامل التعرية علي هيئة مصنعة أو شبه مصنعة‏)‏ وأثبتت دراسة ذلك أنها من فعل النشاط البركاني‏ ,‏ ولا علاقة لها بسفينة نبي الله نوح عليه السلام التي ثبت وجودها في جبل الجودي‏ .‏

خامسا‏ :‏ في قوله تعالى:
"‏ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ "‏ (‏هود‏:44)‏ .
هذا النص القرآني يوحي بأنه بالقضاء على كفار ومشركي قوم نوح فإن الله تعالى قد عافى البشرية من أشر شرار بني آدم الذين لو قدرت لهم النجاة لأفسدوا في الأرض إفسادا عظيما يفوق ما فيها اليوم من فساد أضعافا كثيرة‏ ,‏ وتبعتهم في هذا الإفساد ذراريهم‏ ,‏ ولذلك اجتث الله سبحانه وتعالي شأفتهم بالطوفان لعلمه بهم وبما يحملون في أصلابهم من ذراري‏ ,‏ ولذلك قال موجها الخطاب إليهم :‏ " وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ "‏ (‏هود‏:44)‏ ‏، وذلك لأن شطرا من مخزون الوراثة الذي كان في صلب أبينا آدم عليه السلام قد هلك في الطوفان وقوانين الوراثة تؤكد ذلك وتقف من ورائه ‏.‏ هذه الحقائق مجتمعة ومتفرقة لم تكن معروفة للناس في زمن الوحي‏ ,‏ ولا لقرون متطاولة من بعده ‏,‏ وورودها في كتاب أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة على نبي أمي‏ ,‏ وفي أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين لما يثبت لكل ذي بصيرة أن هذا الكتاب لا يمكن أن يكون صناعة بشرية ‏,‏ بل هو كلام الله الخالق‏ ,‏ الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله‏ ,‏ وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه‏ (اللغة العربية‏)‏ على مدى أربعة عشر قرنا أو يزيد ‏,‏ حتى يبقى شاهدا على الناس جميعا إلى قيام الساعة ‏.‏
فالحمد لله على نعمة الإسلام العظيم ‏,‏ والحمد لله على نعمة القرآن الكريم ‏,‏ والحمد لله على بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين‏ ,‏ وسيد الخلق أجمعين ‏,‏ سيدنا محمد النبي الأمين ‏,‏ فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ‏,‏ ودعا بدعوته إلى يوم الدين‏ ,‏ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏ .