صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12
النتائج 16 إلى 18 من 18

الموضوع: عرض كتــاب ... (لن تلحـــد).

  1. افتراضي

    المنطق ثابت ، لا يتغير

    قالوا : إن العلم القديم - الذي عاش في ظله منطق أرسطو :-
    يتكلم عن كيفيات الأشياء ، دون كمياتها .
    فهو – مثلًا - يعتبر أن الحرارة ضد البرودة ، لأنه نظر إلى كيفيتهما دون كميتهما ..
    وقال العلم الحديث - ليس هناك بارد وحار ، وإنما هناك درجات من الحرارة تختلف .. ومن هذا الاختلاف تختلف الحرارة والبرودة .. وبقدر كمية هذه الدرجات تكون الحرارة .

    وقال أبو عبد الرحمن : لم يتغير منطق أرسطو لناحيتين :
    أولاهما : أن الاختلاف الكمي لدرجة الحرارة نتج عنه اختلاف في الكيفية ، ويجب أن يكون للكيفية عبارة تدل عليها كلفظ البارد مثلًا .
    وأخراهما : أن قانون التضاد يضبط الكيفيات كما يضبط الكميات ..
    وقالوا : إن العلم القديم : لا يهتم باستكناه العلاقات بين الأشياء وإنما يعتبرها أمورًا عرضية .. والمنطق الأرسطي تبعًا لذلك ، يعتبر العلاقات أمورًا خارجة عن المحتوى .
    أما العلم الحديث فيعتبر العلاقات أخص خصائص البحث العلمي ، لأنها تربط بين المتغيرات .

    وقال أبو عبد الرحمن : لم يتغير منطق أرسطو وإنما تعثر وضاق لناحيتين :
    أولاهما : أن التأصيل الأرسطي للعلاقات في المحتويات : تأصيل صحيح - ولكن الخطأ في التنفيذ والتطبيق بسبب قصور العلم آنذاك .
    وثانيهما : أن استكناه العلم الحديث لحقيقة العلاقات يعطي تربة خصبة للمنطق الأرسطي ، فيجني عددًا كثيرًا من الأمثلة التطبيقية .
    فيكون المثال حقيقيًا بدل أن يكون فرضيًا .

    ومن هذين المثالين : عن الاختلاف الشديد بين العلم القديم والحديث - قال بعض المعاصرين :
    أن العلم القديم مليء بالأوهام والفروض والتصورات الخاطئة ، وأن المنطق الأرسطي يساير ذلك العلم ، فيجب علينا أن نصطنع المنطق التجريبي الحديث ، لامنطق أرسطو التصوري ، لأن المنطق الحديث ابن للعلم الحديث .

    وقال أبو عبد الرحمن محمد :
    كلا إن المنطق الأرسطي ثابت لا يتغير ، وقواعده الصلبة لاقتناص المعرفة وإقامة الحجة لا تزال نبراسًا هاديًا في ميدان المعرفة والعلم .
    وقد رام أناس الخروج على قوانينه الثلاثة : الهوية - والثالث المرفوع - والتناقض ، وكانوا من الحسبانيين ، والحسبانية ضرب من السفسطة إلا أن تكون منهجًا لا غاية .. وإنما نذكر أشياء يعذر بها منطق أرسطو ولايهجر .
    فمن ذلك أن الناس مختلفون في نظرية المعرفة ( الأبستمولوجيا ) إلا أن أرسطو وضع منطقًا لكل نظرية وكل أصحاب النظريات في المعرفة : يأخذون منطق أرسطو الجزئي ولا يستغنون عنه ، فهذا معنى ثبات منطق أرسطو ..
    ومنها : أن البرجماتيين وغيرهم يعتبرون كليات أرسطو التجريدية مجرد فروض . ولكنهم لم يستطيعوا بعد أن يزيفوا كلية من كلياته في ميدان الخبرة والتجربة . فهذا معنى آخر للثبات .
    ومنها : أن أرسطو يستمد أمثلته من علم عصره الناقص ، وتكون أمثلته من باب الفرض ، والعلم الحديث يجيز فرض الأمثلة لأن المثال شارح ولا يلزم من بطلان المثال بطلان القضية .
    ومنها : أن تقدم العلم الحديث يساعد على صياغة المنطق الأرسطي صياغة أمتن وهذا شيء غير الثبات .
    ومنها : أن منطق أرسطو لم يأخذ في حسبانه أن الشرائع السماوية مصدر من مصادر أي معرفة .
    والمسلم يأخذ منطقه من حقيقة الشرع أولًا ويجد في منطق أرسطو أداة لاجتهاده مساعدة غير معاندة .
    ومن الله نستمد العون ونستلهم الرشد ،،



    ***
    اللجنة العلمية بمنتدى التوحيد

  2. افتراضي

    الفكر المعتزلي


    لا يزال شعور العامة الإيمان الشديد بعدم جدوى الفلسفة ، مسوغين ذلك الزعم الخاطئ بأنه مر عليها كأثر علمي قرون كثيرة وهي مجرد أفكار والزامات وانعكاسات جدلية تلوب بالأذهان ولا تتلامس مع الواقع ولم تظفر الفلسفة بما يشبه التأييد الشعبي بل كانت عرضة للطعن، وفلاسفة المسلمين الذين دخلوها من أوسع أبوابها تمنوا إيمانًا كإيمان العجائز كما أثر عن الجويني والرازي . فإذا كان رأيي أن في الفلسفة خيرًا كثيرًا وكنت شديد الإيمان بجدواها فإنما أصطدم بشعور شعبي بيد أن هذا لا يهمني إذا كانت براهيني على جدوى الفلسفة ضرورية فأول ما استند عليه في هذه الدعوى أن الفلسفة الحديثة دفعت بأوربا إلى حياة علمية عملية فالمذهب التجريبي فتق آفاقًا بعيدة في مضمار الاختراعات والمصنوعات والطب والتشريح والاتجاهات العقلية محصت الكثير من الخرافات في الآداب والتصورات ومرويات التاريخ وأن للمنهاج الديكارتي يدًا بيضاء في التآليف العلمية المعاصرة التي اتسمت بطابع التجرد والاستفاضة في البحث والارتباط بالموضوع والترتيب والتنسيق والأصالة الفكرية وما الفنون النظرية الجديدة والتنظيمات الإدارية والإقتصادية التي تعيشها الدول الراقية اليوم إلا نتاج فكر فلسفي عتيد والبرهان الضروري الآخر الذي اعتمد عليه على أهمية الفلسفة أن الذين حملوا عليها قديمًا وحديثًا لم يقفوا على ثنتيهم إلا بتقعيدات فلسفية فالتفلسف أمر لا بد منه ، قال أرسطو حسبما نقل عنه المترجمون «إذا لزم التفلسف وجب أن نتفلسف ، وإذا لم يلزم التفلسف وجب أيضًا أن نتفلسف حتى نثبت عدم لزوم التفلسف» .

    ولقد كان أبو محمد على بن حزم شديد الإيمان بجدوى المنطق وأنه يعصم الذهن في تلقي الحقائق من الخطأ ولكنه جعل للسمعيات الصدارة وغير أبي محمد ممن هو في مثل عبقريته كابن تيمية كان سيء الظن بالفلسفة والمنطق معًا ، بيد أنه كان يرد بالمنطق على المنطق وبالفلسفة على الفلسفة أفلا يكونان عنده كحب الشعير مأكول ومذموم ؟ إننا لكي ندفع عن تقي الدين بن تيمية هذه الدعوى لا بد أن نفهم غرضه من ذم الفلسفة والمنطق رغم استفادته منهما واليكم ما أفهمه .

    أفهم أن من موضوعات الفلسفة ما يسمونه بالإلهيات أو علم «ما وراء الطبيعة» أو «المتافيزيقا» كما يصطلح عليه المتأخرون ، وكانت أهم ما شغل الفكر البشري وكانت موضوع علم الكلام الإسلامي الذي أثاره المعتزلة وكانت محل سخط أئمة المسلمين وكان الجدل فيها عقيمًا ولن يزال عقيمًا إلا بالمنهج الذي سنوضحه فيما بعد ولهذا فموضوع الميتافيزيقا وحده من مواد الفلسفة هو الذي نرى خطورة فلسفته ولا نقول عدم جدواها فحسب ، لأن التقنينات المنطقية تعتمد - قديمًا وحديثًا - على ادراكات حسية وعقلية ينبثق منها مدركات تجريبية وقياسية وحيث إن هذه الماورائيات غير محسوسة وغير خاضعة لمعمل التجربة وغير داخلة في قياس شمولي أو تمثيلي ، فلا بد من ثلاثة أمور لا رابع لها ألبته :
    إما إيمان يملأ القلب بتلك الماورائيات لا تجر إليه دالة من الحس وإما الإدعاء الكاذب بمعارف حدسية وإلهامات إيحائية تدل على ما بعد الطبيعة وإما إلحاد يقذف بها في حظيرة الخرافات ويتحقق الأمر الأول بإبعاد الفلسفة عن هذه الغيبيات ويتحقق الأمران الآخران بإخضاع الغيبيات لتمنطقات الفلاسفة واقطع قطعًا باتًا بأن الفلسفة من الحسنات حتى عند ابن تيمية لو أن الفلاسفة المسلمين بلغوا النضج في الطبيعيات المحسوسة من الأجسام العنصرية وما يتكون منها من المعدن والنبات والحيوان والأجسام الفلكية والحركات الطبيعية التي كانت قوام الحياة العلمية الآلية في مخترعات أوربا اليوم أو لو أن الفلاسفة المسلمين بلغوا النضج في فلسفة الأمور العلمية وهي علوم الهندسة والمقادير والأعداد والأبعاد والموسيقى وعلوم الهيئة ، فكل ذلك قوام الحضارة المادية في الغرب اليوم ، ولكن غالبيتهم وقفوا نشاطهم الفكري في فلسفة الروحانيات والإلهيات واستكناهها ، وهي أمور غيبية غير محدودة ، أما الفكر البشري فمحدود بزمانه ومكانه ، والمحدود لا يدرك اللامحدود فكان أن تبدد الفكر البشري وتاه خارج إطاره وناداه دعاة الاصلاح لأن يعمل داخل الإطار فهذا ما نفهمه من إنكار الفلسفة وإلى هذا أظن أنني عبرت عن وجهة نظري في الفلسفة على العموم وفي الفلسفة الحديثة بوجه خاص وأعود مرة ثانية فأقول :
    إن الفلسفة الحديثة فكر حيوي عتيد هيأ من أوربا نشأ متوثبًا متحفزًا ، وحققت لها فتحًا ماديًا مبينًا ولا أستثنى منه إلا الفكر الميتافيزيقي الذي جعل أوربا تفقد إلهها وتتذبذب بين آلهة عديدة لم يجد شبابها الراحة في الإلحاد ، فإذا تلمسنا الفكر المعتزلي في الفلسفة الحديثة فإنما نهدف إلى ثلاثة أمور :

    الأمر الأول : أن المغرمين بالفكر الأوربي المعاصر يحسبونه شيئًا جديدًا لدى المسلمين يدعون إلى الاستعاضة به عن كثير من التصورات الإسلامية باسم التجديد ، فالتماس سابقة المعتزلة إلى الكثير من النظريات الغربية مع لفت الانتباه إلى أن أئمة الإسلام ناقشوها وزيفوا منها ما يستحق التزييف ببيان قوي ومنطق منظم لا يبقى مثارًا للشك يعني أن اطراحها من جانب المسلمين كان عن قناعة لا عن جهل لأنهم بذلك النقاش بأسلوب جدلي مفحم كانوا عباقرة الفكر وعمالقته .

    والأمر الثاني : أن حسنات الفكر الغربي الحديث في منهج البحث وفي الواقع العملي في الطبيعيات والنظريات العلمية ارتادها لهم الفلاسفة المسلمون يوم كانت تسود الغرب خرافة وأنانية ونفاق القسس والبابوات .

    والأمر الثالث : أن كثيرين من الفلاسفة يهزأون بالمعتزلة ولا يعتبرونهم أصحاب فلسفة حقيقية ، لأنها لم ترد بأسلوب علمي مبوب ، بل كانت أفكارهم فلتات وكانت أدلتهم مقتضبة وهذا صحيح وعيبهم أنهم ألفو - مثلًا - منهجًا متكاملًا في تقييم المعارف بادراكات العقل ، ولكنهم لم يعطوا الدلالة الكافية المتكاملة على أولوية العقل بالتحكيم وكيفما كان فمنهاجهم سبق فلسفي ، وقد تكون أدلتهم كاملة ولكنها لا تتجاوز حلقات المناظرات وإلا فأين جدلهم الكثير وهم أهل جدل ، وهل يكون جدل إلا ببراهينه ودلائله ؟ أو لعل تقعيداتهم واستدلالاتهم ضاعت مع ماضاع من كتبهم وآرائهم التي لم يحفل بها المسلمون وتجدر الإشارة إلى أن فلسفة المسلمين فكر معتزلي لأن المعتزلة هم أهل الكلام والكلام هو نواة الفلسفة الإسلامية ، ورغم هذا فلن نبحث إلا ما كان فكرًا معتزليًا أصيلًا صادرًا عن المعتزلة أنفسهم ، فلن نناقش رسالة الأسلوب والتأملات لديكارت التي كانت صورة لرسالة المنقذ من الضلال للغزالي وقد لاحظ الكاتب الفرنسي شارل شومات : أن العبارات في الرسالتين تكاد تكون متقاربة ، والغزالي مات قبل ديكارت بحوالي خمسمائة سنة لن نتعرض لذلك لأن الغزالي غير منسوب إلى المعتزلة وإن كان ربيب فكرهم ، ولن نتعرض إلى ما سبق إليه الباقلاني والجويني والغزالي من المطالبة بإبعاد الصفة العقلية عن علم الألوهية وكانوا يعدون مطالبة الفيلسوف (كانت) بإفساح المجال لإيمان القلب وإبعاد العمل العقلي عن مجال الألوهية تفردًا وسبقًا عجيبين ، لن نتعرض لذلك لأن الباقلاني والجويني والغزالي لا ينسبون للاعتزال وإن كانوا ربيبي فكره وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن للمعتزلة فكرًا أصيلًا يصح أن ينسب إليهم ، فقد يتوهم متوهم أن المعتزلة أرباب فلسفة يونانية قديمة ، وينسى أنهم بدأوا حيث وقفت الفلسفة اليونانية وورثوا إلى جانبها فكرًا إسلاميًا فكونوا منهما رأيهم الأصيل ، وقد كانوا تلامذة الحسن البصري ، وكانت لحلقات درسه ميزتان :
    1 _ حرية الرأي والقول .
    2 _ وسعة الأفق .
    اللجنة العلمية بمنتدى التوحيد

  3. افتراضي

    فكان كل رأي جديد يعرض ويدرس ويمحص ليعرف مدى تلاقيه أو تجافيه مع مصادر العقيدة الإسلامية حتى الآراء السياسية ونقد الخلفاء والولاة ، وقد قال في مجلسه وعلى جمع من تلامذته : أربع خصال في معاوية لو لم تكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة ، ففي هذا الجو من الحرية اثير الكلام في مسألة القدر التي ما كان أحد يستطيع أن يبحثها لو كان عمر حيًا ، وكان الحسن البصري متعدد جوانب المعرفة بحكم التلوين في مظاهر بيئته ، فكان يقيم بين أهل المدينة من الصحابة والتابعين وهي بيئة أثرية بحتة ثم أقام بقية حياته في العراق وهي الطينة التي نبتت بها بذور الرأي والقياس ، فكان تلامذته يجدون عنده كل شيء ، قال أبو حيان التوحيدي :
    كان يجلس تحت كرسيه قتادة صاحب التفسير وعمرو وواصل صاحبا الكلام وابن أبي اسحق صاحب النحو وفرقد السنجي صاحب الرقائق وأشباه هؤلاء ونظراؤهم . هذا ما أردت بسعة الأفق في درس الحسن البصري - رحمه الله - فإذا ما أغفلنا هاتين الميزتين فلا يفوتنا أن المعتزلة هم تلامذته ثم ليكن بدهيا ما للحسن البصري من أثر في نمو واستقلال الفكر المعتزلي الذي قام أول ما قام على حرية الفكر وسعة آفاق المعرفة . ولا يحسبن أحد أنني سأتجاوز هاتين الميزتين الملحوظتين في استقلال الفكر المعتزلي دون أن استنتج استنتاجًا آخر ، هو تأرجح الفكر المعتزلي بين المدرسة الأثرية وبين المدرسة العقلية الفلسفية التي تفسر ظواهر الكون وتستخلص الحقائق النهائية القطعية في شتى أنواع المعارف ، فهل يعتز التاريخ الإسلامي بالفكر المعتزلي لأن المعتزلة فرقة إسلامية ولأن فكرها ربيب الحسن البصري وهو ثبت مأمون عند الأمة حمل لها دينها والرسول - صلى الله عليه وسلم- يقول :
    «يحمل هذا الدين من كل خلف عدوله» ؟ أم أن التاريخ الإسلامي يبرأ من هذا الفكر ويشكو تبعته ؟ ثم ما مدى إعجابنا بآرائهم ، وما الذي نتمثله فيهم ؟
    الحق أن الإطار المكتنف لهذا الفكر رائق وجذاب فحرية القول والفكر نحبها وندعو إليها إلى أن نصل إلى حقيقة يقينية صحيحة ، فإن تمادى النقاش إلى الشك والقول بتعادل الأدلة وسفسطة اللاأدرية كان ذلك من الجدل المذموم لأن الأمة تظل في بلبلة فكرية . أجل أننا نعشق الإطار لذلك الفكر ولكن تلك الأفكار وتلك المسلمات عند المعتزلة غير مرضية وغير صحيحة لأنهم لم يحفظوا توازنهم بين العقل والنقل ، ولأنهم دعوا إلى حرية الرأي فضلوا سبيلها ، فنخلص من هذا إلى أن الإطار جذاب ورائق ولكن الفكر ذاته ضال ومنحرف كأي مذهب هدام لا تلبث التجارب أن تكشف عن وجهه الكالح ويعلل الشيخ محمد أبو زهرة منهج المعتزلة العقلي بهذه الأسباب :
    أولًا : أن مقامهم في العراق وفارس وقد كانت تتجاوب فيها أصداء مدنيات وحضارات قديمة .
    ثانيًا : أنهم سلائل غير عربية ، وأكثرهم من الموالي .
    ثالثًا : أن كثيرًا من آراء الفلاسفة الأقدمين سرت إليهم لاختلاطهم بكثيرين من اليهود والنصارى وغيرهم ، ومن فضل ثقتهم بالعقل أثاروا الفكر وحملوه على البحث ووجهوا نظره إلى مسائل لم تثر قبلهم ، وهم أصحاب الأسلوب العلمي الأدبي لما رزقه الكثيرون من رجاحة العقل وفصاحة اللسان والقدرة على الخطابة ، ولقد كان بشر بن المعتمر المعتزلي واضع أصول الخطابة في اللغة العربية برسالته القيمة .

    قال الجاحظ عنهم : كانوا فوق أكثر الخطباء وأبلغ من كثير من البلغاء وهم تخيروا الألفاظ لتلك المعاني وهم اشتقوا لها من كلام العرب تلك الأسماء ، وهم اصطلحوا على تسمية ما لم يكن له في لغة العرب اسم ، ومن فضل ثقتهم بالعقل . أن كان لهم السبق في وضع أسس علم البحث والمناظرة بدليل هذا الذي رواه الراغب الأصفهاني في محاضرات الأدباء ، قال :
    اجتمع متكلمان فقال أحدهما : هل لك في المناظرة ؟ فقال : على شرائط : ألا تغضب ولاتعجب ولاتشغب ولاتحكم ولاتقبل على غيري وأنا أكلمك ولا تجعل الدعوى دليلًا ولا تجوز لنفسك تأويل آية على مذهبك إلا جوزت لي تأويل مثلها على مذهبي وعلى أن تؤثر التصادق وتنقاد للتعارف وعلى أن كلًا منا يبغي من مناظرته على أن الحق ضالته والرشد غايته . لقد قدس المعتزلة العقل واشتطوا في ذلك حتى في باب اللغة والنحو كانوا يميلون إلى العقل فزعيم القائلين بالقياس(1) واستعمال ما لم يروه العرب قياسًا على ما رووه وذلك - من غير شك - يحتاج إلى قوة عقلية لا مجرد رواية .

    وقد قال متطرفوهم :
    إن حجة العقل تنسخ الأخبار كما جاء في كتاب «تأويل مختلف الحديث» لابن قتيبة ، قال جولد تسيهر :
    والذين يقفون على جناح التطرف من المعتزلة يصرحون تصريحًا حاسمًا بأن ثمرات النتائج العقلية تزيل المعارف المأثورة من الطريق . أهـ .

    ولهذا ، كان التأويل والتمحل في رد دلالات النصوص بأوجه يعلمون يقينًا أنها غير مرادة للشارع في تفاسيرهم ونتيجة لمنهجهم العقلي المتطرف لم يسلموا بمنهج السمعيات مصدرًا للمعرفة دون بحث عقلي يحكمون به عليها ، لأن العقل عندهم يبين ما ينبغي وما لا ينبغي قبل ورود الشرع . وصدى ذلك في قول أبي العلاء المعري :
    أيهــــا الغــــر إن خصصــــت بعقل ............................ فاسألنــــه فكل عقــــل نبيّ

    وهذا معنى مسألتي التحسين والتقبيح العقليتين اللتين بنى عليهما مؤمنوهم مسألتهم الأصولية بأن الناس يحاسبون بمعارف وتوجيهات عقولهم قبل ورود الشرع ، وتناسوا قول الله تعالى : «وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا» .. وقوله : «وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون» ولقد ردوا نصوصًا ثابتة قطعية الثبوت بمجرد استشكالات عقولهم ، وتصدى لمناقشتها نقاشًا علميًا محكمًا الشيخ ابن قتيبة في كتابه تأويل مختلف الحديث ، ومن آثار تحكيمهم العقل في السمعيات وإن ثبتت سندًا الأمور التالية :
    أولًا : أنكروا المعجزات وبعضهم حصرها في دائرة ضيقة ، فكان النظّام يكذب الصحابة ويقول في وقاحة : زعم ابن مسعود أن القمر انشق ، وأنه رآه وهذا من الكذب الذي لا خفاء به ، لأن الله تعالى لا يشق القمر له وحده ولا لآخر معه ، وإنما يشقه ليكون آية للعالمين وحجة للمرسلين ومزجرة للعباد وبرهانًا في جميع البلاد فكيف لم تعرف بذلك العامة ولم يؤرخ الناس بذلك العام ولم يذكره شاعر ولم يسلم عنده كافر ولم يحتج به مسلم على ملحد ؟ أ هـ .
    فبهذا الدليل الخطابي يتناسى النظّام آية : - وانشق القمر . فإن حملها على يوم القيامة لم يطاوعه السياق ، وكان ينكر نبع الماء من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم .

    الأمر الثاني : إنكارهم كرامات الأولياء وفعالية السحر ورؤية الجن ، وللجاحظ في نفي رؤية الجن إفاضة عجيبة في كتابه «الحيوان» ونساء المعتزلة لا يخشين الجن وكذلك صبيانهم ولذا قال بعض الباحثين : من بركة المعتزلة أن صبيانهم لا يخافون الجن وقد تعرض النظّام لتوهمات الأعزاب وحللها - كما قال الدكتور أحمد أمين - تحليلًا نفسيًا فلسفيًا دقيقًا .
    قال : «أصل هذا الأمر وابتداؤه أن القوم لما نزلوا ببلاد الوحش عملت فيهم الوحشة ومن انفرد وطال مقامه في البلاد والخلاء والبعد عن الناس استوحش ولا سيما مع قلة الاشتغال والمذاكرين والوحدة ولا تقطع أيامهم إلا بالمنى أو بالتفكير والفكر وبما كان من أسباب الوسوسة وإذا استوحش الإنسان مثل له الشيء الصغير في صورة الكبير وارتاب وتفرق ذهنه» وبتحكيم العقل أسسو مناهج فلسفية بارزة هي :
    أولًا : مبدأ الشك فقالوا في شجاعة : ينبغي أن نبدأ في كل معرفة بالشك والتحفظ حتى إذا وصلنا إلى اليقين كان يقينًا معززًا سليمًا ، وقد كان الشرط الأول للمعرفة عندهم هو الشك ، وقال بعض أئمتهم : خمسون شكًا خير من يقين واحد . وقد قال النظّام : الشاك أقرب إليك من الجاحد ولم يكن يقين قط حتى صار فيه شك ، ولم ينتقل أحد من اعتقاد إلى اعتقاد غيره لا يكون بينهما حال شك . وقال الجاحظ تلميذ النظّام : تعلم الشك في المشكوك فيه تعلمًا فلو لم يكن من ذلك إلا تعرف التوقف والتثبت ، لقد كان ذلك مما يحتاج إليه ، والعوام أقل شكوكًا من الخواص لأنهم لا يتوقفون في التصديق ولا يرتابون بأنفسهم فليس عندهم إلا الإقدام على التصديق المجرد أو على التكذيب المجرد وألغوا الحالة الثالثة من حال الشك .
    ثانيًا : أنهم قالوا حقائق العقل نهائية قطعية وهو الحكم في مصادر المعرفة كلها ومعارفه ضرورية .
    ثالثًا : أنهم وضعوا تجربة الحواس في الصف الأخير من أدلة المعرفة ولم يصح دليلها لديهم إلا بسند العقل وشهادته .
    رابعاً : أن النظّام استثقل أحكام الشريعة ولم يجسر على إظهار دفعها فأبطل الطرق الدالة عليها كالقياس والاجماع والخبر وقال بجرأة : إنه لا يُعلم بأخبار الله ولا بأخبار رسوله شيء على الحقيقة ، لأن المعارف عنده قسمان محسوسة وغير محسوسة والمحسوس أجسام لا تعلم إلا بالحس وغير محسوسة ولا تعلم إلا بالقياس والنظر .

    __________________
    (1) هو أبو علي الفارسي وتلميذه ابن جنى ، وهما من المعتزلة .
    اللجنة العلمية بمنتدى التوحيد

صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء