ما بينَ موراني وجلكرايست!!
شُبْهَةٌ لا أساس لها!!
سبق وذكرتُ أن طعونات المستشرقين في ثوابت الإسلام لا تتوقف عند قضية مخطوطات القرآن، وأنها حلقة في منظومة كبيرة للطعن في الإسلام، وتشكيك المسلمين في دينهم من ناحية، وتشويه الإسلام وتقديمه للشعوب الغربية بصورة منفرة من ناحية أخرى، فهي حلقة ذات حدين، لإصابة المسلمين وتشكيكهم في دينهم، ولحجب غير المسلمين عن الدخول في الإسلام.
وقد تتابع المستشرقون على الطعن في القرآن الكريم خاصة وفي الإسلام عامة، ولم تتغير نظرتهم للقرآن عبر العصور وإن اختلفتْ مناهجهم في تناول الطعن وتقديمه، كما سبق وأفاد د.موراني في عبارته التي سبق لي أن نقلتُها عنه في بدايات موضوعنا هذا.
وكان الإطار الذي اختاره موراني لوضع الطعن فيه هو إطار البحث العلمي النزيه القائم على الدراسة المقارنة بين مخطوطات المصاحف، وتحقيق المصحف تحقيقًا علميًّا حسب زعمه، كما زعم أنه ربما أوصلتنا هذه النسخ إلى زيادة ونقصان في بعضها، أو إلى اختلاف ترتيب بعض الآيات ولو جزئيًّا.. كذا زعم موراني، وقد مضى نقل كلامه بنصه في أول هذه المقالات، وفي غير مرة.
وجاء جون جلكرايست فأخذ هذا الطعن وجعله في إطارٍ آخر، ثم أضاف إليه أشياء أخرى لم يذكرها لنا موراني هنا، وربما ذكرها في موضعٍ آخر؛ لأن غيره من المستشرقين قد ذكرها، ولا زال موراني يؤكد على أن نظرة المستشرقين للقرآن لم تتغير!!
تكلم جلكرايست كلامًا كثيرًا لا طائل من ورائه، وخلط في كلامه خلطًا عجيبًا، وحَرَّفَ وزَوَّرَ وَزَيَّفَ، بل لم يدع رزيلة علمية أو خطيئة منهجيَّة إلا وارتكبها في كتابه هذا..
ومع هذا نقتطف من كتابه النص الآتي فقط:
يقول جون جلكرايست في كتابه ((جمع القرآن)) تحت عنوان: ((3-نظرة عامة حول المرحلة الأولى لجمع القرآن)): ((امكانية فقدان بعض أجزاء النص واردة في عدة أحاديث نبوية تبين بعضها أن محمدا كان هو نفسه عرضة لنسيان بعض أجزاء القرآن :
"حدثنا موسى يعني ابن إسمعيل حدثنا حماد عن هشام بن عروة عن عروة عن عائشة رضي اللهم عنها أن رجلا قام من الليل فقرأ فرفع صوته بالقرآن فلما أصبح قال رسول الله صلى اللهم عليه وسلم يرحم الله فلانا كائن من آية أذكرنيها الليلة كنت قد أسقطتها" (كتاب الحروف و القراءات سنن بن أبي داود رقم 3456)
وضع مترجم المرجع السابق إلى الأنجليزية ملاحظة هامشية بين فيها أن محمدا لم ينس بعض الآيات تلقائيا بل الله هو الذي أنساه إياها مقيما بذلك عبرة للمسلمين. مهما كانت الغاية و الأسباب فالمهم هو أن محمدا تعرض لنسيان بعض القرآن الذي أقر أنه أوحي إليه)).
وبناءً على هذا قال جون جلكرايست: ((نفس النصوص تنفي الفرضية الحديثة القائلة بأن المصحف الحالي هو نسخة طبق الأصل للقرآن الأول لم يحذف منها شيء و لم يمسسها أي تغيير. ليس هناك ما يدل على أن النص تعرض للتحريف و كل محاولة لتأكيد ذلك (كما فعل بعض الباحثين الغربيين) يمكن ضحضها بسهولة. بالمقابل هناك أدلة عديدة على أن القرآن كان غير مكتمل وقت تدوينه في مصحف واحد)).
فهو يشير إلى تأكيد بعض الباحثين الغربيين على تحريف القرآن ثم ينفي هذا الزعم، ويؤكد على أنه لم يُحَرَّف، وبهذا ينفذ إلى قلوب القراء، ويظن القارئ به الإنصاف أو النزاهة أو الحيادية فيسهل عليه بعد ذلك أن يزيف الحقيقة ويزعم أن القرآن لم يصل كاملاً، ويطلق عبارة لا قيمة لها بأن هناك أدلة عديدة على أن القرآن كان غير مكتمل وقت تدوينه في مصحفٍ واحدٍ!!
ويخبط خبط عشواء، ويحطب والدنيا ظلام ليؤكد كلامه وفكرته هذه..
بل وصل الأمر به أن يجعل الواقعة المذكورة في الحديث السابق في كلامه مؤكدة لنسيان النبي صلى الله عليه وسلم بعض الوحي!!
وقد نقله من سنن أبي داود، على عادة المستشرقين في عدم الفهم في ترتيب المصادر، والجهل بعلوم الإسلام ومصادره..
ولنرى رأي التاريخ في هذا الخبط الموراني أو الجلكرايستي..
فماذا لديك أيها التاريخ؟
إذا رجعنا إلى الحديث السابق في كلام جلكرايست فسنرى أنه عند البخاري ومسلم، وكان العزو إليهما أولى لو كان عارفًا بمصادر المسلمين أو بطرق استخراج النصوص وتخريجها عندهم..
على كل حالٍ، فالحديث رواه البخاري (5042) حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ آدَمَ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَارِئًا يَقْرَأُ مِنْ اللَّيْلِ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: ((يَرْحَمُهُ اللَّهُ لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً أَسْقَطْتُهَا مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا)).
ورواه مسلم أيضًا (788).
والجواب على هذه الشُّبْهة من وجوهٍ عديدة نذكر منها:
أولاً: فرقٌ بين النسيان الجائز على النبي صلى الله عليه وسلم في غير الوحي، وبين دعوى نقصان القرآن وأنه نسيه بعضه ولم يبلغه أُمَّتَه!!
فالنسيان جائزٌ على النبي صلى الله عليه وسلم في غير الوحي، وربما نسِيَ شيئًا من الوحي لكن لا يُقَرّ على هذا النسيان أبدًا، بل كان سبحانه وتعالى يتعهَّد نبيه بالتذكير دائمًا، إما عن طريق الوحي المباشر، أو عن طريق نصب الدلالة له على التذكًُّر كما في الحديث المذكور، حيثُ نصَبَ الله عز وجل له رجلا من الصحابة يقرأ الآية ليتذكرها النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: أن هذه الشُّبْهة لا دليل فيها على أن بعض القرآن قد ضاع، أو أنه لم يصل كاملاً، بل الحديث المذكور واضح جدًا في كمال القرآن وتمامه، وأنه قد بلَّغَه النبي صلى الله عليه وسلم لأُمَّتِه، كاملاً غير منقوص.
ولو تدبَّر المستشرقون وفكروا بعقولهم قليلاً لرأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لقد أَذْكَرَنِي كذا وكذا آيةً أسقطتُها)) فمِنْ أين وصلتْ هذه الآيات للرجل الذي قرأَ بها؟ ومَنْ أبلغه إياها هو وغيره من الصحابة؟
أليس هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بلَّغ الآية لأصحابه فحفظوها ووعوها ثم نساها لبعض الوقت حتى تذكرها بقراءة القارئ فالقضية هنا محصورة في نسيان النبي صلى الله عليه وسلم للآية لبعض الوقت ثم تذكُّره لها ثانية بعد سماعها من القارئ، ولا أثر لها على القرآن إطلاقًا..
لماذا؟
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلَّغَها أصحابه، فوصلتهم، ووعوها وحفظوها وقرأوا بها، ففي الوقت الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يذكرها كانت الآية محفوظة في صدور أصحابه معلومةً لديهم يقرأوا بها في صلاتهم..
فلم تتأثر الآية أصلا بنسيان النبي صلى الله عليه وسلم لها لبعض الوقت؛ لأن نسيانه لها جرى بعد أَنْ بلَّغَها أصحابه فحفظوها ووعوها، بدليل أنه تذكرها حين سمعها من القارئ..
فلو كان نسيان النبي صلى الله عليه وسلم للآية المذكورة مؤثِّرًا عليها لم يكن ليقرأ بها أحدٌ أصلاً، ولا ليتذكرها هو ثانيةً صلى الله عليه وسلم، ولكن وقع نسيانه لها بعد تبليغه لها، فكأَنْ شيئًا لم يكن كما ترى؛ إِذْ لا صلة لنسيانه لها لبعض الوقت من قريب أو بعيد بقضية وصولها لأصحابه رضوان الله عليهم ولا حفظهم لها؛ لأنه كما كررتُ مرارًا قد بلغها قبل نسيانه لها، والحديث ظاهرٌ واضحٌ في ذلك.
ويؤَكِّد هذا ويوضِّحه بلا أدنى لبسٍ أنه صلى الله عليه وسلم كان يبادر بإملاء الوحي فور نزوله على كُتَّابِ الوحي إِنْ كانوا حضورًا في مجلسِه، أو يبادر بالإرسال لهم وأمرهم بإحضار أدوات الكتابة وكتابة ما نزل من الوحي فور نزوله، وقد سبق هذا في المداخلة السابقة هنا، مع أدلة ذلك بوضوح..
فأنت ترى الآن أنه صلى الله عليه وسلم كان يكتب الوحي فور نزوله، ثم كان يُبَلِّغه أصحابه فور نزوله ويقرأه عليهم فيكتبوه، فلا إشكال بعد ذلك إن نسيَ شيئًا لبعض الوقت ثم تذكَّرَهُ ثانيةً؛ لأنه قد سبق تدوينه فور نزوله فحُفِظَ في أدوات الكتابة كما حُفِظَ في الصدور..
فاجتمع فور نزول الوحي أعلى درجات الحفظ له، وهما حفظ الصدر وحفظ الكتابة، وتكاتف السماع مع الكتابة على حفظ القرآن الكريم.. فلله الحمد.
ومن هنا لا مدخل ولا شُبْهَة لهؤلاء المستشرقين الذين يزعمون أن القرآن وصل ناقصًا، ويستدلون بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد نسيَ بعض الآيات..
كلا؛ نساها بعد أن كتبها..
كلا؛ ونساها بعد أن حفظها أصحابه، ومِنْ ثَمَّ تذكَّرَها ثانيةً حين سمعهم يقرأوا بها، كما هو واضح من الحديث بحمد الله تعالى..
ثانيًا: قال ابن حجرٍ شارح البخاري في شرحه للحديث السابق: ((وَقَوْله فِيهِ: (لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَة) قَالَ الْجُمْهُور : يَجُوز عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْسَى شَيْئًا مِنْ الْقُرْآن بَعْد التَّبْلِيغ لَكِنَّهُ لَا يُقَرّ عَلَيْهِ، وَكَذَا يَجُوز أَنْ يَنْسَى مَا لا يَتَعَلَّق بِالإِبْلاغِ، وَيَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {سَنُقْرِئُك فَلَا تَنْسَى إِلا مَا شَاءَ اللَّه} [الأعلى: 6 - 7]))أهـ
والاستثناء في قوله تعالى: {إلا ما شاء الله} يعني: إلا ما شاء الله أن يُنسيكه، فسيُنْسِيكه الله عز وجل، لعلَّة النسخ مثلاً، كما يقول الله عز وجل في الآية الأخرى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106].
وقد بَوَّب البخاري (5037) على الحديث المذكور هنا بقوله: ((بَاب نِسْيَانِ الْقُرْآنِ وَهَلْ يَقُولُ نَسِيتُ آيَةَ كَذَا وَكَذَا؟ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {سَنُقْرِئُك فَلَا تَنْسَى إِلا مَا شَاءَ اللَّه} [الأعلى: 6 - 7])).
قال شارحه ابنُ حجرٍ رحمه الله: ((كَأَنَّهُ يُرِيد أَنَّ النَّهْي عَنْ قَوْل: نَسِيت آيَة كَذَا وَكَذَا لَيْسَ لِلزَّجْرِ عَنْ هَذَا اللَّفْظ , بَلْ لِلزَّجْرِ عَنْ تَعَاطِي أَسْبَاب النِّسْيَان الْمُقْتَضِيَة لِقَوْلِ هَذَا اللَّفْظ , وَيَحْتَمِل أَنْ يَنْزِل الْمَنْع وَالْإِبَاحَة عَلَى حَالَتَيْنِ : فَمَنْ نَشَأَ نِسْيَانه عَنْ اِشْتِغَاله بِأَمْرٍ دِينِيّ كَالْجِهَادِ لَمْ يَمْتَنِع عَلَيْهِ قَوْل ذَلِكَ لِأَنَّ النِّسْيَان لَمْ يَنْشَأ عَنْ إِهْمَال دِينِيّ , وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَل مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نِسْبَة النِّسْيَان إِلَى نَفْسه . وَمَنْ نَشَأَ نِسْيَانه عَنْ اِشْتِغَاله بِأَمْرٍ دُنْيَوِيّ - وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ مَحْظُورًا - اِمْتَنَعَ عَلَيْهِ لِتَعَاطِيهِ أَسْبَاب النِّسْيَان.
قَوْله ـ [يعني البخاري]ـ: وَقَوْل اللَّه تَعَالَى: {سَنُقْرِئُك فَلَا تَنْسَى إِلا مَا شَاءَ اللَّه} [الأعلى: 6 - 7]: هُوَ مَصِير مِنْهُ ـ [يعني البخاري]ـ إِلَى اِخْتِيَار مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَر أَنَّ (لا) فِي قَوْله: {فَلا تَنْسَى} نَافِيَة، وَأَنَّ اللَّه أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لا يَنْسَى مَا أَقْرَأهُ إِيَّاهُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ (لا) نَاهِيَة، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْإِشْبَاع فِي السِّين لِتُنَاسِب رُءُوس الآي، وَالأَوَّل أَكْثَر . وَاخْتُلِفَ فِي الاسْتِثْنَاء فَقَالَ الْفَرَّاء : هُوَ لِلتَّبَرُّكِ وَلَيْسَ هُنَاكَ شَيْء اِسْتُثْنِيَ، وَعَنْ الْحَسَن وَقَتَادَة: {إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّه} أَيْ قَضَى أَنْ تُرْفَع تِلاوَته . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس : إِلاَّ مَا أَرَادَ اللَّه أَنْ يُنْسِيكَهُ لِتَسُنّ، وَقِيلَ: لِمَا جُبِلْت عَلَيْهِ مِنْ الطِّبَاع الْبَشَرِيَّة لَكِنْ سَنَذْكُرُهُ بَعْد, وَقِيلَ الْمَعْنَى: {فَلَا تَنْسَى} أَيْ: لا تَتْرُك الْعَمَل بِهِ إِلاَّ مَا أَرَادَ اللَّه أَنْ يَنْسَخهُ فَتَتْرُك الْعَمَل بِهِ))أهـ
ثالثًا: قال الإمام البخاري رحمه الله: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَالِجُ مِنْ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَرِّكُهُمَا، وَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قَالَ: جَمْعُهُ لَكَ فِي صَدْرِكَ وَتَقْرَأَهُ {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَرَأَهُ)).
ورواه مسلم أيضًا (448).
فأنتَ ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعجَّل حفظ القرآن، فأمره الله عز وجل أن ينصت إلى جبريل، أولاً، ووعدَه بأن يحفظه، وأن يقرأَه النبي صلى الله عليه وسلم كما سمِعَه من جبريل عليه السلام..
ففي حديث ابن عباسٍ المذكور: ((فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَرَأَهُ)).
فها هو يقرأه كما قرأَه جبريل تمامًا، ثم تأتي روايات حديث البراء بن عازبٍ السابق في المداخلة السابقة، ومنها:
رواية البخاري (4990) حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95] قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ادْعُ لِي زَيْدًا وَلْيَجِئْ بِاللَّوْحِ وَالدَّوَاةِ وَالْكَتِفِ أَوْ الْكَتِفِ وَالدَّوَاةِ ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ} [النساء: 95]))، وَخَلْفَ ظَهْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرُو بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا تَأْمُرُنِي فَإِنِّي رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ فَنَزَلَتْ مَكَانَهَا {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95].
فانظر في هذا الترتيب الرباني المُحْكَم: يقرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأَهُ جبريل تمامًا، ثم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة الوحي على الفور، في الوقت نفسه يقرأَهُ النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه فيحفظوه، حتى إذا ما نَسِيَ شيئًا منه ذكَّرَتْه قراءة أصحابه رضوان الله لما سمعوه منه من قبلُ، وما دوَّنوه بأمره وتحت سمعه وبصره في ألواحهم..
فلك اللهم الحمد على ما أنعمتَ به وأوليت..
رابعًا: قال الإمام عبد الرزاق الصنعاني رحمه الله في ((تفسيره)) (1/55): ((حدثنا مَعْمر عن قتادة والكلبي في قوله: {ما ننسخ من آية أو ننسها} قالا: كان الله تعالي ذِكْره يُنْسِي نبيَّه ما شاءَ وينسخ ما شاء.
قال مَعْمر: وقال قتادة: وأما قوله: {نأت بخير منها أو مثلها} يقول: آيه فيها تخفيف فيها رخصة فيها أمر فيها نهي))أهـ
وهذا المعنى مشهور في تفاسير المسلمين.. ومنه يؤخذ أن نسيان النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليقع إلا بمشيئة الله عز وجل، وبطبيعة الحال فإن ما أراد الله عز وجل أن يُنْسِيه لنبيه صلى الله عليه وسلم فليس هو من الوحي المأمور بتبليغه، بخلاف ما لو أوحاه الله عز وجل إليه ثم نساه النبي صلى الله عليه وسلم بعد تبليغه لأُمَّتِه، فهذا وحي، لا يضره أن ينساه النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الوقت؛ لأنه قد بلَّغَه لأُمَّتِه فحفظوه ووعوه ودوَّنوه في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وتحت سمعه وبصره، ثم ها هو يتذكره ثانيةً إذا سمعهم يتلونه..
وقال ابنُ أبي حاتمٍ في ((تفسيره)) (1057): ((حدثنا أبو زرعة حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة حدثنا أسباط عن السُّدِّي: {ما ننسخ من آيةٍ}: نسخها: قبضها.
قال أبو محمد ـ [وهو ابن أبي حاتمٍ] ـ: يعني بقبضها رفعها؛ مثل: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها البتة، وقوله: لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى إليهما ثالث))أهـ
ولننظر في هذه النصوص في ((تفسير ابن أبي حاتمٍ)) أيضًا: ((19222 عن مجاهد في قوله: {سنقرئك فلا تنسى} قال: كان يتذكر القرآن في نفسِه مخافة أن ينسى.
19223 عن ابن عباس: {سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله} يقول: إلا ما شئت أنا فأنسيك
19224 عن قتادة في قوله: {سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله} قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينسى شيئًا إلا ما شاء الله))أهـ
ويقول ابنُ كثير في ((تفسيره)) (4/501): ((وقوله تعالى: {سنقرئك} أي يا محمد {فلا تنسى}، وهذا إخبارٌ من الله تعالى ووعدٌ منه له بأنه سيقرئه قراءةً لا ينساها، {إلا ما شاء الله}، وهذا اختيار ابن جرير، وقال قتادة: كان رسول الله e لا ينسى شيئًا إلا ما شاء الله، وقيل: المراد بقوله: {فلا تنسى} طلب وجعل معنى الاستثناء على هذا ما يقع من النسخ أي لا تنسى ما نقرئك إلا ما يشاء الله رفعه فلا عليك أن تتركه))أهـ
وأكتفي في الجواب عن الشُّبْهة المثارة بهذه الرُّباعية المذكورة، ومنها يظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم مُبَرَّأٌ تمامًا من نسيان بعض الوحي قبل أَنْ يُبْلِغَه أُمَّتَه، كما يتضح لنا مما سبق بجلاءٍ لا لبس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينسَ حرفًا من القرآن لم يُبْلِغه أُمَّتَه، وأنَّ القرآن قد وصلنا كاملاً غير منقوص تمامًا كما قرأهُ النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل عليه السلام..
فالحمد لله ربِّ العالمين..
وإلى هنا نقف هذا اليوم، وإلى لقاءٍ قادمٍ إِنْ شاء الله تعالى..
Bookmarks