واعجبا من موجود لا يفهم معنى الوجود، فإن فهم لم يعمل بمقتضى فهمه. يعلم أن العمر قصير، وهو يضيعه بالنوم والبطالة، والحديث الفارغ، وطلب اللذات، وإنما أيامه أيام عمل لا زمان فراغ. وقد كلف يبذل المال بمخالفة الطبع من الشرع فبخل به إلى أن يتضايق الخناق، فيقول حينئذ: فرقوا عني بعد موتي وافعلوا كذا. فأين يقع هذا لو فعل، وبعيد أن يفعل، وإنما يراد بإنفاقك في صحتك مخالفة الطبع في تكلف مشاق الإخراج في زمن السلامة. فأفرق بين الحالتين إن كان لك فهم. فالسعيد من انتبه لنفسه وعمل بمقتضى عقله، وإغتنم زمنا نهايته الزمن وإنتهب عمرا بأقرب إنقطاعه. ويحك ما تصنع بادخار مال لا يؤثر حسنة في صحيفة ولا مكرمة في تاريخ؟ أما سمعت بإنفاق أبي بكر وبخل ثعلبة؟ أما رأيت تأثير مدح حاتم وبخل الحباحب؟ ويحك لو إبتلاك فيمالك لاستغثت، أو في بدنك ليلة بمرض لشكوت. فأنت تسؤفي مطلوباتك منه، ولا تستوفي حقه عليك ويل للمطففين. ولتعلم أن هذا القدر المفرط فيه يحل الخلود الدائم في ثواب العمل فيه. فسبحان من من على أقوام فهموا المراد فأتعبوا الأجساد، وغطى على قلوب آخرين فوجودهم كالعدم. وكيف لا يتعب العاقل بدنه إتعاب البدن المقصود منى. أترى ما بال الحق متجليا في إيجادك أيها العبد. بلى، والله إن وجودك دليل وجوده. وإن نعمه عليك دليل جوده. فكما قدمك على سائر الحيوانات، فقدمه في قلبك على كل المطلوبات. وا خيبة من جهله، وا فقر من أعرض منه، وا ذل من إعتز بغيره، وا حسرة من إشتغل بغير خدمته.

إني أعجب من عاقل يرى إستيلاء الموت على أقرانه وجيرانه كيف يطيب عيشه، خصوصا إذا غلت سنه. واعجبا لمن يرى الأفاعي تدب إليه وهو لا ينزعج. أما يرى الشيخ دبيب الموت في أعضائه، قد أخرج سكين القوى وأنزل متغشرم الضعف، وقلب السواد بياضا، ثم في كل يوم يزيد الناقص. ففي نظر العاقل إلى نفسه ما يشغله عن النظر إلى خراب الدنيا وفراق الإخوان، إن كان ذلك مزعجا. ولكن شغل من إحترق بيته بنقل متاعه يلهيه عن ذكر بيوت الجيران. إنه لمما يسلي عن الدنيا ويهون فراقها إستبدال المعارف بمن تكره. فقد رأينا أغنياء كانوا يؤثرون، وفقراء كانوا يصبرون، ومحاسبين لأنفسهم يتورعون فاستبدل السفهاء عن العقلاء، والبخلاء عن الكرماء. فيا سهولة الرحيل، لعل النفس تلقى من فقدت، فتلحق بمن أحبت.

نظرت في قول الله تعالى: ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب، ثم قال: وكثير من الناس فرأيت الجمادات كلها قد وصفت بالسجود، واستثنى من العقلاء، فذكرت قول بعضهم: ما جحد الصامت من أنشأه ومن ذي النطق أتى الجحود فقلت: إن هذه القدرة عظيمة، يوهب عقل الشخص ثم يسلب فائدته، وإن هذا لأقوى دليل على قادر قاهر. وإلا فكيف يحسن من عاقل ألا يعرف بوجوده وجود من أوجده؟ كيف ينحت صنما بيده ثم يعبده؟ غير أن الحق سبحانه وتعالى وهب لأقوام من العقل ما يثبت عليهم الحجة، وأعمى قلوبهم كما شاء عن المحجة.

من أكبر الدليل على وجود الخالق سبحانه هذه النفس الناطقة المميزة المحركة للبدن على مقتضى إرادتها التي دبرت مصالحها، وترقت إلى معرفة الأفلاك، واكتسبت ما أمكن تحصيله من العلوم، وشاهدت الصانع في المصنوع، فلم يحجبها ستر، وإن تكاثف، ولا يعرف مع هذا، ماهيتها ولا كيفيتها، ولا جوهرها ولا محلها. ولا يفهم من أين جاءت، ولا يدري أين تذهب، ولا كيف تعلقت بهذا الجسد؟ وهذا كله يوجب عليها أن لها مدبرا وخالقا، وكفى بذلك دليلا عليه. إذ لو كانت وجدت بها لما خفيت أحوالها عليها. فسبحانه سبحانه.

منقول: صيد الخاطر لابن الجوزي.