-العقلانية المادية و اللاعقلانية المادية
ويرتبط مفهوم المادية القديمة و الجديدة بمفهوم العقلانية المادية و اللاعقلانية المادية , و العقلانية هي الإيمان بأن العقل قادر على إدراك الحقيقة من خلال قنوات إدراكية مختلفة من بينها الحسابات المادية الصارمة دون استبعاد العاطفة و الإلهام و الحدس و الوحي, و الحقيقة حسب هذه الرؤية يمكن أن تكون حقيقة مادية بسيطة , أو حقيقة إنسانية مركبة ,أو حقائق تشكل إنقطاعاً في النظام الطبيعي .
و من ثم يمكن لهذا العقل أن يدرك المعلوم ولا يرفض وجود مجهول , و هذا العقل يدرك تماماً أنه لا (( يؤسس )) نظماً أخلاقية أو معرفية , فهو يتلقى بعض الأفكار الأولية و يصوغها استنادا إلى المنظومة الأخلاقية الأولية و يصوغها استناداً إلى المنظومة أخلاقية و معرفية مسبقة ,
ولكن هناك من يذهب الى أن العقلانية هي الإيمان بأن العقل قادر على إدراك الحقيقة , بمفرده دون مساعدة من عاطفة أو إلهام أو وحي , و بأن الحقيقة هي الحقيقة المادية المحضة لتي يتلقاها العق لوحدها من خلال الحواس , و بأن العقل إن هو إلا جزء من هذه الحقيقة المادية فهو يُوجد داخل حيز التجربة المادية محدوداً بحدودها (لا يمكنه تجاوزها) , و أنه بسبب ماديته هذه قادر على التفاعل مع الطبيعة/ المادة , و يمكنه إنطلاقاً منها ( و منها وحدها ) أن ((يؤسس)) منظومات معرفية وأخلاقية ودلالية و جمالية تهديه في حياته , و يمكنه على أساسها أن يفهم الماضي و الحاضر ويفسرهما , و يرشد حاضره وواقعه و يخطط لمستقبله.
و نحن نذهب الى نه لا توجد علاقة ضرورة بين العقلانية و المادية , فهناك نظم سياسية مادية عقلانية و نظم عقلانية ليست مادية ,فالنظام السياسي الأمريكي مبني على فصل الدين عن الدولة , و قد نجح الأمريكيون في بعض مراحل تاريخهم على الأقل في تطوير نظام عقلاني يعبر عن مطامع الشعب الأمريكي بشكل معقول , و النظام النازي هو الآخر كان نظاماً مادياً شرساً في ماديته و لكنه كان عقلانياُ بصورة تامة و كان يتحرك في إطار نظريه العرقية الشمولية التي شكلت مرجعيته المادية الكامنة , و النظام الستاليني , كان هو الآخر نظاما ًمادياً نموذجياً ,و لكن لا يمكن لأحد أن يزعم أنه كان نظاماَ عقلانياً, و هناك نظم تستند الى عقائد دينية يذخر بها تاريخ الإنسان.
بل إننا نذهب الى أن العقلانية المادية تؤدي في مراحلها المتقدمة الى اللاعقلانية المادية , فالعقل المادي - كما أسلفنا - عقل تفكيكي عدمي غير قادر على التركيب أو التجاوز ,و يتضح هذا من أنه عقل قادر على إفراز قصص (نظريات) صغرى مرتبطة بفضائها الزمني و المكاني المباشر على أحسن تقدير ( كما يقول دعاة ما بعد الحداثة ) , أي إنه قادر على إفراز مجموعة من الأقوال التي ليست لها أية شرعية خارج نطاقها المادي المباشر و الضيق و المحسوس ( فالعقل المادي يٌدرك الواقع بطريقة حسية مباشرة ) ومن ثم فهو عقل عاجز عن إنتاج القصص الكبرى أو النظريات الشاملة ,و عاجز عن التوصل للحقيقة الكلية و المجردة التي تقع خرج نطاق التجريب , و لذا فالعقل المادي لا يُنكر الميتافيزيقيا و حسب ,و إنما سنكر الكليات تماماً و ينتهي به الأمر بالهجوم على العقل الإنساني والعقل النقدي , لأنهما يتوهمان أنهما يتمتعان بقدر من الإستقلال عن حركة الطبيعة / المادة ,,و بذلك يختفي الإنسان بوصفه مرجعية نهائية ثم تختفي سائر المرجعيات , و تصبح الإجراءات هي الشيء الوحيد المتفق عليه و هكذا لا يتحرر العقل المادي من الأخلاق و حسب و إنما يتحرر من الكليات و الهدف و الغاية و العقل , ومن ثم تتحول العقلانية المادية إلى الاعقلانية المادية.
و إن كانت العقلانية المادية أفرزت فكر حركة الاستنارة و الوضعية المنطقية و الكل المادي المتجاوز للإنسان , فقد أفرزت اللاعقلانية المادية النيتشوية و الوجودية و الفينومونولوجية و هايدجر و ما بعد الحداثة , و الإنتقال من التحديث الى الحداثة و إلى ما بعد الحداثة هو الإنتقال من العقلانية المادية التي تربط بين التجريب و العقلانية ( في مرحلة المادية القديمة و مرحلة المادية الصلبة ) الى اللاعقلانية المادية التي تفصل بينهما , فيتم التجريب دون ضابط ودون إطار ( في مرحلة المادية الجديدة والسيولة الشاملة) ,و تسود الآن في مجال العلوم نزعة تجريبية محضة ترفض الكليات العقلية ( إنسانية كانت أم مادية ) و تلتصق تماماً بالمادة و حركتها و عالم الحواس .
و مع هذا يمكن القول بإن العقلانية المادية كثيراً ما تعايش مع اللاعقلانية المادية و ترتبط بها , فالوضعية العلمية المنطقية هي تعبير عن العقلانية المادية حيث لا يؤمن الإنسان إلا بالتجريب والأرقام , و لكنها في الوقت ذاته تعبر عن العقلانية المادية , فهي لا تشتغل بالكليات و المنطلقات الفلسفية , و قد أشرنا الى أن النازية ,كما يراها بعض المؤرخين = هي قمة العقلانية المادية , و نحن نتفق معهم في هذا , ونضيف أن هذا لا يمنع من أن تكون قمة الاعقلانية المادية أيضا , فهي تعبير عن تبلوُر نزعة تجريبية محضة,و ترفض الكليات الإنسانية والعقلية و أي شكل ن أشكال الميتافيزيقا , وتلتصق تماماً بحركة المادة و عالم الحواس و لعل الفلسفة العلمانية الشاملة الأساسية ,أي الدارونية الإجتماعية , هي تعبير عن هذا التعايش و الترابط بين العقلانية و اللاعقلانية.
Bookmarks