حينما يكون المرء بين النائم واليقظان .. مـتأرجحًا بين الحقيقة والخيال .. يزور أرض الأحلام .. ليرتد إلى الواقع .. يتلمّس بحر المنام .. فيعود إلى الشاطئ .. تثقل رأسه .. تنتبه عينه .. يتحدث حالمًا .. يُفيق متحركًا .. تتكاثر عليه الأحداث .. تتداعى إليه الخواطر .. تُغالبه السَّكرات .. حتى يستسلم نائمًا .. ثم يصبح .. ثم يصبح وهو يتوهم أنّه فعل وتحدّث، وقال وتحرّك، ودعا فأنجز، واستُنجِد فأنقذ، لا تدري أمخدوعٌ هو عن عقله، يعوزه الفرقان بين النوم واليقظة، أم ممخرقٌ يلبّس على الناس، أم أصابت حيرتُه من نفسِه هوًى فاستصوبه، وأيُّ ذلك كان .. فغاية شأنه أنّه كان بين النائم واليقظان .. تمامًا كما العلمانيين في هذه البلدان!!

تثقل رأسُه .. تنتبه عينُه .. يحدثنا سعادتُه عن الدولة العلمانية المنشودة، "حيث تمثيل المسيحيين في المجالس النيابية والمحلية"، ليُدخل السرور على قلوبهم، فتدخل أصواتُهم في صندوقه، وكأنّه ذاهلٌ عن حقيقة الدولة العلمانية، التي تفصل الدين عن الدولة، وترعى المواطنين بقطع النظر عن دينهم، فهي دولةٌ ذاتُ سياسةٍ ترفض أن يدخُلها الدين، فضلًا عن تقسيم الناس على أساسه، وبالتالي فهي سياسةٌ عمياءُ عن وجود "طائفةٍ دينيةٍ مسيحيةٍ" من الأساس، فكيف يُخدَع -أو يُخادِع- أحدُهم بزعمِ أن الدولة العلمانية تكفل تمثيل المسيحيين في مجالسها؟!! أليس من التناقض الأبلج أن تكون دولةٌ تمنع قيامَ أحزابٍ سياسيةٍ على أساسٍ ديني، ثم تسمح بالتمثيل السياسي لطائفةٍ دينية؟!! أليس من السخرية المحضة أن ترفض خانة الديانة في البطاقة الشخصية، وتدعو إليها في بطاقة عضوية مجلس الشعب؟!

إنّ وترَ الأقليات الدينية الذي يلعب عليه العلمانيون، هو وترٌ مقطوعٌ تلعبُ عليه يدٌ معروقةٌ مرتعشة، لا يروجُ عزفُها إلا في أرض الأحلام على قومٍ لا يسمعون، قومٍ لا يعقلون معنى الدولة العلمانية، التي لا تبالي أصلًا بالأغلبية الدينية، بل إنها تمنع هذه الأغلبية من رؤية ثمرةِ دينها في سياسة بلادها، أو أن ترى ثمرةَ سياسة بلادها في رفعة دينها، حكمًا تفرضه الحكومة العلمانية لفصل الدين عن الدولة، فمن باب أولى ألّا تبالي حكومةٌ كتلك بالأقليات الدينية، إلا ظنًّا أنّ منع الأغلبية يُرضي الأقليات، بدعوى أن المساواة في الظلم عدل!

يفيق متحركًا .. ويخبرنا سيادتُه -وهذا أحب الأسماء إليه- أن "دولة الإسلاميين لن تسمح بالحرية المطلقة لكافة الطوائف الدينية"، مع أنّ الدولةَ العلمانيةَ ليست دولةً ديموقراطية(*)،إنّها دولةٌ دوغمائيةٌ قائمةٌ على أيدلوجيةٍ لا تقبل المراجعة، ألا وهي فصل الدين عن السياسة والاقتصاد والعلم والتعليم، وبمضي الوقت على هذه السياسة، فإن المعتقدات والشعائر الدينية ستنزوي بعيدًا عن الدولة، ومن أجل ذلك "تحرّم" قيام أحزابٍ سياسيةٍ على أسس دينية، و"تحظر" خروج تأثير الدين إلى أيةِ مؤسساتٍ رسميةٍ ذات صفةٍ سياسيةٍ أو اقتصاديةٍ أو علمية، و"تبيح" تأثيره في إطار المجتمع المدني وحياة الأفراد الخاصة، و"تمنع" النظر إلى رغبة غالبية الشعب، مهما كانت رافضةً لتلك السياسة، طامعةً في تحكيم الشريعة، وتأطير الحياة بأصول العقيدة، فهؤلاء "العوام" لا يعرفون مصلحة البلاد، ورغبتهم "منسوخةٌ" برغبات السادة الكبراء!!

وحتى لو ابتعدنا عن هذا المفهوم التقليدي للدولة العلمانية، ذلك الذي يجب أن يتبادر إلى الأذهان عند دعوة علمانيٍّ لقيام دولةٍ على وفق مذهبه، أقول إننا لو ابتعدنا عن هذا المفهوم إلى غيره من صورٍ معدّلةٍ لدولةٍ ليبراليةٍ ديموقراطية، فإن ادعاء "السماح بالحرية المطلقة لكافة الطوائف الدينية" ليس بهذا الشيوع في مفاهيم الدول، بل ليس له وجودٌ أصلًا في نسقِ دولةٍ واقعيةٍ ما، مهما كانت هذه الدولة ليبراليةً أو ديموقراطية، وذلك بدءًا من الاعتراف الأفقي بالطوائف الدينية جمعاء، فالدولة لن تكفل -مثلًا- قيامًا مؤسسيًّا ولا تمثيلًا سياسيًّا لكافة الطوائف الدينية، مهما كانت حداثةِ أو قلة أتباع طائفةٍ ما، فلابد -إذن- من "انتقائيةٍ" في الاختيار، على أساسٍ موضوعيٍّ مطّردٍ قدر المستطاع، فما بال سيادتُه يعترض على "الانتقائية" في دولة الإسلاميين، ويغفل عنها في كافة النظريات السياسية والنظم الاجتماعية؟! وانتهاءً إلى الاعتراف الرأسي بأحقية ممارسة كافة الشعائر والأحكام، مهما كان تأثير هذه الممارسة على الطوائف الأخرى أو على الدولة أو حتى على الدول الأخرى، لابد أن يكون هناك "تقييدٌ" ما لهذه "الحرية المطلقة" داخل الطائفة الواحدة، فما بال سيادتُه مرةً أخرى يعترض على "التقييد" في دولة الإسلاميين، ويغفل عنه في كافة النظريات السياسية والنظم الاجتماعية؟!! أفيكون سيادتُه واهمًا حالمًا مثقَلةً رأسه تتداعى إليه السمادير؟!!

قد ترى أن العين الكليلة المتأرجحة بين النوم واليقظة، تصلح تفسيرًا كافيًا لسلوك امرئٍ يتعامى عن جواب سؤال "أية علمانيةٍ نطبّق؟!"، فضلًا عن السؤال الأوسع "أية ليبراليةٍ نطبّق؟!"، يتعامى عن هذا ثمّ يأتي ليسأل عن أي إسلامٍ نطبّق، وتصلح تلك العين الكليلة كذلك تفسيرًا للتعامي عن الاختلاف الضارب في الجذور بين النظريات السياسية الليبرالية(**)، مع التعامي عن الاتفاق في الأصول بين دعاة الدولة الإسلامية، إلّا أنّ هذا الكلل لا يصلح أن ينسجم مع رصد هذه العين للاختلاف -السائغ على مستوى النظرية والتطبيق- في الجزئيات بين دعاة الدولة الإسلامية، وتضخيمه وكأنّه الشوكة التي صفا منها موردهم واغتصّ بها الإسلاميون وحدهم!! هذه عينٌ كليلةٌ عدِم أصحابُها الإنصاف، ثمّ إنّه لا يصلح أن يتعامل الإعلام مع هذه العين الكليلة حدّ العمى، الظالمة مبلغَ اللدد في الخصومة، على أنّها عين زرقاء اليمامة تستشرف المستقبل، وتحذّرنا الخطر الزاحف!!

وهكذا من سَكرةٍ إلى فكرة، حتى نصل إلى أمّ السَّكَرات، إذ يحدثوننا عن فصل الدين عن الدولة، حديثًا يُذكرني بمقولة بنيامين فرانكلين: "المشكلة في إنجاز "اللاشيء" أنك لا تدري متى انتهيت!!"، فهذا الشعار الناصح "اتركوا الدين جانبًا"، وإن كان في رسمه عدميًّا سلبيًّا كأنّه "لاشيء"!!، إلا أن السعي في تحقيقه يستلزم "أشياءً" تُفعل، لتنفير الناس من دخول الدين في الدولة، بما يشتمل عليه ذلك من التنفير من الدين وأهله، ليكون الأمرُ كما لخصه الكاتب علاء الأسواني في مقاله "هل تسمح الدولة المدنية بتطبيق الشريعة؟" بقوله: "العلمانية فعلًا حركةٌ معاديةٌ للأديان جميعًا"، ومثل تلك المعاداة تحتاج بوقًا إعلاميًّا وأحزابًا سياسية، وهذا وتلك يقوم على دعمٍ ماليّ بغض النظر عن مصدره، وهكذا .. يمتد إنجاز هذا "اللاشيء" من غير حد، حتى ينكشف الوجه القبيح، ويسفر القناع عن الشعار الدامي "أعدِموا الدين وأهله"، لنضع بدل العقيدة الدينية عقيدةً أخرى غير أنها معاديةٌ للدين، لا مانع أن تندرج تحت نفس حيثيات فصل الدين عن الدولة، لننادي بفصل العلمانية عن الدولة!!

حتى يستسلم نائمًا .. ثم يصبح .. ثم يصبح وهو يتوهم أنّ دولة العلمانية دولةٌ ديموقراطية، تكفل حقوق الأقليات الدينية، تمامًا كما الأغلبية، وتعترف بكافة الطوائف والفرق، وتكفل لهم جميعًا الحرية التي يرتجون، وهي دولةٌ واضحة المعالم، ليس بين المنادين بها اختلاف، ولا في تاريخها خلاف، وأن علاقة هذه الدولة بالدين هي علاقةٌ سلميةٌ ودّية، لا تنادي بتنحيته إلا حفاظًا على قدسيته ... أما حديث أن العلمانية تتناقض ودعوى الديموقراطية، وكونها لا تبالي بالأغلبية فضلًا عن الأقليات الدينية، وكون الاعتراف بالحرية المرجوّة من كافة الطوائف والفرق أمرًا خياليًّا لا تقوم به دولة، وقضية أن الاختلاف بين المنظرّين لهذه الدولة ضاربٌ في الجذور، وباسم هذه التنظيراتِ والمثلِ أريقت دماء، وزهقت أنفس، وقضية معاداة العلمانية للدين، وتعمدها إلى إقصاء الدين وأهله، هذه الأحاديث والقضايا كلها أضغاث أحلام، وكابوس مثقِل، ودعاوى الشريرين!!

إن التذبذب بين "اللاشيء" و "الشيء"، والغفلة عن الفرق بين الدعوى والفعل، والتأرجح بين الخيال والواقع، والتغبيش على البرزخ بين النظرية والتطبيق، هي الحيلة التي بها تحيا العلمانية العربية، وعليها يقتات أهلها، لترمينا بدائها وتنسل، أو تشنّع علينا بغير داء، أو تنسل عند المراجعة، والتركيز على ذلك الفرق، مع تسليط الضوء على هذا البرزخ، لا يفيد في مقام المناظرة فحسب، بل بمثل هذا يظهر ضعف النخبة العلمانية، وأن غاية أمرها لا يتعدى التشنيع النظري، مع علمهم -أو جهلهم- بأن ما يشنّعون به يلحق مذهبهم أكثر من غيره، وأن كثيرًا مما يشنّعون به ليس من باب المذمّة أصلًا، ومن اتخذ مثل هذا المسلك -كائنًا ما كان مذهبه- فهو صاحب غرض، وداعية هوى، لا باحث عن الحق .. وعليه، فليس من حق هذه النخبة أن تسيطر على الساحة، لتفرض علينا ما تريد وتمنع ما تكره .. وتمنع المتدينين من حقهم في رفع شعار فصل العلمانية عن الدولة، من خلال الدعوة بالقول والسلوك، وبث العقيدة في النفوس، واستحضار التاريخ قديمه وحديثه، وتنزيل ذلك على الواقع مع هامش كافٍ للتمحيص بالتجربة، ثمّ مضاعفة الردّ بكشف العلمانية وأهلها، ومن حقّهم أن تكون لهم وسائل إعلامٍ لا تُحارب، وأحزابٌ سياسيةٌ لا تمنع، من حقّهم أن تُتاح لهم فرصةٌ تكافئُ فرصة العلمانيين، من حقّهم ألا يخضعوا وأغلبية الشعب لحكم جماعةٍ علمانية، قلّ فيهم من يُتقن مذهب نفسه، وكثر فيهم من يُحسن لغة الفزاعات، وترميز الحواجب، وتصعير الخدود، والكبر على خلق الله!!


-------------
(*) انظر على سبيل المثال الفصول الأولى من كتاب:
Secularism or democracy? Associational governance of religious diversity- Veit Bader- Amsterdam university press 2007-
(**) انظر مثلًا كتاب:
Liberalism at the crossroads .. An introduction to contemporary liberal political theory and its critics- Christopher Wolfe- Rowman & littlefield publishers 2003