بسم الله الرحمن الرحيم

المبادئ الفطرية (*)

يطلق على هذه البادئ أسماء كثيرة ، منها :

1- المبادئ الفطرية ، وذلك لأنها مفطورة في النفس منذ خلقها.
2- القضايا المعروفة بنفسها ، لأجل انه لا يُحتاج في إثبات صدقها الى أكثر من تصورها .
3- الأوليات العقلية ، لأجل أن الذهن يلحق محمول القضية بموضوعها أولا لا بتوسط شيء آخر ، بل من أول وهلة.
4- الأفكار المطلقة ، وذلك لأن أحكامها عامة في كل الأزمان والأماكن ، فمقتضياتها غير مقيدة بزمان أو مكان.
5- الأفكار البديهية، والبديهة : مأخوذة من البده والبداهة وهي أول كل شيء وما يفاجأ به ، وسميت الأمور الفطرية بهذا لأنها لا تحتاج في حصولها الى نظر واكتساب وإنما بمجرد التصور .
6- الضروريات ، وهي مأخوذة من قولهم : اضطر الرجل إلى كذا إذا الجأ اليه ، وسميت هذه الأفكار أفكارا ضرورية لأن النفس تضطر للتسليم بها.

تعريفها :
عرف ابن سينا الأمور الفطرية فقال هي : " قضايا ومقدمات تحدث في ذهن الانسان من جهة قوته العقلية ، من غير سبب يوجب التصديق بها إلا ذواتها ". وقال الغزالي : " هي قضايا تحدث في الانسان من جهة قوته العقلية ، من غير معنى زائد عليها يوجب التصديق بها" ، وقال الساوي : " هي القضايا التي يصدق بها العقل الصحيح لذاته ولغريزته ، لا لسبب من الأسباب الخارجية عنه ، من تعلم أو تخلق بخلق أوجب السلامة والنظام ، ولا تدعو إليها قوة الوهم أو قوة أخرى من النفس ، ولا يتوقف العقل في التصديق بها إلا على حصول التصوير لأجزائها ، فإذا تصور معاني أجزائها سارع إلى التصديق بها من غير أن يشعر بخلوة وقتا ما عن التصديق بها".

خواص المبادئ الفطرية :

تحصل من هذه الحدود التي ذكرها العلماء للمبادئ الفطرية أن لها خاصيتان لا تنفك عنها أبدا ، هي: الاولى : كونها ضرورية ، والثانية : كونها كلية .

أما بالنسبة للخاصية الأولى ، وهي الضرورة ، فالمراد بها : أن صدق هذه المبادئ لا يحتاج الى دليل يثبته ، بل هي ثابتته بنفسها ، فلا يرجع في إثبات صدقها إلا الى تصور العقل لها ، وإليها المنتهى في الاستدلال ، وممن ذكر هذه الخاصية مسكويه ، فإنه قال عما للعقل من معارف : " بل له فعل آخر خاص به ، ليس بمأخوذ من الحس ، وذلك أن له الأوائل التي بها يحكم على الحس وغيره ، ليست بمأخوذة من شيء غير العقل نفسه ، لأنها لو كانت مأخوذة من شيء آخر لم تكن أوائل". وهذا يدل عليه كلام ابن سينا والغزالي والساوي لما ذكروا حدود هذه المبادئ ، فإنهم قرروا أن صدقها لا يرجع فيه إلا الى العقل فقط وليس إلى أمر آخر.

ومما يبين كون بعض المعارف لا بد أن يكون ضروريا هو : أن المعارف البشرية لا يمكن أن تكون كلها ضرورية ، بحيث تكون حاصلة في النفس من غير اكتساب ولا نظر ، فهذا باطل مخالف لواقع الناس.

ولا يمكن أن تكون كلها نظرية بحيث يكون إثبات كل المعارف البشرية عن طريق النظر والاكتساب ، لأن هذا يؤدي الى أحد أمرين ممتنعين ، وهما إما التسلسل أو الدور ،و التسلسل هو ترتيب أمور على أمور الى غير نهاية ، والدور هو توقف الشيء على ما يتوقف عليه ذلك الشيء .

وبيان ذلك أن المعارف النظرية لابد لها من مستند تستند عليه في إثبات صدقها إذ هذا هو معنى كونها نظرية، وهذا المستند لا يخلو إما أن يكون نفس القضية النظرية التي يراد إثباتها ، وإما أن تكون قضية أخرى. فإن كانت هي نفسها ، فهو باطل لأنه يؤدي الى الدور الممتنع ، وهو إثبات الشيء بنفسه ، فلابد أن يكون مستند صدق القضية النظرية قضية أخرى. وإذا المستند قضية أخرى ، وقد فرضنا أنها نظرية فهي تحتاج الى مستند آخر وهكذا الى غير نهاية ، وهذا هو التسلسل الممتنع ، ونهاية هذا عدم العلم اليقيني .

فتحصل أن المعارف البشرية لا يمكن أن تكون كلها ضرورية ، ولا يمكن أن تكون كلها نظرية ، فلابد إذن من التسليم بأن بعضها ضروري وبعضها نظري.

وفي بيان ضرورة انقسام المعارف الى هذين القسمين يقول ابن تيمية : " البرهان الذي ينال بالنظر في العلم ، لابد ان ينتهي الى مقدمات ضرورية فطرية ن فإن كل علم ليس بضروري لا بد ان ينتهي الى علم ضروري ، اذ المقدمات النظرية لو اثبتت بمقدمات نظرية دائما لزم الدور القبلي او التسلسل في المؤثرات في محل له ابتداء ن وكلاهما باطل بالضرورة واتفاق العقلاء من وجوه. فإن العلم النظري الكسبي هو ما يحصل بالنظر في مقدمات معلومة بدون النظر ، اذ لو كانت تلك المقدمات أيضا نظرية لتوقفت على غيرها ، فيلزم تسلسل العلوم النظرية في الانسان ، والانسان حادث بعد ان لم يكن ، والعلم الحاصل في قلبه حادث ، فلو لم يحص في قلبه علم إلا بعد علم قبله للزم أن لا يحدث في قلبه علم ابتداءا ، فلابد من علوم بديهية يبتدئها الله في قلبه وغاية البرهان أن ينتهي اليها".

والمقصود هنا تقرير وجود معارف بشرية في النفس البشرية لها خاصية الضرورة ، وقد ظهر ذلك.

مقتضيات خاصية الضرورة :

المقتضيات المتعلقة بهذه الخاصية متعددة، وهي:

1- أنه لا يمكن الاستدلال على إثبات صحتها، لأن اليها المنتهى في إثبات النظريات ، ولأنه لو أمكن ألا تثبت الضروريات إلا بالاستدلال ، لما أمكن إثبات شيء من العلوم ، و لأدى ذلك الى التسلسل الممتنع ، ولهذا صرح كثير من العلماء بأن الضروريات ليس لها برهان ، وفي هذا يقول الكندي : " لا يطلب في إدراك كل مطلوب الوجود البرهاني ، فإنه ليس كل مطلوب عقلي موجدا بالبرهان ، لأنه ليس لكل شيء برهان ، إذ البرهان في بعض الأشياء ، وليس للبرهان برهان ، لان هذا يكون بلا نهاية ، إن كان لكل برهان برهان، فلا يكون لشيء وجود البتة، لأن ما لا ينتهي إلى علم أوائله فليس بمعلوم، فلا يكون علما البتة" ويقول ابن حزم : "ما كان مدركا بأول العقل أو الحس فليس عليه استدلال أصلا، بل من قبل هذه الجهات يبتدئ كل احد بالاستدلال ، وبالرد إلى ذلك فيصح استدلال أو يبطل".

2- ومن مقتضياتها أيضا : أنه لا يصح القدح في ما هو ضروري بما هو نظري ، لأن الضروريات أصل صحة النظريات، فلو صح أن يقدح في الأصل بالفرع ، لأدى ذلك الى القدح فيهما معا، وهذا يؤدي الى إفساد العلوم ، وفي هذا يقول الرازي: "القدح في الضروريات بالنظريات يقتضي القدح في الاصل بالفرع ، وذلك يوجب تطرق الطعن الى الأصل والفرع معا ، وهو باطل".
ويقول ابن تيمية : " أما دفع الضروريات بالنظريات فغير ممكن ، لأن النظريات غايتها أن يحتج عليها بمقدمات ضرورية ، فالضروريات أصل النظريات ،فلو قدح في الضروريات بالنظريات لكان ذلك قدحا في أصل النظريات ، فتبطل الضروريات والنظريات".

3- ومن مقتضياتها أيضا : أنه لا يصح أن يكون في الضروريات ما هو باطل، بل كل ما هو ضروري فهو حق صحيح، إذ لو أمكن أن يكون في الضروريات ما هو باطل لأدى ذلك إلى اشتباه العلم ، وعسر اليقين وامتناعه وفي بيان هذا يقول ابن تيمية : " إذا جوزنا أن يكون في البديهيات ما هو باطل لم يمكن العلم بأن تلك البديهية المميزة بين ما هو صحيح من البديهيات الأولى وما هو كاذب مقبول التمييز ، حتى يعلم انها من القسم الصحيح ، وذلك لا يعلم إلا ببديهية أخرى مبينة مميزة ، وتلك لا يعلم أنها من البديهيات الصحيحة إلا بأخرى ، فيفضي الى التسلسل الباطل ، او ينتهي الأمر الى بديهية مشتبهة لا يحصل بها التمييز ، والنظريات موقوفة على البديهيات ، فإذا جاز أن تكون البديهيات مشتبهة ، فيها حق وباطل كانت النظريات المبنية عليها أولى بذلك وحينئذ فلا يبقى علم يعرف به حق وباطل، وهذا جامع كل سفسطة".

4- ومن مقتضياتها أيضا: أنه لا يمكن أن يقع التعارض بين البديهيات لأنه إذا كان كل ما هو بدهي حق فإن الحق لا يمكن ان يتعارض أبدا ، لان التعارض لا يمكن ان يقع بين شيئين مع عدم إمكان خطأ احدهما ، فالشيئان اللذان لا يمكن أن يكون أحدهما خطأ فإنه لا يمكن أن يتعارضا، والبديهيات لا يمكن ان تكون متعارضة.

وقد جعل بعض المتكلمين من مقتضيات كون الشيء ضروريا أن لا تقع المخالفة فيه ، فكل ما وقعت المخالفة فيه فهو ليس ضروري عندهم ، وقد استندوا على هذه الفكرة في انكار كثير من الضروريات ، ولهذا جعل بعضهم الاعتراف بوجود الله سبحانه وتعالى ليس ضروريا لأن بعض العقلاء خالف فيه، وفي هذا يقول القاضي عبد الجبار: "استدل على أنه تعالى لا يعرف ضرورة بوجوه منها: أنه لو كان العلم به ضروريا لوجب أن لا يختلف العقلاء فيه، كما في سائر الضروريات من سواد الليل وبياض النهار ، ومعلوم أنهم مختلفون فيه" ، وكذلك السنوسي لما قرر أن معرفة الله لا تحصل إلا بالنظر علل ذلك بأن العلم بالله لو حصل بالضرورة لاشترك كل الناس في تحصيله ، فلما لم يشترك كل الناس في حصوله دل على أنه ليس ضروري.
وقد شكك الرازي في كثير من الضروريات بناءا على انه قد خالف فيها بعض العقلاء .

وما ذكره هؤلاء من أن الضروري لا بد أن يشترك فيه كل الناس غير صحيح ، فإن الاشتراك فيما هو ضروري غير لازم وفي هذا يقول ابن القيم: " الاشتراك في المعلومات الضروريات غير واجب ، ولا واقع ، والواقع خلافه" ، ويقول ابن تيمية :" قول القائل إن الضروريات يجب اشتراك العقلاء فيها خطأ، بل الضروريات كالنظريات ، تارة يشتركون فيها ، وتارة يختص بها من جعل له قوة على إدراكها". وممن نص على أنه لا يشترط في الضروريات اشتراك الناس فيها التفتازاني، وفي هذا يقول : " الضروري قد يقع فيه خلاف. إما لعناد ، أو لقصور في الإدراك ". وممن نص على ذلك ابن رشد فقد قال : " ليس من شرط المعروف بنفسه أن يعترف به جميع الناس".

فيظهر ان قول من يقول أن الضروريات لا بد أن يشترك فيها الناس غلط ، ويدل على غلطه عدة أمور:
الأمر الأول : أن حاصل قولهم أن دعوى الضرورة فيما وقع فيه الخلاف غير صحيح كما قال الرازي : " دعوى الضرورة في محل الخلاف غير مقبولة " ، وهذا يقتضي ألا يوجد أمر ضروري البتة لأن السوفسطائية خالفوا في كل ضروري، فكل الضروريات قد وقعت فيها المخالفة إذن، وهذا ما لا يسلم به المتكلمون ، فإنهم قد قرروا الضرورة في عدة أمور مع أنه قد وقعت فيها المخالفة ، ولهذا الزم الآمدي بعض المتكلمين في نفي الضرورة عن المتواتر أن ينكر كل الضروريات فقال: " ولقائل أن يقول: الاختلاف لا يدل على أنه غير ضروري ، وإلا كان خلاف السوفسطائية في حصول العلم بالضروريات مانعا من كونها ضرورية".

الأمر الثاني : أن أصل الإشكال الذي أوقع أولئك في هذا القول أنهم لم يفرقوا بين كون الشيء هو هو وبين كونه مدركا ، وبعبارة أخرى لم يفرقوا بين ما يرجع الى الشيء وبين ما يقوم بالنفس عنه ، فإن ما يقوم بالنفس عن الشيء لا يلزم أن يكون متحققا في الشيء وإلا لامتنع الخطأ، فإن الخطأ إنما هو عدم موافقة ما يقوم في القلب عما هو في الخارج ، ومما يوضح هذا أن أمور الإدراك ليست أوصافا قائمة بالأشياء وإنما هي أوصاف قائمة بالأنفس عن الأشياء ، فالعلم والجهل والظهور والخفاء والعلم بالضرورة وغير ذلك ليست أوصافا قائمة بالأشياء بحيث تكون ملازمة لها لا تفارقها ، حتى يقال إن الناس لا بد أن يشتركوا في إدراكها ، وإنما هي أوصاف قائمة بالذات المدركة ، وما يقوم بالأنفس ليس له ضابط يضبطه.

والامر الثالث : أن من نفى الضرورة عن بعض الاشياء من المتكلمين لأجل وقوع المخالفة فيها أثبت الضرورة في بعض الأشياء مع المخالفة فيها من بعض العقلاء ، من ذلك ما فعله الرازي فإنه قرر أن التواتر يحصل به العلم الضروري ، مع أنه قد خالف في دلالته بعض العقلاء.

ومما ينبغي أن يعلم أنه ليس من لازم كون الاشياء ضرورية أن تكون متساوية في الجلاء والظهور ، بل قد يكون بعضها أجلى من بعض ، لأن هذه الأمور متعلقة بالمدرك لا بالشيء نفسه ، والمدركون متفاوتون في هذه الاوصاف ، وفي هذا يقول ابن تيمية : " العلوم الضرورية متفاوتة في الجلاء ، كما أن العلوم النظرية متفاوتة في الخفاء ، وكما أن التفاوت في النظريات لا يخرجها عن كونها نظرية ، فكذلك التفاوت في الضروريات لا يخرجها عن كونها ضرورية".

الخاصية الثانية : الكلية والمراد بها : أن أحكام هذه الضروريات تشمل جميع الموجودات ، ولا تختص بموجود دون موجود ، بل هي منطبقة على كل ما ثبت وجوده وما لم يتثبت بعد، فأحكامها ليست خاصة بزمان دون زمان ولا بمكان دون مكان ، ولهذا يطلق على هذه الخاصية في بعض الموارد إمكان التعميم ، والصدق المطلق .

وثبوت هذه الخاصية للأمور الفطرية يقتضي أنه لا يصح أن يعتمد في بيان صدقها على ما يدرك بالحواس ، وذلك لان الحس لا يدرك إلا ما تعلق به إدراكه المباشر ، وما يتعلق به إدراكه المباشر لا يمكن أن يكون عاما لكل الأشياء ، فإثبات صدق هذه الأمور لابد أن يرجع فيه الى طريق آخر غير الحس ، ولابد أن يكون العقل لأنه لا طريق غيره ، ولهذا كان إدراك الأمور الفطرية من خواص العقل فقط، وفي بيان هذا يقول الغزالي: " العلوم الكلية الضرورية من خواص العقل ، إذ يحكم الإنسان بأن الشخص الواحد لا يتصور أن يكون في مكانين في حالة واحدة، وهذا حكم منه على كل شخص ، ومعلوم أنه لم يدرك بالحس إلا بعض الأشخاص ، فحكمه على جميع الأشخاص زائد على ما أدركه الحس".

______________
(*) المصدر : (الحد الأرسطي أصوله ولوازمه وآثاره على العقيدة الإسلامية) بتصرف