.....
ثانيا : مشروع د. طه : أو حق الاختلاف في التفلسف
أو كيف نخرج من نفق التبعية والتقليد؟
نجد د.طه عبد الرحمن يُفصح عن مشروعه الفكري في بداية الفصل السابع من كتابه سؤال الأخلاق [ ط1، 2000] حيث يقول:
"ليس يخفى أننا كنا نسعى منذ صدور كتابنا: العمل الديني وتجديد العقل [ ط1، 1989] إلى الإسهام في تجديد الفكر الديني الإسلامي بما يُؤهله لمواجهة التحديات الفكرية التي ما فتئت الحضارة الحديثة تتمخض عنها، بل كنا نسعى، على وجه الخصوص، إلى وضع نظرية أخلاقية إسلامية مستمدة من صميم ذلك الفكر، نظرية تُفلح في التصدي للتحديات الأخلاقية لهذه الحضارة بما لم تُفلح به نظائرها من النظريات الأخلاقية غير الإسلامية …" (6).
وهو مشروع يرمي به إلى تأسيس يقظة دينية لها سند فكري محرر على شروط المناهج العلمية، أي أنه هيأ لها التأطير المنهجي المحكم، والتنظير العلمي المنتج، والتبصير الفلسفي المؤسس (7).
ولكن ما هي الوسيلة التي تمكن من تأسيس ذلك المشروع وتأصيله، وكيف نحرر المتلقي العربي من التبعية، ونجعله قادرا على أن يستقل بفكره، ويُبدع في مجاله التداولي الخاص؟
أ - فما هي معالم هذا المشروع ؟
(1)
وَضْعُ فلسفة إسلامية تُضاهي الفلسفة الغربية الحديثة، وتتغاير معها في المنطلقات والتصورات والمفاهيم والمصطلحات.
أو قل وضع أصول الإبداع المعرفي الإسلامي العربي،
من منطلق القيم الدالة على الخصوصية الإسلامية العربية، أي من منطلق أن كل فلسفة لها ارتباطا الخاص بسياقها التاريخي واللغوي والأدبي.
مشروعه الفلسفي يتمثل في وضع ما أسماه
"فقه الفلسفة"
وهو"علم ينظر في الأعراض الذاتية للفلسفة، ويستخرج قوانينها ويرتب مسائلها (8) ".
وإجرائية هذا العلم تتمثل في الكيفية التي بها نتحرر من التبعية لفلسفة الغربيين، وهي كيفية نبدع من خلالها على مقتضى فكرنا وواقعنا، ونستشكل بها ما يهمنا في حالنا ومآلنا. ومن خلال ذلك الفقه للفلسفة نتفاعل مع ما لابد من ضرورة التفاعل معه، ونحاور ما يصح الحوار معه بمنظارنا لا بمنظار غيرنا، ومن خلال ذلك الفقه نستقل بفكرنا ونُبدع كما يُبدع غيرنا.
فالغاية من هذا المشروع خلق فضاء نتفلسف فيه بتوجيه من رؤيتنا الخاصة، من هويتنا الخاصة، من حقائقنا وأوضاعنا ومشاغلنا، وانطلاقا من مفاهيمنا ومصطلحاتنا.
وهذا يجعلنا لا "نتعولم" بمشيئة غيرنا، ولا نتشكل كما يُراد بنا.
فقديما نقلنا عن اليونان في مجالات التفلسف، ومنذ نهضتنا وإلى الآن ننقل عن الغرب. وأمام هذا الارتكاس في التقليد والتبعية، هيأ د. طه عبد الرحمن نفسه لمواجهة هذا الواقع المتأزم للفكر العربي، وقرر أن يفتح عهدا جديدا للممارسة الفلسفية في العالم الإسلامي والعربي، فاستنهض همته لوضع تصور يتجاوز به ما تقرر في مجال الفلسفة، منذ كانت.
فهو يرى أن باب الفلسفة ظل مغلقا، وأن فتحه سيكون على يديه لأول مرة (9).
وجعل د. طه لفقه الفلسفة أركانا أربعة هي:
الترجمة والتعبير والتفكير والسلوك
( صدر له ما يتعلق بالترجمة والتعبير ).
وفقه الفلسفة، كما يقول:
"يُفيد في العلم بالأسباب الموصلة إلى إنتاج الفلسفة".
وذكر أنه انشغل في ممارسته الطويلة للفلسفة بالبحث عن الطريق الذي يوصل إلى تحصيل القدرة على الإبداع الفلسفي، وتبين له أن طالبي الفلسفة لم يسلكوا الطريق المؤدية إلى الإبداع؛ فانبرى لهذه المهمة قائلا:
"فأردنا أن ندلهم على معالم الطريق الذي ظهر لنا أنه يوصلهم إلى مطلوبهم من غير تبذير للجهد ولا تبديد للزمن" (10).
(2)
تأسيس رؤية نقدية إبداعية على مقتضى المجال التداولي الإسلامي لغةً وفكراً وعقيدةً،
رؤية يتميز بها المتفلسف العربي في معترك الحضارة المعاصرة. رؤية تقوم على مراجعة المفاهيم ونقدها وإنشاء ما ينسجم مع ما يستشكله ويستدل عليه في مجاله الإسلامي العربي.
(3)
تقديم كيفية عملية وتطبيقية لإخراج المتفلسف العربي من مرحلة التقليد ودعوته إلى المطالبة بحقه في الاختلاف؛
إذ بذلك يتفلسف على مقتضى هويته، وهو بذلك يُدافع عن وجوده، ويتحرر من تصورات فلسفة غربية تتناقض مع كينونته وهويته، ويُسهم في إغناء التجربة الإنسانية.
وراح في مشروعه يهدم بمنطقه الصارم ما يراه يستحق الهدم؛ لأنه بُنِيَ – في تصوره – على غير أساس.
وراح يُعيد البناء ويُقدم اجتهادات غير مسبوقة في هندسته وكيفية إقامته؛ انطلاقا من استيعاب المطلوب وتحليله من جميع وجوهه، وتشريحه وتقويمه على مقتضى ما صح عنده.
ود. طه عبد الرحمن قَدم في مشروعه ما به اتضح أنه يختلف عن غيره. ويُقرر في مشروعه أن قيمة الاختلاف بين فلسفات الأقوام، تُصان بها الجماعة البشرية وتتقوى، وخاصة حين يصبح ذلك الاختلاف بمثابة ميثاق فلسفي بين الأقوام؛ فيكون لكل قوم حقهم في التفلسف والاجتهاد في تحقيق ذلك الحق وإثباته. وقد حدد د.طه في كتابه:
الحق العربي في الاختلاف الفلسفي ( ط1، 2002)،
مظاهر الاختلاف وأسبابه وما يُعترضه من تحديات.
(4)
إنجاز وسيلة التحرر من الفلسفة الغربية، أو قل إنجاز ذلك الاختلاف على أرض الواقع وبكيفية تطبيقية.
ومن أجل أن يتحررالمتفلسف العربي، من تقليد الفلسفة الغربية، دعاه "أن يهيئ من الآن اختلافه الفكري، ويضع أصوله ويبني مناهجه؛ بما يجعل للأمة إسهاما متميزاً في هذا المعترك الفكري المقبل" (11).
(5)
تقريب العلوم المنقولة إلى مجال التداول الإسلامي: وتقريبها يتم عن طريق"تخريجها على مقتضيات أصوله الثلاثة: اللغة والعقيدة والمعرفة" (12).
ب - كيف هيأ د. طه اختلافه الفكري ؟
(1)
من حيث الأصول والمنطلقات المعرفية:
نجده قد هيأه من داخل المجال التداولي الإسلامي،
فجدد صلة الآلة المنطقية بالفلسفة،
وبسط نظرية تكاملية بناء على حقيقة التداخل بين المعارف الإسلامية.
وظل يُؤسس لرؤية مغايرة لما تتطارحه الأقلام في مجالات الفلسفة؛ مما هو متداول في الساحة الفلسفية لدى الغربيين.
وقد سعى في مشروعه إلى تأصيل رؤية أخلاقية، بل ويمكن القول إن مشروعه أساسه الأخلاق؛ وهو أساس يفتقده الغرب في اندفاعاته نحو الحداثة بدون ضوابط أخلاقية. وتفتقده الفلسفات الغربية الحديثة بتصوراتها لعقلانية غير مشروطة، وتفتقده الدول التي ارتهنت لغيرها، وربطت مصيرها الفكري والحضاري به، وتفتقده الدول التي تتحدث عن تخليق السياسة والحياة العامة، بعد أن افتقدت تخليق الحياة الخاصة.
(2)
ومن حيث المنهجية:
1 - تأصيل مفاهيم فلسفية موصولة بالمجال التداولي الإسلامي ومطبوعة بالقيم العملية التي تميز هذا المجال؛ أي إنشاء مفاهيم فلسفية نابعة من مجاله الخاص. ويتم ذلك كله من خلال "كتابة تزدوج فيها الفلسفة بالمنطق؛ باعتباره، المنهج الذي يوصلها إلى الحقائق التي تطلبها" (13).
2 - والارتقاء بالمفاهيم الطبيعية إلى رتبة المفاهيم الصناعية عن طريق الاستدلال بها، وجعلها مفاهيم مشروعة ومًنتجة.
3 –إبداع عتاد اصطلاحي يمكن المتفلسف العربي من إنتاج خطاب فكري مستقل. وفي كتابه القول الفلسفي، كتاب المفهوم والتأثيل قدم كيفية صناعة المفاهيم الفلسفية. يقول:
" آن الأوان لكي نخوض معركة اصطلاحية نواجه فيها مصطلحات الفضاء الفلسفي المتهوِّد بمصطلحات تدفع عنا شروط التهويد (...)
فإن قوة الاصطلاح غدت لا تقل عن قوة السلاح " (14).
4 –الجرأة في استثمار ما تقرر في مجال الفلسفة بما ينسجم مع المجال التداولي الخاص؛ وذلك بنقد المفاهيم وتصحيحها، وتوجيهها توجيها إسلاميا يضاهي به الباحث ما لدى الآخرين من تصورات.
ففي كتبه عامة تجده ينقد العقلانية الغربية، ويبين مظاهر النقص التي تشوبها، وما فهمه المنظرون لها من أهل الإسلام. وتجده يقوّم تلك الحضارة على مقتضى عقيدته بنفس عزيزة تأبى الخنوع لغير صوت الوحي، وبكبرياء العالم المتمكن من أدواته الفكرية والمنهجية، فتراه في مواقفه كلها صلبا لا يلين ولا يستكين، ولا يتخاذل فيما يؤمن به ويدافع عنه بقوة أهل اليقين.
جـ – فكيف الخروج من التبعية والتقليد ؟
....
Bookmarks