النتائج 1 إلى 15 من 15

الموضوع: قراءات فاحصة عن ** المشروع الفذّ العظيم ** للإمام الفلسفي طه عبدالرحمن

  1. #1

    Exclamation قراءات فاحصة عن ** المشروع الفذّ العظيم ** للإمام الفلسفي طه عبدالرحمن

    نظرة في مشروع الدكتور طه عبد الرحمن

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    عباس أرحيلة
    محاضرة ألقيت بمقر منتدى الحكمة للمفكرين والباحثين بتاريخ 11 مارس 2006



    محاور المقال:


    أولا : موقف د. طه من التبعية والتقليد

    ثانيا : مشروع د. طه : أو حق الاختلاف في التفلسف أو كيف نخرج من نفق التبعية والتقليد؟

    ثالثا : مظاهر التجديد في مشروعه

    رابعا : لماذا المواجهة وحق الاختلاف ؟

    خامسا: مشروع جريء إلى أبعد الحدود

    سادسا: بأي شيء يختلف د. طه عن غيره من أهل الفكر؟

    سابعا : ما هي قيمة هذا المشروع ؟

    ثامنا : لماذا تغافل أهل التفلسف عن هذا المشروع ؟




    تمهيد:

    تعددت مشاريع الحلول وتنوعت للخروج من أنفاق التبعية
    على امتداد القرن العشرين، وخاصة في النصف الثاني منه، وعقدت المؤتمرات والندوات، وتنوعت الكتابات لتحليل أسباب التأخر، والكشف عن إشكالات الخلل في العقل العربي، وأسباب تخلفه في الدفع بالنهوض في معترك العصر. وما تزال آلاف الأوراق تُسوَّد يوميا؛ تُشخص المشاكل وتُقدم الحلول وتقترح البدائل وترسم المسارات في ضوء ما جد من مناهج. وَتقدَّمَ أعلامُ الفكر في الوطن العربي بعشرات المشاريع للخروج من التخلف، وولوج عالم الحداثة، ومع الأيام لم يتحقق شيء من تلك المشاريع.
    لقد لقيت الأمة الإسلامية في الثلث الأخير من القرن الماضي عنتا شديدا من جراء أوضاعها، ولحقها من اليأس والإحباط ما زاد من ضياعها وتيهِها.
    وتكشَّفَ، خلال هذه الحقبة، ارتهانُ الشرق لحضارة الغرب الحديث في كل مجالات الحياة؛ وتبعيتُه له اقتصاديا وسياسيا وثقافيا. ومن تبعات تلك التبعية وقوع كثير من أهل النظر والإبداع في الفكر العربي الحديث في تقليد الحداثة الغربية تقليدا أضَّر بإنسانيتهم وهويتهم الحضارية، وجعلهم يُفكرون على مقاسات غيرهم، ويضعون الحواشيَ على أفكار انتُزعت من سياقات لا تمت لواقعهم بصلة إلاّ على سبيل التمحّل والرغبة في التقليد.
    وأقدم فيما يلي مشروعا فلسفيا شع خلال الثمانينيات من القرن العشرين في المغرب الأقصى.
    وهي مرحلة استأسدت فيها الحداثة في ديار أهل الإسلام، وترسخت التبعية فيهم.
    وهو مشروع أوقفه صاحبه – في تقديري -
    على أربعة محاور:
    أولها:
    تجديد النظر في حقيقة الإسلام، وإعادة العزة والشموخ للفكر الإسلامي في المرحلة الراهنة.
    وثانيها:
    إنشاء نظرية تكاملية للتراث يتم من خلالها تقديم منهج جديد في تقويم التراث، وهو منهج يُعتبر – في عمقه - مواجهة لأصحاب المشاريع الداعية والساعية إلى إعادة قراءة التراث العربي في ضوء المناهج الغربية الحديثة.
    ثالثها:
    مراجعة قضية الفلسفة باعتبارها أكبر بوابة تسربت منها أنماط التفكير في قضايا الإنسان في العصور الحديثة.
    رابعها:
    وضع رؤية منهجية تطبيقية تضاهي الفكر الغربي الحديث، وتُعيد النظر في مقولاته وطروحاته، وتفتح آفاقا جديدة للنظر في أوضاع العالم الإسلامي.
    والمشروع في جملته – وهو ما يزال في طور الاكتمال -
    يُقدم للفكر الإسلامي الحديث
    ( وليس من المبالغة في شيء أن أقول للفكر الإنساني الحديث )،
    ما به يتم الخروج من نفق التبعية الذي افتقدنا فيه ملامح وجودنا، ومن نفَق الارتهان لفكر أزرى بحقيقتنا الإنسانية، وعرَّضنا لمزيد من التلاشي والضياع.
    والحقيقة الساطعة في هذا المشروع أن صاحبه يضع، بكل اقتدار وخبرة خطةً منهجية عملية تُمكن المتفلسف العربي من الإقلاع عن التبعية، وتؤهله لأن يُحقق أمرين:
    أولهما: أن يأتي بما يستشكله هُوَ - باعتباره مفكراً حرّاً - من واقعه وتراثه وهويته،
    وثانيهما: أن يُبدع ما به يُضاهي ما لدى غيره من أفكار ونظريات.
    وصاحب هذا المشروع هو الدكتور طه عبد الرحمن: وهو
    أستاذ المنطق وفلسفة اللغة
    بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس بالمغرب، حاصل على دكتوراه السلك الثالث من جامعة السوربون سنة 1972 ببحث عنوانه ( رسالة في البُنى اللغوية لمبحث الوجود )، ثم على دكتوراه الدولة من الجامعة نفسها سنة 1985 بأطروحة عنوانها ( رسالة في منطق الاستدلال الحجاجي والطبيعي ونماذجه ).
    وهو أستاذ زائر بعدة جامعات مغربية،
    وعضو في كثير من الهيئات والجمعيات الفلسفية في العالم،
    وعضو محكم ومستشار في عدد من المجلات العلمية.
    له عدة مساهمات في كثير من المؤتمرات العلمية.
    وهو رئيس ( منتدى الحكمة للباحثين والمفكرين) الذي تأسس في المغرب بتاريخ 9مارس 2002 ( منتدى يضم أساتذة جامعيين من مختلف الجامعات المغربية، وله انفتاحات على الجامعات العربية وغيرها ).
    والدكتور طه عبد الرحمن أحد مؤسسي اتحاد كتاب المغرب، وهو من خبراء أكاديمية المملكة. حاصل على جائزة المغرب في العلوم الإنسانية لسنة 1988 على كتابه:
    " أصول الحوار وتجديد علم الكلام "
    ولسنة 1995 على كتابه:
    " تجديد المنهج في تقويم التراث ".
    من أعماله:
    العمل الديني وتجديد العقل (1989)
    فقه الفلسفة،
    اللسان والميزان أو التكوثر العقلي (1998)
    سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية (2000)
    الحق العربي في الاختلاف الفلسفي (2002).


    فماذا عن مشروع الدكتور طه عبد الرحمن ؟
    من هنا يظهر جليًّا أن البعد الذي يكتسبه إنتاج بديع الزمان لا ينحصر في تركيا حيث آثار الفلسفة "الكانطية" قد فعلت فعلها وبدَّلت قِيَم أهلها تبديلا، ولا هو ينحصر في الأمة الإسلامية التي تفككت أوصالها وفقدت وِجهتها،
    وإنما يتعدى ذلك إلى العالم بأسْره لِيُنقذ الإنسان، خاصِيَّه وعامِيَّه،
    من سلطان فكر فلسفي أضرَّ بوجوده في هذا العالم ؛ ومن كان هذا عمله،
    فما أجدر به أن يُعدَّ في حكماء العالم
    الإمام الفلسفي المجدد طه عبدالرحمن

  2. #2

    افتراضي

    .................
    أولا : موقف د. طه من التبعية والتقليد:

    يكاد مشروعه يكون حرباً على التقليد والتبعية وعلى المقلدة المنتمين إلى الإسلام والعروبة منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا، بل وعلى المتفلسفة العرب منذ كان التفلسف عندهم.
    لماذا هذا الموقف المتصلب ممن يدعوهم أهل التقليد، ولماذا هذه الحملة الشعواء على صنيعهم؟
    لأنهم –في نظره – استلذوا التفلسف على طريقة غيرهم؛ فهم يخوضون فيما يخوض فيه غيرهم، ويفتعلون أسئلة غيرهم؛ بل إن تلك الأسئلة، البعيدة عن حقيقتهم، قد
    استعبدتهم وأصبحت تؤرقهم.
    ولم يذهبوا إلى مساءلة ذلك التفلسف عند أهل الغرب ونقده على مقتضيات ثقافتهم،
    ولم يتمكنوا من مراجعة التصور الذي ساد عن الفلسفة الغربية عموما،
    ولم يستطيعوا أن يأتوا بما يضاهيها؛ انطلاقا مما يستشكلونه هم من واقعهم؛
    ولأنهم تسببوا بتقليدهم للفكر الغربي في خنوع الأمة واستسلامها، وقادوها بفكرهم "المتنور" إلى الظلام والاستسلام. فقد وجد أن أصحاب الفكر الإصلاحي في العصور الحديثة والمعاصرة قد اتخذوا من عقلانية الغرب منهجا ومنطلقا في التفكير، وربطوا كل تقدم بانتهاج العقلانية الغربية. وأغلب رواد الإصلاح، وأهل العقلانية والحداثة، وأصحاب المناهج والمشاريع في قراءة التراث؛ بنَوا مجدهم التنظيري وشهرتهم في المحافل والمنتديات والكتب والمجلات على ما تساقط إليهم من مناهج الغربيين وأفكارهم.
    كما وجد أن أهل الفكر من المتفلسفة العرب، في العصر الحديث، قد اندفعوا في تقليد فلاسفة الغرب، واقتفوا آثارهم، وتعلقوا بأسباب لا تمت إلى وجودهم؛ فافتقدوا حاسة النقد عندهم، وتقلبوا في أطوار حياتهم من النقيض إلى النقيض. والسر في ذلك
    " قصور وسائلهم عن الإحاطة بدقائق وسائل من يُقلدون"
    (1).
    فنقاد التراث – مثلا – غلب عليهم التوسل بأدوات البحث التي اصطنعوها من مفاهيم الغربيين ومناهجهم ونظرياتهم؛ فقلدوها وما ملكوا ناصية تقنياتها، ولا تفننوا في استعمالها (2)،
    وحين انقطعوا عن التراث جملة؛ كان لجوؤهم إلى تراث الثقافة الغربية الحديثة؛"مقلدين لمسالكه، ومتشبهين بأصحابه".
    وماذا فعل مقلدة العصر بتراثهم حين ذهبوا في قراءته كل مذهب، ووضعوا له مشاريع قراءات؟
    وجد الأستاذ طه أنهم
    أولا: قطَّعوا أوْصالَه.
    ثانيا : خطَّأوا أصحابه.
    ثالثا: اجتزأوه.
    رابعاً: اقترضوا من غيرهم طرائقهم المستعملة في النقد.
    خامسا: ظلت كتاباتهم دعوة إلى تقليد الفكر الغربي وتقليد أهله (3).
    وقد بلغ الناس من كثرة السير في نَفَق التقليد حداً جعلهم
    يستطيبون لذة التقليد، ويرونه هو عين التجديد.
    ووجد أهل التقليد يتنكرون لهويتهم ويتحدثون عن الكونية. يقول:
    "أما ترى أن المتفلسف العربي لا يصوغ من الألفاظ إلا ما صاغه غيره، ولا يستعمل من الجمل إلا ما استعمله، ولا يضع من النصوص إلا ما وضعه (...) يؤولون إذا أول غيرهم، ويحفرون إذا حفر غيرهم ويفككون إذا فكَّكَ غيرُهم …" (4).
    وقد انخدعوا بمقولتين: الاستجابة للشمولية الفلسفية والانخراط في الحداثة العالمية. وما استجابوا وما انخرطوا؛
    وإنما أصيبوا بسوء التفلسف فامَّحَوْا في غيرهم بكل "كبرياء".
    وظل يدعو المفكرين من أبناء جلدته أن يُمارسوا حقهم في الإبداع الفلسفي، أن يُقدموا الدليل على تلك الممارسة في استخدام المفاهيم المتداولة في الممارسة الإسلامية العربية.
    مأساة الأمة أن كثيرا من مفكريها َيتَشكلُّون مع الأحوال، ويُغيرون "الديكورات" في كل آن، ويركبون أمواج التقاليع الآتية من الغرب.
    وظلت توجهاتهم الإصلاحية تتخذ من الغرب قبلة لها، ومن عقلانية ذلك الغرب منهجا لها في التفكير، ومنطلقا لها في الاجتهاد، وما فتِئتْ منهجياتُهم تربط كل تقدم وتحضر بانتهاج تلك العقلانية الغربية والاحتكام إليها.
    والمفارقة الحادة التي تناولها د. طه في مجمل كتبه هي ما يمكن أن يوجزها قوله:
    "إن النمط المعرفي الحديث غير مناسب إن لم يكن غير صالح للتوسل به في بناء معرفة إسلامية حقيقية" (5). والأدهى في نظر الباحث أن المتفلسفة العرب المعاصرين لم ينتبهوا إلى وجود جراثيم "التهويد" في الفلسفة الحديثة، فهم يتفلسفون بما يخدم عدوهم، وأبحاثهم تدور في الوقت الراهن على إشكالات تلك الفلسفة المتهوِّدة الحديثة.
    وجوهر مشروع طه – كما سنرى - أن نتميز عن غيرنا في المعترك الفكري المقبل، أن يكون لنا حقنا في الإبداع الفلسفي المختلف وأن نضع الكيفية التي بها نحقق ذلك الاختلاف. ومن هنا نهض بمشروع " فقه الفلسفة" لمحو التبعية عن فكرنا الإسلامي، وإقدار ذويه على الإبداع في مجال الفلسفة.
    أما لماذا الفلسفة ؟
    فلأن كل شرور الانحراف تسربت منها؛
    ولأن مفكرينا تفلسفوا - منذ شرعوا في التفلسف - بأدوات غيرهم، وطرَّزا على أثواب غيرهم، و هي أثواب نُسجت في شروط تاريخية وفكرية مغايرة.
    من هنا يظهر جليًّا أن البعد الذي يكتسبه إنتاج بديع الزمان لا ينحصر في تركيا حيث آثار الفلسفة "الكانطية" قد فعلت فعلها وبدَّلت قِيَم أهلها تبديلا، ولا هو ينحصر في الأمة الإسلامية التي تفككت أوصالها وفقدت وِجهتها،
    وإنما يتعدى ذلك إلى العالم بأسْره لِيُنقذ الإنسان، خاصِيَّه وعامِيَّه،
    من سلطان فكر فلسفي أضرَّ بوجوده في هذا العالم ؛ ومن كان هذا عمله،
    فما أجدر به أن يُعدَّ في حكماء العالم
    الإمام الفلسفي المجدد طه عبدالرحمن

  3. #3

    افتراضي

    .....
    ثانيا : مشروع د. طه : أو حق الاختلاف في التفلسف
    أو كيف نخرج من نفق التبعية والتقليد؟

    نجد د.طه عبد الرحمن يُفصح عن مشروعه الفكري في بداية الفصل السابع من كتابه سؤال الأخلاق [ ط1، 2000] حيث يقول:
    "ليس يخفى أننا كنا نسعى منذ صدور كتابنا: العمل الديني وتجديد العقل [ ط1، 1989] إلى الإسهام في تجديد الفكر الديني الإسلامي بما يُؤهله لمواجهة التحديات الفكرية التي ما فتئت الحضارة الحديثة تتمخض عنها، بل كنا نسعى، على وجه الخصوص، إلى وضع نظرية أخلاقية إسلامية مستمدة من صميم ذلك الفكر، نظرية تُفلح في التصدي للتحديات الأخلاقية لهذه الحضارة بما لم تُفلح به نظائرها من النظريات الأخلاقية غير الإسلامية …" (6).
    وهو مشروع يرمي به إلى تأسيس يقظة دينية لها سند فكري محرر على شروط المناهج العلمية، أي أنه هيأ لها التأطير المنهجي المحكم، والتنظير العلمي المنتج، والتبصير الفلسفي المؤسس (7).
    ولكن ما هي الوسيلة التي تمكن من تأسيس ذلك المشروع وتأصيله، وكيف نحرر المتلقي العربي من التبعية، ونجعله قادرا على أن يستقل بفكره، ويُبدع في مجاله التداولي الخاص؟


    أ - فما هي معالم هذا المشروع ؟


    (1)
    وَضْعُ فلسفة إسلامية تُضاهي الفلسفة الغربية الحديثة، وتتغاير معها في المنطلقات والتصورات والمفاهيم والمصطلحات.
    أو قل وضع أصول الإبداع المعرفي الإسلامي العربي،
    من منطلق القيم الدالة على الخصوصية الإسلامية العربية، أي من منطلق أن كل فلسفة لها ارتباطا الخاص بسياقها التاريخي واللغوي والأدبي.
    مشروعه الفلسفي يتمثل في وضع ما أسماه
    "فقه الفلسفة"
    وهو"علم ينظر في الأعراض الذاتية للفلسفة، ويستخرج قوانينها ويرتب مسائلها (8) ".
    وإجرائية هذا العلم تتمثل في الكيفية التي بها نتحرر من التبعية لفلسفة الغربيين، وهي كيفية نبدع من خلالها على مقتضى فكرنا وواقعنا، ونستشكل بها ما يهمنا في حالنا ومآلنا. ومن خلال ذلك الفقه للفلسفة نتفاعل مع ما لابد من ضرورة التفاعل معه، ونحاور ما يصح الحوار معه بمنظارنا لا بمنظار غيرنا، ومن خلال ذلك الفقه نستقل بفكرنا ونُبدع كما يُبدع غيرنا.
    فالغاية من هذا المشروع خلق فضاء نتفلسف فيه بتوجيه من رؤيتنا الخاصة، من هويتنا الخاصة، من حقائقنا وأوضاعنا ومشاغلنا، وانطلاقا من مفاهيمنا ومصطلحاتنا.
    وهذا يجعلنا لا "نتعولم" بمشيئة غيرنا، ولا نتشكل كما يُراد بنا.
    فقديما نقلنا عن اليونان في مجالات التفلسف، ومنذ نهضتنا وإلى الآن ننقل عن الغرب. وأمام هذا الارتكاس في التقليد والتبعية، هيأ د. طه عبد الرحمن نفسه لمواجهة هذا الواقع المتأزم للفكر العربي، وقرر أن يفتح عهدا جديدا للممارسة الفلسفية في العالم الإسلامي والعربي، فاستنهض همته لوضع تصور يتجاوز به ما تقرر في مجال الفلسفة، منذ كانت.
    فهو يرى أن باب الفلسفة ظل مغلقا، وأن فتحه سيكون على يديه لأول مرة (9).
    وجعل د. طه لفقه الفلسفة أركانا أربعة هي:
    الترجمة والتعبير والتفكير والسلوك
    ( صدر له ما يتعلق بالترجمة والتعبير ).
    وفقه الفلسفة، كما يقول:
    "يُفيد في العلم بالأسباب الموصلة إلى إنتاج الفلسفة".
    وذكر أنه انشغل في ممارسته الطويلة للفلسفة بالبحث عن الطريق الذي يوصل إلى تحصيل القدرة على الإبداع الفلسفي، وتبين له أن طالبي الفلسفة لم يسلكوا الطريق المؤدية إلى الإبداع؛ فانبرى لهذه المهمة قائلا:
    "فأردنا أن ندلهم على معالم الطريق الذي ظهر لنا أنه يوصلهم إلى مطلوبهم من غير تبذير للجهد ولا تبديد للزمن" (10).

    (2)
    تأسيس رؤية نقدية إبداعية على مقتضى المجال التداولي الإسلامي لغةً وفكراً وعقيدةً،
    رؤية يتميز بها المتفلسف العربي في معترك الحضارة المعاصرة. رؤية تقوم على مراجعة المفاهيم ونقدها وإنشاء ما ينسجم مع ما يستشكله ويستدل عليه في مجاله الإسلامي العربي.

    (3)
    تقديم كيفية عملية وتطبيقية لإخراج المتفلسف العربي من مرحلة التقليد ودعوته إلى المطالبة بحقه في الاختلاف؛
    إذ بذلك يتفلسف على مقتضى هويته، وهو بذلك يُدافع عن وجوده، ويتحرر من تصورات فلسفة غربية تتناقض مع كينونته وهويته، ويُسهم في إغناء التجربة الإنسانية.
    وراح في مشروعه يهدم بمنطقه الصارم ما يراه يستحق الهدم؛ لأنه بُنِيَ – في تصوره – على غير أساس.
    وراح يُعيد البناء ويُقدم اجتهادات غير مسبوقة في هندسته وكيفية إقامته؛ انطلاقا من استيعاب المطلوب وتحليله من جميع وجوهه، وتشريحه وتقويمه على مقتضى ما صح عنده.
    ود. طه عبد الرحمن قَدم في مشروعه ما به اتضح أنه يختلف عن غيره. ويُقرر في مشروعه أن قيمة الاختلاف بين فلسفات الأقوام، تُصان بها الجماعة البشرية وتتقوى، وخاصة حين يصبح ذلك الاختلاف بمثابة ميثاق فلسفي بين الأقوام؛ فيكون لكل قوم حقهم في التفلسف والاجتهاد في تحقيق ذلك الحق وإثباته. وقد حدد د.طه في كتابه:
    الحق العربي في الاختلاف الفلسفي ( ط1، 2002)،
    مظاهر الاختلاف وأسبابه وما يُعترضه من تحديات.

    (4)
    إنجاز وسيلة التحرر من الفلسفة الغربية، أو قل إنجاز ذلك الاختلاف على أرض الواقع وبكيفية تطبيقية.
    ومن أجل أن يتحررالمتفلسف العربي، من تقليد الفلسفة الغربية، دعاه "أن يهيئ من الآن اختلافه الفكري، ويضع أصوله ويبني مناهجه؛ بما يجعل للأمة إسهاما متميزاً في هذا المعترك الفكري المقبل" (11).

    (5)
    تقريب العلوم المنقولة إلى مجال التداول الإسلامي: وتقريبها يتم عن طريق"تخريجها على مقتضيات أصوله الثلاثة: اللغة والعقيدة والمعرفة" (12).


    ب - كيف هيأ د. طه اختلافه الفكري ؟

    (1)
    من حيث الأصول والمنطلقات المعرفية:
    نجده قد هيأه من داخل المجال التداولي الإسلامي،
    فجدد صلة الآلة المنطقية بالفلسفة،
    وبسط نظرية تكاملية بناء على حقيقة التداخل بين المعارف الإسلامية.
    وظل يُؤسس لرؤية مغايرة لما تتطارحه الأقلام في مجالات الفلسفة؛ مما هو متداول في الساحة الفلسفية لدى الغربيين.
    وقد سعى في مشروعه إلى تأصيل رؤية أخلاقية، بل ويمكن القول إن مشروعه أساسه الأخلاق؛ وهو أساس يفتقده الغرب في اندفاعاته نحو الحداثة بدون ضوابط أخلاقية. وتفتقده الفلسفات الغربية الحديثة بتصوراتها لعقلانية غير مشروطة، وتفتقده الدول التي ارتهنت لغيرها، وربطت مصيرها الفكري والحضاري به، وتفتقده الدول التي تتحدث عن تخليق السياسة والحياة العامة، بعد أن افتقدت تخليق الحياة الخاصة.
    (2)
    ومن حيث المنهجية:
    1 - تأصيل مفاهيم فلسفية موصولة بالمجال التداولي الإسلامي ومطبوعة بالقيم العملية التي تميز هذا المجال؛ أي إنشاء مفاهيم فلسفية نابعة من مجاله الخاص. ويتم ذلك كله من خلال "كتابة تزدوج فيها الفلسفة بالمنطق؛ باعتباره، المنهج الذي يوصلها إلى الحقائق التي تطلبها" (13).
    2 - والارتقاء بالمفاهيم الطبيعية إلى رتبة المفاهيم الصناعية عن طريق الاستدلال بها، وجعلها مفاهيم مشروعة ومًنتجة.
    3 –إبداع عتاد اصطلاحي يمكن المتفلسف العربي من إنتاج خطاب فكري مستقل. وفي كتابه القول الفلسفي، كتاب المفهوم والتأثيل قدم كيفية صناعة المفاهيم الفلسفية. يقول:
    " آن الأوان لكي نخوض معركة اصطلاحية نواجه فيها مصطلحات الفضاء الفلسفي المتهوِّد بمصطلحات تدفع عنا شروط التهويد (...)
    فإن قوة الاصطلاح غدت لا تقل عن قوة السلاح " (14).
    4 –الجرأة في استثمار ما تقرر في مجال الفلسفة بما ينسجم مع المجال التداولي الخاص؛ وذلك بنقد المفاهيم وتصحيحها، وتوجيهها توجيها إسلاميا يضاهي به الباحث ما لدى الآخرين من تصورات.
    ففي كتبه عامة تجده ينقد العقلانية الغربية، ويبين مظاهر النقص التي تشوبها، وما فهمه المنظرون لها من أهل الإسلام. وتجده يقوّم تلك الحضارة على مقتضى عقيدته بنفس عزيزة تأبى الخنوع لغير صوت الوحي، وبكبرياء العالم المتمكن من أدواته الفكرية والمنهجية، فتراه في مواقفه كلها صلبا لا يلين ولا يستكين، ولا يتخاذل فيما يؤمن به ويدافع عنه بقوة أهل اليقين.


    جـ – فكيف الخروج من التبعية والتقليد ؟
    ....
    من هنا يظهر جليًّا أن البعد الذي يكتسبه إنتاج بديع الزمان لا ينحصر في تركيا حيث آثار الفلسفة "الكانطية" قد فعلت فعلها وبدَّلت قِيَم أهلها تبديلا، ولا هو ينحصر في الأمة الإسلامية التي تفككت أوصالها وفقدت وِجهتها،
    وإنما يتعدى ذلك إلى العالم بأسْره لِيُنقذ الإنسان، خاصِيَّه وعامِيَّه،
    من سلطان فكر فلسفي أضرَّ بوجوده في هذا العالم ؛ ومن كان هذا عمله،
    فما أجدر به أن يُعدَّ في حكماء العالم
    الإمام الفلسفي المجدد طه عبدالرحمن

  4. #4

    افتراضي

    ..

    جـ – فكيف الخروج من التبعية والتقليد ؟


    (1)
    بفتح عهد جديد في الممارسة الفلسفية،
    أي بوضع فلسفة عربية حية خالية من آفات ثلات: التغريق والتغريب والتهويد. أي إيجاد أصول فلسفية تختلف عن أصول الفلسفة المنقولة.
    فلسفة تتجدد بها صلة العبد بربه، وهو أمر لم تقم عليه فلسفة من قبل.
    فلسفة تُكسب المتلقي لها القدرة على الإبداع. ولا يتم هذا الفتح إلا بتحرير القول الفلسفي من الأساطير التي علقت به (15).
    (2)
    بتجديد الفكر الديني الإسلامي
    على مقتضى تراثه وواقع الأمة التي تدين بدين الإسلام وآفاق هذه الأمة في المستقبل. وبإثبات الحضور الإسلامي في معترك الحياة المعاصرة؛ حضوراً به تتجدد به هوية الأمة، وتثبت به كينونتها وتتقوَّي به فتوتُها أمام التحديات المعاصرة؛
    حضوراً يقوم على الالتزام بمنهج الله تعالى في الحال والمآل.
    كما تتقوَّى به في مواجهة الحداثة الغربية وهي مواجهة لا تتم إلاَّ بفهمها واستيعاب آلياتها (16).
    (3)
    بالقدرة على التصرف في المنقول،
    فالتفلسف الحي عنده"يتميز بالتصرف في المنقول الفلسفي؛ صورةً ومحتوىً، كما يتميز بإسناد الوصف الفلسفي لما قد يُخالف هذا المنقول؛ إنْ في إشكالاته أو في استدلالاته" (17).
    ويلاحظ القارئ لمشروعه أنه كان له اقتدار حقا على"استثمار المنقول بما يُغير أوصافه وأحواله" (18).
    (4)
    بإزالة عائقين:
    عائق الترجمة، وعائق تصور القول الفلسفي؛ ولإزالة هذين العائقين وضع القاعدة الأولى من ( فقه الفلسفة ) لتأصيل نظرية في الترجمة. والقاعدة الثانية للكشف عن تعايش العبارة والإشارة في القول الفلسفي.
    (5)
    بعودة العقل إلى كماله، حين لا يتنافى مع الغيب،
    وحين يتحرر الإنسان من غفلته ويتحرر من سيطرة ضلالاته وغرائزه، ويُدخل في سعادة العبودية لرب العباد.
    ومن هنا يتم تأصيل برنامج إسلامي عربي من خلال رؤية نقدية واعية ودقيقة.
    (6)
    بالدعوة إلى حضارة الفعل،
    والحد من هيمنة القول على الفعل. أن يتحد النظر بالعمل، وأن ترد النفوس مورد الربوبية فتصدر عنها مظاهر التجديد. وعليه يتم ربط السلوك بالممارسة الفلسفية، أي الاحتكام إلى الأفعال في مقابلتها بأبنية العقل المجرد.
    (7)
    بمواجهة الآفات الخلقية لحضارة الغرب الحديث
    بالكشف عن خلفياتها، وعرض مفاهيمها على معيار الآلة المنطقية بما يخدم الحقيقة. وبمواجهة تلك الخلفيات بقيم أقوم.
    (8)
    بمواجهة صريحة للذين يخاصمون الحقيقة الدينية ممن انبهروا بحداثة الغرب.



    من هنا يظهر جليًّا أن البعد الذي يكتسبه إنتاج بديع الزمان لا ينحصر في تركيا حيث آثار الفلسفة "الكانطية" قد فعلت فعلها وبدَّلت قِيَم أهلها تبديلا، ولا هو ينحصر في الأمة الإسلامية التي تفككت أوصالها وفقدت وِجهتها،
    وإنما يتعدى ذلك إلى العالم بأسْره لِيُنقذ الإنسان، خاصِيَّه وعامِيَّه،
    من سلطان فكر فلسفي أضرَّ بوجوده في هذا العالم ؛ ومن كان هذا عمله،
    فما أجدر به أن يُعدَّ في حكماء العالم
    الإمام الفلسفي المجدد طه عبدالرحمن

  5. #5

    افتراضي

    ..
    ثالثا : مظاهر التجديد في مشروعه

    يحس كل من يقرأ كتب هذا الرجل أنه أصبح يواجه هذه المرحلة العصيبة من تاريخ الإسلام
    بمفرده، وبعزيمة لا تُقهر ولا تلين، وبتحد قل نظيره، وبطاقة متجددة باستمرار.
    يُريد أن يُصحح المسار الفكري، أن يُجدد ويجتهد ويُقدم البديل، ويُحدد الكيفية التي يتم بها إنجاز هذا البديل؛ فيؤصل المفاهيم ويُصنع المصطلحات، ويواجه فلاسفة الشرق والغرب، ويرمي فلاسفة العرب بالعقم والتقليد والتبعية لغيرهم، وينتقد المفاهيم المقررة في عالمنا المعاصر: الفلسفة، العقلانية، الأخلاق، الترجمة، الحداثة
    … أن يُحارب على جميع الجبهات،
    أن يُزيل الأوهام ويوقظ الأرواح ويجعل الإسلام دين المستقبل، ويجعل الفكر الإنساني ينفعل بالتخلق أي بالتدين. ويُمكن القول – عموما –
    أنه يأتي في كل ما يذهب إليه برؤية مغايرة في المنطلقات والتصورات والمفاهيم والمصطلحات،
    ويُقدم نموذج ما يُضاهي به أفكار الآخرين. وستظل كتبه من الأسس التي تُعين على خلق الاختلاف، وتدعو إلى التجديد ومحاربة التبعية والتقليد.
    ومن مظاهر التجديد التي يمكن الوقوف عندها:

    (1)
    وضعه لـ " فقه الفلسفة " وهو أمر لم يُسبَق إليه، فيما نعلم.
    وشعورا منه بقوة إحساسه بالسبق فيما أتى به، وانتهى إليه ؛ نجده يقول:
    "إن من يدعي الإتيان بحقيقة من عنده داخل علم مقرر لا يَسلم من شديد الاعتراض؛ إن لم يُواجه بالقدح والمناهضة من لدن من غابت عنه آداب المناظرة، فما بالك بمن يدعي وضع أصول علم ادعاه" (19).
    وهو يصف الحداثة الفلسفية بالجمود لأنها توجب الاندماج الكلي في العصر الفلسفي على مقتضى ما قرره الغير في التفلسف (20).
    (2)
    الاستقلال عن المناهج السائدة والإتيان بما يُضاهيها
    من حيث الفعالية والإجرائية واصطناع ما يُقابلها، أو يُسعف على تعديلها إما بالحذف أو الإضافة.
    وقد تأتى له ذلك بتحصيله لمعرفة كاملة بالمناهج القديمة والحديثة على السواء.
    وهو يتهم المتفلسفة العرب في الوقوع في فلسفة منغلقة لأنهم يخوضون في نفس المشاكل الفكرية على نفس الأشكال المنهجية (21).
    وهو يدعو إلى الاختلاف في زمن هيمنة القطبية الواحدة، ويدعو إلى الوقوف في وجه الفلسفة العالمية المفروضة، ومناهضة تلك الفلسفة المتسلطة على عقول متفلسفة العرب.
    (3)
    إنشاء نظرية تكاملية للتراث
    في كتابه تجديد المنهج في تقويم التراث ( ط1، 1994). خالف بها المتداول من أعمال تقويم التراث وواجه بها الانقلاب في القيم بين المشتغلين بالتراث الإسلامي، من أصحاب المناهج والمشاريع في قراءة ذلك التراث، وممن دعاهم بـ دعاة الانقطاع عن التراث.
    وقال إنه نحا "في تقويم التراث منحى غير مسبوق ومألوف" (22). وأنه وسَّعَ مناهج النظر في التراث، وفتح آفاقا غير مرتادة.
    (4)
    وضع مشروع لفلسفة إسلامية انطلاقا من ثوابتها ومنهجيتها،
    فلسفة تستقل برؤيتها وبمجالها التداولي، وتضاهي في بنائها المعرفي والمنهجي الفلسفة الغربية الحديثة. فلكل فلسفة قوميتها وسياقها التاريخي اللغوي الفكري.
    (5)
    وضع نظرية للترجمة تأصيلية، توصيلية، تعبيرية،
    وحقيقتها:"لا يُنقل من النص الأصلي إلا ما يُناسب الأصول التداولية التي يأخذ بها المتلقي؛ موليا أبلغ عنايته لما جاء فيه من عناصر يتجلى فيها كمال التفلسف، ومتبعا طريق الاختصار في العبارة … " (23). ونبه في إطار هذه النظرية في الترجمة إلى الإشارية في القول الفلسفي، وأنه
    يجمع بين العبارة والإشارة على وجوه مختلفة .
    (6)
    محاولة وضع نظرية أخلاقية تجعل الإسلام هو دين المستقبل.
    فقد قدم صورة لمفكر صاحب رؤية حضارية مستقبلية، يرى من خلالها دور المسلمين في النهوض بالأخلاق، ويُحملهم مسؤولية تاريخية في أن يصبح الإسلام دين عالم المستقبل (24).
    والباحث من المتفلسفين القلائل الذين بشروا بتحقق عالمية الإسلام، وبتحقق ما أسماه العقلانية الميثاقية، وربط العالم بأفق الألوهية. وغاية د. طه أن يعود الإسلام كما كان "قويا في حضوره، ومبدعا في عطائه" (25).
    (7)
    نقد مقومات حضارة الغرب الحديث،
    بالكشف عن الأسس التي تقوم عليها، والأساطير التي تنبني عليها. في كتابه سؤال الأخلاق انتقد الحضارة الغربية ووجد أن حركيتها لا تنضبط بأخلاق؛ فهي حضارة ظالمة ناقصة متأزمة متسلطة، كما أن حداثتها نبذت الدين والأخلاق من منظومتها الفكرية. وعقلانية تلك الحضارة غيبت الأخلاق في العلم ولم تهضم حقيقة الغيب؛ فصارت المعارف بدون مقاصد. وبهذه العقلانية استنجد أهل الحداثة من المفكرين العرب، واتخذوها آلية للنهوض بواقعهم في عالمهم الإسلامي.
    ولا أعرف باحثا تجرّأ فكريا على حضارة الغرب بهذه الصورة، راح يُفكِّك بناءها النظري و يُعيد تركيبه، و يتلاعب بمقولاتها كما يشاء بروح نقدية صارمة افتقدناها في عالمنا الإسلامي العربي. نظر في أسس تلك الحضارة فـأقام عليها عمليات تحويلية، فوجدها مزيفة في كل ما تدعيه لنفسها، وسخِر ضمنيا من المنبهرين بذلك البناء النظري. وقد انتقد رواد التبعية لها ممن ( يتعولمون ) حول حداثة الغرب، ويمشون في ركابها، لا يتخلفون عنها قيد أنملة، وهم يتباهون بفهم مقولات أساطينها ولا يخفون جهلهم بحقيقة تلك المقولات.( ... كالإمام طه : غريب الغربتين )
    (8)
    وَضْعُهُ لفلسفة الحوار،
    فقد جعله الأصل في كل كلام، وجعله طريقا في بناء الإقناع والتعقل والاجتهاد. وجعل كل حوار يقوم على الاختلاف. وحدد في كتابه
    الحق العربي في الاختلاف الفلسفي
    خصائص الاختلاف وضوابطه. وجعله من أسس بناء الجماعة الإنسانية، عليه يقوم الميثاق بين شعوبها، وبه يتجدد الشعور بالمسؤولية بين الأقوام "يصرف عنها الخلاف والفرقة، ويضمن لها الوفاق والألفة والانسجام".



    من هنا يظهر جليًّا أن البعد الذي يكتسبه إنتاج بديع الزمان لا ينحصر في تركيا حيث آثار الفلسفة "الكانطية" قد فعلت فعلها وبدَّلت قِيَم أهلها تبديلا، ولا هو ينحصر في الأمة الإسلامية التي تفككت أوصالها وفقدت وِجهتها،
    وإنما يتعدى ذلك إلى العالم بأسْره لِيُنقذ الإنسان، خاصِيَّه وعامِيَّه،
    من سلطان فكر فلسفي أضرَّ بوجوده في هذا العالم ؛ ومن كان هذا عمله،
    فما أجدر به أن يُعدَّ في حكماء العالم
    الإمام الفلسفي المجدد طه عبدالرحمن

  6. #6

    افتراضي

    ..
    رابعا: لماذا المواجهة وحق الاختلاف ؟

    (1)
    لأن الحضارة الغربية الحديثة انتهت إلى قطبية واحدة
    تفرض زعامتها على أهل الأرض بصلف وكبرياء وعنجهية، وأصبحت تعتبر غير أهل القطبية قطيعا بشريا تقوده بعجرفة وبدون قيم إنسانية.
    ووجد الباحث أن مستقبل هذه الحضارة سوف يشهد حدثين:
    " أحدهما
    انهيار النظريات الأخلاقية والأنساق المعيارية والدساتير السلوكية الكبرى التي كانت إلى حد الآن توجه الحضارة الغربية، فيتسبب ذلك في فراغ أخلاقي لا يُحتمل؛
    والثاني:
    ازدياد الهروب إلى الحياة الخاصة باعتبارها الفضاء المتميز لممارسة الحرية الفردية …" (26).
    مشروعه ثورة على الفلسفة العالمية المفروضة،
    وتسفيه لما تدعيه من عالمية، حين تريد أن تهيمن بمنظورها الفلسفي الواحد. ثورة على الفلسفة الغربية الحديثة؛ بهدم مقولاتها التي استعبدت التابعين لها وبالكشف عن حقيقة العقلانية فيها، وهدم مزاعم الحداثة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس.
    ولم يكتف بذلك بل عمل في كتابه الحق العربي في الاختلاف على بيان ما يكتنف الفلسفة من أساطير، وما تنبني عليه من رؤية يهودية.
    فقد لاحظ أن "الفلسفة الكونية التي يُنتجها النظام العالمي الجديد … فلسفة قومية مبنية على أصول التراث اليهودي" (27).
    ويمكن اعتبار هذا المشروع انتفاضة وضعها د. طه ضداً على القيم الغربية الحديثة، وإقامة لكينونة إنسانية تنشد قيم الحق.
    (2)
    وقوعُ أهل الإسلام في براثن الحضارة الغربية الحديثة، وذوبان القيم الدالة على خصوصيتهم فيها.
    فمشروعه مناهضة لتسلط فلسفة الغرب على الذين يشتغلون بالفلسفة من العرب، ودعوة لهؤلاء أن يُنجزوا حقها في الاختلاف. فقد لاحظ أن أمة الإسلام تتعرض، منذ نهاية القرن العشرين، لتحديات تستهدف وجودها وعقيدتها وقيمها. ( وهذا ما يلاحظ اليوم بحدة ).
    حضارة الغرب المعاصر أصبحت ديار الإسلام في قبضتها، وهي اليوم تراقب البيت العتيق بـ"راداراتها"، وتسعى أن ترسم سياسات البلدان الإسلامية والعربية على مقتضيات أهوائها ومصالحها، أما أهل ديار الإسلام فكثير منهم يُسارعون إلى تقليدها والتشبه بكل ما يعتريها من تحولات، وينتابها من تقلبات. لقد أصبحت حضارة الغرب عقيدة حديثة يتمسك أهل تلك البلدان بقيمها، ويستبدلون قيمهم بقيمها، ويتشكلون بالصور التي ترضي تلك الأهواء والمصالح. وأهل ديار الإسلام استلذوا الشهوات التي تمطرهم بها حضارة الحداثة، فهم لا يستطيعون عنها فكاكا.
    وتراهم قد استحبوا العبودية لشهواتهم وملذاتهم.
    (3)
    ظاهرة التهافت على حداثة الفكر الغربي
    والتهالك عليها، والدخول إلى الحداثة تحت رايته، وبتأثير من توجيهاته. مع التعويل على ذلك الفكر في كل حركات الحياة. وهي فترة بلغ فيها المد العلمانيُّ منتهاه، وكشر فيها الإلحاد عن نابيه، وصار علامة على الرقي الفكري والموقف الثوري. وانفجرت فيها الكتابة حول مفاهيم الحداثة. وبدأ الإبداع العربي يتشكل وفق التقاليع النقدية في الغرب وأضحت فيها المناهج سُحُباً عابرة، يجتمع حولها الناس ثم ينفضون في انتظار ما تجود به قرائح غيرهم. ولعل أهم ما أثار الباحث في مشروعه ما لاحظه من طغيان التقليد في حركة الحياة في عالم الإسلام، وما لامسه من تأثيرات الفكر الفلسفي الغربي في مسار الفكر الإسلامي العربي المعاصر. ورأى أن المنتسبين إلى ملته قد تقطعت بهم الأسباب فانقطعوا عن قيمهم وصاروا قُطعاناً في أرض جرداء.
    والواقع أن كثيرا من المفكرين العرب تعاملوا مع الفكر الغربي باعتباره النموذج للفكر العلمي، وسعوا بكل الوسائل إلى إقناع بني جلدتهم بهذه الفكرة. وظلوا يضعون الهوامش تلو الهوامش على مجموعة مقالات شكلت لديهم مرجعية الحداثة، من تلك المقالات ما تبارى المترجمون في ترجمته فترجم أكثر من مرة.
    (4)
    واجب المسؤولية أو النهوض بما ينبغي أن ينهض به كل مسلم مسلم،
    فقد أحس د. طه عبد الرحمن بوطأة المسؤولية، فهو – مثلا – قد رأى مسارا معكوسا في تقويم التراث، وأحس بواجب التنبيه على ما ظهر فيه من التمويه (28). فواجه دعاة الانقطاع عن التراث، وصار – كما يقول – إلى مقابلة الهدم بالبناء. فظل في أعماله يدعو إلى النهوض بتصحيح الرؤية الإسلامية، والالتزام بمنهج الله تعالى في الاستدلال على الحقائق. وراح يُنشئ أصول الإبداع المعرفي في عالم الإسلام في المرحلة الراهنة.
    فما عسى أن يفعل المفكر المسلم العربي أمام هذا الوضع، ما هو واجبه نحو الأمة التي ينتمي إليها ؟



    من هنا يظهر جليًّا أن البعد الذي يكتسبه إنتاج بديع الزمان لا ينحصر في تركيا حيث آثار الفلسفة "الكانطية" قد فعلت فعلها وبدَّلت قِيَم أهلها تبديلا، ولا هو ينحصر في الأمة الإسلامية التي تفككت أوصالها وفقدت وِجهتها،
    وإنما يتعدى ذلك إلى العالم بأسْره لِيُنقذ الإنسان، خاصِيَّه وعامِيَّه،
    من سلطان فكر فلسفي أضرَّ بوجوده في هذا العالم ؛ ومن كان هذا عمله،
    فما أجدر به أن يُعدَّ في حكماء العالم
    الإمام الفلسفي المجدد طه عبدالرحمن

  7. #7

    افتراضي

    ..
    رابعا: لماذا المواجهة وحق الاختلاف ؟

    (1)
    لأن الحضارة الغربية الحديثة انتهت إلى قطبية واحدة
    تفرض زعامتها على أهل الأرض بصلف وكبرياء وعنجهية، وأصبحت تعتبر غير أهل القطبية قطيعا بشريا تقوده بعجرفة وبدون قيم إنسانية.
    ووجد الباحث أن مستقبل هذه الحضارة سوف يشهد حدثين:
    " أحدهما
    انهيار النظريات الأخلاقية والأنساق المعيارية والدساتير السلوكية الكبرى التي كانت إلى حد الآن توجه الحضارة الغربية، فيتسبب ذلك في فراغ أخلاقي لا يُحتمل؛
    والثاني:
    ازدياد الهروب إلى الحياة الخاصة باعتبارها الفضاء المتميز لممارسة الحرية الفردية …" (26).
    مشروعه ثورة على الفلسفة العالمية المفروضة،
    وتسفيه لما تدعيه من عالمية، حين تريد أن تهيمن بمنظورها الفلسفي الواحد. ثورة على الفلسفة الغربية الحديثة؛ بهدم مقولاتها التي استعبدت التابعين لها وبالكشف عن حقيقة العقلانية فيها، وهدم مزاعم الحداثة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس.
    ولم يكتف بذلك بل عمل في كتابه الحق العربي في الاختلاف على بيان ما يكتنف الفلسفة من أساطير، وما تنبني عليه من رؤية يهودية.
    فقد لاحظ أن "الفلسفة الكونية التي يُنتجها النظام العالمي الجديد … فلسفة قومية مبنية على أصول التراث اليهودي" (27).
    ويمكن اعتبار هذا المشروع انتفاضة وضعها د. طه ضداً على القيم الغربية الحديثة، وإقامة لكينونة إنسانية تنشد قيم الحق.
    (2)
    وقوعُ أهل الإسلام في براثن الحضارة الغربية الحديثة، وذوبان القيم الدالة على خصوصيتهم فيها.
    فمشروعه مناهضة لتسلط فلسفة الغرب على الذين يشتغلون بالفلسفة من العرب، ودعوة لهؤلاء أن يُنجزوا حقها في الاختلاف. فقد لاحظ أن أمة الإسلام تتعرض، منذ نهاية القرن العشرين، لتحديات تستهدف وجودها وعقيدتها وقيمها. ( وهذا ما يلاحظ اليوم بحدة ).
    حضارة الغرب المعاصر أصبحت ديار الإسلام في قبضتها، وهي اليوم تراقب البيت العتيق بـ"راداراتها"، وتسعى أن ترسم سياسات البلدان الإسلامية والعربية على مقتضيات أهوائها ومصالحها، أما أهل ديار الإسلام فكثير منهم يُسارعون إلى تقليدها والتشبه بكل ما يعتريها من تحولات، وينتابها من تقلبات. لقد أصبحت حضارة الغرب عقيدة حديثة يتمسك أهل تلك البلدان بقيمها، ويستبدلون قيمهم بقيمها، ويتشكلون بالصور التي ترضي تلك الأهواء والمصالح. وأهل ديار الإسلام استلذوا الشهوات التي تمطرهم بها حضارة الحداثة، فهم لا يستطيعون عنها فكاكا.
    وتراهم قد استحبوا العبودية لشهواتهم وملذاتهم.
    (3)
    ظاهرة التهافت على حداثة الفكر الغربي
    والتهالك عليها، والدخول إلى الحداثة تحت رايته، وبتأثير من توجيهاته. مع التعويل على ذلك الفكر في كل حركات الحياة. وهي فترة بلغ فيها المد العلمانيُّ منتهاه، وكشر فيها الإلحاد عن نابيه، وصار علامة على الرقي الفكري والموقف الثوري. وانفجرت فيها الكتابة حول مفاهيم الحداثة. وبدأ الإبداع العربي يتشكل وفق التقاليع النقدية في الغرب وأضحت فيها المناهج سُحُباً عابرة، يجتمع حولها الناس ثم ينفضون في انتظار ما تجود به قرائح غيرهم. ولعل أهم ما أثار الباحث في مشروعه ما لاحظه من طغيان التقليد في حركة الحياة في عالم الإسلام، وما لامسه من تأثيرات الفكر الفلسفي الغربي في مسار الفكر الإسلامي العربي المعاصر. ورأى أن المنتسبين إلى ملته قد تقطعت بهم الأسباب فانقطعوا عن قيمهم وصاروا قُطعاناً في أرض جرداء.
    والواقع أن كثيرا من المفكرين العرب تعاملوا مع الفكر الغربي باعتباره النموذج للفكر العلمي، وسعوا بكل الوسائل إلى إقناع بني جلدتهم بهذه الفكرة. وظلوا يضعون الهوامش تلو الهوامش على مجموعة مقالات شكلت لديهم مرجعية الحداثة، من تلك المقالات ما تبارى المترجمون في ترجمته فترجم أكثر من مرة.
    (4)
    واجب المسؤولية أو النهوض بما ينبغي أن ينهض به كل مسلم مسلم،
    فقد أحس د. طه عبد الرحمن بوطأة المسؤولية، فهو – مثلا – قد رأى مسارا معكوسا في تقويم التراث، وأحس بواجب التنبيه على ما ظهر فيه من التمويه (28). فواجه دعاة الانقطاع عن التراث، وصار – كما يقول – إلى مقابلة الهدم بالبناء. فظل في أعماله يدعو إلى النهوض بتصحيح الرؤية الإسلامية، والالتزام بمنهج الله تعالى في الاستدلال على الحقائق. وراح يُنشئ أصول الإبداع المعرفي في عالم الإسلام في المرحلة الراهنة.
    فما عسى أن يفعل المفكر المسلم العربي أمام هذا الوضع، ما هو واجبه نحو الأمة التي ينتمي إليها ؟



    من هنا يظهر جليًّا أن البعد الذي يكتسبه إنتاج بديع الزمان لا ينحصر في تركيا حيث آثار الفلسفة "الكانطية" قد فعلت فعلها وبدَّلت قِيَم أهلها تبديلا، ولا هو ينحصر في الأمة الإسلامية التي تفككت أوصالها وفقدت وِجهتها،
    وإنما يتعدى ذلك إلى العالم بأسْره لِيُنقذ الإنسان، خاصِيَّه وعامِيَّه،
    من سلطان فكر فلسفي أضرَّ بوجوده في هذا العالم ؛ ومن كان هذا عمله،
    فما أجدر به أن يُعدَّ في حكماء العالم
    الإمام الفلسفي المجدد طه عبدالرحمن

  8. #8

    افتراضي

    ..
    خامسا : مشروع جريء إلى أبعد الحدود

    من تجليات هذه الجرأة :
    (1)
    نزع الهالة عن الفلسفة ووضعها على مشرحة الفقه الفلسفي،
    فقد كشف الباحث في أعماله عن الأساطير التي حيكت حول الفلسفة وأخضعها للدرس شأن بقية الظواهر الطبيعية. يقول:"يتعين علينا أن ننظر في الفلسفة كما ينظر العالم في الظاهرة رصداً ووصفاً وشرحاً" (29) .
    وضع الباحث حداً لما ألصق بها من ادعاءات وأساطير خلال تاريخها الطويل العريض.
    ولم يكتف بتحجيمها ورفع هالة الاغترار بها، بل اعترض على كَوْنِيَتَهَا والقول بعالَميتها ونبه إلى ما تناقلته الأقلام حولها من أوهام العظمة، وما تسرب من خلال تلك الأوهام إلى عقول الناس، وما بثته من تهويد في الفكر الغربي الحديث.
    وذهب إلى أن المتفلسفة العرب المعاصرين لم ينتبهوا إلى وجود التهويد في الفلسفة الحديثة.
    ودليله أن"ما يُنجز في البلاد العربية في الوقت الراهن (...)يدور كله على نفس الاستشكالات والاستدلالات ونفس المسلمات والنظريات التي يتضمنها الفضاء الفلسفي العالمي المزعوم" (30).
    وهو ينفي دعاوى كونية الفلسفة والقول بعالميتها إذ الفلسفة جزئية تتعلق بفئة من الفلاسفة في وسط ثقافي خاص، كما ترتبط بسياق تاريخي خاص.
    (2)
    رميه للمتفلسفة العرب بالعجز عن التفلسف ووضعه لأصول منهج على مقتضى ما تدعو حاجة الذات الإسلامية إليه.
    فهم عاجزون عن التحرر من المناهج الغربية، وعن القدرة عن الإتيان بما يُقابلها. وهكذا نجده ينزع هذه القدرة عن متفلسفة العرب، قديمهم وحديثهم، ولا ينتهي من وصمهم بالتبعية لغيرهم والكشف عن فشلهم في التفلسف على مقتضى تراثهم وهويتهم وواقعهم. وهو بهذا يهدم كثيرا من المشاريع والمناهج والأسماء والصروح الوهمية.
    ويكاد يكون مشروعه حربا على الفلسفة التي أقبرت الوجود العربي حين كبلته بتقاليدها؛ فتفسخ وجوده في وجودها. وتصور الفلسفة عندنا جثة هامدة، فاندفع، في تشريح جثتها، ليعلم أهل النظر أسباب موتها فينا، عسى أن ينهض الناهضون بعبء إحيائها؛ لتكون فلسفة لها أصول مركوزة في تاريخنا لا في تاريخ غيرنا (31) .
    وقال:
    " ما زال المتفلسف العربي لا يجرؤ لحد الآن أن يُضيف إلى المفاهيم الفلسفية التي يصنعها غيره مفاهيم يصنعها من عنده " (32) .
    (3)
    إنشاء فلسفة إسلامية تقوم على التخلق لا على التعقل كما ساد بذلك الاعتقاد؛
    "ولا تفلسف بلا تخلق" كما يقول (33). وما يُميز الكائن البشري عنده إلا المقوم الأخلاقي. وما الأخلاق إلا الدين.
    (4)
    هدم لمناهج الترجمة في القديم والحديث،
    وقد جعل الترجمة من أركان فقه فلسفته لاقترانها بالفلسفة؛ إذ "لا فلسفة معترف بها بيننا بغير ترجمة" (34). وهو يرى أن السبب الأول في موت الفلسفة عندنا هو الترجمة التي تتمسك إما بحرفية اللفظ أو حرفية المضمون. ومشروعه يدعونا أن نتصرف في المضمون كما نتصرف في اللفظ، وهو ما أسماه بالترجمة التأصيلية. وهي وسيلتنا في الخروج من التقليد الفلسفي.
    (5)
    ما يُمكن أن يُسفر عنه هذا المشروع من نتائج،
    من مثل:
    نسف المناهج الفلسفية المتبعة في الجامعات العربية، ودعوة إلى إعادة النظر في مقرراتها وما تهتم به من قضايا.
    إنشاء فلسفة عربية نابعة من الشروط العربية.
    إعادة النظر في كثير من المفاهيم التي حصل حوله الإجماع: مفهوم الفلسفة، العقلانية، الحداثة، الرشدية، العولمة، نهاية التاريخ ...
    من هنا يظهر جليًّا أن البعد الذي يكتسبه إنتاج بديع الزمان لا ينحصر في تركيا حيث آثار الفلسفة "الكانطية" قد فعلت فعلها وبدَّلت قِيَم أهلها تبديلا، ولا هو ينحصر في الأمة الإسلامية التي تفككت أوصالها وفقدت وِجهتها،
    وإنما يتعدى ذلك إلى العالم بأسْره لِيُنقذ الإنسان، خاصِيَّه وعامِيَّه،
    من سلطان فكر فلسفي أضرَّ بوجوده في هذا العالم ؛ ومن كان هذا عمله،
    فما أجدر به أن يُعدَّ في حكماء العالم
    الإمام الفلسفي المجدد طه عبدالرحمن

  9. #9

    افتراضي

    ..
    سادسا: بأي شيء يختلف د. طه عن غيره من أهل الفكر؟


    (1)
    هَيَّأَ نفسَه علميّا وروحيّا لمواجهة المرحلة بما يصطخب فيها من إديولوجيات وإلحاد وانجذاب
    نحو الكونية وانحراف للمنتسبين إلى الإسلام عن جادة الطريق والوقوع في التيه.
    ومشروع د. طه وليد تجربة خاضها صاحبها باقتدار، وقلما أتيحت لغيره بنفس
    الصفاء الذهني
    و الاستعداد الروحي
    في مغربنا الحديث، إن لم أقل في عالمنا العربي.

    فهو رجل تعايشت وتساوت في نفسه وعقله تجربتان:
    تجربة معرفية عقلية و تجربته إيمانية روحية.
    يقول عن هاتيْن التجربتيْن:
    " أقبلنا على تحصيل المناهج العلمية في أصولها المنطقية وآلياتها الإجرائية حتى تكونت لدينا القدرة على انتهاج طرق في البناء والترتيب تستوفي الشروط النظرية المطلوبة، وصار عندنا النهوض بإبطال أدلة خصوم العقيدة أمرا يسيرا هينا. وتولد عندنا، نتيجة جانب التجربة وجانب التعقل في ممارستنا الخُلُقية والعلمية، فكر ديني متكامل ومتجدد" (35).
    وحين تغلغلت التجربتان في نفسه وتساوتا لديه، لم يستشعر تناقضا بينهما، كما استشعرها غيره نظريا وعمليا؛ أحس د. طه بفداحة المسؤولية أمام المفكر الذي يقضي حياته في القول والتقول بدون عمل.
    فأبدى من الجرأة في طلب الحق ما لم يُعرف مثله عند ذوي التفلسف.
    وسعى في مشروعه إلى توطيد الصحوة الإسلامية التي شهدها الثلث الأخير من القرن العشرين، وعمل على تحصينها من أشكال التحامل والإقصاء والنسف، وأقام اليقظة عن طريق التجربة الحية والتعقل الخصب. وظل يدعو في مشروعه إلى
    "معرفة تصل العقل بالغيب وتصل العلم بالعمل" (36). وقدم في كتابه تجديد المنهج صيغة لتكامل العقلانية ( بعد تجريدها من أوهامها) والروحانية ( بعد إعادة صياغة بنائها ).

    (2)
    حدد أصوله ومنهجه، وتمسك بوحي السماء؛ فهانت عليه أوهام أهل الأرض.
    كشف في مشروعه عن إيمانه، وهو أمر غير معهود عند أهل التفلسف؛ إما تقيةً أو تظاهرا بالحداثة في التفلسف، أو إلحادا صراحا.
    أما د. طه فيقول:
    " الإيمان العظيم يورث التفلسف العظيم، والتفلسف العظيم يثبت الإيمان العظيم" (37)،
    ويكشف عن إيمانه فيقول:
    " ونحن لنا الفضل في أننا لا نتستر على إيماننا أو نتذبذب فيه فيما نكتب كي نُنسَب إلى الحداثة، ولو أننا تزودنا من أسبابها بما لم يتزود به هذا الذي لم يتجرد من أصيل إيمانه إلا ليتقلد إيمان غيره، عَلِمَ أمْ لمْ يعلم " (38).

    (3)
    انفتح في ثقافته على ميادين الثقافة الغربية، واكتسب معرفة قوية بمناهج البحث، وله معرفة بلغات لا يزاحمه فيها إلا أقل من القليل،
    وقد اتضح لي من خلال مصادره ومراجعه أنه
    على إلمام واسع باللغات، منها: اليونانية، اللاتينية، الألمانية، الإنجليزية، الفرنسية.
    حين قرأ ثقافة الغرب، لم ينبهر بها، ولم يقع في شراكها، ولم يجعل نفسه سجينا لها، ولم يذُب في تلقيه لها على مقتضى مناحي التفكير عند أهلها.
    حين قرأ ثقافة الغرب ازداد معرفة بحقيقة تراثه، وزاده علمه إيماناً ويقينا، ومنحه عزة نفس تأبى عليه أن يمتهن كرامته في التقلبات الفكرية بدعوى التفاعل مع المناهج الحديثة. فقد وجد أن مكمن الخطأ في مقلدة العصر من متفلسفتنا ومفكرينا يتجلى في تقلباتهم الفكرية في كل الاتجاهات، وفي اندفاعهم
    " في تقليد فلاسفة الغرب الذين يصدرون في إنشاء أفكارهم عن أسباب لا وجود لها عندنا" (39).
    وكيف تم له تجاوز البناء النظري للفكر الغربي الحديث ؟
    يقول إن ذلك يتم بـ "تحصيل القدرة على فك مفاصل البناء النظري المعقول وإعادة تركيبها بفضل عمليات تحويلية متعددة تدخل على المفاهيم والأحكام" (40). وبذلك استطاع أن يُقدم رؤية مغايرة لرؤية الغرب.
    ووجد نفسه يرفض أن يخوض فيما يخوض فيه غيره.
    فقد تمرد على الحضارة الغربية وذهب في تمحيص مقولاتها كل مذهب.
    وكتبه اليوم فيها إدانة لهذه الحضارة التي غررت بأهلها فقادتهم إلى التسلط والطغيان والظلم والفساد في الأرض.

    (4)
    طالب بحقه في الإبداع، أراد أن يأتي بما لم تأت به الأوائل،
    على حد قول أبي العلاء؛ فعاداه من عاداه. وحين طلب حقه في الإبداع لم يرده خالصا لنفسه؛ بل أراد أن يكون لأبناء جلدته حقهم الطبيعي في الإبداع الفلسفي؛ فهو لا يرضى لهم أن يكونوا نُسَخاً "كارْبونية" من غيرهم، يسيرون في أنفاق التبعية، لا يُبدعون ولا يجتهدون.
    وغايته، من مشروعه، كما اتضح لي، أنه يريد أن يُقدم نموذجا من التفلسف يُضاهي به ما تقرر عند أهل التفلسف، وأضحى من"المسكوكات". غايته أن يتفلسف على مقتضى خصوصيته الثقافية.

    (5)
    تمرد على الحضارة الغربية وواجهها بالحوار وبالتقويم.
    فبالرغم من تكوينه في ديار الغرب، واستفادته من فكره، قديمه وحديثه؛ إلا أن تلك الحضارة لم تلتهم كيانه في لحظة التكوين، ولم يتضاءل أمامها، ولم ينخدع ببريقها، أو يتساقط أمام إغراءاتها، ويتصاغر أمام ادعاءاتها.
    تجده يكشف عن ضلالاتها وأزماتها وآفاتها؛ وإنقاذاً للهائمين في عشقها، المتهالكين على بريقها، الواقعين في أحابيلها؛
    يتصدى لتقويمها على مقتضى عقيدته الإسلامية، في لحظة يزداد فيها صلف المستكبرين في الأرض بغير حق ويتجرع فيها الذلة والمسكنة المنتمون إلى الإسلام، وتتمدد فيها خريطة أهل النفاق والخيانة والارتشاء. فتزداد التبعية والتواكل والخذلان. وتُحاصر أفكار الشعوب بما يُبقي على مصالح الغرب ويضمن له الهيمنة على المعمور.

    (6)
    ربط القول بالعمل أي أنه ربط الفلسفة بالسلوك؛
    فجعل المتفلسف محط النظر، لا يَسأل فقط، بل يُسأل. ولا قيمة لأقواله ما لم تتوافق مع مضامين كلامه؛
    "إذ ليس في الناس أحد أشد حاجة إلى أن يُصدق فعلُه قولَه، ولا أن يُوافق قولهُ فعلَه من الفيلسوف" (41).
    فالسلوك هو خير محك لاختبار صدق ما يدعيه الفيلسوف. وقال
    إن المعرفة الإسلامية " تصل العقل بالغيب، وتصل العلم بالعمل"،
    واعتبر المعرفة الغربية "معرفة تقطع العقل عن الغيب، وتفصل ما بين العلم والعمل" (42).
    والفلسفة عنده خطاب مزدوج بالسلوك؛ ولهذا وقع اختياره على اسم ( فقه الفلسفة ) لأن لفظ الفقه اشتهر بالجمع بين إفادة العلم وإفادة العمل. ومفهوم الفلسفة القومية الحية عنده تقوم على العمل الثابت الشامل لجميع أفراد القوم والمتواصل وفق القيم العليا.


    من هنا يظهر جليًّا أن البعد الذي يكتسبه إنتاج بديع الزمان لا ينحصر في تركيا حيث آثار الفلسفة "الكانطية" قد فعلت فعلها وبدَّلت قِيَم أهلها تبديلا، ولا هو ينحصر في الأمة الإسلامية التي تفككت أوصالها وفقدت وِجهتها،
    وإنما يتعدى ذلك إلى العالم بأسْره لِيُنقذ الإنسان، خاصِيَّه وعامِيَّه،
    من سلطان فكر فلسفي أضرَّ بوجوده في هذا العالم ؛ ومن كان هذا عمله،
    فما أجدر به أن يُعدَّ في حكماء العالم
    الإمام الفلسفي المجدد طه عبدالرحمن

  10. #10

    افتراضي

    ..
    سابعا : ما هي قيمة هذا المشروع ؟

    (1)
    نجد أنفسنا أمام مفكر مسلم عربي، يقوم بتحصين الركنين اللذين يقوم عليهما صرح الحضارة الإسلامية: دين الإسلام، ولغة القرآن. وقد انتقد في كتابه سؤال الأخلاق الحداثة العلمانية بواسطة الأخلاق الإسلامية.

    (2)
    صاحب نزعة إنسانية، ترفض أن يُصبح الإنسان شيئاً من الأشياء، تستعبده الآليات والتقنيات.

    (3)
    اعتزاز بالذات حين تتميز عن غيرها بالاجتهاد والإبداع.

    (4)
    مشروعه دعوة إلى العودة إلى المعاني الروحية. العودة إلى رحاب الله تعالى، أن ينشغل الإنسان بما خلق له، أن ينسجم مع سنن الكون.

    (5)
    وضع تصور لعقلانية توافق الأخلاق الإسلامية في كتابه سؤال الأخلاق، بشكل خاص.

    (6)
    هذا مشروع تصحيحي، يقوم على بناء متكامل؛ ينتقد أنساق الحضارة الغربية، ويهدم أبنيتها المعرفية فتتهاوى كثير من منطلقاتها.

    (7)
    هذا المشروع ثورة على أهل التقليد، وعلى عقلانية الفلسفة الغربية وحداثتها، وعلى الأساطير التي حيكت حولها، وعلى السائرين في مواكبها، المقيدين بقيودها.
    من هنا يظهر جليًّا أن البعد الذي يكتسبه إنتاج بديع الزمان لا ينحصر في تركيا حيث آثار الفلسفة "الكانطية" قد فعلت فعلها وبدَّلت قِيَم أهلها تبديلا، ولا هو ينحصر في الأمة الإسلامية التي تفككت أوصالها وفقدت وِجهتها،
    وإنما يتعدى ذلك إلى العالم بأسْره لِيُنقذ الإنسان، خاصِيَّه وعامِيَّه،
    من سلطان فكر فلسفي أضرَّ بوجوده في هذا العالم ؛ ومن كان هذا عمله،
    فما أجدر به أن يُعدَّ في حكماء العالم
    الإمام الفلسفي المجدد طه عبدالرحمن

  11. #11

    افتراضي

    ..
    ثامنا : لماذا تغافل أهل التفلسف عن هذا المشروع ؟

    ماذا عن أصداء هذا المشروع ؟ وكيف كانت ردود الفعل نحوه ؟
    يلاحظ أن هذا المشروع لم يلق ما كان يستحقه – في تقديري – من احتفاء وتقدير ومساءلة، بل إنه وجد شبه إقصاء من ذوي التفلسف.
    ومما يدعو إلى الاستغراب أن هذا المشروع لم يُثر ضجة علمية، في الوطن العربي – تناسب ما قدمه صاحبها من دعاوى ومواقف واجتهادات وفتوحات، وما أبداه من جرأة علمية لم يُعرف لها مثيل في النهضة العربية الحديثة، وما رفعه من معاول الهدم، وما أقامه وشيده من أنواع البناء؛ بل ما افتن فيه من أساليب الهدم والبناء. فلم يلق المشروع ما يستحقه من النقد والمتابعة والمساءلة والمراجعة.
    ولعل من أسباب ذلك التغاضي عن المشروع، أذكر ما يأتي:
    (1)
    لقد طار د. عبد الرحمن من أول يوم في غير سِرْبه .
    ومنذ أن شرع يؤسس لرؤية جديدة ومغايرة تغاضى عنه كل من لا طاقة له بالتعايش مع موهبته. وتوالت أعماله فتكشفت عنها شخصية باحث عبقري متمرس، تكتسح اجتهاداته آفاق المعرفة بقوة وصلابة.
    (2)
    إصراره على التميز بين معاصريه بالتفلسف بصورة مثيرة للنظر والحسد والكبرياء.
    ووجدناه يقول إن الغاية من مشروعه أن يجعل المتلقي العربي قادرا على تصنيع "معمله المفهومي"، من أجل إنشاء فلسفة متميزة ومستقلة؛ أن يجعله قادرا على التفلسف؛ وهذا أمر لم يقل به أحد قبله.
    (3)
    تنقيصه من مكانة الفلسفة عند ذويها،
    ونفيه لعالميتها الفلسفة، وقوله بتهويدها وتبعية المتفلسفة العرب لنظرياتها واستشكالاتها، وما أحاط بها من أساطير.
    (4)
    استنكاره الدائم للتقليد من لدن متفلسفة العرب، واستهجانه واستنكاره لتبعيتهم العمياء للفكر الغربي، واستجهاله لهم ورميه لهم بالعقم.
    (5)
    انتقاده للمفكرين العرب الذين يتخذون العقلانية الغربية منهجا للنهوض بواقع العالم الإسلامي.
    لماذا ؟ لأنها عقلانية نبذت الدين والأخلاق من منظومتها الفكرية. والحضارة التي انبنت عليها تلك العقلانية وصمها بالنقص والظلم والتأزم والتسلط. ( سؤال الأخلاق: الفصل الثاني، والفصل الخامس)
    (6)
    هدمه لكثير من المفاهيم التي أصبحت مقررة عن ذوي التفلسف.
    وأبدى مهارات غير مسبوقة في تصنيع المفاهيم، واستنبات المصطلحات، وفتح أبواب مدلولاتها على الاستشكالات والاستدلالات في المجال التداولي الإسلامي العربي ( اللغة، الفكر، العقيدة ).
    (7)
    تطاوله على من اعتبرهم الناس أساطين التفكير في هذا العصر وغيره،
    كما نرى في موقفه من ابن رشد والرشدية، واستخفافه بكثير من الرواد أصحاب المشاريع في قراءة التراث العربي.
    (8)
    إلحاحه في الطلب بحقه في الاختلاف بعزة نفس لا تلين ولا تستكين.
    وهو يرفض أن يُساير ما تقرر في مجالات الفلسفة. ومشكلته أنه "لا عطاء بغير تميز، ولا إبداع بغير خصوصي" (43) .
    (9)
    دأبه على وضع خطة للاختلاف تتمثل في إنشاء ميثاق للإبداع في الممارسة الفلسفية.
    (10)
    رغبته في تجديد الفكر الديني وإقامة فلسفته على القيم العملية المستمدة من الأخلاق الإسلامية.
    (11)
    تصنيعه الدائب والمثير للمصطلحات والمفاهيم.
    (12)
    دفاعه المستميت عن الهوية والأصالة بمفهومهما الإسلامي.
    (13)
    حبه للغة العربية باعتبارها لغة القرآن.
    (14)
    الصعوبة في قراءة أعماله واستيعابها وهضمها،
    بالرغم مما يُقدمه من أساليب منهجية في بيانها والإحاطة بجوانبها، وتلخيص محتوياتها في نهاية كل فصل.

    وعلى كل حال، فما هو واضح أن صاحب هذا المشروع قد أبطل الكثير من مشاريع أهل التجديد في العصر الحديث، وكشف عن عيوب تلك المشاريع من حيث مناهجها وادعاءاتها. وتساقطت إثر ظهور أعماله بعض الرموز التي بلغت شهرتها شأوا بعيدا في عالم الحداثة. ولا عجب أن يُواجه هذا المشروع بالصمت والإقصاء في انطلاقته الأولى، وألا يلقى من الترحيب من أهل الفلسفة كل ما يستحقه.
    ونظرا لما تميز به أعمال د. طه عبد الرحمن من شموخ في مجال المعرفة وصرامة في المنهج، ونظرا لما اتسم به مشروعه من جرأة في الطرح ( جرأة لم يشهد الناس مثيلا لها في زماننا هذا)، ونظرا لحساسية القضايا التي أثارها، وما أبانه د. طه من شجاعة في الدفاع عما اقتنع به؛ أرى

    أن هذا المشروع كان بمثابة زلزال فاقت درجته ما تقرر في علم الزلازل.

    مشروع سخِر من كل ما تقرر عند أهل التفلسف؛ قديمه وحديثه. رمى أهل التفلسف في العالم العربي المعاصر باتباع ما وجدوا عليه أعداءهم. وشرع لهم طريقة في التفكير تمكنهم من نزع قلادة التقليد من أعناقهم، وتساعدهم على أن يتحرروا من العبودية لغيرهم، وأن يستقلوا بفكرهم، وأن يمارسوا حقهم في التفكير الحر والحي.
    من هنا يظهر جليًّا أن البعد الذي يكتسبه إنتاج بديع الزمان لا ينحصر في تركيا حيث آثار الفلسفة "الكانطية" قد فعلت فعلها وبدَّلت قِيَم أهلها تبديلا، ولا هو ينحصر في الأمة الإسلامية التي تفككت أوصالها وفقدت وِجهتها،
    وإنما يتعدى ذلك إلى العالم بأسْره لِيُنقذ الإنسان، خاصِيَّه وعامِيَّه،
    من سلطان فكر فلسفي أضرَّ بوجوده في هذا العالم ؛ ومن كان هذا عمله،
    فما أجدر به أن يُعدَّ في حكماء العالم
    الإمام الفلسفي المجدد طه عبدالرحمن

  12. #12

    افتراضي

    ..
    خاتمة :

    سعى د. طه عبد الرحمن من خلال مشروعه هذا أن يقدم كيفية للخروج من التبعية العمياء للحضارة الغربية، وأن يُنبه الإنسان المسلم في عالم اليوم إلى ما يعيشه من استرقاق وعبودية ويدعوه إلى العودة به إلى رحاب الحق.
    وستظل كتبه تؤرِّق من حادوا عن القصد، واستطابوا الفوضى، واستلذوا عبث الحداثة المعاصرة، وانبهر بهلوسات كَتَبَةِ العصر ممن يعدون في سجل المبدعين في العصور الحديثة، وإذا سألتهم عما يُؤرقهم لوجدتهم يتحدثون عن مأساة الإنسان أمام فوهة العدم، كما صورته لهم فلسفة الحداثة في الغرب.

    ومجمل ما يهدف إليه د. طه أن يُذكر الناس "بما ينفَعُ الناس" وبما يمكث في الأرض،
    أن تكون الوسائل المعتمدة في الحضارة الإنسانية ناجعة،
    وأن تكون المقاصد نافعة،
    وأن تكون الوسائل والمقاصد خادمة لوحدة مظاهر الإنسان (44) .
    فعمق فلسفة هذا الرجل إنسانية في جوهرها، همه الأول والأخير أن يُخرج الإنسان المعاصر من غفلته ومن ضياعه ومن عبثية وجوده، ومن ما سمي بتراجيديا العصر، وأن يُنقد المتفلسف العربي من أخطار التقليد حين يتلاشى في "الإمَّعيةّ"، ويُصبح من الموتى مع وقف التنفيذ.
    وظل مجهوده يطَّرِدُ ويتقوَّى حضورُه ويتبلور اجتهادُه ويتقرَّر إبداعُه فما حالت المحاصرة دون بلوغ مقاصده.
    ولعل أعمال هذا الباحث حين تعاد قراءة أعماله سينكشف أن الإسلام - كما تمثل في كتاباته -هو البلسم لجراح الحضارة الإنسانية في العصور الحديثة، وأن رقي هذه الحضارة مشروط بقيم الإسلام. وقد تحدث في الفصل السابع من كتابه سؤال الأخلاق عن
    دروب المحاصرة للدعوة إلى عودة الإسلام:
    المحاصرة الخارجية
    والمحاصرة الداخلية
    والمحاصرة الذاتية
    وذهب يحدد السبل الكفيلة لدفع هذه المحاصرات المختلفة.
    ويبدو أن د. طه قد خرج اليوم من أشكال التضييق والمحاصرة،
    وأن مشروعه بدأ يلفت الانتباه مشرقا ومغربا، وبدأ أغلب الباحثين يُقبلون على كتبه.
    وبدأت الرسائل الجامعية تتأثر خطاه من النواحي المنهجية والمعرفية.
    وما إنشاء ( منتدى الحكمة للباحثين والمفكرين) في المغرب بتاريخ 9 مارس 2002، برئاسته إلا احتفاء بمكانته وتقديرا لجهوده الفكرية.
    وإذا كان الدكتور طه عبد الرحمن قد طار من أول يوم في غير سربه، وأن صوته قد بُح داخل وطنه،
    فإن هذا الصوت قد بلغ اليوم تخوم العالم الإسلامي، وأصبحت الآذان تُصغي إليه، والعيون تتبع كتاباته.
    وهاهم غالبية أساتذة الجامعة اليوم يُقبلون عليه ويُقدرون أعماله حق قدرها.
    وليس من المبالغة في شيء أن يُقال إننا أمام أكبر عبقرية مغربية في مجال الفلسفة في الربع الأخير من القرن العشرين وفي مطالع القرن الواحد والعشرين. وبفضل أمثال د. طه يستطيع المغرب حقا أن يُشارك في النهوض بالأمة العربية، وأن بُعرف في المحافل الدولية.
    وأخيرا أقول:
    ما هو جدير بالتقدير في مشروع د. طه عبد الرحمن أنه اجتهد في كل ما ذهب إليه، وأنه أعاد النظر في واقع التفكير عند المسلمين والعرب، كما أعاد النظر في مقومات الحضارة الغربية. وعمل على استنباطه من مجاله التداولي الإسلامي، وظل رافضا لكل ما يتنافى مع الوحي الذي تقوم عليه حضارة الإسلام.
    فهو صوت ارتفع في لحظة أصبح فيها الكيان الإسلامي العربي مستهدفا بصورة مكشوفة. لحظة أعلن فيها أهل الإسلام هزيمتهم الحضارية فارتفع صوته يستنهض الهمم للخروج من التبعية، وأن ينظروا في حقيقتهم ويستشكلون من القضايا الفكرية ما يحفل بهم واقعهم.
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    هوامش ( من كتب د. طه عبد الرحمن )

    (1) حوارات، ص 137 – ط1 منشورات جريدة الزمن، أبريل 2000
    (2) تجديد المنهج في تقويم التراث، ص 10 – ط1 [ بيروت، المركز الثقافي العربي، 1994 ].
    (3) حوارات من أجل المستقبل، ص 138
    (4) فقه الفلسفة – القول الفلسفي، كتاب المفهوم والتأثيل، ص 11 – 12 – ط1 [ بيروت، المركز الثقافي العربي، 1999 ].
    (5) سؤال الأخلاق، ص 111 – ط1 [ بيروت، المركز الثقافي العربي، 2000 ].
    (6) نفسه، ص 171
    (7) العمل الديني وتجديد العقل، ص 9 – ط1 [ بيروت، المركز الثقافي العربي، 1999 ].
    (8 ) فقه الفلسفة – 1 – الفلسفة والترجمة، ص264 – ط2 [ بيروت، المركز الثقافي العربي، 1997 ].
    (9) الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، ص113(هامش 1 ) – ط1 [ بيروت، المركز الثقافي العربي، 2002 ].
    (10) فقه الفلسفة – 1 - الفلسفة والترجمة، ص 507
    (11) حوارات من أجل المستقبل، ص 135
    (12) تجديد المنهج في تقويم التراث، ص 422 – 423
    (13) اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، ص 17 - ط1 [ بيروت المركز الثقافي العربي، 1998 ].
    (14) الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، ص 79
    (15) نفسه، ص 116
    (16) ينظر كتابه: العمل الديني وتجديد العقل.
    (17) فقه الفلسفة – 1 – الفلسفة والترجمة، ص 386
    (18) نفسه، ص 55 (19) نفسه، ص 51
    (20) الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، ص 148
    (21) نفسه، ص 197
    (22) تجديد المنهج في تقويم التراث، ص 12
    (23) فقه الفلسفة – 1 – الفلسفة والترجمة، ص 510
    (24) سؤال الأخلاق، ص 159 ، 167
    (25) نفسه، ص 171
    (26) نفسه، ص 163
    (27) الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، ص 65
    (28) تجديد المنهج، ص 11
    (29) فقه الفلسفة – القول الفلسفي، كتاب المفهوم والتأثيل، ص 13
    الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، ص66
    فقه الفلسفة – القول الفلسفي، كتاب المفهوم والتأثيل، ص 18
    الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، ص77
    نفسه، ص 15
    فقه الفلسفة – القول الفلسفي، كتاب المفهوم والتأثيل، ص 19
    (35) تجديد الفكر الديني، ص 11
    (36) العمل الديني، ص 10
    (37) فقه الفلسفة – القول الفلسفي، كتاب المفهوم والتأثيل، ص 29
    (38) نفسه، ص 30
    (39) حوارات من أجل المستقبل، ص137
    (40) سؤال الأخلاق، ص
    (41) فقه الفلسفة – القول الفلسفي، كتاب المفهوم والتأثيل، ص 27
    (42) تجديد المنهج في تقويم التراث، ص 10
    (43) الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، ص 17
    (44) سؤال الأخلاق، ص 64

    من هنا يظهر جليًّا أن البعد الذي يكتسبه إنتاج بديع الزمان لا ينحصر في تركيا حيث آثار الفلسفة "الكانطية" قد فعلت فعلها وبدَّلت قِيَم أهلها تبديلا، ولا هو ينحصر في الأمة الإسلامية التي تفككت أوصالها وفقدت وِجهتها،
    وإنما يتعدى ذلك إلى العالم بأسْره لِيُنقذ الإنسان، خاصِيَّه وعامِيَّه،
    من سلطان فكر فلسفي أضرَّ بوجوده في هذا العالم ؛ ومن كان هذا عمله،
    فما أجدر به أن يُعدَّ في حكماء العالم
    الإمام الفلسفي المجدد طه عبدالرحمن

  13. #13

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خلوصي مشاهدة المشاركة

    والمشروع في جملته – وهو ما يزال في طور الاكتمال -
    يُقدم للفكر الإسلامي الحديث
    ( وليس من المبالغة في شيء أن أقول للفكر الإنساني الحديث )،
    ما به يتم الخروج من نفق التبعية الذي افتقدنا فيه ملامح وجودنا، ومن نفَق الارتهان لفكر أزرى بحقيقتنا الإنسانية، وعرَّضنا لمزيد من التلاشي والضياع.
    والحقيقة الساطعة في هذا المشروع أن صاحبه يضع، بكل اقتدار وخبرة خطةً منهجية عملية تُمكن المتفلسف العربي من الإقلاع عن التبعية، وتؤهله لأن يُحقق أمرين:
    أولهما: أن يأتي بما يستشكله هُوَ - باعتباره مفكراً حرّاً - من واقعه وتراثه وهويته،
    وثانيهما: أن يُبدع ما به يُضاهي ما لدى غيره من أفكار ونظريات.
    لابتداء المدارسة ....
    من هنا يظهر جليًّا أن البعد الذي يكتسبه إنتاج بديع الزمان لا ينحصر في تركيا حيث آثار الفلسفة "الكانطية" قد فعلت فعلها وبدَّلت قِيَم أهلها تبديلا، ولا هو ينحصر في الأمة الإسلامية التي تفككت أوصالها وفقدت وِجهتها،
    وإنما يتعدى ذلك إلى العالم بأسْره لِيُنقذ الإنسان، خاصِيَّه وعامِيَّه،
    من سلطان فكر فلسفي أضرَّ بوجوده في هذا العالم ؛ ومن كان هذا عمله،
    فما أجدر به أن يُعدَّ في حكماء العالم
    الإمام الفلسفي المجدد طه عبدالرحمن

  14. #14

    افتراضي

    كتب دقيقة الاصطلاح , جديدة المحتوى تجديدية , أنيقة اللغة , محكمة المنطق و السبك , مواجهة للإفساد الحداثي العلماني " العقلاني " كأتمّ ما تكون مواجهة !؟! :
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خلوصي مشاهدة المشاركة

    " أصول الحوار وتجديد علم الكلام "
    " تجديد المنهج في تقويم التراث ".
    العمل الديني وتجديد العقل (1989)
    فقه الفلسفة،
    اللسان والميزان أو التكوثر العقلي (1998)
    سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية (2000)
    الحق العربي في الاختلاف الفلسفي (2002).


    فماذا عن مشروع الدكتور طه عبد الرحمن ؟
    فماذا تريدون بعدُ ؟
    من هنا يظهر جليًّا أن البعد الذي يكتسبه إنتاج بديع الزمان لا ينحصر في تركيا حيث آثار الفلسفة "الكانطية" قد فعلت فعلها وبدَّلت قِيَم أهلها تبديلا، ولا هو ينحصر في الأمة الإسلامية التي تفككت أوصالها وفقدت وِجهتها،
    وإنما يتعدى ذلك إلى العالم بأسْره لِيُنقذ الإنسان، خاصِيَّه وعامِيَّه،
    من سلطان فكر فلسفي أضرَّ بوجوده في هذا العالم ؛ ومن كان هذا عمله،
    فما أجدر به أن يُعدَّ في حكماء العالم
    الإمام الفلسفي المجدد طه عبدالرحمن

  15. #15

    افتراضي

    مَقاتل العلمانيين :
    1- وصف دقيق مختصر تهكّمي بليغ :
    " وإنما أصيبوا بسوء التفلسف فامَّحَوْا في غيرهم بكل "كبرياء ".
    من هنا يظهر جليًّا أن البعد الذي يكتسبه إنتاج بديع الزمان لا ينحصر في تركيا حيث آثار الفلسفة "الكانطية" قد فعلت فعلها وبدَّلت قِيَم أهلها تبديلا، ولا هو ينحصر في الأمة الإسلامية التي تفككت أوصالها وفقدت وِجهتها،
    وإنما يتعدى ذلك إلى العالم بأسْره لِيُنقذ الإنسان، خاصِيَّه وعامِيَّه،
    من سلطان فكر فلسفي أضرَّ بوجوده في هذا العالم ؛ ومن كان هذا عمله،
    فما أجدر به أن يُعدَّ في حكماء العالم
    الإمام الفلسفي المجدد طه عبدالرحمن

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. نظرة في اليقين البرهاني (الفلسفي): ما له..وما عليه..
    بواسطة مُستفيد في المنتدى مستفيد
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 04-26-2014, 03:33 PM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء