آرثر شوبنهاور
(( 1788 – 1860 م))


فيلسوف ألماني تشاؤمي ملحد ، ولد في الثاني والعشرين من شهر فبراير لسنه 1788 م درس الفلسفة بجامعة ( جوتنجن) (( 1809 – 1811 م)) ، ثم انتقل إلى جامعة (( برلين )) ( 1811 – 1813م)) حيث ختم دراسته بحصوله على الدكتوراة عن رسالته التي دونها تحت عنوان الأصول الربعة لمبدأ السبب الكافي ) وهي رسالة في (( العقل )) وصلته بالعالم الخارجي .
مات أبوة منتحرا وهو في السابعة عشرة ( 1805م) عاش بعد ذلك حياة شقية تعيسة بسبب خلافه مع أمه بسبب حياة التحرر من كل قيود الفضيلة التي عاشتها أمه بعد أبيه ، وقد انتهى الخلاف بينهما إلى قطيعة كاملة حتى ماتت ولم يراها ، وقد سبب سلوك أمه شعورا عنده بالمقت الشديد للنساء لازمه طوال حياته ، فلم يرتبط بامرأة حتى مات .
قام بالتدريس بجامعة ( برلين ) (1820 – 1831م ) ولم يكن موفقا ولا مقبولا من الطلاب ، وقد عزا ذلك هو إلى غيرة الأساتذة الآخرين منه ، وتآمرهم ضده ولم تكن كتبه تلقى رواجا مما سبب له إحساسا مضاعفا بالشقاء والتعاسة ، لكن في أخريات حياته ، بدأت كتبه تروج والإقبال عليها يتزايد ، فشعر بالسعادة والرضا .
كان له بعض المال الذي ورثه عن أبيه ، مكنه استغلاله لهذا المال من الحصول على غرفتين بإحدى الفنادق المتوسطة ، عاش فيها طوال الثلاثين عاما الأخيرة من حياته ، عاش هذه السنين في هاتين الحجرتين ، وحيدا بلا أم ولا زوج ولا ولد ولا أسرة ولا وطن ، ولا صديق , سوى كلبه الذي أطلق عليه اسم (( أطما )) ، وهو اسم يطلق على روح العالم ، أو الروح الكلي لدى البراهمة ، ولكن سكان الفندق والقريبين من شوبنهاور كانوا يسمون الكلب شوبنهاور الصغير ) !

********
مؤلفاته :-
كتب (( شوبنهاور)) رسالته التي نال بها درجة الدكتوراه عام (( 1813م)) وكان الكتاب عن (( الأصول الأربعة لمبدأ السبب الكافي)). وهو يقصد بالسبب الكافي علاقتنا بالعالم الخارجي وفهمنا إياه. ويرى أن السبب الكافي الذي يتحدث عنه يقوم على أصول أربعة هي: ((علاقة بين مبدأ ونتيجة- علاقة بين علة ومعلول- علاقة بين زمان ومكان – علاقة بين داع وفعل )). والصور الثلاثة الأول تخص التصور النظري, أما الصورة الرابعة فهي العمل. وهذه الأربعة هي التي ينشأ عنها تصورنا للعالم الخارجي, وانفعالنا معه. ثم أخرج كتابه الثاني وهو((العالم إرادة وتصور)) أو ((العالم إرادة وفكرة)). وقد فتن بكتابه هذا حتى ظن أنه قد وضع فيه التصور النهائي للوجود والفكر . ولكن كتابه هذا لم يلق قبولاً, حتى أنه بعد ما يزيد على العشرة أعوام, أُبلغ ((شوبنهاور))أن جزءاً من نسخ كتابه قد بيع ورقاً فاسداً تُلف به البضائع, فازداد تشاؤماً, وأرجع ذلك إلى مؤامرة تحاك ضده من جميع المفكرين والفلاسفة, وأنهم لا يفهمون فلسفته لأنه يكتب للأجيال القادمة, ثم قال: ((إن كتابي هذا مثل المرآة, فإذا نظر فيها حمار فلا تنتظر أن يرى فيها وجه ملاك)).. ثم نشر كتاباً تحت عنوان: ((الإرادة في الطبيعة)) (1836م), جمع في هذا الكتاب من الأمثلة والشواهد الطبيعية ما ظنه أدلة على نظريته في الإرادة الكلية, التي تحدث عنها في كتابه السابق. وفي سنة (1841م) أصدر كتاباً بعنوان: ((المشكلتان الأساسيتان في فلسفة الأخلاق)) وفي سنة (1851م) أصدر كتابين هامين عن : (( النتاج والفضلات)). وقد بذل فيهما قصارى جهده, وعصارة فكره, ولكنه تلقي عشر نسخ منهما تعويضاً له عن مجهوده في تأليفهما.. فلم تكن مؤلفاته قد لقيت قبولاً بعد, وإن كانت فلسفته بدأت تلفت الأنظار.
وفي أخريات حياته بدأت فلسفته التشاؤمية تلقى اهتماماً لدى الأوساط, مما جعله يشعر ببعض الرضا في خلال عام (1854م).. وفي الحادي والعشرين من شهر سبتمبر من عام(1860م) جلس في الفندق المتواضع الذي قضي فيه الثلاثين عاماً الأخيرة من عمره. وكان يتناول إفطاره, وبعد ساعة وجدته صاحبة الفندق ما يزال جالساً كما هو, فاقتربت تتفحصه فوجدت الحياة قد نبذته, لتستريح الحياة والأحياء من واحد من أكبر الفلاسفة إلحاداً وتشاؤماً وإشاعة للفكر الفاسد .

* * * * *
مفتاح شخصيته:
تأثر ((شوبنهاور)) في فلسفته بأمور كثيرة, أهمها:
1- الوراثة الأسرية ؛فقد ولد الرجل لأسرة انتشرت فيها الأمراض النفسية والعقلية, فقد كان أفرادها يصابون بتلك الأمراض لأجيال متتالية, وقد كانت تلك الأمراض في أسرته من جهتي أبيه وأمه. وهي أمراض للوارثة فيها نصيب لا ينكر, وقد مات أبوه منتحراً, وماتت جدته مصابة بالجنون, وقد ظهرت أثار تلك الأمراض النفسية على ((شوبنهاور)) وانعكست أثارها على سلوكه وتصرفاته طوال مراحل حياته.
كذلك كان لعلاقته بأمه بعد وفاة أبيه أثر كبير في شخصيته المريضة, وآرائه المنحرفة الضالة.
فإن السلوك الخلقي السيئ لأمه بعد وفاة أبيه, جعله يسيئ الظن بالناس جميعاً, وبخاصة عندما وجد أستاذه((جوته)) الذي كان يجله ويحترمه يقاسم أمه تلك المعيشة الدنسة, فقد أثر ذلك في نفسه, وطوى قلبه على حقد وكراهية للحياة والأحياء بسبب الآلام الشديدة التي سببتها له تلك الأحداث.
2- الظروف العالمية.
حيث ولد ((شوبنهاور)) في عصر دمرت الحروب فيه أوربا تدميراً شديداً, وشردت عشرات الآلاف من الأسر, ونشرت الفقر والبؤس بين الناس على مستوى دول أوربا, وقد كانت الحرب قائمة بين ((نابليون)) الذي كان ((شوبنهاور)) وكافة المثقفين في أوربا ينظرون إليه على أنه روح الثورة الفرنسية التي حررت الفكر والناس, ولكن دول أوروبا تحالفت ضد نابليون وهزمته شر هزيمة ، وقذفت به إلى جزيرة((سانت هيلانه)) ليقضي نحبه فوق تلك الصخرة النائية في جوف المحيط.. وكانت تلك قمة الآلام عند ((شوبنهاور)) حيث قضت ((الإرادة المتجبرة)) للحياة على مكاسب الثورة الفرنسية, وعادت أسرة ((البوربون)) إلى حكم فرنسا, وعاد الإقطاعيون يطالبون بأملاكهم, وضحكت ((إرادة الحياة الشريرة)) ملء فيها من الناس الذين كانوا يأملون في الخلاص من الآلام والأحزان, فأعادتهم إليها مرة ثانية.
3- الحلة النفسية والعقلية :
تأثر ((شوبنهاور)) بالظروف التي أشرنا إليها, ونتج عن ذلك أن أصيب بأمراض نفسية وعقلية لازمته طوال حياته.. كان من آثارها أن غدا كئيباً ساخراً مرتاباً, شديد الخوف والقلق, تستبد به الهواجس والمخاوف, يسيئ الظن بالناس ويخشى على نفسه من شرورهم وغدرهم, وقد كان من آثار ذلك أن يغلق على نفسه الأبواب بعناية شديدة, وبلغ به الخوف وسوء الظن, أنه لم يسلم ذقنه ورقبته لموسى الحلاق أبدا طوال حياته, خوفاً من أن يتآمر مع الآخرين على ذبحه, وظل طيلة حياته لا ينام إلا وسلاحه بجواره محشواً بالرصاص في انتظار من تحدثه نفسه من اللصوص بالسطو عليه, أومن أعدائه المتوهمين بالاعتداء عليه أو قتله .وقد كان مريضاً بالعظمة وكان يرى نفسه هدفاً لتآمر الناس, وأنهم جميعاً يحقدون عليه ويحاولون إيذاءه والتخلص منه. وهذا الإحساس ظل يلازمه طوال حياته.. مما جعله يعيش وحيداً بلا أم, ولا زوجة, ولا ولد, ولا أسرة ولا وطن. ولم يصادق أحداً طوال حياته.. إن رجلاً كهذا ما كان ليصدر عنه فكر سوي, ولا رأي سليم, ولا فلسفة حكيمة, وما ينتظر أن يصدر عنه شيئ من ذلك.
4- قراءاته ودراساته :
إن المزاج الفاسد ((لشوبنهاور))ونزعة الحقد والكراهية التي تملأ نفسه, ثم الود المفقود, والعداء الموجود بينه وبين كل عناصر الحياة والأحياء, دفع به إلى اختيار نوعية معينة من الكتب, وكان اختياره منصباً على دراسة بوذا, ثم كتب الديانة الهندية, وكان من آثار ذلك أن ازداد شعوره بالكراهية للعالم, وتعمق لديه الإحساس بأن الحياة شر, وأن الحياة ليس فيها إلا الألم والمرض والشيخوخة والموت.. والديانة الهندية تقوم على أن الحياة قائمة على أنواع من الشرور الطبيعية والخلقية.
كل هذه الأمور التي أشرنا إليها كانت هي العوامل التي أثرت في شخصية الفيلسوف المتشائم الملحد ((شوبنهاور)), وطبعت فكرة بهذا الطابع الذي سوف نراه من خلال دراستنا لما يهمنا من أفكاره وأرائه, غير أننا نرى أنه من المفيد في هذا المجال أن نذكر بأن ((شوبنهاور)) في آرائه التي ذهب إليها لم يكن بدعاً في عصره وبلده. فالزمان والمكان كانا مليئين بمن سبقه ومن لحقه من الملاحدة المتشائمين, غير أنه يبقي لشوبنهاور في ذلك مستوى من الإلحاد والتشاؤم لم يصل إليه أحد, على ما سنرى عند بسطنا فلسفته فيما يلي – بحول الله تعالى..
**********

فلسفة شوبنهاور :

لقد لاحظ شوبنهار أن الوجود يقوم على أساس من الحكمة, والخبرة, والغائية, وأن كل شيئ في الوجود دليل صادق على إدارة الفاعل, وقدرته, وحكمته. وخبرته, وإتقانه.
كما لاحظ أن الوجود كله يمشي على نظام حكيم متقن بديع, وأن له غاية يسعى إليها, وأن لهذه الغاية وسائل, وأن الغاية ووسائلها تنطق بحكمة الفاعل, وتحدث بإتقانه وإبداعه.
لاحظ الرجل كل ذلك في الجمادات, وفي النبات, وفي الحشرات والحيوانات, وكيف يسعى كل من هؤلاء للحصول على غذائه, للإبقاء على نفسه ونوعه, كما لاحظ ذلك في الإنسان وما آتاه الله – تعالى- من قوة عاقلة, وقوة جسمية غريزية, للإبقاء على نفسه بالغذاء, وعلى نوعه بالتزاوج والتناسل, وعلى تميزه عن كل ما حوله بإعمال عقله. ونتاج العقل من فكر وثقافة وحضارة, وعلوم ومعارف, ورأس هذه المعارف معرفته بربه – سبحانه- ,واعتصامه بحبله, والسير على هدى طاعته, والسعي في تحصيل مرضاته . لاحظ الفيلسوف كل ذلك, لكن لأنه من الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم, وجعل على أبصارهم غشاوة تعميهم عن الحق, وتضلهم عن الصواب, فقد اختار الإلحاد والكفر بالخالق العظيم, والصانع البديع.. وقد وجد الرجل نفسه بين أمرين: إما أن ينكر ما لاحظه في الوجود من حكمة وقدرة وإرادة وإتقان, ثم ينكر وجود الله- سبحانه-, وبذلك يحقق مبتغاة من إنكار وجود رب لهذا الكون, لكن, كيف ينكر الحكمة والإرادة والإتقان مع أن كل شيئ في الوجود ناطق به,دال عليه.
وإما أن يقر بالإرادة والحكمة والإتقان والإبداع, ثم بالخالق العليم,وهذا ما لا يريده, ولا يستقيم مع ما اختار لنفسه من كفر وإلحاد.
لكن الفيلسوف الملحد وجد ضالته في أن يقر بالإرادة, والإبداع والإتقان, لكن لا يرجع ذلك إلى الله الحق- سبحانه-, بل يرجع ذلك ويسنده إلى الطبيعة الجامدة,والمادة الميتة, التي لا تملك من أمر نفسها قليلاً ولا كثيراً !! وهكذا كان أمر الفيلسوف الذي رفض الإيمان بوجود رب خالق حكيم, وأسند صفات الله- سبحانه- إلى الطبيعة, أو إلى المادة, وبذلك لم يصنع شيئاً سوى أن استبدل الإيمان بالمادة بالإيمان بالله- تعالى- وجعل من المادة ربه وإلهه, فكان من الذين قال الله- تباركت أسماؤه- فيهم: ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم ، وجعل على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله ؟ ) .

لقد قامت فلسفة شوبنهاور على الأسس الآتية:
أولاً: أن الوجود عبارة عن المادة المطلقة, فليس في الوجود سوى المادة وأن القول بوجود مفارق لمادة غير مادي فاعل فيها- يقصد وجود الله عز وجل- هو قول خطأ, وفكرة فاسدة, ترجع إلى تصورات الذات, وأوهام النفس, التي لا حقيقة لها في الخارج. إن رجع الأمور إلى قوة خارجة عن المادة الطبيعية, هو من أوهام الذات. وفي ذلك يقول ((شوبنهاور)): ((إن الإحساس حالة ذاتية, ولكن الفهم والتصور الذاتي يضيفه فوراً إلى علة خارجية, نتصورها فاعلة في الزمان مستقلة عنا في المكان)) ويرى الفيلسوف الملحد أن العلم المادي كاف بنفسه لتفسير كل ألغازه وما يجرى فيه, وليس بحاجة إلى وجود قوة خارجة عنه, وبذلك يقرر الملحد أن الوجود ليس بحاجة إلى إله.
ثانياً: أن العلم عبارة عن ((إرادة وفكرة)).
فالفكرة هي تصوراتنا الذاتية عن العالم الخارجي, والتي تكون غالباً غير صحيحة وغير واقعية. وأما الإرادة فهي جوهر الوجود المادي الحقيقي, إن العلم عبارة عن إرادة كلية شاملة, وهذه الإرادة لها غايات وأهداف تسعي إلى تحقيقها, وهي تحقق غاياتها بوسائل من خلقها وصنعها, وكل شيئ في الوجود من الجماد إلى الإنسان, مروراً بالنبات والحشرات والحيوان, كل ذلك خاضع لتلك الإرادة الكلية التي تملكها الطبيعة,وتسير كل شيئ من خلالها.
ثالثاً: الإرادة الكلية في الطبيعة عنايتها تنصب على الحفاظ على الحياة في الأنواع, ولذلك تهتم بالإبقاء على الأنواع في النبات والحشرات والحيوان والإنسان, وهي في اهتمامها بالنوع, لا تلقي بالاً إلى الأفراد الذين تطحنهم الآلام, ويعذبهم الشقاء, ويغرقون في بحار المآسي والشرور.
رابعاً: الموت هو عدو الإرادة الكلية, وهو الذي يحاول أن يقضي على الحياة والأحياء, ولكن الإرادة الكلية تهزمه عن طريق غريزة الجنس التي تدفع الأحياء إلى التزاوج والتناسل , وبذلك تعوض الإرادة عن طريق النسل ما يأخذه الموت, وتبقي الحياة والأحياء تحقيقاً لرغبة الإرادة الكلية.
خامساً: الحياة كلها, بل الوجود كله شرور وأحزان ومشقات وآلام, وليس في الوجود كله خير قط, ولا يعرف معنى السعادة, وأقصى ما يتصور من خير في الوجود , أن تقل شروره نوعاً أو تخف آلامه هوناً.
الشر والشقاء والتعاسة هي جوهر الحياة, وحقيقة الوجود, وهذه الأشياء هي الجانب الإيجابي في الحياة, أما ما يسمي بالسعادة, أو اللذة, أو الخير أو غير ذلك , فليست أموراً إيجابية, بل هي أمور سلبية, بمعنى أن السعادة ليست إلا سلب الآلام, واختفاء الشقاء أو التخفيف منه قليلا ، ومن ثم فلا وجود لشيئ اسمه السعادة أو اللذة ، ولكن هناك شقاء وتعاسة وآلام, قد تكون شديدة,وقد تخف قليلاً أو كثيراً, فيسمي الناس هذه الحالة سعادة أو لذة.
سادساً: وسيلة الإرادة الكلية في تنفيذ غايتها من بقاء النوع في الإنسان أمران: العقل, والغريزة الجنسية.
أما العقل فهو وسيلة من وسائل الإرادة الكلية العمياء التي تعمل على بقاء النوع ليشقى ويتألم.. وقد كان حرياً بالإنسان أن يقتل نفسه منتحراً ليتخلص نهائياً من حياة كلها آلام وشقاء وتعاسة لا تنتهي, ولو فعل كل الناس ذلك لانتهت الحياة, وفشلت الإرادة الطبيعية في تحقيق أغراضها, وهنا يأتي دور العقل الذي هو من صنع الإرادة, حيث يقوم العقل بفلسفة الأشياء, ويخترع أفكاراً ومسوغات لاوجود لها. بهدف إقناع الإنسان بتقبل الشقاء والآلام والبؤس الذي تشتمل عليه الحياة, والرضى بذلك, بناء على أفكار وتصورات غير حقيقية يخترعها العقل, من مثل: وجود إله اقتضت حكمته ذلك , وأن ذلك لحكمة لا نعرفها ، ومن مثل: القول بوجود بعث بعد الموت, ودار أخرى سوف ينال فيها الصابرون أجر صبرهم ورضاهم, بل وترحيبهم بالشقاء والآلام في هذه الحياة. فهذه كلها أفكار وتصورات من اختراع العقل الذي هو أداة من أدوات الطبيعة الكلية العمياء.
وأما غريزة الجنس, فقد بينا أن دورها يقوم على إغراء الذكر بالأنثى, والأنثى بالذكر, وقد جعلت الإرادة العمياء هذه الغريزة أقوى غريزة في الكائن الحي من النبات حتى الإنسان, وما بينهما من حشرات وحيوان, كل ذلك لكي تقاوم تلك الغريزة ما يفعله الموت بالأنواع الحية فتظل الأنواع باقية, والأفراد يصطلون بشقاء الحياة وآلامها.
وفي الحديث عن غريزة الجنس, نلفت النظر إلى أن ((شوبنهاور)) له موقف خاص جداً من هذه الغريزة, وموقفه هذا كان أساساً لمواقف بعض الفلاسفة, وسنداً لمذاهبهم, وتحديداً مذهب ((فرويد)) في علم النفس ومدرسته التي قامت على أساس من التركيز على دافع الجنس.
إن شوبنهاور يعلي من شأن الدافع الجنسي لدى الإنسان والحيوان, ويجعل منه الركيزة الأساسية التي تدور عليها حياة الفرد والجماعة, بل يجعل منه الأساس الأوحد الذي تدور عليه الحياة عند كل الكائنات, وبخاصة الإنسان, ومن ثم فإن الجنس هو مفتاح السلوك الإنساني , وعلى أساس منه يمكن تفسير كل سلوك إنساني من الألف إلى الياء.. ((إنها – الغريزة الجنسية – في الحقيقة النقطة المركزية الخفية لجميع الأعمال والسلوك, وهي تسترق النظر إلى كل مكان رغم جميع الحجب والأقنعة التي ألقيت عليها, إن غريزة الجنس هي سبب الحرب والسلام, وهي أساس الجد والرصانة, وهدف الهزل والمزاح,ومعنى كل تلميح مبهم وغامض, إنها تبرز نفسها كسيدة للعالم ووارثته, جالسة في كمال قوتها تنظر نظرة ازدراء واستخفاف و سخرية, وتضحك على ما يعده الناس من قيود لتقييدها وكبتها وسجنها, ولا يستطيعون إلى ذلك سبيلا)) .
إن هذا الفكر عن الغريزة الجنسية لاشك أنه هو الأساس لمدرسة ((فرويد)) في علم النفس. وهذا وذاك وكل من نحا ذلك النحو, في ضلال مبين, وما يريدون من وراء ذلك الفكر إلا إلحاق الإنسان بالحيوان, بل وضعه في درك أسفل من درك الحيوان, حينما يلغون ما ميز الله- تعالى- الإنسان به من عقل وإدراك وتمييز, وتكليف, ويجعلون العقل مجرد خادم لهذا الغريزة الدنيا, لا عمل له إلا البحث والتخطيط لإشباعها, بأية وسيلة دون نظر لأية اعتبارات أخرى.
سابعاً: عود إلى ما قرره فيلسوف التشاؤم, من أن الوجود كله شر.فالوجود شر ., لأن الألم والتعاسة هما الشيء الإيجابي, وأما ما نسميه سعادة ولذة, فهو أمر سلبي, فلا يزيد عن كونه سلباً للألم أو تخفيفاً منه للحظة, ثم تنتهي تلك اللحظة ليأتي الألم من جديد.
والوجود شر., لأن غايات الكائن فيه لا تنتهي, ما أن تتحقق غاية من غاياته حتى يتطلع إلى غيرها, ولا تنتهي رغبات الإنسان, ولا تقف غاياته عند حد, وبذلك يظل يعاني الآلام والأحزان, ويكابد المشقات حتى تنتهي آلامه بالموت.
والوجود شر., لأن ما نحسبه لذات وسعادة, إنما هو مصدر للآلام والتعاسات, فإن الإنسان يظل يطلب لحظة اللذة والسعادة, فإذا ما تحققت وانقضت في وقت قصير, فإنها تصبح دافعاً له ليطلبها من جديد, وحين تنتهي يشعر بشقاء مضاعف لأنها انتهت, وعليه أن يكابد من جديد للحصول عليها.
والوجود شر., لأن الإنسان يعيش بين حالتين, إما في شقاء طلباً للذة والسعادة, وإما في ملل وسأم إذا تحققت تلك اللذات وتوفرت لديه, وكلا الحالين شقاء وألم وشر.
والناس في هذا المجال قسمان: الفقراء وهم يعيشون ألام الحرمان, وتعاسة الحاجة, فحياتهم خالية من اللذات, مليئة بالشقاء والألم, أما الأغنياء فيعيشون في آلام أيضاً, لكنها آلام الملل والسأم.
والوجود شر., لكن شروره ليست على مستوى واحد لدى جميع الكائنات, لكنها تتفاوت تبعاً لتفاوت الإدراك لدى الكائن. فكلما تدنى الإدراك ضعف الشعور بالألم, وكلما ترقى الإدراك قوي الشعور بالألم والشقاء.. لذلك كان الإنسان أكثر الكائنات آلاما وتعاسة وشقاء.. إن النبات خال من الإحساس, ولذلك فهو لا يحس بالألم, وأما الحيوانات فتشعر بالألم على قدر مستواها من الإحساس والشعور.. أما الإنسان فأكثرها شعوراً بالشقاء والألم والتعاسة. إن زيادة المعرفة في الإنسان تؤدي إلى زيادة آلامه, لأن القدر الأكبر في آلامنا كامن في تأمل الماضي, وفي التفكير فيما يقع في المستقبل.
وأخيراً فإن الوجود شر, لأن الحياة ساحة قتال , لا يحيا كائن فيها إلا على حياة الكائنات الأخرى ؛ فالحيوانات المفترسة تفترس الإنسان, والإنسان يفترس العجماوات الأخرى كالأغنام والطيور, والجميع يفترس النبات, والنبات يفترس الهواء والماء وغيرها.. والوجود شر. ((إن الحياة شر لأنها حرب, وأينما وليت وجهك لا تقع عينك إلا على صراع وتبادل انتحاري بين الأحياء، وكل نوع يقاتل للفوز بالمادة والأرض والسيطرة . وحتى الجنس البشري يكشف في نفسه عن أبشع أنواع الصراع والنزاع ، والقاعدة : إنك إن لم تتذاءب – أي لم تكن ذئبا – أكلتك الذئاب )) .
ثامنا : لكل ما تقدم من أدلة على أن الحياة آلام ، والوجود شر – فيما يزعم الفيلسوف الملحد - فإن الفيسلوف يدعو إلى نبذ الحياة – ويرغب في الانتحار تخلصا من شقاء الحياة وشرورها .
والفيلسوف – وهو يرَغب في الانتحار ويدعو إليه – يبين أن الموت في ذاته لا يسبب للإنسان ألما قط ، ولكن الناس يتألمون من فكرة الموت أكثر مما يتألمون من الموت نفسه ؛ لأن الإنسان لايلتقي بالموت أبدا ، فكيف يتألم منه ؟ إن الإنسان طالما هو حي لم يمت ، فهو لا يرى الموت ولا يلتقي به ومن ثم لا يتألم منه ، فإذا ما انتحر الإنسان ومات ، فإن الموت حين يجيئ يكون الإنسان قد ذهب ، وعلى ذلك فالإنسان يخاف من فكرة الموت ، لكن الموت حين يجيئ ويقع يكون الإنسان قد استراح من شقاء الحياة وآلامها، وتخلص نهائيا من الإرادة الكلية العمياء الشريرة التي لا عمل لها إلا ترغيبه في الحياة وإغراؤه بها ليظل يصلى شقاءها وآلامها .

***********
نقد آراء شوبنهاور :
إن آراء هذا الفيلسوف, والرد عليها ونقدها , لا يتطلب منا إلا أن نخضع هذا الفيلسوف وأمثاله إلى فحص طبي لدي طبيب للأمراض النفسية والعقلية, ولو أننا فعلنا ذلك, لجاءنا الجواب بوضوح شديد, وهو أن هذه الآراء لا تزيد على كونها أوهاماً وتخاريف وأضاليل لإنسان مجنون أو معتوه, وأن هذه الآراء ما كان ينبغي لها أن تسجل وتبقي إلا لأن العصر الذي وجد فيه الرجل كان عصر ضلال وانحراف, وقد كثر فيه أمثال الرجل, فضلت فيه الموازين, وضاعت القيم, وانحرفت المبادئ, ولذلك نتج ذلك الفكر عن هؤلاء الناس في هذا العصر.
إن ضلال هذا الفكر أوضح من أن يوضح, وقد سبق لنا أن بينا المؤثرات التي أثرت في الرجل, والعوامل التي شكلت فكره, وهي مؤثرات على رأسها المرض العقلي والنفسي وما هو من هذا القبيل, وقد ذكرنا شذوذ الرجل في حياته العامة, من مثل اعتقاده بأن الناس جميعاً يتآمرون لقتله, حتى إنه لم يضع رأسه بين يدي حلاق طوال حياته خوفاً من أن يقتله, وما إلى ذلك من أمور بيناها عند الحديث عن مفتاح شخصيته .
ومع وضوح ضلال فكره, نشير إلى بعض مناحي هذا الضلال, وأسبابه- بإيجار-, إذ أن بيان الفساد في ذلك الفكر لا يحتاج إلى إسهاب :
أولاً : إن الرجل كفر بالله – سبحانه -, ونبذ الأديان كلها, وتحديداً نبذ النصرانية التي نشأ عليها. ورفض الاعتراف بأن للوجود خالقاً عليما حكيماً متقناً مبدعاً . . ورغم ذلك, فقد أثبت كل هذه الصفات لشيء من صنع خياله المريض, وفكره المجنون, وهو ما أسماه : " الإرادة الكلية العمياء الشريرة " ! وأثبت لهذه الإرادة غايات تسعى لتحقيقها . ووسائل تنفذ من خلالها إلى ما تشاء, وجعل الوجود كله مسخراً لهذه الإرادة, ومسيراً تبعاً لأهدافها, فأي شيئ فعله هذا الأبله الملحد حين نبذ الدين, ورفض الاعتراف بالله رب العالمين ثم انقلب ليثبت له رباً من صنع خياله, ويخلع عليه كل هذه الصفات؟!
لقد سبق وقررنا أن الرجل اختار الإلحاد والكفر, ولما وجد النظام والإتقان والغائية في كل ذرة من هذا الوجود, اضطر إلى الاعتراف بذلك, لكنه- إصرارا ًمنه على الإلحاد- ألحق ما رآه بشيء من صنع أوهامه أسماه الإرادة الكلية, ثم زيادة منه في الابتعاد عن عدوة الدين, وحتى لا يُظن أنه يتكلم عن الإله الحكيم المدبر, وصف معبوده ذاك بأنه " إرادة عمياء شريرة " .
إن علة الرجل الأساسية التي نتج عنها كل هذا الهراء, إنما هي إلحاده وكفره بالله رب العالمين- سبحانه -.
ثانياً : إن كفر الرجل وإلحاده أعمى قلبه ثم بصره عن أن يرى في الوجود سوى الشرور والآلام, ثم لم ير في الوجود إلا هذه الحياة الدنيا, وهذا القصور عنده جعله يصرخ بأعلى صوته من آلام الحياة وشرورها .
ولو أنه رأى أن الحياة الدنيا معبر إلى الآخرة, وأن ثمة حياة أخرى يسعى الناس إلى إعلان رصيدهم فيها من الحسنات, والباقيات الصالحات, وأن ما يكابدونه في هذه الحياة إنما يكابدونه وهم في غاية من السعادة, ونهاية من الرضى, لأنهم يدركون أن هذا رصيدهم الذي سيلقونه في الحياة الدائمة . . لو أدرك الرجل ذلك لعرف أن الحياة فيها الخير كما فيها الشر, وأن الخير فيها يزكو على الشر ويربو عليه .
ثم إن الحياة ليست شروراً خالصة, بل فيها خير كثير- كما ذكرنا - , لكن إلحاد الرجل وكفره سبب له مزيداً من التشاؤم, إضافة إلى ظروفه التي أشرنا إليها مما جعله يعمى عن كل خير, بل يرى الخير على أنه شر.
إن زعمه بأن مطالب الإنسان وغاياته التي لا تنتهي مصدر آلام وشقاء للإنسان, ضلال منه, وفساد في فهمه, وانحراف في مزاجه.
فالإنسان يضع أمامه أهدافاً لحياته, ويسعى لتحقيق تلك الأهداف, وهو يشعر بالسعادة والرضا وهو يشعر بنفس السعادة وهو يتنقل من هدف إلى هدف, ويحقق غاية بعد غاية, ويرتفع من نجاح إلى نجاح, وليس في ذلك من تعاسة وآلام, بل فيه سعادة وهناءة بقدر ما يبذل الإنسان من مشقة وعناء .
إن الرجل في هذا كمثل رجل جاء من الغابات أو الأحراش لا يعرف عن المدينة شيئاً, ولا يعرف عن قضية التعليم وأنظمته قليلاً ولا كثيراً. . هذا الرجل رأى الطلاب وهم يدرسون نهاراً ويذاكرون ليلاً, ثم يسرعون إلى الامتحانات متوترين مرهقين, ثم ينتظرون متلهفين نتيجة الامتحانات, فإذا ما ظهرت ورأى السعادة طافحة على وجوه الناجحين. ثم رآهم يسرعون فرحين في بداية العام إلى المستويات الجديدة ليبدأوا رحلة كفاح جديدة وهم سعداء فرحين مستبشرين, رجل الغاب هذا سوف يقف فاغراً فاه في بلاهة وعته وغباء, يتعجب من هؤلاء البشر من الطلاب الذين يكدون ويكدحون, ثم ينتقلون إلى المراحل التالية, بعد أن حققوا المراحل السابقة, كل ذلك وهم سعداء. إن رجل الغاب هذا سوف يصف هؤلاء بالعته, ويصف حياتهم بالشقاء, ثم يصنفهم على أنهم آلات في يد إرادة عمياء تسخر منهم وتسخرهم ليعيشوا في شقاء. . . إن فيلسوف التشاؤم مثال متطابق مع رجل الغاب الذي تصورناه, إن الناس ينتقلون من هدف إلى هدف, ومن غاية إلى غاية,وهم يتسابقون في سعادة وسرور, إن لحظة واحدة من السعادة عند تحقيق الإنسان هدفه, تعدل سنوات من الكد والكدح لتحقيق هذا النجاح الذي حققه.
ثالثاً : إن الحياة ليست ساحة قتال كما يدعي فيلسوف الشرور والتعاسة, ولكن الحياة فيها من التعاون والتآزر بين الأحياء ما يزيد ويربو على ما فيها من نزاعات ومشاحنات .
إن التعاون بين الكائنات قائم وواضح على مستوى الأنواع بعضها مع بعض, فالنبات يعيش على ثاني أوكسيد الكربون الذي ينتجه الإنسان,والإنسان يعيش على الأوكسجين الذي ينتجه النبات . والنبات ينتج الرحيق الذي يعيش عليه النحل, والنحل ينقل في أرجله الملقحات من نبات إلى آخر, كذلك ينقل بذور النبات إلى أمكنة أخرى فتنبت فصائل جديدة. والإنسان يعيش على النبات, وكذلك على الحيوان كالأغنام, لكن عيشه وتغذيه عليها ليس خطراً عليها, بل هو في صالحها, فإن الإنسان يحرث الأرض, ويرويها ويبذر البذر وينتج النبات ويحافظ عليه ويكثر منه, وذلك بسبب كونه غذاء له, ولولا ذلك لما عني الإنسان بالنبات, ولما بقي النبات ونما, ولما وجدت منه فصائل جديدة, ولما وجد التربة المناسبة, والتسميد الجيد. على أن الإنسان إذا لم يأكل النبات حين يستوي فسوف يموت النبات من تلقاء نفسه ويجف وتذروه الرياح, فأي الأمرين خير بالنسبة للنبات؟
كذلك الأمر بالنسبة للحيوان الذي يعيش عليه الإنسان يسعى إلى العناية بها, وتحسين نسلها والإكثار منها, وتوفير الغذاء لها, فهو يغذيها إن جاعت, ويسقيها إن عطشت, ويداويها إن مرضت, كل ذلك بسبب كونه يعيش عليها, بينما الحيوانات التي لا يعيش الإنسان عليها تموت في الغابات جوعاً وعطشاً بسبب الجفاف أو العوامل الأخرى. ثم إن الإنسان إذا لم يأكل الشاة, وتركها تعيش., فهل ستخلد, أم أن مصيرها الموت؟ . . إذن فكون الإنسان يعيش على حيوان ما أو نبات ما, فإن ذلك في صالح النبات والحيوان, وليس شراً ولا اعتداء, ولا الحياة ساحة قتال كما ادعى الفيلسوف الملحد.
رابعاً : إن حياة الرجل وسيرته تكذبه في كل ما ادعاه في فلسفته, وبخاصة في دعوته إلى الموت انتحاراً تخلصاً من آلام الحياة وشرورها.
إن حياة الرجل كانت أشد شقاء وتعاسة من حياة الكثيرين, وقد عاش مريضاً تنتابه الوساوس والمخاوف وسوء الظن بمن حوله, وقضى الثلاثين عاماً الأخيرة من حياته في حجرتين وحيداً كئيباً, فأي الناس كان أحق بالانتحار منه تخلصاً من تلك الحياة التعسة بحق ؟!
لكن الرجل الذي مجد الموت, واعتبره المنقذ من شقاء الحياة, والذي تسبب في انتحار عدد من الذين اعتنقوا فلسفته وتأثروا بفكره, هذا الرجل ظل محباً للحياة, مستمسكاً بها حتى وصل سنه الثانية والسبعين ! وقد قضى حياته تلك لم يبخل على نفسه بشيء من متع الحياة التي زهّد فيها الآخرين, وزعم أنها شر وتعاسة !!
( المصدر : مذاهب فكرية معاصرة - عرض ونقد - ، للدكتور محمود مزروعة ، 189-207) .