صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 15 من 20

الموضوع: حوار مع الشيخ أبي الفداء بن مسعود: فلسفة العلم.

  1. افتراضي حوار مع الشيخ أبي الفداء بن مسعود: فلسفة العلم.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله، وصلى الله وسلم على خاتم رسله ومصطفاه، وبعد..


    فهذا حوارٌ سيدور بيني وبين الشيخ الفاضل أبي الفداء، عن فلسفة العلم Philosophy of science ، أسأله ويجيبني بما يفتح الله به عليه، والحوار سيكون ثنائيًّا منعًا للتشتيت وحفاظًا على الوقت، ومن يرد من المتابعين الأكارم طرح أسئلةٍ ذات تعلق بالحوار، فليراسلني بها على الخاص تكرمًا منه، وسوف أنتقي منها ما يُناسب موضعه من الحوار، نسأل الله أن يوفقنا لما فيه رضاه، وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا.

    شيخنا الفاضل!

    شكر الله لك قبولك هذه الدعوة، وأسأل الله أن يوفقنا لما فيه رضاه.

    سؤالي الأول عن معنى فلسفة العلم؟ وما أهمية هذا المبحث للمشتغلين بالرد على الإلحاد وما يتصل به من مذاهب الفكر الغربية المعاصرة؟

    جزاكم الله خيرًا، وبارك الله فيكم.
    " أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ "
    صفحتي على الفيسبوك - صفحتي على تويتر.

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2009
    المشاركات
    189
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده،
    بداية أشكر أخي الحبيب الدكتور حسام الدين على فكرته الطيبة التي أرجو أن يكون فيها نفع لعامة المشتغلين بالرد على الملاحدة في هذا المنتدى المبارك وغيره.
    ما من شك في أن الحكمة تقتضي الإتيان على الباطل من جذوره وهدم بنيانه من قواعده، وتلمس السبل إلى ذلك مقدم عند النبهاء والنابغين من العلماء وطلبة العلم على الاشتغال بنقض فروع ذلك الباطل وأذياله، فإن الشجرة إذا ما انقطع جذعها أو استئصلت جذورها، سقطت سائر الفروع والأوراق معها وانتهى أمرها! هذا المنهج الضارب في جذور الباطل، الذي هو أقرب إلى طريقة المرسلين وإلى خطاب القرءان، ما علمت الشيخ حسام وفقه الله إلا داعيا إليه وإلى الأخذ بأسباب التمكن منه، فجزاه الله عن هذا المنتدى خيرا.

    وإني أستأذنه قبل أن أشرع معه في هذا الأمر، أن يسمح لي بالترسل والاستطراد حيثما أرى الحاجة إلى ذلك، وأستأذن القراء كذلك أن يسمحوا لي بالإطالة والبسط حيثما وقع ذلك، وأرجو ألا يملّوا من طول المشاركات وأن يصبروا على قراءتها، فمن وجد فيها نفعا فليدعُ الله لي بالمغفرة، ومن رأى في شيء منها خللا فأنا أرحب بنصحه وتوجيهه على الخاص، والله يجزيه عني خيرا.
    وليسمح لي شيخنا الدكتور حسام بأن أبدأ بمقدمة معرفية طويلة نوعا ما، أراها مهمة للتمهيد لما نحن بصدد الكلام فيه، والله الموفق للسداد في القول والعمل.


    أما بعد،
    فإن تحري المنهجية الصحيحة في بناء الحجج العلمية على المخالفين، سواء كانوا من أهل القبلة أو من أهل الملل أو من الملاحدة على اختلاف مشاربهم، واجب متعين على كل من تصدى لهذا الأمر قربة إلى الله جل وعلا. ومما لا شك فيه أن أول العلوم التي يجب على كل من أراد سلوك طريق الدعوة إنما هو العلم الشرعي. فإن من أذمّ الخصال أن ترى أخا من إخواننا المسلمين قد أخذته حمية الدين وحب الله ورسوله وحملته نفسه على التصدي للكتابة والمنافحة عن دين الله جل وعلا، فإذا به يتكلم في الرد على الملاحدة والشيوعيين وأضرابهم بكلام يهدم أصول الدين هدما من حيث لا يدري، أو تراه يخوض في مناقشة شبهة فلسفية من شبهات القوم فينتهي به الأمر إلى موافقة المعتزلة أو الجهمية أو غيرهم من المتكلمين من حيث لا يشعر، أو يخرق إجماعات منعقدة من صدر الإسلام ومن قرونه الأولى وهو لا يعلم، فيكون وبالا على الدعوة وهو يحسب أنه يحسن صنعا. فعلى رأس ما ينبغي لمن أراد التخصص في الرد على الملاحدة من طلبة العلم أن يتوسع في تعلمه وأن يصبر عليه، علم العقيدة والتوحيد، ومعه – ولا أقول من بعده – علم أصول الفقه وعلم المنطق. فإذا ما تحصلت لديه أصول العقيدة الصحيحة، فإنه لا يضيره المرور بما في كثير من مطولات الأصوليين من مخالفات عقدية وانحرافات في التصور منشأها نظريات الجهمية والمعتزلة في علم الكلام بالأساس. فإذا ما استوى عوده في تلك العلوم وشهد له مشايخه بذلك، فإنه ينتقل بعدئذ للنظر في جملة أخرى من العلوم يأتي الكلام بصددها فيما يلي بعون الله تعالى.

    وليعلم طالب العلم أن العلوم في ديننا – وكما هو مقتضى الحكمة والعقل السوي - يدور حكمها مع العلة من تحصيلها، فلا نشرع في عمل ما دون تحصيل ما يلزم لذلك العمل من علم ودراية، فما كان من الأعمال واجبا على الفور فالعلم به له نفس حكمه، وما كان واجبا على التراخي فالعلم اللازم له واجب على التراخي كذلك، وما كان من الأعمال واجبا على أعيان المسلمين في اليوم والليلة فتعلمه واجب عليهم من أول دخولهم في سن التكليف، وما كان على الكفاية فعلى الكفاية وهكذا. وما لا يتم العمل الواجب إلا بتعلمه على تمامه، فتمام تعلمه واجب، وما لا يتصور له نفع إلا أن ينبني عليه عمل محرم ممنوع، فتعلمه حرام ممنوع، ومن العلوم والمعارف ما كان تعلمه والاشتغال به عبثا، إما لأنه لا ينبني عليه عمل أصلا أو لأنه شرط لعمل فاسد أو لا قيمة له، نعوذ بالله من ذلك.

    والعمل في هذا المقام يطلق ويراد به الفعل والترك، كما يراد به كذلك القول والتوقف والسكوت، ويدخل فيه تلقي الأمور الخبرية الاعتقادية وتطهير النفس مما يخالفها. فلا يقال لعلم غايته المعرفة بأركان الإيمان الستة الواجب تعلمها على أعيان المسلمين، إنه لا ينبني عليه عمل، أو لعلم غايته إصلاح التصور عند الناس في أمر يتعلق بأسماء الله وصفاته، من بعد ما شاعت فيهم شبهة مخالفة لما جاء به الوحي في ذلك، إنه لا ينبني عليه عمل! فإن مفهوم العمل في هذا السياق أشمل وأعم من "العمليات" على الاصطلاح الفقهي كما بينا. وهو كذلك أشمل من وأعم من الأعمال التعبدية المحضة، فتدخل فيه سائر المعاملات وصنوف الأفعال التي يرى الناس فيها مصالح ومنافع لهم في الحياة الدنيا، أيا ما كان نوعها. فإنه ما من شيء من أمر الإنسان في أي حال من أحواله إلا وهو داخل – ولابد – في حكم من أحكام الشرع التكليفية الخمسة، بمعنى أنه لا يتصور للإنسان حال في هذه الدنيا إلا وهو فيها إما على شيء محرم، أو على شيء واجب، أو على شيء مباح أو مستحب أو مكروه، سواء كان ذلك قولا يقوله أو فعلا يفعله أو حالا يكون عليها أو غير ذلك.

    هذا الإطار الإبتسمي (1) الكلي الذي أسس له الإسلام على أساس الحكمة الربانية، وجعله سابغا على كل صغيرة وكبيرة من أحوال الإنسان وأفعاله، بات يحتاج في زماننا هذا إلى أن يعتني العلماء وطلبة العلم ببيانه وبإيفائه حقه والتصنيف فيه، لا سيما إذا ما عرفنا أن الإسلام يختلف في تعامله مع المعارف البشرية عما عليه الفلسفات الغربية المعاصرة اختلافا يبدأ من تعريف العلم نفسه! فإذا علمنا في ذات الوقت أن الحضارة الغربية المعاصرة قد تشعبت فيها صنوف العلم وحقول المعرفة البشرية تشعبا واسعا للغاية، بداية من المفاهيم الكلية والعقائد والأخلاق، ووصولا إلى أدق دقائق العلاقات والمعاملات والتكميليات من المصالح الدنيوية وما دونها من ترفيه ولعب وغير ذلك، تأكد لدينا ضخامة ما صار ينبغي للعلماء وطلبة العلم في هذا الزمان أن يتخصصوا فيه من فروع للنظر والدراسة الفقهية والعقدية الدقيقة، حتى يحسنوا إخضاع ذلك الوارد المعرفي الوافر للإطار المعرفي الشرعي، وحتى يتسنى لهم عرضه على مفرزة الكتاب والسنة عرضا مستقيما، ليس بغرض تطهيره من المخالفات الشرعية وحسب (وهو ما صار يعرف في زماننا بأسلمة العلوم المعارف)، وإنما بغرض إصلاح نظرية المعرفة الإنسانية نفسها والقاعدة الفلسفية التي تنبني عليها منطلقات البحث العلمي نفسه فيها بالأساس!

    فما أحوج جامعاتنا الإسلامية إلى أن يتفق العلماء والمشايخ الأكاديميون فيها على استحداث فروع علمية جديدة كأقسام وشعب تخصصية تحت علوم الفقه وأصوله وعلوم العقيدة والتوحيد، لا أن يأتي التخصص الدقيق في مرحلة الدراسات العليا كما هو الشائع في كليات الشريعة في بلاد المسلمين! فإن الفرق والنحل الاعتقادية المعاصرة لم تعد مقصورة على تلك التي أفرد فيها علماؤنا – رحمهم الله تعالى – التصانيف المطولة، والبدع الكلية في أبواب الاعتقاد وفي المنهج الفكري والعلمي التي صارت تبث في أذهان العوام ليل نهار من منابر العلمانية (ربيبة الإلحاد) على وجه الخصوص، ومنابر غيرها من النحل والملل المعاصرة على وجه العموم، صارت تحتاج إلى من يتخصص في دراستها بتوسع والتصنيف فيها على المستوى الأكاديمي. وكذلك يقال في أمور المعاملات المعاصرة وفي نظم الإدارة والنظم المؤسسية ولوائحها والعلاقات التي تربط بعضها ببعض من جهة والتي تربط بينها وبين الدولة من جهة أخرى، وكذلك في آداب وأخلاقيات التعامل (أو ما يسمى بكود أخلاقيات المهنة) في إطار جملة كبيرة من الصناعات والمهن المعاصرة التي تتسع فيها دائرة المتغيرات من أحوال وأفعال تحتاج إلى نظر فقهي دقيق.
    لذا فإنه ينبغي أن ينتبه علماء الشريعة إلى قيام الداعي إلى زيادة التخصصات الفرعية في علوم العقيدة والفقه في زماننا، وإلى افتقار المكتبة الإسلامية المعاصرة إلى ما نرجو أن يجلبه ذلك الأمر من ثمرة في التصانيف والأبحاث على المدى البعيد، والله المستعان.

    هذا النظر ينسحب كذلك على العوام ومأخذهم من تلك المعارف الوافدة وكيفية تعاملهم معها، وليس على المختصين والأكاديميين فحسب! فإننا عندما نرى "المتثقفة" من أرباب الأقلام في بلادنا يبالغون في الدعوة إلى ما يسمى "بالقراءة الحرة" بمعنى القراءة التي لا تنضبط بضابط ولا تنتظم على نظام، فلا يخفى علينا قيام تلك الدعوة عند أصحابها على أصول فلسفية للبنيان المعرفي تخالف ما ينبغي أن تقوم عليه معرفة المسلمين عامة. فإن الإسلام يؤسس البنيان المعرفي عند الإنسان على أساس تكليفي شرعي قد تقدمت الإشارة إليه آنفا، منه ما خوطب به الأعيان ومنه ما كان الخطاب به عاما للأمة فكان على حد الكفاية، ومنه ما كان حقه المنع وما كان حقه الإيجاب، ومنه ما كان حقه التقديم وما كان حقه التأخير. لذا ففي محل ما يقال له "القراءة الحرة" ويدعى إلى الغرق فيه عوام الناس، فإن المسلمين ينبغي أن تكون قراءتهم قراءة راشدة، لا تكون غايتها المطالعة لمجرد التشبع وحسب، هكذا بلا قيد ولا ضابط!
    ينزل المرؤ إلى ما يسمى بالمكتبة العامة فتأخذه النهمة وحب الاطلاع فيقرأ كلاما لا يدري عن حال كاتبه شيئا (من جهة أهليته للتصنيف في هذا الموضوع أو ذاك)، ولا يدري هل يلزمه قبل الاطلاع على هذا الكلام الذي بين يديه أن يقرأ شيئا قبله أم لا، وإن كان فما هو وأين يجده وممن يطلبه.. الخ! ترى الرجل يفاخر بأنه قد جمع لنفسه مكتبة عظيمة فيها ستون ألف كتاب، لعله لو قرأ ثلثها لمات على الإلحاد، ولو قرأ الثلث الآخر لمات على الوثنية، ولو قرأ الثلث الرابع لمات منتحرا، ولا حول ولا قوة إلا بالله! والسبب في هذا الضياع وفي تلك اللا-منهجية في القراءة أنه إنما أراد من الأمر كله أن يوسع دائرة اطلاعه، حتى إذا ما تكلم أحد الأقران في مسألة أمامه أيا ما كانت، وجد ما يرد به ويناقش ويبارز، ولم يظهر للناس أنه جاهل فيها! فإذا به يستبدل الجهل المركب بالجهل البسيط من حيث لا يدري! فإذا ما جئته تقول له لا تقرأ هذا الكتاب فإنه لا يناسبك أو قد يكون فيه ما يضلك ويفسد عليك فهمك في هذا الباب، أو إنه قد حذر أهل العلم بالشرع أو حتى بالعلم الدنيوي موضوع الكتاب من هذا الكاتب ومن جهالاته، فعليك تعلم كذا وكذا أولا حتى تأمن على نفسك مما فيه من الغلط ومن أمور تخرق إجماعات أهل العلوم والاختصاص، رأيته يثور في وجهك وينفى أن يكون لك أو لأحد من الناس "الوصاية" عليه أو الحق في توجيهه إلى ما يأتي وما يذر من القراءة والاطلاع!

    هذه "العربدة" المعرفية المعاصرة التي أهدرت مكانة العلماء وهتكت أستار العلم نفسه عند العوام، إنما أكدها في بلادنا وفي واقعنا المعاصر ما صار الناس يتشربونه ليل نهار من ترويج لمفاهيم حرية الكلمة وحرية التعبير، وما صارت تمثله وسائل الإعلام من تجسيد دائم الحضور لهذه المفاهيم في حياة الناس اليومية وفي قعر بيت كل واحد منهم، حتى صار حقا لكل إنسان أن يكوِّن لنفسه رأيا في أي شيء وفي كل شيء وأن ينشر ذلك الرأي ويدعو إليه غيره من الناس في أي محفل يحلو له بلا قيد ولا شرط، وبغض النظر عن المصدر الذي جاء منه برأيه ذاك، وعن صحة ذلك الرأي في نفسه وفساده على مقاييس أهل الاختصاص! هذه نظرية معرفية مستوردة تفتقر للقيد والضابط الحاكم لعلم العامة وما يصل إليهم من المعارف وأحكام ذلك، لأنها تفتقر إلى تشريع رباني حكيم يغطي الغاية التي من أجلها خلق الإنسان في الأرض بالأساس، العامي والعالم والمتخصص على السواء! فعندما يرى الإنسان نفسه حرا في اختيار الغاية من وجوده في هذا العالم على ما يحلو له، فإنه يرى نفسه حرا – بالتبعية – في أن يصنع بنفسه ما يحلو له، فلا حد ولا قيد ولا ضابط عليه فيما يقرأ وما يتعلم وما يكتب وما ينشر وما يدعو إليه غيره، إلا اشتراط إلا يؤذي غيره من الناس ماديا أو حسيا! ولا يتضرر المختصون في قلاعهم الأكاديمية من عبث العابثين الخارجين عن دائرة التخصص، ولا يستاؤون من ذلك، وإنما يهملون ما لا يصح عندهم من دعاوى الناس ولا يعنيهم أن يهلك به صاحبه من الجهال! وقد لا يتضرر الواحد منهم إلا إن قُدم عليه عامي جاهل في مجال من مجالات العمل أو التدريس أو نحو ذلك مما يراه المتخصص حقا قد اكتسبه بجهده وبذله.

    والحاصل من هذه المقدمة، أن الأمة الإسلامية باتت تحتاج في هذا الزمان إلى من يتخصص من طلبة العلم وعلماء الشريعة والأصول في دراسة ما يلزم من الفلسفات المعاصرة حتى تخرج للمسلمين مصنفات علمية وافية تسد تلك الثغرة التي صار يتصدر فيها العوام والجهال من الكتاب والمفكرين وغيرهم، يجمع الواحد منهم ما يجمع كحاطب بليل لا يميز في أي شيء يضع يده! كما باتت الحاجة اليوم ماسة إلى تمييز مجالات المعرفة الغربية المعاصرة (على وفرتها وتشعبها) عن بعضها البعض، ومن ثمّ معرفة أولويات النظر وما يحتاج إليه الباحث بعموم، وطالب العلم المشتغل بالرد على الملاحدة بخصوص، من مادة علمية يلزمه الإلمام بها ودراستها لنوال بغيته وتحقيق مأربه، والله الموفق المستعان.

    -------------------------
    (1) الإبستمي: المعرفي، والابستمولوجيا epistemology هو فرع من فروع الفلسفة يعنى بدراسة المعرفة البشرية، بداية من السؤال عن كنه وحقيقة المعرفة ومعناها، وما يمكن وما لا يمكن التوصل إلى معرفته من القضايا، ووصولا إلى أقسام المعارف البشرية وتشعباتها ومواد البحث والنظر في كل منها، وترتيب تلك الحقول في أصول وفروع والنظر في علاقة الفروع بالأصول وعلاقة الفروع بعضها ببعض.
    التعديل الأخير تم 10-21-2011 الساعة 10:30 PM

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jul 2010
    المشاركات
    2,207
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    5

    افتراضي

    ماتع بارك الله فيك ونفع بك.

  4. #4

    افتراضي

    اللهم انفعنا بإخواننا وأساتذتنا الأفاضل ..
    وبارك الله في أخينا الشيخ أبي الفداء ..
    وشكر الله لأخينا د. حسام الدين هذه السنة الحسنة ...
    متابع بإذن الله ...

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Dec 2010
    الدولة
    المملكة العربية السعودية
    المشاركات
    656
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    جزاكما الله خيرا، تسجيل متابعة عن كثب.
    قال: لم خلق الله الشر إن كنت (صادقاً) ؟
    قلت: لو أن الله لم يخلق الشر، هل كان سيعنيك ما إذا كنت (صادقاً) !


  6. افتراضي

    بارك الله فيكم ونفع بكم الإسلام والمسلمين , متابعة بهمّةٍ وإهتمام .
    قال الله سُبحانه وتعالى { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } الأنبياء:18


    تغيُّب

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2009
    المشاركات
    189
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    بناء على المقدمة السابقة، أقول إن المشتغلين بالرد على الملاحدة يلزمهم من بعد العلم الشرعي توسيع دائرة الاطلاع على جملة من الحقول الفلسفية المعاصرة ترتيبها كالتالي:

    Philosophy of Religion فلسفة الأديان
    Philosophy of Science فلسفة العلم الطبيعي (لا سيما علم الأحياء)
    Philosophy of moralities فلسفة الأخلاق
    Epistemology مباحث فلسفة المعرفة المعاصرة
    Philosophy of language فلسفة اللغة والتأويل
    Philosophy of psychology فلسفة وأصول علم النفس

    هذه في تصوري أهم الحقول المعرفية المعاصرة التي يحتاج إلى البحث فيها وإلى كثرة الاطلاع عليها طلبة العلم المشتغلون بالرد على الملاحدة المعاصرين. ولا شك أن المطالعة في مصنفات تلك العلوم والفلسفات تتطلب إلماما جيدا باللغة الانكليزية على وجه الخصوص، فالذي أوصي به كل طالب علم يريد التخصص في الرد على الملاحدة أن يحرص على دراسة اللغة الانكليزية دراسة جيدة وأن يتمرس بها. فمن كان يجد صعوبة في قراءة كتاب من كتب القوم بلسانهم، فيجد نفسه مضطرا إلى فتح القاموس عدة مرات في قراءة الفقرة الواحدة، فإن هذا لم يحقق في نظري النصاب اللازم من تلك اللغة، وعليه الصبر على مزيد من التعلم والممارسة فيها.

    ودخولا في موضوع هذا الشريط، نقول إن فلسفة العلوم Philosophy of science تعد في الحقيقة من أهم حقول البحث الفلسفي دخولا في جملة ما يحتاج طالب العلم إلى النظر فيه من فلسفات الغرب المعاصرة للتخصص في دراسة فلسفات الإلحاد في زماننا والرد على الملاحدة، وهي تأتي في نظري في المرتبة الثانية كما أسلفت عرضه، لا سيما وقد أصبح عامة الملاحدة في زماننا من تلك الطائفة المسماة بالملاحدة الجدد New-Atheists الذين يتلقون "دينهم" وتصورهم عن الحياة وأصلها وعن الكون وما ورائه وما قبله وما بعده عن جملة من علماء الطبيعيات! ومع أنه ليس كل الدراونة ملاحدة ولابد، إلا أن جميع الملاحدة المعاصرين داروينيون غلاة لا محالة! والداروينية نحلة لا أرى طريقا أنجع ولا أقوى في هدمها من إثبات شذوذها عن فلسفة العلم الطبيعي الذي تنتسب إليه أولا، من بعد بيان قيامها على أصول عقلية فاسدة في الاستدلال والنظر، لا يوصل منها (إبستميا) إلى معرفة صحيحة بما يريد القوم الوصول إليه!

    وكتعريف عام لفلسفة العلوم الطبيعية يمكننا أن نقول إنها ذلك الحقل الفلسفي المعني بدراسة جنس الفرضيات والأسس والوسائل وطرق الاستدلال التي يوصل منها إلى ذلك الصنف من المعرفة المسمى بالعلم الطبيعي (Science. (2 وهو يعنى كذلك بالنظر في مفهوم ما يسمى بالعلم الطبيعي بالأساس، ودائرة وطبيعة وحدود ما يمكن الوصول إلى تحصيله من الحقائق المعرفية في إطار ذلك العلم. ولهذا فإن مباحث فلاسفة العلم الطبيعي كثيرا ما تتداخل مع مباحث فلسفة المعرفة (الإبستمولوجيا) كما سيأتي التثميل له، وتتداخل كذلك مع تلك الحقول الفلسفية الخمسة التي تقدم ذكرها وغيرها من مجالات النظر العقلي، لا سيما أصول علم المنطق وفلسفة الرياضيات. (3)

    وكما هو الشأن في جميع مجالات الفلسفة المعاصرة، فإن تعريفات فلسفة العلوم متعددة، ولا شك في أن الصعوبات التي تعتري الاتفاق على تعريف واحد لفلسفة العلم المعاصرة، مرجعها في الحقيقة إلى الصعوبات التي تعتري تعريف الفلسفة نفسها بالأساس. ولكن قد يكون من المفيد أن نذكر في هذا المقام أن من التعريفات التي وضعها الفلاسفة لصنعة الفلسفة نفسها، أنها ذلك الحقل المعرفي المعني بالوصول إلى الجواب عن تلك الأسئلة التي لا يمكن معرفة جوابها من طريق العلم المصطلح عليه بلفظة Science! وبغض النظر عن مدى مطابقة ذلك التعريف لشروط المناطقة في الحد من عدمها، وعن كونه يلجئنا للسؤال عن حقيقة ذلك العلم المذكور وحدوده بما يفتقر إليه التعريف نفسه كما هو واضح، إلا أن غرضي من إيراد هذا التعريف ههنا الإشارة إلى أن الفلاسفة كانوا ولا يزالون يرسمون خطا إبستميا يفصل بين جنس الأسئلة التي يمكن للعلم "الطبيعي" (أو ذاك العلم المسمى Science أيا كان) أن يكون طريقا لمعرفة جوابها، وجنس الأسئلة التي لا يمكن له أن يوصل الباحث إلى جوابها، فيشتغل بها الفلاسفة من دون هؤلاء. لولا وجود هذا الخط المعرفي ما انفصل العلم الطبيعي عن الفلسفة كصنعتين مستقلتين لكل منهما مختصون يشتغلون بها!

    فالتعريف الذي نختاره ههنا لهذا المجال الفلسفي هو ذلك الذي يعد من مباحث فلسفة العلوم الطبيعية، بل من أهمها على الإطلاق، دراسة حدود العلم الطبيعي وتمييز ما يصح وما لا يصح بالعقل أن يُتطلع إلى معرفته من طريق تلك الصنعة المعرفية القائمة على الحس والمشاهدة والتجريب. هذا التعريف (على بديهيته في الحقيقة كما سنبين) إنما هو أكثر التعريفات حظا من النزاع بين الفلاسفة وعلماء الطبيعيات! (Rosenberg 2005)
    والسبب في هذا النزاع فيما يبدو لي، إنما هو كراهية علماء الطبيعيات من الملاحدة الجدد على وجه التحديد لأن يأتي من خارج دائرة اختصاصهم من يقول لهم: "ليس لكم البحث أو وضع الفرضيات والنظريات في هذه المسألة أو تلك"! وما ذلك إلا لأنهم قد اختاروا لأنفسهم والتزموا بألا يقبلوا من العقائد في الموارائيات والغيبيات إلا ما زعم بعضهم أن العلم الحديث يمكن أن يكون طريقا لمعرفته، بناء على التصور المادي الإلحادي الذي تخدمه – فيما يعتقدون - نظرياتهم عن أصل الكون ونشأة ومصير الحياة على وجه الأرض. فبطبيعة الحال فإذا جاء هؤلاء من يقول لهم: ليس لكم أن تزعموا أن العلم الطبيعي يصلح أن يكون طريقا لتحصيل هذا التصور الماورائي أو ذاك، فإنه يكون عندهم بمثابة الطاعن على عقائدهم المشكك في أصول دينهم، مهما جاءهم من الأدلة العقلية والبراهين المنطقية بما لا يدع مجالا للجدال أصلا! ومع أن من الملاحدة المعاصرين من لا يرى بأسا في التفريق بين دائرتين كليتين للمعرفة لا تتقاطعان، يتحرك العلم الطبيعي في إحداهما دون الأخرى، في إطار ما يسميه ستيفن جاي غولد Non-overlapping magisteria أو NOMA على سبيل الاختصار (4)، إلا أن غلاة الداروينية والإلحاد الجديد أمثال دوكينز وهاريس وغيرهما (بل وحتى غولد نفسه) لا يقبلون فكرة ضرب القيود والحدود المعرفية على العلم الطبيعي، وادعاء أنه لا يمكن الوصول منه إلى جواب جنس واحد على الأقل من أجناس الأسئلة البشرية!

    فإذا ما طُرح السؤال المشروع الذي يقوم عليه تعريف أي صنعة من صناعات العلم ولابد: "ما هو جنس المباحث التي يمكن لهذا العلم بهذه الأدوات والوسائل البحثية أن يدرسها وما هو صنف الأسئلة التي يمكن أو لا يمكن أن يجيبها، ولماذا؟"، رأيت علماء الطبيعيات من الملاحدة يتحولون إلى فلاسفة يتكلم أكثرهم بمغالطات عقلية وفلسفية فادحة، مع أنهم يصرون على أن الفلسفة – كصناعة معرفية - ليس لها مدخل إلى أصول صناعتهم، وعلى أن العلم الطبيعي نفسه يكفي للإجابة عن كل سؤال!

    أقول إن العلاقة بين فلسفة العلم الطبيعي والعلم الطبيعي، كالعلاقة بين أصول الفقه وعلم الفقه، من حيث كون العلم الأول مختصا بدراسة طرائق البحث والاستدلال، وكذا جنس المباحث والمسائل والغايات والوسائل والشروط والضوابط التي ينضبط بها العلم الثاني. وعلى الرغم من أن الفقيه عندنا لا غنية له عن تعلم أصول الفقه، حتى قال العلماء إن من لم يتعلم أصول الفقه ويتقنها فهو عامي، إلا أننا نجد عامة علماء الطبيعيات المعاصرين في الحقيقة شديدي الجهل بأكثر مباحث تلك الفلسفة! ففيما خلا ما يتعلق بوسائل البحث والتجريب التي لا يكون العالم الطبيعي عالما حتى يتقنها، لا نجد لهم عناية بهذا المجال البتة! يقول الفيزيائي ريتشارد فينمان (R. Feynman (5 ساخرا من مجال فلسفة العلم الطبيعي: "إن مَثل انتفاع عالم الطبيعة من فلسفة العلم الطبيعي كمثل انتفاع الطيور من علم الطيور"! فكأنما لا يرى الرجل في مباحث تلك الفلسفة إلا أنها محاولة من بعض الفلاسفة لمتابعة ما يصنعه العلماء بالوصف والاستقراء والتقسيم، كما يصنع علماء الطيور بمتابعة الطيور ودراستها، فلا تفيد مباحث تلك الفلسفة أولئك العلماء إلا كما تفيد أبحاث علم الطيور تلك الطيور نفسها! ومع أن هذا الوصف قد يصح إطلاقه على كثير من مباحث أولئك الفلاسفة بالفعل، إلا أن فلسفة العلم الطبيعي ليست في الحقيقة فلسفة وصفية، وليس غرضها مقصورا على وصف ما يصنعه العلماء في معاملهم! ولا يحتاج فينمان أو غيره إلى أكثر من النظر في مصنفات القوم حتى يرى ذلك بنفسه!

    إن السؤال: "ما نوع الأسئلة التي لا يمكن للعلم الطبيعي أن يصل إلى إجابتها؟" من بعد السؤال: "هل يوجد من الأسئلة ما لا يمكن للعلم الطبيعي أن يكون طريقا إلى إيجابته؟"، لا يماري في خروجهما عن دائرة العلم الطبيعي نفسه إلا مكابر. وهو سؤال لا يقبل العقل فصله عن تعريف العلم نفسه الذي لا يتقرر إلا بتعريف مادته وموضوعاته ومباحثه! فإذا كانت مسألة حدود العلم الطبيعي (على سبيل المثال) ومعرفة ما لا يمكن – في العقل – أن يوصل إلى معرفته وتصوره من طريق العلم الطبيعي، ليست مما يُتصور إمكان بحثه في دائرة العلم الطبيعي نفسه، فأيما حقل من حقول المعرفة البشرية جاز أن تبحث فيه تلك المسألة فهو – بالضرورة الإبستمية المحضة – حاكم على حقل العلم الطبيعي ولابد، ضابط لحدوده، مقيد لمباحثه ولو كره من كره وسخر من سخر!

    فإذا انقتلنا معاشر طلبة العلم إلى السؤال التالي: في أي شيء تفيدنا هذه المباحث؟

    فنقول إنه مما لا يخفى على العامة فضلا عن الخواص من طلبة العلم المشتغلين بدراسة فلسفات الإلحاد المعاصرة والرد على الملاحدة، كيف أغرق ملاحدة هذا الزمان في التعلق بأهداب جملة من النظريات في العلم الطبيعي يرونها داعمة لعقيدتهم في الغيبيات ولتصورهم المادي لهذا العالم! هذه النظريات منها ما هو باطل في أصله الفلسفي، فتأتي حاجة الباحث الشرعي من ثمّ إلى النظر في تلك الأصول الفلسفية لتحرير وجه ذلك البطلان بحجج عقلية محكمة. ولا يخلو الباحث في ذلك من الحاجة إلى الاطلاع على مباحث فلسفة العلم الطبيعي لمعرفة مدى موافقة أصول النظرية لما هو معتبر (عقليا) كطريق للاستدلال وبناء التصور النظري وإنشاء الفرضيات العلمية واختبارها في إطار ما يسمى بالطريقة العلمية الطبيعية Scientific method. ومن تلك النظريات ما قد يكون مقبولا بالجملة ولكن يريد الماديون اتخاذه مدخلا للقفز إلى تصورات ماورائية إلحادية بدعوى أن قبول تلك النظريات يستلزم قبول تلك التصورات الماورائية ويفضي إليه لا محالة! فيحتاج الباحث في ذلك إلى تحقيق النظر العقلي والفلسفي في وجه ذلك اللزوم المزعوم، وهو ما يمكن عده من مباحث فلسفة العلوم.

    إن بيان انقطاع نظرية ما من النظريات المنتسبة إلى علم من العلوم أو مذهب من المذاهب الفكرية التي ينسبها أصحابها (في مجموع أدلتها وحججها) إلى صنعة من صناعات العلم، عن أصول تلك الصنعة نفسها في استخراج الدلالة من الأدلة وبيان شذوذ تلك النظرية أو ذلك المذهب عن جنس ما تصلح أدوات ذلك العلم لبحثه ودراسته من المسائل = يعد طريقا بالغ القوة في تجفيف منابع تلك النظرية أو ذلك المذهب، من خلال نزعها من السياق المعرفي الذي تكتسي بكسوته زورا وبهتانا للتلبيس على السذج والجهلاء، ثم رميها في ساحة المختصين الذين تسمح أدواتهم المعرفية ببحث المسألة موضوع تلك النظرية بحثا عليما مستقيما. فإذا ما ثبت لكثير من الجهال والسفهاء بطلان تلك الكلمة العنترية التي يتقعر بها الملاحدة الجدد في كل مناسبة من قولهم "إن العلم الحديث أثبت كذا وكذا (أي من معتقادتهم الباطلة)!" وتبين شدة فقر هؤلاء القوم في العلوم العقلية والفلسفية، انفض من حولهم خلق كثير ممن فتنوا ببهرج ودعاية العلم الطبيعي الكاذب Pseudoscientific propaganda التي صارت طريقهم المضمون للترويج لسائر ما يعتقدونه من أمر الغيب المطلق الزماني والمكاني والغاية من الوجود في هذا العالم وغير ذلك من الأسئلة الفلسفية الكبرى!
    فعلى سبيل المثال عندما يأتينا من يتكلم في الفيزياء بكلام له تعلق بالغيبيات المطلقة عندنا، فإنه يلزمنا قبل الدخول في دراسة ذلك الكلام على طرائق الفيزيائيين ومحاكمته إلى أصول ذلك العلم وأدواته المعرفية (وهو ما يبحث في إطار فلسفة العلوم الطبيعية)، أن ننظر أولا في قضية فلسفية كلية تتعلق بالمنطق الإبستمي نفسه الذي اتبعه الفيزيائي صاحب الدعوى المبحوثة للوصول إلى مزاعم بشأن الغيب المطلق (أو الماورائيات)! فالسؤال المطروح يكون كالتالي: هل للفيزيائي أن يفترض زعما كهذا بشأن الغيب المطلق، ويسعى إلى إثباته باستعمال الطرق والوسائل التي يستعملها الفيزيائيون؟ أو بعبارة أخرى هل هذا الجنس من المزاعم الماورائية (بعموم) (أ) يمكن أن يوصل إليه – من حيث الأصل العقلي – من طريق ذلك الصنف من الأدوات والفرضيات التي يشتغل بها الفيزيائيون في مباحثهم (بعموم) (ب)؟ فإذا ما أثبتنا من طريق العقل (بالاستدلال الفلسفي) أن القضية الكلية (أ) لا يمكن الوصول إليها من طريق القضية الكلية (ب)، فقد هدمنا دعوى ذلك الفيزيائي وجميع ما يناظرها من دعاوى للفيزيائيين بشأن الماورائيات ونزعناها من جذورها نزعا، دون الحاجة إلى استقراء تلك الدعاوى والوقوف عليها جميعا، ودون الحاجة إلى الخوض فيما أفاض فيه أصحابها من تجارب ورياضيات دقيقة! فإننا إن قلنا إن هذا الجنس من الوسائل لا يوصل منه إلى إثبات هذا الصنف من الفرضيات، فقد أبطلنا هذا الجنس من الدعاوى بإطلاق!

    ولا شك أن نقض الأصل الفلسفي الذي تقوم عليه الفرضية الباطلة، هو أمضى وأبلغ في الرد، وأوفر للجهد والوقت، وأرجى لقيام الحجة، من الإغراق في نقد أعيان "الأدلة" التجريبية التي يستند إليها أصحاب النظرية في المحاججة لنظريتهم، كما يكون من بعض الإخوة عندما نراهم يُغرقون في الرد على دعوى أحد علماء الأحياء أن الزائدة الدودية – مثلا – تعد من الأدلة على أن الإنسان قد ارتقى، لأنها لا عمل لها، فتراهم يبحثون عن أدلة على أن لها وظيفة ما (وسيجدوا ذلك في بعض نظريات القوم لا محالة)، مع أنهم لو عملوا على إثبات بطلان الدعوى الإبستمية الأولية أن ما لا نعلم له اليوم وظيفة في النظام البيولوجي فهو بالتبعية لا وظيفة له، وبطلان الدعوى الفلسفية بأن طرائق العلم الطبيعي تجيز لعالم الأحياء أن يدعي هذا الادعاء ثم يجعله دليلا على أن الإنسان لم يخلق وإنما نشأ بالارتقاء، لكان ذلك أحكم وأصوب وأمضى في هدم الباطل! وأهم من ذلك أن يسلم طالب العلم من التلبس بما تلبس به النصارى من قبل من الاستدراج إلى تحويل الحقائق القطعية إلى نظريات تقبل الأخذ والرد، ومن تسويغ ذلك المسلك (فلسفيا) في دراسة المسألة محل النظر وإظهار قبوله والإقرار به والاعتبار بما يستعمله الخصم فيه من أجناس الأدلة، حتى صارت حقيقة الخلق التي لا ينبغي أن يماري فيها عاقل = نظرية من النظريات العلمية التي يتمسك الطبيعيون بإخراجها من دائرة العلم الطبيعي (وصدقوا في ذلك)!

    ومن المباحث التي يمكن عدها من قبيل التداخل بين علم أصول الفقه وفلسفة العلوم الطبيعية، إثبات تقدم النص الشرعي الصحيح – بموجب قوته الدلالية – على كل ما يخالفه مما يفترضه الطبيعيون في مجموع نظرياتهم. ومادة هذا المبحث بيان أنه إن جاءتنا نظرية من نظريات الطبيعيات وكان لدينا ما يبطلها من النص الشرعي ويخالفها صراحة فإنه ينحسم به الأمر من خلال قضية معرفية كلية يعبَّر عنها بالسؤال: أي الصنفين من الأدلة أقوى وأرجى لتحقيق العلم المطابق للواقع في تلك المسألة، الخبر الغيبي الصريح من نصوص الوحي، أم التنظير الطبيعي المستند إلى النموذج التراكمي في جمع القرائن Forensic للترجيح؟ أو بعبارة أخرى، إن جاءنا من نصوص الوحي ما يخالف نظرية من نظريات العلم الطبيعي لها ما لها من أكوام "الأدلة" التي يستعملها (نوعا) علماء الطبيعة ويقبلون بها في الوصول إلى الترجيح الظني بين الفرضيات النظرية التفسيرية عندهم، فأيهما نقدم، النص أم النظرية؟

    هنا ينطلق بعض فلاسفة الإلحاد بزعمهم أن أتباع الأديان – بهذا الإطلاق - يتبعون النص بلا دليل، لينقضوا به النظريات العلمية المعاصرة مهما كانت ثابتة (بهذا الإطلاق أيضا)! والواقع أن هذا إن صح أن ينطبق على النصارى المعاصرين فإننا معاشر المسلمين برءاء منه والله الحمد. فإن النص يمكن تعريفه على أنه كل محتوى معرفي يُنسب بلفظه وعبارته إلى الإله الخالق أو إلى رسول من رسله. فعند هذا القدر يشترك معنا سائر أهل الملل في تعريف النص، ولكننا معاشر المسلمين نزيد بعلو كعبنا العلمي في كليتين يفتقر إليهما عامة أهل الملل، ألا وهما الطريق العلمي لإثبات صحة نسبة النص إلى قائله (أ)، والطريق العلمي لإثبات صحة نبوة ذلك القائل بالأساس (ب). فليس النص الذي نعده نحن دليلا تتحصل منه المعرفة والعلم المطابق للواقع، كالنص عند غيرنا من أصحاب الملل! فما كان صحيحا من النصوص عندنا على درجة القطع، فإنه يفضي إلى علم قطعي لا يرقى لمعارضته شيء من نظريات الطبيعيين مهما تراكمت أدلته التراكمية عندهم! وكذلك يقال فيما كان ثبوته ظنيا صحيحا من خبر العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه، مع كونه أقل قوة من النص قطعي الثبوت ويفضي إلى علم ظني، ولكنه ظن مقدم على ما يخالفه من ظنيات الطبيعيين، والاستدلال لهذا الأمر وبسط الكلام فيه ليس ههنا محله.
    والقصد أن هذه الموازنة بين مراتب الأدلة التي بها حررنا جوابا فلسفيا كليا نقطع به دابر من يزعم أن نصوصنا (بهذا الإطلاق) لا تكفينا لبناء التصور المعرفي الصحيح، أو أننا إنما نقدمها على "نظريات العلم الحديث" من باب التعلق بالإيمان الأعمى ونبذ الدليل العلمي والعقلي في ذلك، قد جرينا فيها على أصول كلية تشترك فيها فلسفات المعارف الإنسانية جميعا في الحقيقة، وتوافقها أصول الفقه والنظر والموازنة بين الأدلة عندنا معاشر المسلمين، ولا يماري فيها إلا مكابر مماحك، والحمد لله رب العالمين.

    ---------------------------
    (1) الإبستمي: المعرفي، والابستمولوجيا epistemology هو فرع من فروع الفلسفة يعنى بدراسة المعرفة البشرية، بداية من السؤال عن كنه وحقيقة المعرفة ومعناها، وما يمكن وما لا يمكن التوصل إلى معرفته من القضايا، ووصولا إلى أقسام المعارف البشرية وتشعباتها ومواد البحث والنظر في كل منها، وترتيب تلك الحقول في أصول وفروع والنظر في علاقة الفروع بالأصول وعلاقة الفروع بعضا ببعض.
    (2) على الرغم من أن المعنى اللاتيني لكلمة science هو scienta أو "المعرفة"، أو "العلم بالكون وما فيه" كما ورد في قاموس "ميريام-ويبستر"، إلا أن الترجمة المعاصرة الأصوب لهذه الكلمة في نظري إنما هي العلم المادي أو الحسي (لا سيما الطبيعي)، تمييزا له عن المعارف العقلية التجريدية والمعارف التاريخية والدينية. هذه الترجمة هي الأوفق للاستعمال الشائع لهذه الكلمة في زماننا. فبداية من القرن التاسع عشر، وعلى أثر أفكار فرانسيس بيكون وغيره، انفصلت الفلسفة الطبيعية عن عموم الممارسة الفلسفية، وأصبحت كلمة "علم" يغلب على إطلاقها إرادة العلم الطبيعي دون غيره من العلوم. والناظر في عامة أصول فلسفة العلم المسمى بهذا الاسم science يتبين له بجلاء أن المراد هو العلم المعني بدراسة الظواهر المادية في الكون، وتتبعها بمن طرق المشاهدة والحس والتجريب والإحصاء، لا سيما العلوم الطبيعية. فلا أجد غضاضة في القول بأن هذه الكلمة متى ما جاءت مفردة غير مضافة – لا سيما في أدبيات الملاحدة - فإنما يراد بها العلم الطبيعي دون غيره من العلوم.
    (3) وعلى أي حال فإن مسألة تداخل المعارف Interdiscipliarity قد صارت سمة غالبة على سائر المعارف البشرية في هذا الزمان، لا سيما في العلوم الإنسانية والفلسفية، فينبغي أن يكون طالب العلم المختص بدراسة فلسفات الإلحاد على استعداد في كل ساعة لاستفتاح النظر في حقل علمي جديد لم يسبق له من قبل النظر فيه، وهذا له ترتيبه الذي أتوقع أن يأتي الكلام عليه لاحقا إن شاء الله تعالى.
    (4) أطلق عالم الأحياء الأمريكي "ستيفن جاي غولد" هذه العبارة في أول ظهورها في مقال له بنفس الاسم نشر في مجلة Natural History في سنة 1997، لبيان موقفه من النزاع الفكري المصطنع بين العلم الطبيعي (كحقل من حقول المعرفة) والدين (كحقل آخر من حقول المعرفة). فهو يقول في تفريقه بين دائرة العلم الطبيعي ودائرة الدين: "تغطي دائرة المعرفة العلمية (الطبيعية) الحيز الإمبريقي (الحسي أو القائم على التجريب): أي جميع ما يتعلق بما يتركب منه الكون (كحقائق)، ولماذا يعمل على هذا النحو (كنظريات تفسيرية). أما دائرة المعرفة الدينية فتغطي تلك الأسئلة المتعلقة بالمعاني المطلقة والقيم الأخلاقية. هاتان الدائرتان لا تتقاطعان، ولا تغطيان سائر المطالب المعرفية للإنسان (إذا ما اعتبرنا على سبيل المثال دائرة الفن ومعنى الجمال)" اهـ.
    (Gould 2002, pp. 6)
    ولا شك في أن تعريف غولد للدين ودائرته المعرفية قاصر للغاية، أو إن شئت فقل: مفتوح لما لا حصر له من التأويلات! ولا شك كذلك في أن ما كان يرمي إليه – كملحد – ليس الوصول إلى وضع قيود معرفية (سواء من الدين أو من الفلسفة أو غير ذلك من دوائر المعرفة البشرية) على تطلعات البحث العلمي الطبيعي، كما قد يتصور بعض الناس! وإنما أراد الرجل أن يقول لرجال الدين في أمريكا: لا تزعجونا معاشر "العلماء" بما لا دخل "للدين" فيه أصلا من قبول أو رفض هذه النظرية أو تلك من نظريات العلم الطبيعي، ونحن في المقابل لن نتعرض لما تتخصصون فيه من القضايا المعرفية!
    (5) المصدر: http://www.diracdelta.co.uk/science/...es/source.html

    ----------------------------
    المراجع:
    Gould, S. J. (2002). Rocks of Ages: Science and Religion in the Fullness of Life. New York: Ballantine Books.
    Rosenberg, A. (2005): Philosophy of Science: a contemporary introduction, Second Edition, UK: Routledge.
    التعديل الأخير تم 10-22-2011 الساعة 11:05 AM

  8. #8

    افتراضي

    بارك الله فيكم ونفع بكم..بادرة طيبة نسأل الله أن تدوم..
    التعقيد في الفلسفة بمثابة أوثان مقدسة يُحرَّمُ الإقتراب منها بالتبسيط أو فك الطلاسم
    فمن خلال التبسيط يتكشَّف المعنى السخيف -لبداهَتِه أو لبلاهَتِه- المُتخفي وراء بهرج التعقيد وغموض التركيب..

    مقالاتي حول المذاهب والفلسفات المعاصرة


  9. افتراضي

    احسن الله اليكم أساتذتي على هذه المبادرة القيمة..
    معرفة الله هي الغاية
    وطلب العلم هو الوسيلة

  10. #10

    افتراضي

    ليتك تكمل يا شيخنا ..
    إن عرفتَ أنك مُخلط ، مُخبط ، مهملٌ لحدود الله ، فأرحنا منك ؛ فبعد قليل ينكشف البهرج ، وَيَنْكَبُّ الزغلُ ، ولا يحيقُ المكرُ السيء إلا بأهلِهِ .
    [ الذهبي ، تذكرة الحفاظ 1 / 4 ].
    قال من قد سلف : ( لا ترد على أحد جواباً حتى تفهم كلامه ، فإن ذلك يصرفك عن جواب كلامه إلى غيره ، و يؤكد الجهل عليك ، و لكن افهم عنه ، فإذا فهمته فأجبه ولا تعجل بالجواب قبل الاستفهام ، ولا تستح أن تستفهم إذا لم تفهم فإن الجواب قبل الفهم حُمُق ) . [ جامع بيان العلم و فضله 1/148 ].

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Oct 2011
    المشاركات
    1,524
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    2

    افتراضي

    سطور الشيخ أبي الفداء ماتعة، خاصة مع كوب شاي أو قهوة يساعد على التركيز ويضمن التنسيم، فتكتمل بذلك أركان روضة الفكر.

    أما "فلسفة العلم" فموضوع مهم، أدخر له بعض الإضافات بعدما ينقضي هذا الحوار الماتع إن شاء الله.

  12. افتراضي

    بارك الله فيكم شيخنا الفاضل..

    نِعمَ ما قدّمتم به! تحذيرًا إلى ومِن هذا الذي لا يصبر على العلم وطلبه، ثم يبادر إلى الرد على المخالفين، متكئًا على ما يُسعفه به عقله، مختصرًا منهجه في "تفكير اللحظة"، وإشارةً إلى مسألةٍ لا يستشعرها إلا من جرّب الأمرين، فصحبَ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعالج أمر الجاهلية، كما ورد مفهومه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حتى يفطن إلى أنّ ما يتوهمه الناس من مواطن الاتفاق بين الإسلام وغيره من المذاهب الإنسانية، غالبًا ما يكون في حقيقته من مواطن الاختلاف لاختلاف الأصول، وقد تنبه لذلك ونبّه عليه كثيرٌ من المهتمين بدراسة الحضارات والعلاقة بينها، فيرى هنتجتون Huntington أن الدعوة لعولمة حقوق الإنسان لابد أن تبوء بالفشل، وأنّها لن تنجح إلا بربطها بالقيم الغربية، وكذلك فكنتشر Wolfgang Fikentscher إذ يقول إن العلمانيين الذين يدعون إلى الإصلاح "على الطريقة الغربية" في دول العالم الثالث هم في حقيقة الأمر يواصلون العمل التبشيري للكنيسة من حيث لا يشعرون!

    وتنكشف حقيقة زيف هذا الاتفاق الموهوم في المجال الاجتماعي، بسهولةٍ ويسرٍ نوعًا ما عن طريق بعض التنبيه وضرب الأمثلة، لكن الذي يثقل على النفوس فعلًا، أن تتصور مثل هذا الاتفاق الزائف في مجال العلم كذلك، بما يستدعي إصلاح النظرية المعرفية الواردة ككل، قبل المبادرة إلى التسليم بمنتجاتها والسعي لأسلمتها، وهذا الثقل يعود لما استقر في النفوس من كون الحقل العلمي لا يؤسس إلا على مقدماتٍ مبرهنةٍ أو مسلمة، ولا تدخله اختلافاتٌ فلسفيةٌ فضلًا عن أهواءٍ نفسية، مع هزيمةٍ نفسيةٍ باستشعار الدونية في المجال العلمي عمومًا، ولعلنا في حوارنا هذا -مع تتابع الإجابات- نرفع هذا الجاثوم المثقِل بما يلزم من البيان والتمثيل، أعانكم الله وكتب لكم التسديد والتوفيق.

    وبعد أن أخذت النفوس الطيبة من القراء الكرام، حظها من الدوافع التي نستحضرها عند دراسة فلسفة العلوم، كي تتأهل للتدافع مع الإلحاد وما شابهه من مذهب أو تفرع منه، وبعد أن تبين معنى فلسفة العلوم والمباحث التي تتعلق بها، والعلاقة بين فلسفة العلوم والعلوم، ليكن السؤال الثاني عن سر الاختلاف في التعريف، وموطن من مواطن النزاع بين المتكلمين، وموضعٍ يكثُر فيها الكلام بغير برهان، ويُتخذ وليجةً إلى بث الشبهات بين ضعفاء العلم..

    ما هي حدود الدائرة التي يبحث فيها العلم science؟ وهل من حجةٍ لأولئك الذين يجعلونها دائرةً بلا حدود؟ وكيف يكون الرد عليهم والتدليل على الصواب؟
    " أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ "
    صفحتي على الفيسبوك - صفحتي على تويتر.

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2009
    المشاركات
    189
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    شكر الله لكم متابعتكم أيها الإخوة الكرام، وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

    كما أشار دكتورنا الفاضل د. حسام وفقه الله، فلا شك أن مسألة تعيين حدود العلم الطبيعي، من بعد تقرير محدوديته بالأساس، تعد مسألة خطيرة للغاية، وقد باتت الحاجة ماسة إلى غزوها بأقلام المختصين في العقيدة والفلسفة من الباحثين المسلمين لوضع الأمر في نصابه الصحيح، لا سيما بعدما رأينا قيام عدة مذاهب فكرية معاصرة عند الغربيين (بل إن شئت فقل ملل ونحل كاملة) على جملة من العقائد من بينها اعتقاد كفاية العلم الطبيعي في بناء كل معرفة ذات قيمة معتبرة في حياة الإنسان، أو اعتقاد أن العلم الطبيعي هو غاية العمل الفلسفي ومنتهاه، كما يرى راسل وكثير من الفلاسفة المعاصرين، أو اعتقاد أن العلم الطبيعي لا ينبغي أن يقام فيه وزن لشيء جاء من غير طريق المشاهدة والتجريب أصلا (كما يرى الفلاسفة الوضعيون التنويريون أمثال لابلاس وأوغست كومت وغيرهما)، هذه المواقف وما شابهها يمكن أن يقال إن الوصف الجامع الذي تتفق عليه جميعا هو أنها ترى في العلم الطبيعي بديلا مشروعا وكافيا لتقديم الإجابة لكافة الأسئلة الكبرى التي طالما اختص الدين (كحقل معرفي) والفلسفة، بتقديم الجواب عنها. وكما تقدم فإن البحث في الحجج العقلية اللازمة لدحض هذا المزعم، تدخل في إطار فلسفة العلم الطبيعي أو إبستمولوجيا العلم الطبيعي scientific epistemology.
    ومع أن كثيرا من كبار الفلاسفة الذين تطرقوا إلى تلك المباحث أمثال هيوم، وكون ولاكاتوس وبوبر وغيرهم قد كانت لهم اعتراضات قوية ضد مبدإ السيادة المعرفية المطلقة للعلم الطبيعي في الفكر الغربي المعاصر، إلا أن أغلب المنطلقات الفكرية لكل لهؤلاء الفلاسفة لا يمكن التسليم بها، وإنما يؤخذ من أقوالهم ما وافق الحق، مع ضرورة أن يتنبه الباحث غاية التنبه إلى لوازم كل قول ينقله عنهم في الانتصار لما يريد تقريره، وإلى مرادات كل واحد منهم بمصطلحاته وعباراته، لا سيما وقد ذكرنا آنفا أن الاختلاف الفكري بين البنيان المعرفي الإسلامي ونظرية المعرفة الغربية المعاصرة يضرب إلى العمق، إلى تعريف العلم نفسه كما أسلفنا.

    وعليه، فمن المناسب أن تكون البداية أن نتأمل في هذه المسألة: تعريف العلم وحدوده، وتحته تعريف العلم الطبيعي وتقرير حدوده، وتحرير ما يلزم تحريره من الأدلة الفلسفية لإثبات ما نذهب إليه معاشر المسلمين في ذلك.

    مبحث في مسألة حدود العلم الطبيعي.

    يقول الفيلسوف الأمريكي تشارلز ساندرز بيرس Charles S. Pierce (ت: 1914 الميلادية):
    من كان يمكنه أن يتصور، من بضع سنوات خلت، أننا سيأتي علينا يوم نتمكن فيه من معرفة المواد التي تتكون منها نجوم ربما استغرق وصول ضوئها إلى الأرض زمانا أطول من عمر الإنسان نفسه على الأرض؟ من ذا الذي يمكنه أن يكون أكيدا من مقدار ما يمكننا معرفته في بضع مئات من السنوات؟ ومن ذا الذي يمكنه أن يخمن ما ستكون عليه نتيجة استمرارنا في مطاردة المطالب العلمية الطبيعية لعشرة آلاف سنة في المستقبل، بنفس هذا النشاط الذي رأيناه في المئة سنة الماضية؟ ولو أن العالم بقي لمليون سنة أخرى، أو بليون سنة، أو لأي عدد من السنوات يحلو لك تصوره، فكيف لنا أن نقول إن ثمة أسئلة لن يكون من الممكن الوصول إلى معرفة جوابها (يعني من طريق العلم الطبيعي) يوما ما؟
    (Wiener (Ed.) 1958, pp. 134)

    هذا التساؤل الذي يطرحه "بيرس" من باب الاستفهام الخبري، يكشف عن خلل عميق في تصور حدود صنعة العلم الطبيعي من الناحية المعرفية، بل إنه يُسقط عنها سائر الحدود جملة واحدة! وما أشبه هذا الكلام بقول منظري الإلحاد الجديد ما معناه أنه كلما امتد عمر الأرض في الزمان الماضي السحيق إلى ما هو أبعد وأبعد، زادت احتمالية أن يقع كل شيء يعسر علينا تصور وقوعه، بمحض الصدفة أو تراكم الصدف الكثيرة! فلعله من المفيد أن نقارن بين هذين القولين في مقدمة هذا المبحث. ذلك أن مكمن الخلل الفلسفي في كلا القولين واحد في الحقيقة. وهو أنهما يفترضان في ضوء المنطق الاحتمالي المجرد، فراغا إحصائيا ضخما بما فيه الكفاية ليستوعب وقوع أحداث محالة الوقوع، وكأن وجه كونها محالة إنما هو ضعف الاحتمالية الترجيحية لوقوعها وليس الامتناع العقلي!

    إن قول الدراونة بإمكان قيام نظام معقد من مجموع الصدف التراكمية على امتداد الزمان، يعد مثالا جليا لتطبيق أدوات العلم الطبيعي حيث لا يصح تطبيقها. ذلك أن وقوع هذا "التراكم" للحوادث في إطار منفك عن النظام الموجه وعن إرادة وتوجيه كيان فاعل منظِّم يصح أن يكون تعليلا له، يناقض ضرورة عقلية يفرضها معنى "النظام" ومعنى "التراكم" نفسه، فلا مدخل لتطبيق المنطق الاحتمالي Probabilistic Logic في تلك المسألة. فمن حيث الأصل، لو كنا نتكلم عن أحداث تقع في إطار النظام الطبيعي (أو أي نظام مادي مغلق: ن) بصورة تكرارية، ولكنها قليلة الوقوع للغاية وشديدة الندرة، فمن المعقول – في إطار تطبيقات المنطق الاحتمالي – أن نقول إننا إن تكلمنا عن فرصة أو احتمالية وقوع ذلك الحدث النادر في النظام (ن) خلال فترة يوم أو يومين، فإنها ستكون أقل بكثير من فرصة وقوعه خلال فترة من مئة إلى مئتي سنة مثلا! وكلما طالت الفترة الزمنية، زادت قوة الاحتمالية بطبيعة الحال. هذا متصور ومعقول في صنف من الأحداث التي تظهر بغير علم واف منا بشروط ظهورها، مع علمنا بأنها محكومة بإطار نظام مغلق نعرفه، ونتوقع لها – من سابق الخبرة والملاحظة الحسية من جانبنا - أن تقع فيه. أما عندما يكون الحدث المنظور يوصف بأنه فردية singularity ويفترض فيه إمكان أن يقع على غير تقيد بنظام أصلا، بل يفترض أن تكرار جنسه قد مشى (بالصدفة المحضة) على نسق أفضى إلى توليد النظام نفسه قبل أن لم يكن شيئا، ثم يقال إنه كلما استطال الزمان في الماضي، زادت "الاحتمالية الإحصائية" لنشأة النظام على ذلك النحو، فإن هذا تجويز لانقلاب العدميات إلى وجوديات بلا علة، وهو خُلفٌ واضح!

    كذلك الحال عند صاحبنا "بيرس" ههنا، إذ يتصور أو يدعي أنه ما دام الإنسان قد اكتشف كل تلك الاكتشافات وتوصل إلى تلك الفتوحات المعرفية الكبيرة من طريق العلم الطبيعي في فترة لا تتجاوز القرن الواحد، فبعلاقة رياضية بسيطة يمكننا أن نقول إنه إذا كان مجموع الأسئلة التي ما زال الإنسان يتطلع إلى معرفة جوابها يساوي (س)، وكان مجموع ما توصلت البشرية إلى جوابه بالفعل من أسئلة من طريق العلم الطبيعي خلال 100 سنة = (أ)، فإنه يمكننا تقدير عدد السنين المتبقية للوصول بالعلم الطبيعي لتغطية المادة (س) - على افتراض ثبوت معدل الإنجاز والإضافة العلمية على ما كان عليه خلال المئة سنة المذكورة - من طريق العلاقة:
    ع = (س)/(أ) * 100
    هكذا بكل سهولة!!

    لا شك أن هذه الفكرة تبدو للوهلة الأولى جذابة للغاية لعامة الملاحدة والماديين! ولكنها في الحقيقة – كعامة معتقداتهم – مغالطة عقلية كبرى! وذلك من ثلاثة أوجه: (6)
    - أنها تستلزم افتراض محدودية مادة السؤال العلمي نفسه (كمعنى مطلق) وهذا باطل، ويكفي للتدليل على بطلانه مطالبة القوم بتعيين قيمة اللانهاية العددية (كما سيأتي)! فالتقديم بافتراض القيمة (س) أيا ما كانت = باطل. ---------------------------------- (أ)

    - تفترض أن القدرة الإنسانية على استيعاب المعارف (عموما أو من طريق التراكم) لا حد لها ولا نهاية، وهذا باطل. ------------ (ب)

    - تفترض أن جميع القضايا المعرفية التي يمكن للإنسان أن يصل إلى معرفتها، يصح أن يكون العلم الطبيعي طريقا إلى تحصيلها، وهذا باطل. --(جـ)
    هذه الأوجه الثلاث لبطلان تلك الفكرة هي بمجملها موضوع هذا المبحث.
    فسينتظم البحث في مطالب ثلاثة، ألا وهي إثبات تلك الأوجه (أ) – (ب) – (جـ) بالدليل الفلسفي.

    أولا: إثبات محدودية العلم البشري بإطلاق.
    بداية نقول إن العلم الذي نتكلم عنه في هذا السياق ينبغي أن نفرق فيه بين تصورين كليين مختلفين لتلك الغاية المعرفية النهائية التي يتطلع إليها عموم الماديين في عصر ثورة العلم الطبيعي:
    - تمام الإلمام والإحاطة بكل موجود يجوز في العقل أن يتحقق العلم به.
    - تحقيق المعرفة بكل ما يمكن لبني البشر الوصول إلى معرفته.


    والفرق بين التصورين الأول والثاني أن الأول أنطولوجي مطلق والثاني إبتسمي نسبي. والمعني بأنطولوجي ههنا أنه تصور لصفة العلم عند كائن مخصوص في الوجود لا يوصف بها غيره. فعلى التصور الأول لتمام العلم بإطلاق، يكون المقصود تحقق الإحاطة بكل شيء كان أو هو كائن أو سيكون في الوجود. وما من كائن ذي علم يدخل تحت علمه كل موجود بالضرورة، إلا من كان موصوفا بالعلم الكلي Omniscience وليس هذا الوصف مما يصح لأحد إلا لمن كان موصوفا بأنه واجب الوجود، علة العلل، الأول الذي لا شيء قبله ولا صانع له، القيوم الذي لا مقيم له، وليس هذا إلا خالق السماوات والأرض سبحانه وتعالى. فكل مخلوق حادث فهو محدود فيما يمكنه الوصول إلى معرفته استقلالا بنفسه ولابد. فأي كائن من الكائنات (س) مهما وصل به علمه إلى أبعد نقطة يمكنه بلوغها في الماضي البعيد، فهو مسبوق فيها لا محالة بعلم الكائن الأول الذي لا بداية له، وكذلك يقال في العلم بما يقع في المستقبل.

    ومن هنا يأتي معنى الغيب الزماني المطلق كضرورة عقلية يجب أن يشهد بها كل مخلوق على نفسه وعلى جنس المخلوقات، وبخروجها عن دائرة علمه المكتسب ولابد، مهما بلغ به ذلك العلم، كما سيأتي بيانه لاحقا بإذن الله تعالى عند تحرير الفرق بين الغيب المطلق والغيب النسبي بدرجاته. وكذلك الشأن في دائرة الإحاطة العلمية المكانية، فكل مخلوق محدود في خلقته ولابد كما لا يماري إلا مكابر. فمهما بلغ به سفره في أقطار السماوات والأرض، فيقينا ستبقى ثمة نقطة أبعد ما زال لم يصل إليها بعد، ومن ثمّ فهو – من حيث الأصل – جاهل بما هنالك، ما لم يصل للوقوف عليه بالحس والمشاهدة، أو يأتيه خبر به من الخارج من مصدر معرفي قد سبق له الاطلاع على ذلك الموضع.

    فإذا تكلمنا عن حدود العلم البشري بعموم، فأي مصدر معرفي خارجي هذا، الذي يحيط علمه بما تعجز سائر الكائنات ممكنة الوجود عن الاستقلال بمعرفته (بمعنى أن تصل تلك الكائنات إلى اكتساب العلم به بنفسها)، إلا أن يكون هو الخالق الواحد الأول الآخر سبحانه وتعالى؟

    لذا فإن إثبات محدودية المعرفة البشرية كوصف لازم لها أبدا، هو بعينه إثبات وجود جنس المعرفة الغيبية مطلقة التغييب، وهو في نفس الوقت دليلنا على أنه لا طريق إلى الوصول لتحصيل المعرفة بشيء من تلك الأمور مطلقة التغييب إلا من طريق الخبر المتلقى من الخالق العليم الشهيد جل وعلا. بل إن من أدلة وجود الخالق ما هو دليل – في نفسه – على وجوب تلك المحدودية المعرفية، كدليل التعليل الذي يقضي بقطع تسلسل العلل بالعلة الأولى التي لا تعليل لها. فمجرد وصف تلك العلة الأولى بأنها لا تعليل لها، إنما هو تقرير لوجود سقف معرفي لسائر المخلوقين تنشأ الضرورة إلى إثباته من حقيقة المعرفة نفسها لديهم. فإن اعتبرنا أن التعليل والسببية هما طريقنا معاشر المخلوقين إلى تحصيل المعرفة، فإن هذا الطريق ينقطع أمامنا لا محالة، وبضرورة المنطق نفسه، عند تلك العلة الأولى واجبة الوجود، فوجب في العقل أن يكون ثمة سقف مطلق ثابت لمعرفة البشر لا يمكنهم تجاوزه. ولهذا تكثر سفسطة الملاحدة الجدد كدوكينز وغيره بقولهم إن "فرضية" الخالق تقتل العلم وتعد جوابا "سهلا" لقضية أصل الكون والحياة على سطح الأرض! فإن هذا الجواب يقضي بوضع حدّ مطلق لعلم الإنسان لا ينبغي له التطلع لمجاوزته، وهذا ينقض ملة الإلحاد الجديد التي من أركانها اعتقاد أن أدوات العلم الطبيعي عند البشر كاملة القدرة omnipotent وأنها ستصل – ربما بعد بضعة ملايين من السنين كما يرجو "بييرس" - إلى تحصيل المعرفة بكل شيء في الوجود!

    هذان المثالان الزماني والمكاني الذين بينا بهما الفرق بين العلم المحدود واللا-نهائي (ومن ثمّ أثبتنا وجوب تحقق معنى الغيب المعرفي المطلق عند أي مخلوق ممكن الوجود، أيا ما كان مقدار أهليته الخلقية لتحصيل المعرفة)، يشهد لهما التصور الرياضي المجرد لمعنى اللانهاية العددية نفسها كما بينا ذلك من قبل في غير موضع. فإن آلة البحث الكمي في الموجودات التي ركبها الرب تبارك وتعالى في عقولنا، هي في نفسها شاهد على هذا النقص اللازم في معرفتنا، وعلى ضرورة وجود حد لا يقدر شيء من المخلوقات العاقلة ممكنة الوجود (7) على مجاوزته معرفيا مهما زاد محصولها العلمي، سواء كأفراد أو كجماعات يتراكم العلم فيما عندها، وذلك إنما يعزى إلى كونها (كجنس من الموجودات) مخلوقة حادثة بالأساس. بل إن مفهوم اللانهاية العددية في الرياضيات يعد شاهدا شديد الجلاء على ضرورة وجود شطر من معرفتنا نعلم وصفه العام ولكن لا نعلم حقيقته (أو إن شئت فقل تحقيقه أو ما به يكتمل العلم به كغيره من المعلومات)، وضرورة أن ينتهي علمنا به عند هذا الحد. (8)

    ذلك أن كل قيمة من القيم العددية في الرياضيات (س) قد علمنا من صفاتها أن القيمة السابقة لها مباشرة هي (س – 1) والقيمة التالية لها مباشرة هي (س + 1)، وقد أمكننا تعيين تلك القيم بدقة وأمكننا تعيين نتاج قسمتها ومضاعفتها والتعامل معها كما نتعامل مع سائر القيم العددية المعروفة، إلا العدد المسمى باللانهاية العددية، فإننا مضطرون إلى التعامل معه كقيمة مبهمة تأتي في مختتم الأعداد كلها لتعبر عن معنى (كل شيء) أو عن معنى نهاية الأعداد: أقصى قيمة عددية في الوجود، أو ما وراءها، على كلام قديم بين الفلاسفة في ذلك. فمع كونه يعبر عن هذه المعاني المحدِّدة بطبيعتها لحدود معرفتنا البشرية، ولا يشاركه فيها أي عدد آخر على الإطلاق، فإننا لسنا نقبله فحسب، بل إن علم الرياضيات لا قيام له أصلا بدون التعامل مع ذلك المعنى الرياضي على أساس التسليم بهذه الجهالة عندنا بحقيقته. فهو ليس جهلا محمودا، وإنما هو جهل متعين في العقل لا سبيل دوننا إلى إزالته.

    فلو أننا تصورنا أن جاء علينا يوم تمكن فيه الرياضيون من تحديد قيمة معينة (س) للا-نهاية العددية، فإنه سيفسد معناها حينئذ لأن ذلك سيعني أن سائر الخصائص الرياضية الضرورية للا-نهاية العددية ستبطل ولابد، وذلك لتحولها إلى قيمة عددية كغيرها من القيم، يمكن الزيادة عليها بل ومضاعفتها للوصول إلى قيم أخرى معروفة، وهو ما ينقض معناها أصلا! أو بعبارة أخرى نقول إن بقاء تلك القيمة الاعتبارية على خصائصها التي تأسس عليها علم الرياضيات نفسه، يلزم له التسليم باستحالة الوصول إلى تعيين قيمتها الحقيقية في يوم من الأيام أو حتى الاقتراب إلى ذلك. فإننا معاشر البشر لا يمكننا أن نعين قيمة عددية حقيقية (س) إلا وقد جاز عندنا أن يكون ثمة قيمة أخرى بعدها (س + 1) يمكننا تعيينها كذلك، وأن يكون لها مضاعفات يمكن حسابها، فوجب في العقل أن تظل تلك القيمة كما مبهما لا يمكننا الوصول إلى تعيينه في يوم من الأيام.

    هذا التصور الرياضي مطابق تمام المطابقة للتصور اللغوي الذي ذكرناه آنفا من لزوم محدودية المخلوق الحادث مهما بلغ، وأنه لا يمكن في العقل أن يستوي في العلم بالكائن الأزلي القيوم علة العلل الذي يوجب العقل انفراده بما لا يصح أن يوصف به أي كائن من الكائنات الممكنة عقلا. فإن الخالق الأول الآخر الذي يمتد وجوده من الأزل وإلى الأبد، يلزم في العقل ألا يقيده ذلك القيد المعرفي الذي يتقيد به علم المخلوقين المحدثين ولابد، ولهذا كان من أسمائه سبحانه (الشهيد)، فلا شيء يجري في الوجود من الأزل وإلى الأبد إلا وهو شاهد عليه لا محالة، عليم به تمام العلم ولابد. فالغيبية والخفاء المعرفي والجهل الذي يحملنا على البحث العلمي، إنما يتصف بها المخلوق دون الخالق. (9)

    وعليه فالقضية المعرفية التي نحن بصددها، ينبغي أن يبدأ تحريرها من أن نقول إن العلم (بمعنى مجموع المعلومات المعبرة عن الموجودات الواقعة والممكنة عقلا) لا نهاية له، فلا يمكن – بضرورة العقل - أن نصل يوما ما إلى نقطة نقول عندها إننا قد علمنا كل ما يمكن أن يُعلم في الوجود! بل لا يمكن أن نصل إلى نقطة نقول عندها إننا قد توصلنا إلى الإحاطة بكل ما يمكن للبشر أن يتوصلوا إلى معرفته (وهو تقييد للإطلاق السابق بقيد القدرة البشرية المتناهية).

    فإذا تقرر لدينا ذلك القدر، تحقق لنا الوجه (أ) في الوجوه الثلاثة سالفة الذكر، ألا وهو إثبات وجوب محدودية ما يمكن الوصول إلى تحصيله من العلم لجنس المخلوقات بإطلاق، وهو كاف فيما أرى لإثبات محدودية العلم الطبيعي بالتبعية أيا ما كان تعريفه عند فلاسفة العلم. وسنتابع في المشاركات التالية – إن مدّ الله لنا في العمر وبسط لنا في الوقت – عرض المزيد من الحجج مع بيان الوجهين الباقيين والتدليل عليهما لتمام مطالب هذا المبحث.

    --------------------------
    الحواشي:
    (6) ثمة وجه رابع قليل القيمة ولكن لا ضير من ذكره، ألا وهو بطلان قولهم بثبات معدل الإنجاز في المستقبل (أو حتى بتسارعه، طردا لما كان عليه الحال في الحضارة الغربية المعاصرة خلال القرنين الماضيين)، فإن البحث العلمي تحكمه متغيرات كثيرة لا يمكن التنبؤ بمسارها في المستقبل، وهذا واضح من مجرد النظر إلى ما كان عليه ذلك "المعدل" في الماضي البعيد، بل القريب قبل مئتي سنة فقط أو أقل!)

    (7) أثبتنا وجوب تحقق معنى الغيب المعرفي المطلق في جنس المخلوقات العاقلة بعموم، وليس في الإنسان وحدة، تأسيسا على قاعدة نعتبر الجدال فيها من السفسطة المحضة، ألا وهي القول بأن كل مخلوق عاقل ممكن الوجود، سيتفق معنا معاشر البشر في ثوابت وبدهيات المنطق العقلي التي نتفق عليها ولابد، بما في ذلك أصول الرياضيات ومنطق اللغة الطبيعية.

    (8) وفي هذا بينة عند التأمل ليس فقط على إمكان أن يدخل في بنيان معرفتنا البشرية معاني تتعلق بجنس من المعلومات نضطر إلى الوقوف عليها دون التطلع لمعرفة حقيقة تلك المعلومات، بل إنها تدل على وجوب تحقق تلك الخصلة في بنيان المعرفة البشرية لا محالة! بمعنى أن يكون لدينا معلوم ما، نقبل أن يتحقق لنا العلم بدرجة من درجات المعاني الواصفة لذلك المعلوم (وتكون مما تحيط به لغتنا أو يكون من المشتركات المعنوية التي يجيز العقل مشابهتها لما يدخل دخولا كاملا تحت دائرة الخبرة البشرية)، مع كوننا في نفس الوقت نقبل أن يمتنع عنا الوصول إلى مجاوزة ذلك القدر من المعرفة بصفات وخصائص ذلك المعلوم وحقيقته التفصيلية، فنقف عند ما لدينا من العلم به، ونتخذ لما وراء ذلك موقف اللا-أدرية agnosticism ونرتضي به. أو بعبارة أخرى، لنفترض أن كان لدينا موجود ما (م) (أيا كان طريق الوصول إلى إثبات وجود ذلك الموجود والمعرفة بشيء من صفاته)، وقد تحقق لنا العلم بجملة من صفات ذلك الموجود: المجموعة "أ، ب، ج، د، هـ، و، ز"، هذه الصفات إما أن يكون بوسعنا أن نتوصل إلى معرفة صفة كل واحدة منها وحقيقتها، فنقول إن حقيقة (أ) تتقرر في مجموعة من الصفات: "1،2،3،4،5" أو نقول إن هذه الصفات لا شيء منها يمكن في العقل أن نتوصل في يوم من الأيام إلى معرفة صفاته أو حقيقته أو السؤال عنه، فيتعين أن نمتنع عن طلب ذلك العلم الإضافي ضرورة. هذا الموقف الأخير لسنا نجيزه في العقل فحسب، بل إننا نوجبه ونوجب قبوله كموقف صحيح لازم لجنس واحد على الأقل من أجناس المعلومات في الوجود لا محالة، وتعتبر اللا-نهاية العددية مثالا له في غاية الجلاء في الحقيقة.
    وهو نفسه موقفنا معاشر أهل السنة من أسماء الخالق وصفاته، عندما نقول إننا نثبت لربنا تبارك وتعالى تلك الأسماء والصفات التي تحققت لنا المعرفة بها من طريق الوحي، ونعقلها على ظاهر اللغة بما لها من اشتراك معنوي واضح مع بعض صفات المخلوقين، ولكننا نفوض العلم بصفة الصفة، أو بعبارة أخرى، نمتنع عن طلب العلم بالمزيد من المعاني الإضافية التي تصف كل صفة من تلك الصفات وتبين حقيقتها وتفصيلها. هذا الموقف ليس واجبا علينا من جهة الشرع وحسب، ولسنا نقول به لأن عقولنا تعجز عن تصور ذلك وحسب، بل إنه واجب من جهة العقل كذلك كما بينا.

    (9) قد دلت النصوص من القرءان والسنة المطهرة، مصداقا لما يشهد به العقل، على وجود معاني لا يمكن للغة البشر استيعابها. ذلك أن اللغة إنما تعمل في توليد الألفاظ الجديدة لوصف الموجودات سواء في الذهن أو في الخارج، بناء على القياس العقلي على ما هو محصول في الذهن من قبل من خبرات الحس والإدراك ومن المعارف المخزونة. فما لم يسبق لنا أن رأينا شيئا مثله البتة، فإنه لن يجد في ألسنتنا لفظا يناسبه. نعم قد نخترع له اسما ما (كأن نقول: الشيء "س" مثلا!)، ولكننا سنعجز عن وصفه وصفا دقيقا! فإن افترضنا التعرض لشيء مجهول بالكلية (س)، فإننا سنظل نحاول أن نقربه في قياسنا إلى أقرب شيء رأيناه من قبل شبها به، حتى نصفه بما يقربه إلى أذهان السامعين.

    فهل من الممكن في العقل أن يكون ثمة شيء مجهول (س) لو رأيناه لعجزنا تمام العجز عن وصفه أو احتوائه فيما نعقل من معاني اللغة؟ نعم ولا شك، بل إنه واجب تبعا لعجزنا الضروري عن استيعاب المعاني التي توصف بها حقيقة الذات الأزلية الأبدية وكيف تكون تلك الذات التي لا نهاية لها إلا ما يفصلها عن خلقها. فالعقل يوجب هذا القصور اللغوي عندنا (كما عبرنا عنه رياضيا باللا-نهاية العددية). وفي الحديث أن الجنة يكون فيها من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ومع أن مادة هذا الخبر محل النظر من المخلوقات مثلنا، إلا أنه قد وصفها النص بأنها لم تخطر على قلوب البشر، أي لم يسبق لهم أن حازوا في أذهانهم من المعاني ما يطابقها في اللغةً، وإن كان لا يمتنع بالضرورة أن يتمكنوا من تقريبها بالقياس (التشبيه) إلى أقرب الأشياء شبها بها، لأن إخبار النص عنها بأنها لم تخطر على قلوبهم ولا تطرقت إلى إدراكهم من قبل، لا تؤخذ منه ولابد الدلالة على أن أهل الجنة لم يسبق لهم أن تعرضوا لشيء في الدنيا يشترك معها ولو في بعض الصفات الظاهرة القليلة التي يمكن من طريقها أن تُقرب تلك الأشياء إلى الأذهان عند العبارة عنها ووصفها.

    وفي المقابل فإن ما ثبت في النص من صفات الذات والفعل للخالق جل وعلا، نحن نجزم بأن العقل البشري وإن كان يفهم معانيه على ظاهر اللغة، إلا أن حقيقة وكنه تلك المعاني (أو صفة الصفة: الكيفية التي بها تتحقق) لا يمكن للعقل البشري استيعابها ولا وضعها في إطار اللغة البشرية أصلا، لأنها معاني تتعلق كما تقدم بذات لا قياس لحقيقتها على شيء من الموجودات الممكنة التي لا نملك من القدرة العقلية (اللغوية) أو الحسية الإدراكية عند التعبير عن الكيفيات والحقائق إلا ما يناسبها. فإن عقولنا وألسنتنا وحواسنا قد تحددت فينا بموجب كوننا مخلوقين حادثين، من صنعة خالق لا أول له ولا آخر، سبحانه وتعالى!
    هذا التحدد واجب عقلا في سائر المخلوقات الممكنة، بمعنى أن المنطق لا يجيز أن يرفع الخالق عن شيء من خلقه مطلق التحديد العقلي والحسي والمعرفي، فيرى ذلك الخلقُ كل ما يرى الخالق، ويسمع كل ما يسمع، ويعلم كل ما يعلم، لأن ذلك لو جاز أن يقع لمخلوق من المخلوقات، لاستوى الحادث بالقديم الأبدي، ولبطل التفريق بينهما في العقل وهذا محال.

    ولعل هذا التقرير في محدودية اللغة وعلاقتها بمحدودية المعرفة البشرية، يقترب بنا من بعض صياغات الموقف القائل بالحتمية اللغوية Linguistic Determinism، التي يرى أصحابها من الفلاسفة أن الإنسان تتحدد معرفته في هذا العالم بحدود ما يمكنه (كجنس من المخلوقات) أن يعبر عنه بلسانه وأن يستوعبه في ألفاظ اللغة. فإننا لا نبالغ إن قلنا إن سائر عمليات المنطق الفكري البشري بما فيها الرياضيات نفسها، إنما هي عمليات لغوية في الحقيقة، تقوم بقدرة الإنسان اللغوية على التعبير عن الأفكار في أسماء يتفق البشر على معانيها فيما بينهم (سواء كانت ألفاظا أو رموزا تعبر عن الأعداد وعلاقاتها.. الخ). فما خرج عن حيز التعبير اللغوي البشري بطبيعته، أنى لمثله أن يدخل إلى حيز التقرير المعرفي البشري سواء على المستوى التنظيري أو الوصفي؟ هذا محال! وعليه فالذي أراه أن من يزعم بطلان هذا المبدإ، سيعجز – لا محالة – عن دعم اعتراضه عليه بالدليل العلمي، لأنه سيكون مطالبا بإثبات أنه قد دخل إلى علمه شيء لا يمكن التعبير عنه بألفاظ اللغة! فإذا تقرر أن الإثبات والبرهنة على صحة الأفكار، ونقل التصور من عقل إلى عقل بما تقوم بمثله الحجج وتتحقق به المعرفة، لا سبيل إليه عند البشر سوى العبارة اللغوية (بفنونها المختلفة، التي يتكون بها بناء المعرفة البشرية في شتى حقولها ومجالاتها)، تبين امتناع تحقيق ذلك المطلوب عند من يزعمه.

    وقد يزايد بعض الماديين ههنا من المهتمين بقضية ثنائية العقل والجسد، والمشتغلين بفلسفة أو علم العصبيات neuroscience ويقول: لعل صاحب هذا المطلب يتوصل إلى إثبات وقوع شيء في معرفته لا يمكن للغة البشر التعبير عنه، من خلال أدوات البحث الإمبريقي empirical methods، بأن يبين – مثلا – أن المنطقة (س) في المخ المخصصة لتخزين المعارف، قد ظهر فيها نشاط يظهر في وصفه دليل على هذا الأمر! ونقول لهم هذه رمية بغير رام، لأنه حتى على التسليم بإمكان معرفة مواقع الأفكار والمعارف في جوف الإنسان حال انقداحها في ذهنه أو حيثما يخزنها في ذاكرته، فإن التفريق بين أعيان تلك الأفكار بما يوصل منه إلى توصيفها ومعرفة كنهها وموضوعها، سيظل في جميع الأحوال مهمة صاحب الأفكار نفسها، التي لن تتحقق له إلا بأن يتمكن من وضع تعبير لغوي مناسب لها! لأنها أفكاره، المنقدحة في نفسه هو، في سياق إدراكه الشامل لا إدراك غيره، فإن عجز هو عن وضعها في عبارة تناسبها، فلن تزيد في أعين الناظرين على مخه وجهازه العصبي عن مجرد إشارات كهربية وتفاعلات في جملة مما يجري في دماغه في هذا الموضع أو ذاك! ولا يفوتنا أن نقول لمثل هذا: من أراد الوقوف على حقائق المعرفة، فليطرق إليها طريقا أكثر نضجا وأقرب مأخذا من طريق روايات الخيال العلمي، والله الهادي!


    ------------------------
    المراجع:
    Wiener, P. P. (Ed.) (1958): Values in a Universe of Chance: Selected Writings of Charles S. Pierce, USA: Stanford University Press

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Oct 2011
    الدولة
    فلسطين - المُباركةَ -
    المشاركات
    951
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    بارك الله لنا في علمكم شيخنا أبي الفداء ، فكم هي ماتعة طيبة هذه السطور .
    يقول عبد الرحمن بن مهدي : ((لان أعرف علة حديث واحد أحب الي من أن أستفيد عشرة أحاديث)) .
    و يزيد هذا العلم أهمية أنه من أشد العلوم غموضا ، فلا يدركه الا من رزق سعة الرواية ، و كان مع ذلك حاد الذهن ثاقب الفهم دقيق النظر ، واسع المران .
    قال أحمد بن صالح المصري : ((معرفة الحديث بمنزلة الذهب و الشبه فان الجوهر انما يعرفه أهله ، و ليس للبصير فيه حجة اذا قيل له: كيف قلت: ان هذا الجيد و الرديء))

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    الدولة
    الصين الشعبية
    المشاركات
    16
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    بارك الله في الشيخين أبي الفداء وحسام الدين حامد ... كل يوم أفتح هذا الشريط على أمل قراءة ردود جديدة ... كنت بدأت في قراءة كتاب "فلسفة العلم في القرن العشرين" للدكتورة يمني طريف الخولي وكتاب "فلسفة العلوم بنظرة إسلامية " للدكتور أحمد فؤاد باشا لترجمة بعض الفقرات إلى لغتنا ، حتما سأستفيد مما سطره الشيخ أبو الفداء هنا .

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. على أي المبادئ تعيش - كلام نفيس لأبي الفداء بن مسعود حفظه الله.
    بواسطة محب أهل الحديث في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 09-16-2014, 03:22 PM
  2. (فلسفة النسبية العامة وماهية الزمان والمكان) لأبي الفداء
    بواسطة د. هشام عزمي في المنتدى أبو الفداء
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 07-06-2013, 12:45 AM
  3. (فلسفة النسبية العامة وماهية الزمان والمكان) لأبي الفداء
    بواسطة د. هشام عزمي في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 07-06-2013, 12:45 AM
  4. فلسفة الشر ..حوار مع ‏Massinissa
    بواسطة Massinissa في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 50
    آخر مشاركة: 11-18-2012, 04:34 PM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء