النتائج 1 إلى 10 من 10

الموضوع: مقامة ثمن القمامة

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المشاركات
    2,867
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    19

    افتراضي مقامة ثمن القمامة

    كتبت قبل اليوم مقامات يرويها أبو النوادر السوسي, وها هو قد التقى لأول مرة مع بطله: أبي حُميد رحّال بن المحجوب.
    وأهدي هذه المقامة اللطيفة إلى أخوين فاضلين:
    الأخ الكريم الأستاذ عياض
    والأخت الأديبة زينب من المغرب.

    مقامة ثمن القمامة
    حدثنا أبو النوادر السوسي قال:

    لقيني في مراكش صعلوك, يبزك في الخصام ويعلوك, ذو مكر ودهاء, وفخر وزُهاء, و لسان مهماز, وكلب يدعى هزهاز. لمحته من قريب, في زيه الغريب, فإذا هو قصير أسمر, أشعث أغبر, فقلت في نفسي:
    "ثوب رث, على رجل غث, لعله مخبول, أو مغرم متبول."

    ولما حاذاني تأملني مليّا, وتبينت حاله جليّا, فإذا هو مفتول العضل, في صوته صهَل, وبيده كراع ينهسه, وعند كلبه عظم ينهشه, فجاءني وسلم, ثم تنحنح وتكلم, وقال:
    "إني من أهل الفِراسة, ولو شئت لنلت الرئاسة, لكني آثرت الخمول, وتخففت من الحمول, فليس لي من دنياي, غير عقلي وعصاي, ورزقي على من يطعم الطير, ويقدر الشر والخير, ففيم ازدريتني إذ رأيتني, وحقَرتني وما عرفتني, أولم تساورك الظنون, فنسبتني للمس والجنون؟ ومابي غرام ولا هوى, فكل ما ترى بي من الطوى, وإن تشأ حدثتك وأطربتك, وأسعدتك وأغضبتك, وأبكيتك وأضحكتك, فأنا رحّال بن المحجوب, الفقير المجذوب."

    ولما فرغ من كلامه, وقد أقبل الليل بظلامه, قلت:
    "هلم إلى العشاء, واطلب ما تشاء."
    فألقى الكراع فالتقطه الجرو, وكان هزيلا أغبر الفرو, وبادر رحّال الفرصة وتغنّم, وتبعني يشدو ويترنّم:

    وطاوي ثلاث ضامر الكشح ممحل***بحمراء لم يشبع بها سائل فولا
    وذي نخوة فيه من الجود وفرة***يرى الجوع فيها من ذمامته غولا
    دعاني رجاء الأجر واختص بالندى***كحال الفتى الطائي بل ساد بَهلولا


    وإنما دعوته فرحا بلسانه الفصيح, ورأيته يتطلع إلى مطعم فسيح, فولجنا المكان سوية, ومشى مطرقا في روية, ولما جاء النادل سأله رحّال:

    "أي شيء عندكم؟"

    فأجابه كالسيل يتدفق, لا يحفل بسامعه ولا يترفق:

    "عندنا لحم وخضار, وسمك ومحار, وأصناف الطواجن, بالضأن والدواجن, وكسكس وسميد, و"برغل" وعصيد, وجوز ولوز, ومشوي و"محشي", وشطائر "بورغر", ودجاج غِرغر, وجبن ولبن, و"مخللات" ومقبلات, وسلطات بالأعشاب البرية, وأخرى بالطحالب البحرية , والحساء في الطناجر, وكل ما يطيب في الحناجر, وطبق اليوم محشي الباذنجان, بالطماطم واللحم والأجبان, وأجود فواكه الموسم, والبوظة بالعسل والسمسم, وحلوى تنسيك البلوى, بالبندق والفستق, وخبز خمير وشاي وعصير, وقهوة ذات رغوة, وكل ما كان مأكولا, وماء معدني وشراب الكولا..."

    فاختلج رحّال وتململ, وصوّت وولول, واحمر واصفر, وأشاح بوجهه وازورّ, فقلت:
    "ما لك وأي شيء أصابك؟"

    قال: "إني منذ ثلاث آكل من القمامة, حتى غدوت أخف من ثمامة, ثم جاء هذا الغلام الحسن الهندام, الفصيح اللسان, ذو الثنايا الحسان, فما زال يعدد أصول المآكل, ويفرع عليها المسائل, ويشقق لها الأسماء والألقاب, ويكشف عن مقاديرها النقاب, حتى تحيرت وتخيلت أني تخيرت فأكلت, فوالله ما أذكر مما قال شيئا إلا الباذنجان, ولا أرى إلا أن به مسا من الجان."

    فقلت: "هون عليك, وما عليك إلا أن تأمره, ومهما اشتهيت اليوم من شيء تره."

    فقال للنادل: "هات قصعة, تكفي تسعة, واملأها بتلك الأصناف حتى تغدو كالتلة, وهات من الخبز سلة, ومن الماء قِربة, ثم أسألك قُربة, إياك ثم إياك و الباذنجان, وحبذا من القهوة اليمنية فنجان"

    فنظر إليه النادل وهمهم, وحرك رأسه وغمغم, ثم ولّى وتركنا, فطفقت أتعجب أي شيطان دعوت, وتمنيت أن يكفيني المال ورجوت, فرمقني في مكر تدور عيناه, وأستند بخده على يمناه, وقال: لعلك تحسبني أبا عبيد, وإنما أنا أبو حُميد, آليت ألا أقوم حتى أشبع, وألا تقوم حتى تدفع, فأبرر يميني فإني لا أطيق الصوم ولا الإطعام, ولا تؤاكلني فإنه أكمل للأجر والإكرام. فعجبت لتفننه في الإقناع, وفي خبث طويته تحت القناع.

    ثم أقبل النادل يجر عربة, ولاح لي جذلان يبدي طربه, جاء بقصعة تكفي الرهط, وتشبع الوهْط, فإذا فيها من كل حلو ومالح, وحار وبارد, عانق فيها السمك الدجاج, وسالت البوظة في مسالك ذات فجاج, وحفتها الخضار, يشيعها المحار, في وفد من فواكه البحر, ورشت من أعلاها باللوز والسكر, والجوز والزعتر, فما كان من رحال إلا أن وضعها على الأرض, وبدأ يصول ويجول, ويلتقم ويلتهم, ويضرس ويهرس, ويمضغ ويسرط, ويتجشأ ويظرط, حتى تمعر وجهي وهممت أن أقوم, وتخيلته جنيا يقضم الزقوم, فشد ثوبي وأمسكني, وقال أنا أبو حُميد فأبرر يميني, فبقيت على مضض, وجلست على قضض, فمكث ساعة يفترس, ولا يلقي بالا للناس ولا يحترس, حتى بدا قعر القصعة أو كاد, وأمست كمثل ديار عاد, وقال: "ادفع الآن أيها الشهم", وقام يمشي كأنه السهم, ثم جاء النادل فطلب أربعمائة درهم, فراجعته وكان بيننا أخذ ورد, ولما استيقننت أن ليس من السداد بد, دفعت ما معي إلى آخر فلس, وخرجت كأني دابة بلا حِلس, فإذا رحال مستندا إلى عمود كهرباء, وقد غير هيئته كالحرباء, رأيته مع النادل يتضاحكان, بعد أن اقتسما الغنيمة ففهمت ما كان, لقد التهم الخبيث كل فُضلة في المطعم, إنه يأكل القمامة, أجل ما أصدق كلامه, لكنه كتمني أنه يقبض الثمن, فمن يدفع ثمن القمامة غيري, فمن؟
    {‏ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} إبراهيم: 41

  2. #2

    افتراضي

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    .............

    واتجهت صوب الزوايا باحثة، عن امرأة من أهل الزمان حكيمة، سألت الشيب عن ضالتي، فأرشدوني إلى عائشة، وأقسموا الأيمان أنها عارفة، بخبايا الزمان ولكواشفه دارسة، فالفنون والعلوم والأخبار بجميعها محدثة.
    لم أبد أمامهم عجبي، من وجود هذا المحال في زمني، غير أني عملت بقولهم في الأمثال: اتبع الكاذب حتى باب الدار.
    ثم وجهوني إلى الجبال، حيث سادات الصوفية والحمدوشية الكبار، وأهل الحال وما أدراك ما أهل الحال. هم الدجالون ليس أي دجل، والخراصون ليس أي خرص، والمشعوذون ليست أي شعوذة... فهم إذن الشيء ليس بشيء.
    وصل بي النعت إلى أرض القشور، حيث يمنع الحذاء عند المرور، انحنيت وأزلت حذائي،وكأنه على رصيف طريق مائي، لكن قبلها وصل إلى مسامعي، صوت ليّ سالت له مدامعي، لا هو بشعر ولا نثر ولا قول لسامعه واضح، لكنه والله برح له في قلبي وقع بارح، قلت: إن كان بالقول يقصد السامع، فهذا لعمري لأذن من الإفرنج نابع.
    اقتربت عليّ أفقه مما يلوكون بألسنتهم جملة، وأجد لها في قواميس العنكبوتية ترجمة، فجلست بين النساء وقبالة هؤلاء الرجال أي نعم ولا حرج!، ففي الزوايا وحولها لا شيطان ولا مرج، ذا قولهم بلسانهم وحالهم كله عوج. ضبطت أذني على ترديد اللحن واستمع، لحروف ليست عند أي مخرج تمتنع، فلا استطالة لأهل الضاد تنطلق، ومع كل حرف غنة تنزلق،فتركت نفسي لحل هذه الشيفرات تسترق
    طال بي زمن المتابعة للشفاه، وداخ رأسي من تدوير العين مع كل فاه، فاقتنص بصري شاب بينهم يافع، كأنه بعد سنة العشرين هو الرابع، إذ أنه مازال في تدويره أبعد، عن الفهم برياضة الفك عند قومه وأحيد،ولا تخلط بينها وبين مقصود ابن الجزري في نظمه: "وليس بينه وبين تركه//إلا رياضة امرىء بفكه"، فشتان بين الرياضتين لو تفهم، و تعرف معنى قولي وتعلم، فوقفت من الشاب على آية، في حالي هذا ذات وقعة أسيفة، على هذا الإجترار لكلام الحيّ، المنزل لقرآن بأعجز الآي، فقال الفتى في سرعة أخطر، من البرق والنجم في الفضا بل أكثر- المهم فهذا رقم بوحدة ضوئية، مسبوق بأُسٍّ على عشرة- فكانت الآية قول الله سبحانه لنبيه " لا تعجل بالقرآن قبل أن يقضى إليك وحيه" فما عجل الحبيب بعدها، وكان من هؤلاء متجاوزها.
    قرفصت الرجلين في المجلس مستعجلة، نهاية هذه القراءة وشرايين السمع كأنها محترقة، ووالله لولا الحاجة إلى هذه العائشة، لانصرفت عن هذا المنكر هاربة، وكأني بقول ذاك الفاضل، الشيخ العلوي المراكشي القائل، عند حديثه عنهم قولا فاضحا، إذ جاء بمثال من الواقع صادحا، لو أن إحداهن غنت لغة الكلام، لكانت بستة كاملة مشبعة لمد اللام. دون أن أحدثك عن قناة السادسة، فبهذا الجهل لحق التلاوة باتت باعثة، رغبتها في خلق التوافق ملحة، بين فصل الدين عن الدولة، وتثبيت عرش الإمارة.
    اقترب مني مسنّ غامز، ما علينا قد يكون شذوذ في عينه جائز ، نطقت السلام فرده، وسألت عن المراد فعرفه، أرشدني إلى مكناس، ورمز لموعد تتجمهر فيه الناس، والرمز في ذا ضرورة، لأهل الخرف مفروضة، وقال انتظري ليلة عساوة، وهي وسط أيام"عْمَارَةٍ" مشهورة. ثم انصرفت عنه غير شاكرة، ولا لمعروفه هذا ناظرة، استوقفني بعبارة ناصحا: أليس للمعروف علينا واجبا، فاعط من قليل أو كثير طالبا، للعلم اللدني محصلا، ولست للصفات لا مكيفا ولا معطلا. فقلت في نفسي: ما زاد عن سؤال أصلا ما سألته، إلا وكان علامة كشف لزيف هذا وفضحه. ثم رميت إليه بدراهم، و نيتي فيها صدقة على أعاجم.
    …..
    وصلت بعد مدة مكناس، وكان الوقت ليلا وقد غالبي النعاس، فقلت آوي إلى ركن أنزوي، فيه بعيدا عن الأنظار وأنطوي، حتى إذا حل الصبح نظرت بين قوم المدينة وسألت، وقبل أن أغط في نومي فزعت، على صوت طبل وصراخ فقمت، أتبع الصوت إلى مصدره، وأقتفي آثاره إلى وقفة حامله، اصطدمت بأناس سكارى من جهلهم لا من سكرهم، مجانين من غيهم لا من ذهاب عقلهم، مسحورون من إفكهم لا من عمل أحد بهم، واقفين بنظام في صفوف، كصحون في مطبخ على الرفوف،ثم هللوا صاعدين نازلين في خشوع، على إيقاع الطبل كأنهم مقبلين على ركوع، لكنها ليست صلاة ولا تسبيح ولا من الطاعات، إذ تلوي ألسنتهم خليطا من التعويذات، قد تجمعها هوليود لأفلام الساحرات،ثم أنهوا شطحهم، وانكبوا على عنز أسود حي بفكهم، والله ثلاثا ما رأيت في مثل فعلهم، شبيها بين الإنس غيرهم.
    لم أستطع صبرا فوليت راجعة، إلى الديار فما عدت أبغي عائشة الرائعة، إن كانت بمثل هذا آمرة، فهي إذن كافرة، فمن أين لها بالحكمة.
    لكن في المحطة لقيني، شيب وقور فأعجبني، مظهره الجميل كأنه استمالني ، لا بغمز ولا لمز ولا حتى نظرني، لكن محبة أهل الخير ما جذبني، فنويت أسأله عن بغيتي، من سفري هذا ورحلتي، فقلت بعد التحية والسلام، أتعرف يا سيدي امرأة في الحكمة لا تضام، فقال دعي عنك يا ابنتي هذا واتبعي كلامي ، إن كان لك مطلب، يبغي عند أهل الحكمة مشورة، فاتبعي هذا الطريق الطويل، فإن أمامك كما بين العرائش ومراكش، لا تقفي عند بن جرير ولا تصلي أكادير، بل امضي في طريقك غربا حتى صحراء مرزوكة، فهناك تجدين قوما شدادا وأخر في الرمل أجسامهم ممدودة، فإلى ذلكم المشفى مقصدي، وللدواء من تلكم الرمال أبتغي، حتى إن وصلت وإياك إلى هناك، رسمت لك الطريق إلى مبتغاك.
    أنعش قلبي قراءة هذا الفقيه، للقرآن بترتيله الفصيح، فكل حرف كان على لسانه، له حق ومستحق عند تركيبه، حتى تمنيت لو أن المسافات تطول أكثر مما حدثني في وصفه، فسبحان الخالق الذي جعل في كلامه، الإعجاز والنور والهدى والشفاء والخير كله.
    فارقت المهيب عند الرمال، وتركته مودعة ودمع العين سيال. وإذا بي وسط الصحراء وحدي، من شدة جوعي وعطشي نسيت قصدي، انقضى زادي وانفردت في ظلمتي، جالسة على الرمال فاقدة قوتي، مددت اليد فما بصرتها، ولا صوت الوحش سمعت ولا حثيثها، ومالي والحثيث في هذا الحال، أبي جهد على أصحابها إن نفذوا من تحت الرمال؟ ويا ليتني ما ذكرت هذي الخاطرة، ولا خطرتها ببالي ولا جلبتها إلى الذاكرة، إذ نفذت من الرمال، أفعى بفحيح ولعاب سيال، وسلني كيف نظرتها في ظلمتي،وعلمت طولها وعرضها على بصيرتي، إنها يا سيدي بهالة معها، من الضوء فوق رأسها تحملها، وكأني سأفرح بحجم ما أرى، وأفاخر قوما بأن مفترسي وحشا من الثرى. وتذكرت جدتي رحمها الله، في حياتها لم تعرف للخوف يوما معناه، حتى أنها حدثتني في مرة قائلة، أنها كانت عند الغروب مقبلة، على بئر لمائه طالبة، فصعدت في الهواء امرأة تلبس أبيضا طائرة، وعلى الأرض حطت رجلها وظلت إلى جدتي ناظرة، فقلت لجدتي، وقد انكمشت في حجرها من مخافتي، وماذا فعلت بعدها هل قرأت القرآن؟- وهي وصية الوالد عليه رحمة الرحمان- قالت : ظننتها امرأة تاهت عن الطريق من الجان، فهممت بحملها لإعادتها إلى البئر بأمان، لكنها اختفت ووفرت علي تعب حملها لعلها تزن "أطنان".لكن جدتي لو رأت مفترستي، لتعلمت الخوف من مشهد مرعبتي،
    هؤلاء القاهرين للخوف ماتوا، وفي أجسامنا اجتماع مخاوف باتوا. فكل النحنحات الدولية تخيفنا، حتى أن مظهرنا بات يرعبنا، فقد يقول أهل "العلم" عنا، لحية تخلف ونقاب رجعية هجّروهم من بيننا ، فتعوي الكلاب من حاراتنا نابحة، وهي لا بنا ولا بهم متشبهة، القانون الثاني للديناميكا، يقرر في دساتير الموزيكا، أنه ضروري لإستمرار الحياة على الأرض، أن نختفي من التاريخ ومن كل سطر.
    اقترب الثعبان من بناني، وأحنى رأسه ذي الألوان، ثم قال في صوت فحيح، يلفح الجلد كلفح نار بريح، هل لعائشة تطلبين؟ ألك حاجة عندها تقضين؟ إن كان ذا فإنّا لعتروس مشترطين، يذبح على إحدى السادات التابعين، لإمرتنا ومقاطعتنا أو قبرا من قبور موالينا. همست كيف لشيخ مكرّم، أن يبعثني إلى مرقد الدجل، فقمت قومة عجِل، وأنا أقرأ آية الكرسي لتحرصني، من إفك هذا الجني إن همّ ليصيبني، وما أن وصلت بالتلاوة إلى العليم ، حتى خرّ الثعبان صريعا من لفحة جحيم. فبدا نمرود ذو بياض، على لباسه لآليء من الجواهر، ووجه محسون في خلقه، فإذا الظلمة نور ساطع، في قصر ماشاء الله خالق الصانع، هذا التحف والزخرف المرصف الرائع.
    أجلسوني على كرسي من الذهب، عليه حرير أبيض مضيء كشعلة لهب، وحيطان بيض صافية، لا عليها لا نقش ولا حاشية، على ما يبدو أن السكان هنا أهل بساطة، لا يتابعون مجلات الموضة ولا التلفزة، الغنى باد عليهم وواضح، لكن صرفهم لزاهد مشفق، لا بساط على الأرض ذي مركة، مسجلة عندهم وفي العالم الثالث مستهلكة، وعين الماء في وسط القاعة، عليها دلو بجنبه كأس كأنه للمارة.
    طلبت سامعا ليخبرني، هل أنا في بلاد الأحلام أم مس من الجن أصابني، فقيل بصوت دون صورة من خلف الباب، بغيتك عائشة ألا فالزمي أحكام الآداب، للتلميذ عن شيخه كما السلف، حين طلبهم العلم وبه عمل الخلف، لا استعجال له ولارفع صوت ولاجدل، في غير محله عن جهل أو عن كسل، ثم إن عرفت ذاك، ووعيته أذناك، فاطرقي عليها الغرفة، ولا تستبقي غير السلام ولا ثرثرة.
    وما أن أغلق الباب خلفي، حتي وجدت امرأة قائمة تصلي، فجلست على المقعد واستغفرت، فالحسد في الطاعات بجوازه علمت. وما أن أتمت السلام، وعند نهاية المعقبات خلتها تنوي القيام، لكنها حدثتني دون الالتفات، فقالت: فيم سؤلك يا ابنتي؟ وعما سفرك للقيتي؟، فقلت: عجبا ألست عائشة؟ والبعض يضيف "قَنْدِيشَة" بلا طائلة. فابتسمتْ لما ذكرتُ وحزنتْ، فما علمت لأيهما قصدت، أيضحكها الإسم على قبحه، أم في طياته حزن يغمرها عند ذكره. فقالت: شرك القوم يا ابنتي مزعج، وطمعي في هذه المحنة أن ربي مفرج، فرب أسود ذميم يلد الأبلج. فقلت في استغراب وعجب: والأفعى التي طلبت تلبية حاجاتي، وعرضت العروض لتلبي خدماتي، فقالت: ذاك جن كافر، يغري كل طالب ماكر، فيبعد عن الحق من حاذ عنه، وعند الله يوم الحساب يتبرأ منه، فيكون قول الحق بعدها فيهم ماض، تلعن كل أمة أختها وقالت وتقول ذاك كان باغ، فلا أمر بالشر إلا وللشيطان فيه نصيب من التخطيط، وللإنسان حظ الرغبة والتنفيذ دونما تثبيط. لكن ليس على هؤلاء جئت بسؤلك، والبادي أن بأكثر من ذلك مثقل حملك، فعجبت لها تسألني وهي من الجن، وداخل جيبي بما حواه عندها مكشوف اللون، فردت على عجبي بالفصل، و نبهتني إلى حصني الذي تحصنت به، بعد تلاوة آية الكرسي على الثعبان حين لفحه، فماكان مني إلا أن حدثتها عن مقامة ثمن القمامة وأخبرتها، فقالت في دهشة واستغراب: وي كأنك لا تدرين!! عن كنه ما في قوله لتبحثين، أوليس كل يوم للقمامة، أنتم مشترون في فرحة، لا بل بها تفاخرون في المجالس، وعنها لا تستغنون في كل ملبس، ومأكل ومشرب وغيره، فكل حياتكم تجارة، في أسواق القمامة ولبضاعتها بكم لوعة، حتى أن الغرب من فرط فرحته، باستهلاككم الأعمى وغبطه، أهداكم هدايا بها تفرحون، وأعطاكم ناعورة الطاحونة لتكونوا حميرها الذين يجرون، في دورة تلو دورة تغرقون، فمن أين له طاعة أمثالكم؟ ومن أين له بشعب ضعيف نحيل مثلكم؟ وكيف يستغني عن دلالكم؟ وأنعم به من رونق وجمال، تلك المظاهرات "الثقال"، التي كانت كحركة تمثال، تنتظرون القمامة كل يوم من على التلفاز، لسانكم: ماحال تونس ومصر واليمن وليبيا، وسوريا لكم عليها دموع ونعيا، سلي شيوخكم أذاك دين الرحمان؟ أعلّم الله لكم وليا من القرآن، في غمرة شرككم وألوان البهتان، حتى دينكم لا تريدون أن تسلموه من بضاعة مزجاة، تحيون كتب أهل البدع وتقولون كشوفات، ألم يصلكم يعني من الأندلس سوى إشاعات؟ أوليس أمسكم قريب حيث لم تكن ضلالات، أما فيه خير لتبعثوا تلكم الشعارات،وهم إذ ذاك أشدكم قربا إلى بلاد العجم والمغريات، حوارات الأديان، دستور جديد لأهل العرفان، علمانية تضحك ملء الأسنان، وهمة شباب فقط لإنتاج القمامة، وتعلم القمامة، وتلفظ القمامة، وعيش القمامة في أوضع رائحتها، وبارك الله في القائل : الصاعدون إلي قمة جبال المزبلة، ليس أنتم طبعا، فأنتم حتى الصعود عنه متقاعسون، فهمتكم للدوران في كل دائرة، مفرغة مغلقة خاوية عالية.
    فقلت : كفي فقد اسمتعت وأنصت، وعرفت الحال وخبرت، لكن اليد الواحدة لا تصفق، فنحن لا نعرف وصف حالنا، وغيرنا يجهل عنا ويفري مستغلا صمتنا، قولنا في ذاك أننا، لو تجرأنا على فن الخطابة بان جهلنا، فنحن يا سيدتي تربية ذاك التعليم، بنظرياته من قمامة الغرب الكريم، حيث ينظّر لنشأة أبنائه، على إنكار الذات بل حتى ربه، ونحن بذا قد عُمِل بنا، حتى عجم منا لساننا، فبتنا غراب مقلد، في الوسط معربد، فهل لنا من صرخة، بلسان أعوج ودعوة، دعاءك لنا يا عائشة أن يعفوا الله عنا ويرحم، حالنا في سكرنا ويحلم، ويعجل لنا بصبح معه، تحيا القلوب وتخشع، فلا تستضخم العدو وفكره، ولا تعجب بالكفر وأهله، ولا تتخذ بعد من القمامة الدار،ثم تهجر سحر الأخبار، وتنفض عنها هذا الوهم بالثراء لطائفة، على حساب حرق بقية الطائفة.
    ثم انصرفت عنها شاكرة، ولسان يراودني بالعودة سائلة، وماذا لو كان في قوله، غير هذا الشرح وبحثه، لكنها قالت متبعة، كسامعة لفكري وناظرة، خذي من قولي ما أردت، وبلغي عني ما قصدت، واحملي رسالة لقومك، أن لا تنكسر بمعول أحد وقول في حقك، فالطريق الذي ترسمه، باشتراك من القوم وتعبّده، لا ينبغي أبدا أن يهدم، ويكسره موت فرد أو يعدم، واعلم أن أساسا متينا، إن كان بالدعاء رصينا، يجمع عليه القلوب ويدفع، كل محب للخير ليتبع.
    ثم ودعتني دون انتظار، وعادت إلى الصلاة والأذكار.
    وكنت بعد لحظة في غرفتي، أمامي ورقتي، وتكاد تلتهمني جملتي، كيف سأبيت بعد ذكر قنديشة ليلتي. وكان علي أن أدفع ثمن رحلتي، أبيت الليلة أتوجس من الظلام وأوقظ إخوتي، للسؤال مرة عن ساعتي، ومرة عن موضع مفكرتي، وما بي إلا خوف طفولتي، من جن متربص يأخذني حين نومي وغفلتي.

  3. #3

    افتراضي

    هذي يا سي هشام ماشي محاولة تجرأ على فن لا أفقهه، ولكن غير واحد حاجيتك ماجيتك على قد الحال،
    وبارك الله فيك

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المشاركات
    2,867
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    19

    افتراضي

    أختي الكريمة ذات القلم السيال زينب بنت بلدي المغرب:
    لكم سرتني مقامتك, خصوصا أنك جعلتها نوعا من المعارضة نسجت فيها على ما كتبت.
    وسأعود لأعلق عليها بالتفصيل وأكتفي الآن ببعض الإشارات.
    لقد كتبت على سجيتك وهذا أمر جميل يجعل القارئ يبحر في كتابتك كأنه على متن قارب تحمله أمواج هادئة.
    وهذا شيء يجب علي أن أتعلمه, فلغتي قاسية وعباراتي غالبا ما تخرج جافة جافية حتى خشيت أن يظنني القراء من أجلاف البادية
    يبقى أن بعض عناصر المقامة لم تبرز بجلاء, لكني أجزم أنك تملكين أن تصبحي رائدة بنات حواء في هذا الباب. فاجعلي لك راويا وبطلا, ثم احملينا إلى هناك, حيث مشى عيسى بن هشام وأبو الفتح الإسكندري, ولي عليكم أن آتيكم من أخبار أبي حُميد وأبي النوادر بما تقر به أعين الأدباء إن شاء الله.
    {‏ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} إبراهيم: 41

  5. #5

    افتراضي

    بارك الله فيك أيها الفاضل
    لقد ظلمتني حين وصفتني بالأديبة وقد علم الجميع ( لا أقول خلطائي فقط) فداحة أخطائي.
    وتملصا من الأقلام الحمراء والتسطير تحت الكلمات والتلوين بالأحمر والملاحظات والتصحيح -وزيد وزيد حتى نسيدي بوزيد- قلنا أنها حاجيتك ماجيتك وليست مقامة.
    واصدقني القول إن قلت لك أنني أعتبر المقامة فن المترفين ساحته ضيقة وأهله مهرة وجمهوره متذوقة من الطراز الرفيع بينما نحن قضيتنا تحتاج ساحة أوسع وأهلها مصائبهم في الجهل أشنع وجمهورها ونحن إلى تبسيط القضية يطمع.
    لذلك أعتقد أن حاجيتك ماجيتك قد تفي بالغرض منها نتفادى سهام التصحيح ونخاطب بلغة الجريح.
    وجزاك الله خيرا.

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المشاركات
    2,867
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    19

    افتراضي

    (حاجيتك ماجيتك) تحمل نفَس المقامة, فهي نفسها فن شعبي في الأصل, يحكي مواقف من حياة الناس بنبرة ساخرة ولغة ساحرة, ولست أدعي أني أتقن ذلك ولكنها محاولات, وما دمنا نتحدث في هذا الباب, فإني بصدد كتابة مقامة عن ظاهرة عجيبة غريبة تصاحب عيد الأضحى في منطقة سوس بالمغرب, وسترونها هنا حينما تكتمل إن شاء الله.
    {‏ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} إبراهيم: 41

  7. #7

    افتراضي

    بخ بخ يا سي هشام..إن جرى دم مقامتك بماء يصفي الأوهام.. أو يفضح لعبا تساغ لنا في الظلام.. لو أنّ العبارات تبكي عنّا بكلام.. يقول ذا فعلهم ببلدي وإنّي له سيف ومنهم براء..قد سخّرت القلم مجاهدا فذاك لضعفي ابراء.. فاعلموا أن العقول التي يعاب عليها بالخواء.. والقلوب التي صارت عند أصحابها أسراء.. لها صبح يشرق فيه الضياء.. ولها رب قانونه الكوني تدافع الأعداء..وأن جهادنا كلمة نسأله سبحانه بها رفعة في علياء.. فله تعالى بين كل جمع غافل استثناء.. يستخدمه لزعزعة الرّان وبث الدواء.
    فذاك سؤلي لربي أن نكون منهم..نتنفس القضية ولا نشرب من الوهم.. نبعث الأقلام مراسيل تنقل سيل قروحنا.. تعلّم للقريب خيوط العنكبوت من حولنا..حتى إن أراد بعدها قصّا عنّا كأنه منّا..كانت حجتنا أنّ لنا قلما فخذ رحالك عن حينا.. وللتاريخ نحن أمناء وما لتخاذلنا أخفينا.. وكسر الجناح صورناه بأمانة وما دارينا.. تحليقنا بين الأنياب المتعطشة حتى تأذينا..وجهلنا بدساتير الرحمن عنه نحكي وحكينا..وسياسات الكفرة والجهلة والمتشدقة..والرويبضة وكل من لمكره تشربنّا.
    فرب كلمة حملت بين حروفها شفاعة يوم اللقاء..وبراءة من الشرك في سطر قد تنير بفضل الله درب تعساء..فلا عذر لصمتنا إن كانت لنا قدرة على أحقر المعروف.. ولا عزاء لنا إن أمرنا بردّ تحقيره وركنّا إلى الخوف.

    قبل أن أنسى: أي نعم عدا الفروق الثلاثة فالنفس واحد وإن كان ذا قول "متمكن" وتلك خربوطية "سيتمكَّنُ" بفضل الله

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Sep 2011
    الدولة
    مِنْ أَرْضِ الرِّمَـال !
    المشاركات
    1,300
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    عفا الله عن المغاربة
    خطفوا منّا شعلة اللغة
    لا بأس الأيام بيننا ..(ابتسامة)
    ابداع معهود زادك الله علما ورفعة
    وحفظ الله احبتي في المغرب الاقصى
    {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}
    في إنتظار "ملحد حقيقي" ليعطي تفسيرات لهذه الكُبرَيات بالمنظور الإلحادي
    " الإنسانُ ليسَ مُفصّلاً على طرازِ دارون , كما أنّ الكونَ ليسَ مفصّلاً على طرازِ نيوتن " بيجوفتش

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المشاركات
    2,867
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    19

    افتراضي

    أختي وبنت بلدي زينب صدقت, ما أجمل الكلمات حين يزينها الصدق فتزداد إشراقا.

    أخي حفيد الأتقياء نزيل الحرمين, إن يكن فينا من خير فإن قوما قدموا علينا يوما من أرضك, فبهم أفصحنا بعد عجمة واهتدينا بعد ضلالة. فبارك الله فيك وفيهم.
    {‏ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} إبراهيم: 41

  10. #10

    افتراضي

    بارك الله في الأخ حفيد والباب مفتوح على مصراعيه للخليط العربي
    ولكن أخشى عليك من ولد أجلاف البادية، وهم- أهل البادية-على فكرة, أحبابي فاتني بهم/// إذا جمعتنا يا سي هشام المقامات

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. ارسال آلهة الملحد الى القمامة
    بواسطة الدكتور قواسمية في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 24
    آخر مشاركة: 03-17-2014, 10:33 PM
  2. تنبيه : قصة اليهودي الذي كان يضع القمامة أمام بيت النبي غير صحيحة
    بواسطة عبد الفتاح الهادي في المنتدى قسم الحوار العام
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 04-13-2013, 12:56 AM
  3. كلما ارتفع سقف الحرية، كلما زادت " القمامة" في الشارع!!
    بواسطة عساف في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 12-04-2010, 07:51 PM
  4. إقامة العدل أم إقامة الشعائر
    بواسطة tornado في المنتدى قسم السنة وعلومها
    مشاركات: 12
    آخر مشاركة: 10-15-2010, 12:20 PM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء