--------------------------------------------------------------------------------

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أنّ محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأسأل الله جلّ وعلا أنْ يجعلني وإياك ممّن إذا أعطى شكر وإذا ابتلي صبر وإذا أذنب استغفر فإنّ هذه كما قال إمام الدعوة عنوان السعادة، وأسأله جلّ وعلا لي ولك الثبات على الحق والهدى وأنْ لا يزيغ قلوبنا بعد إذْ هدانا وأنْ يلهمنا ويوفقنا إلى الحق ويمنّ علينا باتباعه والالتزام به وأنْ يوفقنا إلى هدي محمد صلّى الله عليه وسلّم في جميع الأحوال في حالتي الفقر والغنى وفي حالتي الرضا والغضب، وأسأله سبحانه أنْ يصلنا بحبله، وأنْ لا يقطع ذلك بذنوبنا، ثم إنّ هذه الدروس لأجل عدم حضور من كان العادة يحضر في درس كشف الشبهات، نقدم لهذه الدروس بمقدمة في العلم وطلبه كالعادة، لعلها أنْ تكون نافعة إنْ شاء الله.
من المعلوم أنّ العلم قسمان كما يقول طائفة من أهل العلم منهم الشاطبي في أول الموافقات: ((العلم قسمان عُقَدٌ وملَح))، والعقد تعقد القلب مع العلم والملح لابد منها للمسير في طلب العلم واستمرار المرء بِعُقَد العلم يعني بقوي العلم وأصوله ومنهجيته دون مُلَحِهِ قد يجعل المرء يكسل أو يمل لأنّ النفس حُمظة تحتاج إلى أنْ تصقل وتزال بشيء من الملح ولهذا روى ابن عبد البر وروى غيره ابن شهاب الزهري الإمام المعروف كان إذا اعطى الدرس في الحديث وانتهى قال هاتوا من ملحكم هاتوا من أشعاركم هاتوا من أخباركم فيأخذوا: هذا يقص وهذا يقص ويروي هذا ويروي ذاك، فتأنس النفس بما ذكر ويكون لها نشاطًا فيما تستقبل. العلم عقدة هي الأصل هي الغاية ومُلَحُهُ وسيلة لهذه الغاية وسيلة لتقوية الذهن ولتوسيع المعارف؛ فعقد العلم أيضًا قسمان: علوم أصلية وعلوم صناعية أما العلوم الأصلية فهي التفسير والحديث والفقه والتوحيد (العقيدة) ونحو ذلك والعلوم الصناعية هي علوم الآلة، سميت صناعية لأنها كانت اصطلاحية جاءت بعد الأصول مثل مصطلح الحديث وأصول الفقه وأصول التفسير والنحو وعلوم العربية بعامة وأشباه ذلك.
هذه عقد العلم يعني أنّ هذه العلوم الأصلية والصناعية لابد منها لطالب العلم لاستكمال تفقهه في العلم وهناك علوم أُخر يحتاجها لتكميل بناء العلم وهي التي سماها طائفة ملح العلم من مثل قراءة التاريخ والأخبار والأدب والأشعار وتراجم أهل العلم والمناظرات وما أشبه ذلك، فهذه مُلح الاطلاع عليها مفيد لكن من جهلها فلا يضره الجهل بها في العلم، لهذا تجد من العلماء الكبار من قد لا يعرف بعض التراجم المفصلة أو تواريخ الوفيات لأهل العلم أو نحو ذلك، ولا يضيره هذا لأن هذا ليس من العلم الأصلي الذي به يكون المرء طالب علم أو عالمًا ولكن هذا من الملح.
الفرق بين العقد والملح أن العقد لابد لها من رجال يُعَلّمون كيف تُفتح أو كيف تحل هذه العقد؛ لأنها عقدة تحتاج إلى حل، والعقدة مجتمع الشيء لتقويته وتحتاج إلى فكها حتى تعرف مسار الشيء إلى من يساعدك في هذا، والمساعد هم الرجال، هم أهل العلم، وهذا عن طريقين: طريق المشافهة يعني الدروس، أو عن طريق قراءة الكتب، وفتح المغلق منها عن طريق العلماء، ولهذا قال من قال من السلف: ((كان العلم في صدور الرجال))، يعني قبل أنْ يدون الحديث، قبل أن يدون التفسير، قبل أنْ يدون الفقه، كان العلم في صدور الرجال، ((ثم صار في بطون الكتب، وبقيت مفاتيحه بأيدي الرجال))، العلم انتقل من الصدور إلى الكتب، هذا صحيح ولكن المفاتيح بقيت بأيدي الرجال يعني بأيدي أهل العلم، الكتب قوة قريبة لك تراجع، تفتح، تنظر، تبحث، لكن مفتاح فهم كلام أهل العلم لابد أنْ يكون معك عن طريق أهل العلم؛ لأنّ كلام أهل العلم له اصطلاحه، له أصوله... الخ، فلابدّ من أخذه عن مُعَلّم.
اذن. فصارت العقد هذه أصول العلم التي ذكرنا بنوعيها لابد فيها من معلم، وإنْ كان المرء أخذ عن طريق الكتب فلابد أنْ يأخذها عن طريق معلم أو يسأل فيما يشكل منها ولكن لابدّ من معلم يفتح لك وتستفيد منه في ذلك مثل ما ذكرت لك المقولة: ((كان العلم في صدور الرجال ثم انتقل إلى بطون الكتب وبقيت مفاتيحه بأيدي الرجال)).
أمّا العلوم الأُخر أو المُلح ملح العلم فهذه لا تحتاج فيها إلى عالم، تقرؤها ما شئت؛ لأنها علوم غير مقصودة لذاتها إلاّ فيما إذا كان المرء يريد التخصص، يريد أنْ يكون متخصصا في الأدب، في الشعر، في الأخبار، في التاريخ، فهنا يحتاج إلى أنْ يكون أخذه عن معلم؛ لأنّه يصبح في حقه من العلم المقصود لذاته لا المقصود قصد الوسائل.
تكامل شخصية طالب العلم في العلم لابد أنْ يكون فيها هذا وهذا، ولكن أيهما يغلب الآخر؟
هل يغلب عليه اهتمامه بالمُلح بالتراجم بالأخبار بالقصص بالحكايات، بنتف العلم بالكتيبات التي تنشر بالفتاوى إلى آخره؟ أم أنّه يهتم بالعُقَد بأصول العلوم بالعلوم الأصلية والعلوم المساعدة (الصناعية)، ويكون ذاك مكملاً؟ يظهر مما ذكرنا أنّ الصواب في هذا أنّ الوسائل هذه يعني الملح لابد أنْ تؤخذ بِقَدرِها، وبقَدْرِها الملائم لما يكون معه تنشيط النفس في العلم فإنْ كان طالب العلم يعيش بالعلم القوي (العقد) بلا ملح، نفسه ستضعفُ بعد فترة ولا يستأنس بالعلم؛ لأن المُلح هذه كالملح في الطعام، تجعل المرء يقبل على الشيء ويزيد منه؛ لأنّ فيه أنسا وفيها ومعها انشراح النفس فيما يقرأ لأنها توافق الرغبة مثل قراءة التواريخ والتراجم والأشعار والأخبار وما شاكل ذلك.
الذي يحصل ونراه في طائفة من الإخوان الشباب أنّهم يُغَلِّبون المُلح على العلم التأصيلي، ولهذا تجد أنذ بعضهم عنده معلومات واسعة مختلفة لكن ليست مؤصلة، فهذه تكون بسبب غلبة الملح عليه، يعرف تراجم العلماء وأخبارهم وهذا كذا وهذا كذا وحصل منه كذا وفلان وفلان تناظرا وصار بينهما نُفرة، وهذا حكم... في أخبار طويلة... وأشعار وقصص وحكايات لكن أين هو من العلم في نفسه إذا كان قد أصّل نفسه في العلم وصارت هذه مساعدة له فيكون قد سار سيرًا صحيحا ولكن إذا غلبت عليه الملح وترك العقد ترك الأصول ترك العلم، فهذا يكون مهزوزًا يكون عنده الملح مقصودة لذاتها هذا خلاف سنة أهل العلم، سنة أهل العلم أنْ يكون هذا القسم ترويحيا يُنَشِّط المرء بدل أنْ يقضي وقته الذي يرتاح فيه في كيت وكيت، يُقضِّيه مع العلم لكن بشيء تنشط معه النفس وتأنس فيه الروح.
كذلك السعي في أخذ العلم وحفظ المتون والقراءة الجادة بدون ملح هذه تسبب شيئًا من الهز والاهتزاز في نفسية طالب العلم؛ لأنّه لابد أنْ يكون عنده هذا وهذا، وإذا أخذ نفسه بالقوة دون الملح فإنه يكسل بعد فترة، وهذا مجرَّب، وكل طالب للعلم لنفسه مع العلم إقبال وتوسط وإدبار وهذا لابد منه، فإقبالها أنْ يكون نشيطا يجتهد في الحفظ يجتهد في المراجعة يجتهد في البحث بقوة وإقبال ثم يرى من نفسه أنه في فترة أخرى يريد يتنزه، يتنزه بمعنى يخرج يريد أنّه يتصل ما يريد يطلب العلم ما يريد يقرأ... الخ، هذا بسبب عدم توازنه في ما سار فيه، والذي ينبغي لمن أراد العلم وأراد طلبه أنْ يكون متوازنا فيه وأنْ يرعى حقوق النفس والنفس لها حقوق، ((وإنّ لنفسك عليك حقا وإنّ لأهلك عليك حقا وإنّ لربك عليك حقّا فأعطي كلّ ذي حقٍ حقه)).
المهم لطالب العلم أنْ لا ينقطع عن العلم ومن أسباب عدم الانقطاع أنْ يكون متوازنا فيما يطلب، يعني يكون عنده عناية بالملح التي تُنشِّط نفسه يأنس بأخبار وحكايات وطُرَف وهذه تطربه وهذه يستغرب منها وهذا موقف وهذه تقوِّيه أيضا في الكلام وفي سعة الإدراك والاطلاع على ما عند الناس وعند أهل العلم.
لذلك مثلا تجد ابن عبد البر مع مصنفاته العظيمة وهو إمام من الأئمة المشهورين مع مصنفاته العظيمة في شروح الحديث كالتمهيد الذي قال فيه لنفسه:
سمير فؤادي مُذ ثلاثين حِجةً
وصيقل ذهني والمفرِّج عن همي
يقتصد التمهيد هو المفرِّج من همه إذا نظر فيه تفرجت همومه لما يجد فيه من الأنس والإنشراح، تجد أنه صنف (التمهيد) وصنف (الاستذكار) وصنف (الكافي) في الفقه المالكي، وصنف الجامع المعروف، وصنف من جهة أخرى كتاب (بهجة المجالس)، في الأخبار والأشعار... الخ، شبيه (بعيون الأخبار) و(والبيان والتبيين)، و(العقد الفريد) لابن عبد ربه وأشباه هذه الكتب (بهجة المجالس)، كتاب يُكمل هذا، لماذا؟
هل معنى هذا أنّ العالم الكبير يذهب إلى مثل هذا النوع من العلوم لأجل أنّ الوقت عنده لا قيمة له؟
لا، ولكن لأجل توازن نفسه مع العلم ولا يريد أنْ يخرج من العلم إلا إلى العلم، أما أنْ يخرج منه إلى لهوٍ كما يلهو الناس أو إلى فرجةٍ أو إلى حديثٍ أو إلى ما شاكل ذلك أو إلى علمٍ فيه أنس نفسه ويحصل معه المقصود ولا يخرج به عن الكتب وعن العلم فتجدُ أنّ طائفة من العلماء اعتنوا بهذا وعندهم عناية بالملح.
فإذن، عقد العلم وأصوله مهمة وهي الأصل وهي التي تقضى معها الأوقات ولابد لك أيضا من رعاية للملح وحفظ الأخبار والأشعار والأمثال وقصص ذلك وقراءة في شيء من كتب الأدب وقراءة في كتب التاريخ والتراجم... الخ، فهذه تقوي منك الملكة في العلم ويكون معك أيضا نشاط في العلم بسبب ما ذكر.
فإذن نخلص من هذا إلى ضرورة التوازن، والتوازن ليس معناه التساوي لا، يُغَلَّب، يعطي كل ذي حقٍّ حقه، فتعطي أصول العلم حقها تعطي وسائل العلم حقها وتعطي الملح أيضا حقها، وهذا أنت تحكم به على نفسك، إذن طالب العلم يكون له في العلم إقبال وتوسط وإدبار وهذا كما قال عليه الصلاة والسلام: ((إنّ لكل شيء شِرَّة وإنّ لكلّ شرّة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد أفلح وأنجح ومن كانت فترته إلى بدعة فقد خاب وخسر))، يعني أنّه ما من شيء إلا له قوة إقبال شرة وقوةً وعنفوان وشدة، وله فترة ضعف بعد ذلك فمن كان ضعفه بعد ذلك إلى سنة يعني اقتصاد في المرء وسنة ومتابعة فهذا أفلح وأنجح، يعني ما كانت فترة إلى غير الهدى إلى معصية ومن كانت فترته إلى معصية فهذا خاب وخسر، وهذا يجعل طالب العلم ينتبه لنفسيته لا يخسر نفسه لأجل أنه ما أعطاها حقها، وهذا وجدناه من بعض الإخوان وطلبة العلم فإنّهم طلبوا العلم قليلا ثم بعد ذلك كَسُلوا السبب عدم التوازن، الرغبة كانت في الأول قوية لكن أتعب نفسه أتعب نفسه بغير توازن وظن أنه يمكن أنْ يأتيه كلّ شيء جملة مع قوة نفسه لا، النفس تحتاج إلى تدرج، {ولكن كونوا ربانيّين بما كنتم تعلِّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}، الرباني: هو الذي يعلم الناس صغار العلم قبل كباره.
وهذا يحتاج إلى تدرج حتى المرء مع نفسه يحتاج إلى أنْ لا يأتيها جميعا ففي طلب العلم لا تأتي العلم مع كراهيته أو مع التوسط في قبوله، إذا كان لك إقبال فيه فكما قال الشاعر:
إذا هبتْ رياحُك فاغتنمها
فإنّ لكلّ عاصفة سكونُ
إذا وجدت في نفسك نشاطا في العلم أقبل واحفظ، وأكثر من الاطلاع والبحث ثم إذا خفت نفسك مع العلم فدعك في أمور لا تخرجك عن العلم ولكن تظل معه.
هذه الجملة أيضا لها تفصيلات من جهة أنواع ما يسلكه المرء من المُلح وما ينبغي وما لا ينبغي وطلب العلم الجاد وأنه هو الأصل وهو الذي ينبغي للمرء أنْ يحمل نفسه عليه وأنْ يَجدَّ فيه وأنْ يتخلص من الشواغل التي تصرفه عنه.
المسألة الثانية في طلب العلم:
الاهتمام بالبحث وطالب العلم من أسباب حبِّه للعلم وإقباله عليه أنْ يكون متلقيا تارة وباحثا تارة أخرى إذا عاش دائما على التلقي دون أنْ يبحث دون أنْ يطالع يفتش يحرر المسائل يحقق في حديث في مسألة فقهية في تفسير آية يذهب ينظر الصحيح إذا لم يكن مدققا أو باحثا فإنّ نفسه ربما أسنت وربما ضعفت، البحث من أسباب قوة النفس والرغبة في العلم ولهذا نقول لابد لكل طالب علم أنْ يكون معه هذا وهذا يكون معه الاقبال الحفظ وحضور الدروس والمطالعة ومعه أيضا قسم آخر، البحث، والبحث ليس معناه أنه إذا بحث شيئا نشره بحث شيء يعني لأجل أنْ يطبعه ويظهر اسمه على ديباجة الكتب ليس هذا المقصود، بحثه ليقوي نفسه وما من أحدٍ من أهل العلم إلاّ وله بحوث في فترة طلب العلم والشباب لابد له فيها نظر.
وقد نبه على هذا النووي رحمه الله في أوائل كتابه ((المجموع شرح المهذب))، فإنّ في أوائله جملة جيدة من آداب العلم وحملة العلم وما ينبغي في ذلك البحث هذا الذي تكلم عنه ليس معناه تخطئة الناس أو تخطئة أهل العلم؛ لأن الباحث ولو جمع لك كلاما طويلاً من الكتب فإنه يظل باحثا ونظر العالم المحقق يختلف لأنّ هذا يكون إيراده بحسب ما اطلع لكن الذي لم يطلع عليه كيف يعرفه، القواعد العامة كيف يعرفها، الأصول التي تحكم مثل هذه المسائل فتجد أنّ منهم من يبحث بحوثا وربما بعض تلك البحوث طُبع ولكنه خرج بصورة لا يرضى عنها المحققون من أهل العلم لمَ؟
لأنه اقتصر فيه على الجمع جمع كلام أهل العلم في المسائل وليس العلم بالنقل فقط ولكنه نقل واستنباط وفهم وتحليل فهذا مع هذا كما قال عليه الصلاة والسلام: ((رب ناقل فقه غير فقيه، ورب ناقل إلى من هو أفقه منه))، فالناقل قد يكون غير فقيه أصلا، وقد يكون عنده شيء من الفقه ولكن ثم من هو أفقه منه لا يوافقه على ما فقِهَ من هذا العلم.
فإذن إذا بحثت وصار عندك رغبة في البحث والتحرير وتدقيق المسائل في التفسير أو في التوحيد أو في الحديث أو في الفقه، فلا تظننّ أنّ هذا هو نهاية المطاف وأنّ ما وصلت إليه في بحثك هو الراجح وهذه هي المشكلة عند كثير من أساتذة الجامعات أنهم إذا حرروا المسألة ببحثهم فيها ظنوا أنّ هذا هو النهاية فرجحوا والراجح في نفس الأمر أو الصحيح عند المحققين من أهل العلم خلافه.
فلهذا تجد أنّ في أقوال بعضهم شيئا من الغرابة لخروجهم عن أقوال المحققين من أهل العلم، لأنه بحث والكتب موجود فيها كلّ شيء لو أردت أنْ أجمع ما شئت من الأقوال في أي قول ذُهب إليه لوجدت أنّ البحث يمكن معه أنْ تجمع ما شئت.
وهناك قصة طريفة وإنْ كانت غريبة لكن تدلك على ما في طيّ هذا الكلام، كان هناك أحد الباحثين في رسالة للدكتوارة في الأزهر وأورد مذهب المعتزلة في مسألة خلق القرآن وسفهه ونقل نقولا يسيرة في الموضوع فالمناقش للرسالة، وكان أشعريا قال له: إنك أوردت هذين النقلين أو الثلاثة عن شيخ الإسلام وغيره في ردّ هذا القول لكن ما تقول في حجج القوم هم احتجوا بكذا وأورد الدليل الأول واحتجوا بكذا وأورد الدليل الثاني، واحتجوا بكذا ثالث رابع خامس عشرة عشرين إلى نحو الثلاثين من الأدلة التي يستدل بها أهل الاعتزال على خلق القرآن قال: فما ترد عليها، الطالب ما عنده ملكة في هذا الأمر فسكت فكان هناك حضور وأساتذة والطالب طبعا يمثل أنه من أصحاب العقيدة السلفية جاء من هذه البلاد فأحرجَ، قال: رُدَّ على هذا كيف تقول أنّ خلق القرآن قول ضعيف وأنّ هذا قول كذا رد على هذه الأدلة فلما لم يحرِّ جوابا، قال له المناقش: إذن إذا لم تستطع الإجابة عن هذه الإيرادات وهذه الاستدلالات فاسمع جواب أئمة الأشاعرة عليها، فأجابوا عن الأول بكذا، ردُّ في محله، والثاني كذا والثالث كذا... الخ.
نعلم أنّ الأشاعرة نفع الله جلّ وعلا بهم في رد حجج أهل الاعتزال فكانوا من أعظم الرماح في عنق المعتزلة فندوا شبههم وفندوا استدلالاتهم واحدة تلو واحدة.
المقصود من هذا أنّ هذا المناقش أورد هذه الأدلة جميعًا، كلها موجودة فأنت ممكن تورد ما شئت من الأقوال موجودة في الكتب لكن الكلام في فقهها وكيف تصوب الصواب وترد الخطأ.
فإذن من ليس عنده ملكة قوية في العلم فالبحث عنده لا يؤهله أنْ ينشر بحثه ولا أنْ يجيزه عند نفسه، ولو كان مكث فيه كذا وكذا وجمع من النقول في المسألة إلى آخره؛ لأنّه ثمَّ أشياء تفوته مثل هذا الطالب أورد عليه طيب هذه نقول كثيرة ردَّ عليها؟ ما استطاع أنْ يرد؛ فهكذا الذي يقرأ في الكتب قد يجد أقوالا هي ضد المذهب الصحيح أو ضد القول الصحيح ما يستطيع أنْ يحللها ولا أن يرد عليها لضعفه، فإذن البحث وسيلة لتقوية ملكة طالب العلم في العلم وليس البحث غاية في أنْ ينشر طالب العلم بحثه وأنْ يطبعه للناس وأنْ يُنشر إلاّ إذا أجازه عدد من أهل العلم ولا غرابة فالإمام مسلم صاحب الصحيح مسلم بن الحجاج النيسابوري القشيري من أنفسهم رحمه الله لما صنف كتاب الصحيح، عرضه على مشايخ بلده فوافقوه واعترضوا عليه في بعض الأحاديث وما مكنه العمر أنْ يتم كتابه على نحو ما أراد بل وافته المنية كما هو معلوم قبل أنْ يحرر الكتاب كما يريد هو محرر في نفسه لكن كما يريد.
ولهذا وقع بالإجازة في مواضع بدون قراءة وهو الكتاب الوحيد من كتب أهل الحديث الذي فيه مواضع لم ينقلها أحد من أهل العلم ألبتة بالسماع عن مصنفه قطع رواها الراوي عن مسلم وهو ابن سفيان المعروف رواها بالإجازة قطع كبيرة منه ثلاث قطع متفرقة إنما رواها بالإجازة بلا سماع ما قرأها على مسلم ولا هو أيضا عرضها عليه وإنما أجازها له لأنه ما اكتمل.
المقصود من هذا أنّ الإمام مسلم عرضه على مشايخ عصره فأقروا له وسلموا فنشر فلابد من العرض والعرض ليس معناه أنْ تعرض للبركة أو أنْ تعرض لتأخذ القبول لا، تعرض فإذا قيل لك: لا يصلح، فقل: هذا ما أردتُ، إذا قيل لك: هذا وهذا وهذا غيّره والغه، فتقول: هذا ما أردتُ، يعني أن تستفيد وهذا الذي ينبغي في مسألة البحوث لكن الأصل أنّ طالب العلم يبحث لا للنشر يبحث لنفسه فنفسية البحث هذه مهمة لأنّها تقوي طالب العلم ولابد أنْ يكون عندك دفتر تحقق فيه مسألة في التفسير، تجمع أقوال المفسرين والصحيح فيها تشوف كلام السلف وما يدور حول ذلك، مسألة فقهية، فتوى سمعت فتوى غريبة من أهل العلم تريد أنْ تنظر إلى اختلاف أهل العلم فيها فتبحث في ذلك حتى يستقيم العود في طلب العلم.
المسألة الثالثة والأخيرة نختم بها هذه الكلمات:
أنّ طلب العلم يحتاج إلى نفسية خاصة يعني أنْ يكون طالب العلم دائما يتجدد مع نفسه في حبه للعلم وهذا لا يكون إلاّ بشيء وهو كثرة الاتصال بأهل العلم وسماع كلامهم والحرص على لقائهم وعدم تهجين أقوالهم لأنّ الذي يعترض على أهل العلم يُحرم وهذا كثير، وشاهدنا منه أشياء، فطالب العلم ينبغي له لاستكمال جوانب نفسه، أنْ يكون كثير الاتصال بأهل العلم لأنّ رؤية طالب العلم ونظره في الأشياء وتحليله للعلوم وتعامله مع العلم وتعامله مع الكتب وتعامله مع أهل العلم وأقوال أهل العلم ويعرضُ عليه مسائل ويسمع أراءه ويرى تصرفاته هذه تقيد طالب العلم في كثرة إدمانه عليه وإقباله عليه وفي ملازمة الصلة بأهل العلم، البعيد عن أهل العلم إذا انقطع عن نفسه، لكن الذي له صلة بأهل العلم إذا انقطع سألوا عنه وين راح؟! وش تغير في الأمر؟! ولماذا تركتَ؟! والذي حصل؟ فتكون صلته بهم مدعاة للمواصلة في طلب العلم، لكن لا يكون في اتصاله بهم ينظر نظر المعترض لأنه إذا كان ينظر نظر المعترض معناه أنه لن يستفيد منهم ولن يقبل، بل لابد أنْ ينظر ويصحب على الاستفادة لا المجادلة وكن حريصًا عن أنْ تسمع في مجالس أهل العلم أكثر بل أكثر وأكثر من أنْ تتكلم تسمع وتسمع وتُجمّع، تجمع في ذهنك تجمع أخبار وتجمع الفتاوى وتجمع الأراء وتجمع التحليلات والأقوال وما شابه ذلك حتى يكون لك بذلك إنْ شاء الله فرصة لأخذ العلم كما ينبغي، نكتفي بهذا القدر ونجيب على بعض الأسئلة في هذا.

أسئلة والجواب عليها
س1/ يقول بعض العلماء: ((لا تأخذ القرآن من مُصحفي ولا العلم من صَحَفي)) فما هو ضابط العلم هذا؟ وهل القراءة في كتب الفقه والتفسير والتوحيد الميسرة من ذلك ((حاشية كتاب التوحيد)) ((والقول المفيد))، و((الشرح الممتع)) و((تفسير ابن سعدي))، ((وابن كثير)) و((زاد المعاد))، ونحوها من الكتب الميسرة وما هي التي لا بد لها من شيخ ومعلم؟
الجواب: لا تأخذ القرآن من مُصحَفي يعني ممن حفظ القرآن وقرأه من المصحف ما قرأه على شيخ لا تأخذ منه القرآن لأنّه يكون ولابد يفوته بعض الأشياء إما في الضبط أو في آداب التلاوة، أو في التجويد أو في الوقف أو نحو ذلك مما يتميز به القارئ عن غيره، سابقا قبل أنْ يكون هناك شكل للمصحف يعني شكل تام بالحركات في وقت مقولة هذه الكلمة كانت المصاحف بلا شكل بنقطٍ ولكن لم تكن مشكولة فكان يحصل فيها خلل وتصحيف حتى نسب لبعض الكبار من المشهورين تصحيفات في ذلك مثل ما يروى عن ابن أبي شيبة عثمان ومثل ما يروى عن غيره من تصحيفات في التلاوة بل قد ذكرَ لي بعض الثقات أنّ أحد الأساتذة في جامعة من الجامعات غير الشرعية كان يدرس مادة ثقافةأو شيء من هذا فأتى وهو يقرأ بسرعة، يملي عليهم أو عنده أوراقه التي يطالع فيها، قال: وقال تعالى: ((وإذ نتفنا الحبل فوقهم)) نقل لي الثقة هذا وكان حاضرا، يقول: فقلنا له: يا شيخ الآية في سورة الآعراف: {وإذْ نتقنا الجبلَ فوقهم كأنه ظلة} مااستسلم هو للحق، قال: لا. لا. فيها قراءات: ((وإذ نتفنا الحبل فوقهم)) فيها قراءات!! هذا من الاستهانة بالعلم... طيب تعلم هذا أو تخلصا؟ إنْ كان تخلصا هذا والعياذ بالله تتخلص أنت من التبعة، وتنسب شيء لـ... يعني عدم احترام للعلم... الخ المقصود هذا من جهة الصَحَفي من جهة أنه يقرأ وهو ما يعرف، مرة أيضا واحد في مكتبة أنا سمعته لا بل سمعه غيري وهو الذي حدثني بها يقول يسأل وهو جاء من غير هذه البلاد وهو ما يعرف القرآن وعنده ولد عليه سورة الظاهر يحفظها قال السورة... السورة... هو عنده منهجه يبدأ من سورة الهَمْزة... الخ، وهي سورة الهُمزَة... يبدأ من سورة الهَمْزَة... الخ!!
فمثل هذا هو الذي قيل في هذه الكلمة لا تأخذ القرآن من مُصحفي لأنه يدرس بالباطل وبالغلط.
((ولا العلم من صحَفي)) وهي اصح من صُحُفي لأنّ النسبة للجمع لابد من إعادتها للمفرد، القاعدة في النسبة في النحو عند البصريين أنّ النسبة تكون للمفرد مثلا ستنسب للدول لا تقول دُوَلي وإنما تنسب إليه بالمفرد دَوْلَة، ترجع الجمع إلى مفرده ثم تنسب إليه فتكون النسبة دَوْلي ستنسب للصُحف لابد أنْ ترجعها إلى مفردها صحيفة فتنسب إليها صَحَفي.
في المدينة مدني وهذه هي القاعدة إلاّ في ما شذّ لأجل وقوع الالتباس مثل النسبة للمدائن -المدائن المعروفة- بالمدائني، وأشباه ذلك لأجل أنه لو أرجعت إلى أصلها مدينة ونسب إليها مدني لوقع الالتباس بين المدني نسبة إلى المدائن والمدني الذي هو نسبة إلى المدينة في بحث معروف في النحو.
المقصود أنّ صحتها صَحَفي بفتحتين وليس صُحُفي مثل ما هو شائع في الأخبار وفي بعض الجرائد إلى آخره.
((لا تأخذ العلم من صَحَفي))، يعني ممن قرأ في الكتب دون أشياخ لأنه سيرجح من عند نفسه سيرجح بناءً على ما قرأه والعلم لا يؤخذ هكذا العلم منه شيء للترجيح ومنه شيء للبحث الأقوال كثيرة وتنوع الأقوال وما أورده أهل العلم في شروحهم هذا طويل لكن منه شيء للإطلاع منه شيء لمعرفة ما قيل في المسألة للنظر لعله يكون له شواهد له قوة... الخ.
فمن كان علمه من الصُحُف فإنه لا يكون على الجادة السوية بل لابد أنْ تجد عنده شواذ وعنده أغلاط يخالف بها أهل العلم، ولهذا عابوا على ابن حزم مثلا أشياء في مسائل الحجد، وهِم فيها وانتقدها ابن القيم في زاد المعاد وعقد لها فصلا طويلا، أغاليط ابن حزم في الحج لأنه ما حج أصلا، ولا تلقى كتاب الحج عن أحد من أهل العلم، وكذلك ابن القطان الفاسي العالم المشهور صاحب كتاب ((بيان الوهم والإيهام)) انتقده الذهبي وغيره بأنه لم يأخذ علم الرجال ولا علم الحديث عن المشايخ عن العلماء، لهذا وقع في أوهام وفي أشياء تفرد بها كثيرة ولهذا سلسلة العلم إذا اتصلت يكون الاجتهاد واقع في أصوله ما يكون بعيد، والذين خرجوا بأقوال شاذة في الأمة أو أقوال غريبة خالفوا بها قول المحققين من أهل العلم أو الجمهور لابد أنْ يكون فيهم هذا المَنْزَع أنهم فاتهم الأخذ عن الأشياخ في ذلك وهناك أمثلة في التاريخ كثيرة المرء يحرص على أنْ يستفيد من أهل العلم لأجل أنْ يكون طلبه للعلم على أصوله أما من أخذ من الصحف دون الأشياخ فإنّ هذا يكون عنده نقص إذا حصل أنه أخذ عن الأشياخ في أصول العلوم ثم توسع بالقراءة في الكتب فلا عيب، هذا سنة كثير من أهل العلم بل الأكثر من أهل العلم أنهم لا يظَلون أعمارهم يقرأون على المشايخ بل جملة من عمره يقرأ فإذا حصل الأصول وشهد له بذلك واستشار شيخه ممكن أنه بعد ذلك يترك القراءة للمشايخ ويأخذ يقرأ لوجود الأصول عنده الأصول في التوحيد والأصول في التفسير الأصول في الحديث وفي الفقه... الخ، يعني الأشياء التي يربط بها العلم وكما ذكرتُ لك في أول الكلام:
((كان العلم في صدور الرجال ثم انتقل إلى بطون الكتب ولكن بقيت مفاتيحه بأيدي الرجال)).
س2/ لو تكلمت أحسن الله إليك عن المراجعة والمذاكرة بين طلبة العلم؟
الجواب: هذا مهمة لا شك أنْ يكون لطالب العلم صديق في مثل همته يكون بينه وبينه مراجعة في العلم يحفظ ويُسمِّع عليه ويتراجعان وإذا ضبط مسألة أو شرح حديث تناقشا فيه أو ضبطا باب فقه تناقشا فيه هذا يورد إشكال وهذا يورد وهذا يشرح شيء منه وهذا يشرح شيء منه كما كان العلماء السالفون بتذاكرون العلم المحفوظ والمفهوم.
ولما قدم أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازي المعروف الإمام قرين أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي، لما قدم بغداد في مدة مُكْثه في بغداد لم يصلي الإمام أحمد نافلة كان يقتصر على الفرائض فقيل له في ذلك، فقال: ((استعضنا عن النوافل بمذاكرة أبي زرعة))، فمذاكرة العلم تقوي العلم وتثبته، ويكون معها قوة في الإدراك والفهم والحفظ... الخ.
لكن بشرط أنْ يكون الذي تذاكر معه في نفس مستواك كي يفهم مثل ما تفهم وتشترك أنت وإياه في حفظ ما تحفظون متدرجًا، كذلك في الحضور على العلماء،
أسأل الله جلّ وعلا لي ولكم التوفيق والسداد؛ وصلّ اللهم وسلّم على نبينا محمد.

صالح بن عبد العزيز آل الشيخ