الكذب في تعريفه المشهور =الإخبار بخلاف الواقع ,وهذا الإخبار قد يكون عن معرفة بالواقع أو لا ,أما الأول فأمره واضح , والثاني هو الخطأ ..هذا الخطأ حتى لو لم يعمد إليه صاحبه عن قصدٍ لمخالفة الواقع ,فإنه لا يخلو من المؤاخذة بحسب تقصيره في استكمال أدوات التحري في تحقيق مطابقة الخبر للحقيقة الواقعة ,ومن هنا جرّمت الشريعة من يفتي بغير علم لأن خلوَّه من العلم المؤهِل له بأن يقول كلامًا ياتفق مع الحق ,يجعل شروعه في الحديث على هذه الصفة تجويزا منه خفيا أن يقول الكذب, لكون كلامه عُرضة لأن يكون باطلا مع علمه بجهله , فيكون حينئذ كاذبًا من وجهين :
-أنه وضع نفسه في موضع ليست له بأهل ,فصور للناس أنه قادر على الإدلاء في الأمر وليس كذلك..وهذا الكذب العملي
-وأنه يعلم بجواز أن يكون كلامه باطلا , فأقدم على الكلام غير مبالٍ ,فصار في حكم الكاذب لجراءته على القول بما يعلم أنه قد يكون كذبا..في السنن من حديث بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (القضاة ثلاثة ، اثنان في النار وواحد في الجنة : رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة ، ورجل قضى بين الناس بالجهل فهو في النار ، ورجل عرف الحق فجار فهو في النار) ,كما جرّمت الشريعة كتمان الحق -وليس غير كفٍّ عن البيان-, لأن حقيقته الامتناع عن قول الصدق فيما يجب قوله فكان السكوت عنه في هذا الموضع إقرارا بضده وهو الكذب وتقريرا له "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون " وكل ذلك مما يوافق العقل فيه النقلَ بجلاء.
فإذا خرج من يصدر في كلامه عن جهل ,فقيل له ممن هو أعلم منه :إن عليك أن تدرس كذا وكذا لتعيَ ما أشكل عليك ,فبقي في الجدال على ذات المنوال غيرَ مكترثٍ بنصح العليم الذي فوقه ,كان هذا من الكذب العملي على نفسه لأنه سلك سبيلا يعرف أنها مغايرة لحقيقته فانبعث في معالجته للمسائل العلمية على وفق ثوب الزور الذي لبسه وقنع به, فيصدق عليه أنه غش نفسه وكذب عليها حين تشبع بما لم يعط, وهذا إذا كان عيبا مذموما في أي علم , فإنه في مسائل العقيدة والإيمان والمصير: جريمة كبرى ..!
ولو أن المرء جال في مصادر الشريعة يستخرج منها مواطن التشديد على استقباح الكذب والحط على أهله لخرج من ذلك بسفر ضخم ينوء بحمله ,وهذا يدلك على أن الشارع قصد إلى الحفاظ على الحقيقة مسلّمة من أيّ خدش ,وإذا أنت تأملت في الباعث على الكذب تجد جِماعَه في الهوى ..وحقيقة الهوى:الانتصار لحظوظ النفس وما تلذّ به
فإذا هوي الإنسان أن يمدحه الناس لأجل أن يكون مرموقا ولم يعد على نفسه بتطهيرها من هذا الداعي ,كان كالمربوط بخطام فهو أسير هواه,وحيثما جابه هواه عقبة في طريقه التف من حولها ,ولا يلبث بعد تتابع مظاهر الكذب على تصرفاته أن يقع في تصديق هذا الكذب وربما تحول إلى مسلّمة في عقله "اللاشعوري", لتواترحصول المشاكلة الوهمية بين الهوى القلبي والمظهر القالبي
في حديث عبدالله بن عمرو في صحيح مسلم عن النبي : (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر)..عند التدبر في هذه الأربع تجد مدارها على الكذب ,فالخائن مثلا ,حُمّل أمانة فنوى النكوص عن الوفاء بها, فهذا كذب لمخالفته ما تعهد به ..وكذلك الفجور في الخصومة وهو أن يبهت خصمه بما ليس فيه أو يشبعه شتما لايستحقه ليتوصل بذلك إلى الزراية به ودحض قوله
فمن نظر في مسائل الأصول خاصة ,متجردا عن الهوى -وآية ذلك: أن يخمد ثورة حظوظه الذاتية-, وكان على نفْسه الدنيا رقيبًا, بنفْسٍ عُليا كأنما انفصم إلى شخصين ,شخص ينظر من علوٍ إلى ميل نفسه الدنيا ويرقب حيث تميل مع هواها -بكل ما يدخل في الهوى من معنى- ( وكان كمن تعنّى داء عضالا فقال له الأطباء إن الشفاء في هذا الدواء بإذن الله ,فلست واجدا مثله يصنع دواء كاذبا يتحساه بل يسعى بكل ما أوتي ليتحصل عليه مهما غلا ثمنه) وكلما وجد منها جنوحا كبحها ,وأخذ بزمامها نحو الجادة يجرها إليها = فإنه بالغٌ طلِبته لا محالة ولا يلزمه أن يكون ذا قدرة ذهنية خاصة,بل يستوي في ذلك الغبي والذكي,والجاهل والعالم , ومن تدبر في أحوال من يدخل الإسلام كل يوم يدرك هذا القانون المطرد بأجلى ما يكون .."فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم" ,"أرايت من اتخذ إلهه هواه أفانت تكون عليه وكيلا "
Bookmarks