لم تكن النزعة الدينية حدثاً عارضاً على صفحات التاريخ والحضارة والمجتمع، إن أي دين إلا وتميز بالإيمان والشعور المتضخم بالقوة والأهمية والرغبة العارمة في التضحية وانتظار حياة أخرى بعد الموت، هذه المشاعر أبعد ما تكون عن نطاق المصلحة والمادية، وقد بقيت مُرافقة للإنسان البدائي، كما رافقت الإنسان المُتمدن.

غير أن التحول الإبستمولوجي الذي شهده العالم الغربي ما بين القرن 18م إلى بداية القرن 20م، ساهم في ظهور تفسير مادي اختزالي للكون أقصى البُعد الروحي من الوجود، وكان مُستندهم في ذلك اعتبار الطبيعة مرجعا للإنسان وتحويل القبلة من الإيمان بالله الحكيم إلى الإيمان بالمادة الصماء، وبعد أن رأوا ما وصل إليه العالم الغربي من تقدم صناعي واقتصادي زعموا أن العصور الفائتة أكثر تخلفا مُقارنة بالعصر الحديث، فبدأت النظرة المادية التطورية تتغلغل، وبدأ اعتمادها في شتى المجالات ليشمل علم النفس وعلم الاجتماع وباقي العلوم.

ولم يسلم الدين من تفسير مادي تطوري لنشوئه، إذ زعم مجموعة من المفكرين والفلاسفة أن أول تصور ديني هو التصور الوثني البدائي، حيث تم فيه تقديس الأبطال والزعماء وبعض الموجودات كالشمس والكواكب والسماء وبعض المظاهر الطبيعية كالرعد والزلازل... وتطورت هذه العلاقة من القداسة إلى العبادة، ثم ارتفعت هذه المعبودات من الأرض إلى السماء.

غير أن تحقيق المسألة ووضعها موضعاً للنقد يُظهر بجلاء أن هذا التفسير المُختزل للنزعة الدينية تفسير خاطئ، وأن الإنسان كائن مُتدين بالفطرة.

أصل النزاع:

انطلقت كل التفسيرات المادية لظهور النزعة الدينية من مُقدمة رئيسة تزعم إنكار وجود الإله وتُعطي المرجعة للمادة[1]. غير أن هذا الإنكار لم يقم أبداً على دليل. يقول برتراند راسل: "لا يوجد دليل على وجود إله أو عدم وجوده غير أنني على يقين من أنه غير موجود"، فـ"راسُل" ليس عنده أدلة على وجود الإله، وكذلك ليس عنده أدلة على عدم وجوده، غير أنه على يقين أن الله غير موجود، هذا التناقض المنهجي ظل مُرافقا للفكر الإلحادي، ولن أكون مُبالغا إن قُلت أنه رافق الإلحاد منذ ظهوره على الأرض إلى يومنا هذا، فالإلحاد لم يستطع ولو مرة واحدة أن يُقدم دليلا على عدم وجود الله تعالى ورغم ذلك وُجد ملاحدة يزعمون ذلك، وبرتراند راسل عجز عن إعطاء دليل على إلحاده، لكنه رغم ذلك مُتيقن من أن الله غير موجود، فإن سأله سائل، ما هو دليلك على الإلحاد؟ فسيُجيب لأني مُتيقن أن الله غير موجود، فإن سُئل مرة ثانية: وما دليل تيقنك؟ فهل تراه سيُجيب، وهل يا تُرى يستطيع مُلحد على البسيطة أن يستدرك على برتراند راسل ويُخرج الإلحاد من هذا المأزق الصعب؟

وأما في ما يخص الاعتراضات التي وُجهت للعقيدة الدينية فجُلها كانت اعتراضات على الدين المسيحي واللاهوت الكنسي.

وهكذا يتبيّن أن المُقدمة التي اعتمدوها ظنية لا ترقى إلى درجة اليقين، وأي نتيجة بُنيت على جرف هار فسيكون مصيرها السقوط والانهيار.

ولحسم هذا النزاع من موطنه، يكفي إثبات وجود الله عزوجل، وبما أن الله واجب الوجود (دل على ذلك دليل السببية وبُطلان تسلسل العلل إلى ما لانهاية) فإن الدين باقٍ ما بقي الإنسان، ذلك أن الدين كما يقول د. محمد عبدالله دراز "اعتقاد بوجود ذات علوية (...) لها تصرف وتدبير للشئون التي تعني الإنسان، اعتقاداً من شأنه أن يبعث على مناجاة تلك الذات السامية في رغبة ورهبة، وفي خضوع وتمجيد"[2]، فيكون إذاً الدين صلةً بين الإله والإنسان، تتميز بالاستمرارية والدوام، ولا تنقطع إلا بزوال أحد الطرفين. وحيث أن الفكر الإلحادي المادي لم يستطع ولن يستطيع إثبات زوال أحد الطرفين، فسيظل الدين قائماً، والقول بأن المستقبل للدين لن يكون مبنياً على التكهن والتنجيم والرجم بالغيب بل مبني على أدلة عقلية ومنطقية متينة.

وهنا وبعد أن لم يستطع فلاسفة المذهب المادي إثبات دعواهم، عمدوا إلى التشكيك في هذه الحقيقة، مُدعين أن العلم ماض في إثبات هذا الزعم، وسأكتفي في هذا المقام بإيراد ومُناقشة أهم ما يستندون عليه من نظريات كأسس فلسفية للقول بأن الفكر الديني يسير نحو الفناء.

نظرية أوغست كونت "الأدوار الثلاثة"

يزعم أوغست كونت - 1798) 1857) في نظريته عن التطور المعرفي أن العقلية الإنسانية قد مرت بأدوار ثلاثة، دور الفلسفة الدينية ثم دور الفلسفة التجريدية، ويليه كخاتمة للأدور دور الفلسفة الواقعية، وهذا الدور الثالث في نظره هو آخر الأطوار وأسماها.

فما مدى مصداقية هذا القانون؟ وهل يُمكن أن يستوعب التاريخ الإنساني كله؟

لقد تبلورت نظرية كونت في مُناخ مُعجب بالعلم إلى حد التأليه، ورغم الثورة العلمية ظلت الأدوات المعرفية قاصرة على سبر أسرار الكون، فخرجت علينا بنتائج علمية ونظريات جديدة تميزت بطابع اختزالي سطحي، أغلبها يتجه حثيثاً نحو نُصرة المذهب المادي، ولم تكن نظرية كونت بدعاً عن هذا الاتجاه العام، حيث خلص به الأمر إلى تقديم رؤية اختزالية سطحية للتاريخ، تقوم على وجود قانون تطوري ميكانيكي يسير بالإنسانية نحو اتجاه مادي إلحادي.

ووجدتْ هذه النظرية من يُدافع عنها مع أنها من تراث القرن الثامن عشر الذي يعتمد على العلم التجريبي القائم على مفاهيم الملاحظة بمدلولها الحسي. بالرغم من أن القرن العشرين شهد ثورة فكرية وانقلاباً إيبستمولوجياً أصبحت فيها المفاهيم والنظريات القديمة مُصنفة ضمن خانة التراث الكلاسيكي المُتجاوز.

والسؤال الذي لم يُجب عنه إلى الآن، هل تحقق حلم أوجست كونت بانتقال البشرية إلى المرحلة الوضعية، وطيها لصفحات المرحلتين السابقيتن، المرحلة الدينية والمرحلة التجريدية الميتافيزيقية؟ وهل النزعة الدينية، نزعة قابلة للتجاوز؟

هذه النظرية لا تستند إلى أي دليل كما ذكر د.محمد عبدالله دراز[3]، فنقطة الخطأ في هذا المذهب التطوري تكمن في أن أنصاره جعلوا منه قانوناً يستوعب التاريخ كله في شرط واحد قطعتْ الإنسانية ثُلثيه، وهي دعوى غير سليمة، لا لإنها مُجردة عن البرهان فحسب، بل لأنها تُحَرف التاريخ، وتصادم العيان، إذْ إن المؤمنين بالروحانيات وُجدوا جنباً إلى جنبٍ مع المؤمنين بالمادة، بل إن الأبحاث التاريخية، سواء في تاريخ الحضارات البشرية أو تاريخ الأديان، أجمعت على أن الاعتقاد الديني والوجود الإنساني لصيقان ببعضهما البعض، يقول ماكس نوردوه عن الشعور الديني: "هذا الإحساس أصيلٌ يجده الإنسان اللاديني، كما يجده أعلى الناس تفكيراً، وأعظمهم حدساً وستبقى الديانات ما بقيت الإنسانية، وستتطور بتطورها، وستتجاوب دائماً مع درجة الثقافة العقلية التي تبلغها الجماعة"[4]

والواقع أن الحالات الثلاث التي يصورها "كُونت" لا تمثل أدواراً تاريخية متعاقبة، بل تصور نزعات وتيارات متعاصرة في كل الشعوب، وأحياناً مُتجاورة في نفس كل فرد، بل إن التفسير المادي للكون يمثل مرحلة الطفولة النفسية لا مرحلة النضج والكمال، ذلك أن مبعثها الحاجة العاجلة وضرورة الحياة اليومية، وبأنها وظيفة الحس لا العقل (وبأنها أيضاً من معدن القابلية والانفعال لا من معدن الفاعلية والإنشاء)، أما نظرة التعليل بالمعاني فهي تدل على مرحلة النُضج الفكري واستيقاظ ملكتي التجريد والتعميم في التصورات والأحكام. أما النظرة الروحية الدينية فهي أسمى مراحل النُضج ذلك أنها تتعدى أفق الكون لتبحث عن علته ومنشئه. "وهكذا يُقلب الترتيب الذي تخيله "كونت" رأساً على عقب، لتعود الحاجات النفسية الثلاثة إلى أوضاعها الطبيعية والمعقولة: حاجة الحس فحاجة العقل فحاجة الروح"[5].

يُضاف إلى كل هذا أن النزعة الدينية ليست نقصاً أو جهلا في فهم الطبيعة، حتى يتم تخطيها بمرحلة جديدة من الفهم الأكثر وضوحاً، والأسئلة التي تُولدها النزعة الدينية والفلسفية على حد سواء لا يُمكن تجاوزها بالأسئلة التي يوردها الفهم الوضعي، فالعلم يسأل عن الكيف، والجواب عليه لا يُمكن بأي حال من الأحوال أن يكون جواباً أو محل جواب عن السؤال الغائي الذي يُولده الدين، فالإجابة العلمية عن السؤال الوجودي "كيف وُجد الكون؟" لن تسد حاجةَ الفهم الأنطلوجي "لماذا وُجد الكون؟" ذلك أن الأولى تبحث في الظاهرة وعلاقة أجزائها ببعضعا البعض، بينما الثانية تبحث في الغاية والقصد، وأسئلة أصل الوجود رافقت الإنسان في جميع مراحل حياته، فـ "لماذا وُجد الكون؟" و "لماذا وُجدتْ؟" سؤال يطرحه الفيلسوف كما يطرحه الطفل الصغير، يطرحه العالم وكذا الجاهل، وهذا دليل على تجدر البُعد الديني الغائي عند الإنسان.

إن الإنسان لا يكتفي بالبحث عن العلاقة السببية بين الظواهر الطبيعية، بل يغوص إلى ما هو أبعد من ذلك ليبحث عن السبب الأول، فيُقرر بموجب قانون السببية أن المُمكنات تحتاج لوجودها إلى وجود سبب ضروري الوجود يكون هو سبب الأسباب، وبمُوجب قانون الغائية يصل إلى أن كل نظام لا يمكن أن يحدث من غير قصد، وأن كل قصد لابد أن يهدف إلى غاية، وأن هذه الغاية إذا لم تحقق إلا مطلبا جزئيا إضافيا منقطعا، تشوفت النفس من ورائها إلى غاية أخرى، حتى تنتهي إلى غاية كلية ثابتة هي غاية الغايات. وبالتالي فإنه لابد لتفسير هذا الكون وفهمه وتعقل وجوده من إثبات موجد له، يحمل في نفسه سبب وجوده وبقائه، بحيث يكون هو الأول الحقيقي الذي ليس قبله شيء، والغاية الحقيقية التي ليس بعدها شيء، وإلا لبقي كل الكون في طي الكتمان والعدم[6].

إن فطرة التطلع وكشف أسرار الكون والبحث عن السبب الأول هي مبدأ العلم والإيمان معاً، وقد "اعترف أنشتاين أنَّ العلم أعرج من دون دين، كما ربط بلانك العلم بالدين قائلا: يظهر الله عند المتدينين في بداية تفكيرهم، أما عند العلماء فيظهر في نهاية تفكيرهم"[7] وحينما يستجمع العقل طاقاته ليخلص إلى وجود خالق للكون أزلي فإنه هاهنا يبلغ أرقى الدرجات، فهذا الشوق الفطري إلى الأزلي الأبدي، وهذا الطلب الحثيث للكلي اللانهائي، له دلالتان عميقتان: إحداهما دلالته على مطلوبه كدلالة الأثر على صانعه، وثانيهما دلالته على أن في الإنسان عنصراً نبيلاً سماوياً خُلق للبقاء والخلود، وإن تناساه الإنسان وتلهى عنه حيناً، قانعاً بالدّون من الحياة الجثمانية المتحطمة. فالتدين إذاً –كما يقول د.دراز- عنصر ضروري لتكميل القوة النظرية في الإنسان، فبه وحده يجد العقل ما يشبع نهمته، ومن دونه لا يحقق مطامحه العليا.

شهادة العلماء والفلاسفة

هناك مقولة شهيرة منسوبة إلى المؤرخ الإغريقي بلوتارك تدل على أهمية الاعتقاد والدين بالنسبة للإنسان على مر التاريخ، تقول :"لقد وجدت في التاريخ مدن بلا حصون، ومدن بلا قصور، ومدن بلا مدارس، ولكن لم توجد أبدا مدن بلا معابد"، ويقول أرنست رينان في تاريخ الأديان: "إن من الممكن أن يضمحل كل شيء نحبه، وأن تبطل حرية استعمال العقل والعلم والصناعة، ولكن يستحيل أن ينمحي التدين، بل سيبقى حجة ناطقة على بطلان المذهب المادي، الذي يريد أن يحصر الفكر الإنساني في المضايق الدنيئة للحياة الأرضية"[8]، يقول سالمون أريناك: "ليس أمام الديانات مستقبل غير محدود فحسب، بل لنا أن نكون على يقين من أنه سيبقى شيء منها أبداً"[9]، ويقول د محمد عبدالله دراز في كتابه الدين: "ولسنا نُنكر أن تكون هناك عقيدة معينة قد استحدثت في عصر ما، أو أن يكون ثمة وضع خاص من أوضاع العبادات قد جاء مُجاوباً مصنوعاً... أما فكرة التدين في جوهرها فليس هناك دليلٌ واحد على أنها تأخرت عن نشأة الإنسان"[10]، ويقول مُعجم لاروس: "إن الاهتمام بالمعنى الإلهي وبما فوق الطبيعة هو إحدى النزعات العالمية الخالدة للإنسانية"، ويقول أيضا: "إن هذه الغريزة الدينية لا تختفي بل لا تضعف ولا تذبل، إلا في فترات الإسراف في الحضارة وعند عدد قليل جداً من الأفراد"[11] ويقول هنري برجسون: "لقد وُجدت جماعات إنسانية من غير علوم وفنون وفلسفات، ولكنه لم توجد قط جماعة بغير ديانة"[12]، وأختم بمقولة لمراد هوفمان: "لا يوجد بلد في العالم اختفى منه الدين"[13]، ويقول أيضا "إن كمية التدين الإجمالية ثابتة دائماً، إنما تتغير في الشكل فقط"[14]

________________________

[1] اعتبار المادة مُطلق ومرجع يعني أن القانون السائد هو قانون البقاء للأقوى، وكلما احتدم هذا الصراع الحتمي واللانهائي ظهر جنس أقوى من الذي قبله، وهذا هو لبُ النظرة التطورية التي ذاعت لتشمل جل المجالات المعرفية، فتم الاعتقاد –اعتماداً على الظن- أن القديم مُتخلف عن الجديد فنبذ التراث باعتباره قديما وتم تعويضه بالحداثة، والآن نسمع بما بعد الحداثة، حيث تحولت الحداثة إلى تُراث وجب تجاوزه بناء على النظرة التطورية المادية للتاريخ، ويبقى أصل النزاع في هذه المسألة اثبات وجود الله تعالى، فالمذهب المادي عجز عن إكمال بنائه المعرفي بعجزه عن إعطاء الأدلة على عدم وجود الله تعالى، ويبقى كافيا لهد بُنيان المذهب المادي من قواعده أن نُعطي دليلا واحد على وجود الخالق سُبحانه.

[2] الدين – محمد عبد الله دراز – ص 85 بتصرف

[3] يُنظر الدين - محمد عبد الله دراز – ص 131-133

[4] Max nordau, Reponse au Mercure de France, paris 1908

الدين – محمد عبد الله دراز – ص 134

[5] الدين – محمد عبد الله دراز – ص 134

[6] يُنظر الدين – محمد عبدالله دراز ص 161-162 بتصرف

[7] مستقبل الإسلام في الغرب والشرق – مراد هوفمان، عبد المجيد الشرفي – ص 129

[8] الدين – محمد عبد الله دراز – ص 135

[9] Salomon reinach orpheus, p. 35-6

الدين – محمد عبد الله دراز – ص 134

[10] الدين – محمد عبدالله دراز – ص 127

[11] Laresusse de XXeme siecle, article: Religion

نقلا عن الدين – محمد عبدالله دراز – ص 127

[12] Henri Bergson – Les deux Sources de la Morale et de la Religion p. 105

نقلا عن الدين – محمد عبدالله دراز – ص 128

[13] مستقبل الإسلام في الغرب والشرق – مراد هوفمان، عبد المجيد الشرفي – ص 132

[14] مستقبل الإسلام في الغرب والشرق – مراد هوفمان، عبد المجيد الشرفي – ص 125

2011 .ياسين اليحياوي.أبو عمر الأنصاري.©