بين حينٍ وآخَر يتكرَّر مشهدٌ طالما ألِفته العيون فلم تعدْ تنكره، واعتادت وقْع صداه الأسماع، فلم تعد تستهجِنُه، وإن كان يستوجب الإنكار وأحرى بالاستهجان.

إنَّه المشهد المحزِن والمضْحِك في ذات الآن، حيثُ يخرج واحدٌ من تلك العصبة التي تَسِم نفسَها بأنَّها "حداثيَّة"، "تنويريَّة"، "تجديديَّة"، ثم لا يبرح يشكِّك في قطْعيٍّ من القطعيَّات، أو يطْعن في ثابتٍ من الثَّوابت، أو يُنادِي بتغْيير أصلٍ من الأصول، أو يعترض على بعْضِ أحْكام الشَّريعة، فتراه إمَّا طاعنًا في حجِّيَّة السنَّة جَميعِها، أو في بعض الأحاديث المستفيضة للقضاء على مدلولاتِها، أو تراه مطالبًا بِمساواة المرأة للرَّجُل في الميراث، أوِ الولاية العامَّة، أو منتقدًا الحدود الشرعيَّة أو تعدُّد الزوجات.

ونحو ذلك كثير ممَّا تطيِّره قنوات الإعلام المختلفة عند وقوعه من هؤلاء، وحصول الضَّجَّة الفكريَّة ما بين معارض ومؤيِّد، ولَمَعان اسم صاحب الضَّجَّة إعلاميًّا، وهو أمر مطلوب بالأصالة، وتبنِّي مؤسَّسات استِشْراقيَّة وتبشيريَّة لصاحب الضَّجَّة وضجيجه، ويستمرُّ هذا الضَّجيج حتَّى يخمد بركان هذه الفِتْنة، وقد صار صاحبُها بطلاً قوميًّا، ثمَّ لا يلبث أن يشبَّ بركان جديد، وهكذا دواليك.

والَّذي يُضحك ويُبكي في هذا المشْهد المتكرّر ليس تكرُّره على نفس الوتيرة، وانتهائه بنفس الخاتمة، في كلِّ المرَّات التي يقع فيها، بوصول هذا الصُّعلوك أو ذاك إلى الشُّهرة التي أرادها بِهَدمه لثوابت أمَّته، ليس هذا فحسب، بل المضحك والمبكِي فيه هو حقيقة المشهد، وحقيقة أبطاله، الذين يظهرون فيه ظهورَ المُجاهدين المصْلِحين المجدِّدين، الذين يريدون إخْراج الأمَّة من الظُّلمات إلى النور ومن التخلُّف إلى التقدُّم، ومن التبعيَّة إلى السِّيادة، ويستَسْمِن البُلْه هذا الورم، فيرون في هؤلاء مبدعين ومفكِّرين وتنويريِّين.

ولَم يدْروا أنَّ مثل هؤلاء الهدَّامين الذين يزيفون بأنَّهم مجدِّدون ومبْدعون كمثل الكلاب التي اجتمعتْ على مائدة سيِّدها، بعد أن قام عن طعامه فترك فتات اللقم، وما يلصق بجوانب الأطْباق، فراحت تلك الكِلاب تلعق هذه الفضلات حتَّى أصابت بعض شبع، ثم راحت تنتفِخ زهوًا، زاعمةً أنَّها كسبتْ هذا الطعام من كسْبِ يدَيْها، ومن عرق جبينِها، وأنَّها تستحقُّ الحمد كما يستحقُّه السَّبُع الذي طارد الصَّيد مسافاتٍ طويلة، وظفِر به بعد جهد جهيد.

إي، لعَمْر الحقِّ، إنَّها لحقيقةُ هذا المشهد المبكِي المضحِك، الَّذي لا يلبث أن يتكرَّر وإن لم يطلبه المشاهدون!

سطو على كلام المستَشْرِقين وأعداء الدين، ثم تدبيجه وتزيينه ليَخْرُج في لباسٍ عربيٍّ مبين، ثمَّ الظهور بعباءة الإصْلاحيِّين والمحقِّقين والتَّجديديِّين، وهذه هي الحقيقة المرة!

فمثلاً: هل كان "الشعر الجاهلي" إلاَّ من فتات "مرجليوث"؟! وهل كان "الطَّعن في أبي هريرة"، والتَّشكيك في السنَّة، حتَّى في الأحاديثِ الَّتي في البخاري؛ إلاَّ من فتات "جولد تسيهر"، وهل وهل ...؟

وأقبح من هذا أن يكون سطْو الكلاب اللاعقة لا على الفتات، ولكن على البوْل والعذرة التي عند الغربيين، ثمَّ الزَّهو بها على بني أمَّتنا في وقاحة وقِحة وخسَّة نذِلة.

إي، فلستَ تجِد أحدًا من هؤلاء يلعق بحثًا تجريبيًّا ولا اكتِشافًا علميًّا ولا ما شابه؛ بل يسقُطون على ما انحطَّت فيه الأمم الغريبَّة - وهو الجانب الأخلاقي والعَقَدي والفكري - فيلْعقون السخافات والتُّرَّهات، ثمَّ يقِفون أمامنا منتفخِين زهوًا، يُحرِّكون أذْيالهم - عفوًا: رؤوسهم - بما حصَّلوا من كفريَّات وإلحاديَّات كلُّها ظنٌّ - والظَّنُّ لا يغني من الحقِّ شيئًا - بعيدة عن التَّجريب وقانون المعمل، والمختبر الذي يعظِّمه أسيادهم في الغرب.

زبالة المناهج الفكريَّة الغربية، وحثالة النظريَّات العلمانيَّة الإلحادية هي ما تنجَح الكلاب اللاعقة في احتسائِه، ثم مطالبة جميع الأمَّة بلعْقِه كما لعقوا، وإلاَّ فمَن عاف هذا الجشاء الغرْبي والخراء العلماني، فهو: رجعي، ظلامي، جامد، ....إلخ.

ظهرت النظريَّة "الحماريَّة" المسمَّاة بـ "الدَّارونيَّة" ففرح بها كل الحمير حول العالم، وزهَوْا بِها على بني الإنسان، متمحِّكين بالعلم ومتسربلين بالتَّجريب، فما لبث أنِ انكشف عوارها، واتَّضح كذِبُها وأنَّها نهيق حمير، وتبرَّأ العلم منها ومن حميرها، هاتفًا: متى كان العلم "حماريًّا"؟!

وظهرت النظريَّة "البقريَّة" المسمَّاة بـ "بالماركسية"، ففرح بها كلُّ البقر حول العالم، وطاروا بها يتطاولون على أتْباع الأدْيان وبني الإنسان، فكان سقوطُها وفضيحتها في أقلَّ من عمر بقرةٍ واحدة، وتبرَّأ منها العلم والتَّفكير والعقْل، هاتفين: ما لنا وللبقر؟!

وظهرت "البهيميَّة" المسمَّاة بـ" الفرويديَّة"، وظهرت، وظهرت .... إلخ.

ولا تزال تظهر في عصرِنا سخافات عقليَّة، ولوثات فكريَّة، نتيجة بعد الإنسان عن ربِّه، وضربِه في بيداء الشَّهوات ومفازات الهوى، ولا يزال الكلاب اللاَّعقون يتهافتون على أمثال هذه النَّجاسات الذهنيَّة، ويقعون عليها بشراهة ووقاحة، ويحتقِرون ويسخرون ممَّن عافها.

افتضحت هذه النظريَّات الفلسفيَّة في العالم المتحضر، وكسد سوقها في عقر دارها، لكن ما زالت الكلاب اللاعقة مفتونة بها، مصمِّمة على أنَّها العلم والتَّحقيق والتقدُّم والتمدُّن ... إلخ.

ونحن وقد يئسنا من رِشدتهم، فالأمر الوحيد الذي نُريده من هؤلاء اللاعقين الذين يزوِّرون بأنَّهم مفكِّرون ومبدعون ومجددون، حيث يرون أنَّ سبب تأخُّرِنا وتخلُّفنا هو تمسُّكنا بدينِنا وتراثنا الفكري، وأنَّ طعنَهم في ثوابتِنا ومسلَّماتنا وموروثاتِنا الثقافيَّة والمنهجيَّة إنَّما هو لإنقاذ أمَّتنا من ربقة الجمود والرجعيَّة، وأنَّ الخلاص من الأزْمة الثقافيَّة الرَّاهنة إنَّما يكون بما يقدِّمونه من أفكارٍ ورؤًى وأُطْروحات.

أقول: نريد منكم أن تقدِّموا لنا رؤًى وأطروحات ذاتيَّة شخصيَّة، لا فتاتًا ذهنيًّا لغيْركم؛ فنحنُ بثقافتِنا الإسلاميَّة ورؤيَتِنا المنبعثة من تراثِنا لدينا ما تعرِفونه وتعترضون عليْه وتحاربونه، وهذا الذي تنشُرونه بيْننا، وتريدون أن تَحملونا عليْه - هو ملك غربي، لا علاقةَ لكم به إلاَّ من جِهة السَّطو والنَّهب، فقدِّموا لنا شيئًا آخَر غير ما عندنا وغير ما عند الغرْب، شيئًا من عند أنفُسِكم خالصًا، ما لعِقتموه من الشَّرق ولا من الغرب، ما دمتم تَصيحون ليلَ نهار بأنَّكم مبدعون ومجدِّدون.

فنريد منك - أيُّها المفكِّر - أن تكون مقالاتُك شخصيَّة، لا اقتباسًا لقراءاتِك في "روسو" و"فولتير"، نريد منك - أيُّها الروائي - أن تكون رواياتُك من بنات أفكارِك، لا ترجمة فنِّيَّة لـ "شارلز ديكن" وغيره، حتَّى مسرحكم، حتَّى "سينماكم" نريدها أن تعبِّر عنكم، وعمَّا وَلدتْه عقولكم، لا عمَّا تعبت فيه أذهان الغربيِّين، بل نريد منك - أيُّها الملحد - أن يكون إلحادُك ذاتيًّا، لا ترديدًا لكفريَّات "نيتشه" وأشياعه.

لكن هيهات ذلك لكم! وهل عندكم شيء؟! وهل أنتم بشيء؟! إنْ أنتم إلا سطاةٌ نَهَّابون، لا؛ بل كلاب تلعقون!

رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Culture/0/5680/#ixzz1eNJq4R5x