تجارة الرقيق الأبيض في أوروبا
20 مليون طفل يستغلون جنسيا في العالم... و12 ألف طفل بوسني تم بيعهم أثناء الحرب
سراييفو: عبد الباقي خليفة
لا تزال تجارة الرقيق الابيض تستحوذ على اهتمام المنظمات الدولية غير الحكومية والتابعة للامم المتحدة، في حين لا تزال وسائل الاعلام تتعامل مع الظاهرة في شكل أخبار متفرقة من حين لآخر وينظر إليها كخبر أو حادث كبقية الحوادث بينما المسألة تمس الواقع الانساني بكل أبعاده المادية والنفسية والروحية. ويبدو أن تجارة الرقيق الابيض في أوروبا رغم الاهتمام بها من الناحية الامنية لم تلق العناية الكافية انسانيا واقتصاديا، ولذلك لم تفلح الأجهزة الأمنية والرقابة في مكافحتها، في حين نجد أن عصابات المافيا والجريمة المنظمة تمكنت من ابتكار وسائل جديدة للافلات من قبضة الرقابة وعناصر الشرطة، أو أن كل العناصر سابقة الذكر التقت جميعا لتشكل مأساة مغفولا عنها أو لم تواجه بالشكل المطلوب الذي يحتمه الموقف.
وتشير آخر الاحصائيات إلى أن هناك ما بين 200 ألف إلى 500 ألف امرأة وفتاة يعملن في سوق الدعارة بأوروبا أغلبهن من دول البلطيق والبلقان ابتداء من روسيا، مرورا بأكرانيا وروسيا البيضاء وأرمينيا وبولندا وتشيكيا وسلوفاكيا، وانتهاء برومانيا وبلغاريا وكرواتيا ومقدونيا وصربيا والبوسنة وألبانيا. وتقول احصائية صادرة عن وزارة الداخلية الاكرانية أن حوالي 400 ألف امرأة وفتاة دون سن الثلاثين غادرن أكرانيا خلال السنوات العشر الماضية عن طريق عصابات المافيا. ومن وسائل العصابات المنظمة استخدام الفتيات أنفسهن في استدراج بنات جنسهن لمستنقع الدعارة من خلال تزيين ذلك العمل وإظهار محاسنه المادية، مقابل حياة الضنك الاقتصادي والاجتماعي في البلد الاصلي للضحايا، ومن الوسائل أيضا استخدام فتيان وسيمين وتسليمهم سيارات جديدة من نوع بي ام دبليو، وبورش وفيراري وغيرها للايقاع بالفتيات باسم الحب والاعجاب وبعد سقوطهن في تلك الفخاخ يتم تداولهن من قبل عناصر العصابة قبل طرحهن في سوق الدعارة سواء بموافقة الضحية بعد أن تفقد كل شئ، أو عبر الامعان في التغرير بها عبر الوعود بالعمل براتب مغر في إحدى الدول الاوروبية كالمانيا وفرنسا وبريطانيا وايطاليا واسبانيا وغيرها. وليس النساء فقط الضحايا الوحيدين لعصابات الجريمة المنظمة بل الاطفال أيضا ويقدر عدد الاطفال الذين يتم استغلالهم في العالم بنحو 246 مليون طفل، منهم (وفق احصائيات الامم المتحدة)، أكثر من مليوني طفل يتعرضون للاستغلال الجنسي ويعاملون معاملة الرقيق. وفي روسيا تم تسجيل قتل 1080 طفلا على يد والديهم باشكال مختلفة بين 2000 و2005 وفق صحيفة «بليك» الصربية الصادرة في بلغراد. ويوجد في روسيا الآن أكثر من مليون طفل بدون والدين ويزيد هذا العدد باضطراد كل سنة، وتقذف بيوت الفقر بأكثر من 100 ألف طفل في الشارع وكثير منهم أبناء فتيات دون سن السابعة عشرة ومنهن في سن الحادية عشرة. وتتخلى النساء في براغ عن 20 الف طفل سنويا، ويتم التقاط هؤلاء الاطفال وبيعهم من قبل عصابات الجريمة المنظمة في أوروبا والولايات المتحدة وكندا. قد يكون ما سبق ذكره نوع من الدعاية من قبل صحافة الاعلانات لتبرير تجارة الرقيق الابيض وإظهارها بمظهر العمل الخيري وهذا في حد ذاته مأساة عظمى. لا سيما وأن للاطفال أسعارا وفق مواصفات معينة، هذا إذا علمنا أن أحد الآباء المدمنين على الكحول في روسيا باع ابنه بقارورتي فودكا، وهذا موضوع آخر عن دور الخمر في المأساة. وأكدت دراسة قامت بها جمعية حقوق الطفل التابعة للامم المتحدة بيع 20 مليون طفل خلال السنوات العشر الاخيرة ليعيشوا طفولتهم في ظروف معيشية قاسية، وهناك على سبيل المثال 12 ألف طفل بوسنوي فقدوا أثناء الحرب حيث تعرض أهاليهم للخداع من قبل عصابات الجريمة المنظمة ومنها منظمة تدعى «سفارة الاطفال» يرأسها صربي، خدعت الأهالي أثناء الحصار بأنها تريد توفير أماكن آمنة للاطفال خارج البوسنة، وإنها ستعيدهم إلى ذويهم بعد ذلك لكنهم لم يعودوا أبدا، بعد أن تم بيعهم لعائلات وكنائس في أوروبا، وهو ما تحدثت عنه باسهاب في حينه الصحافة الايطالية وغيرها.
وتعتمد شبكات الرقيق الابيض في جلب الاطفال على مصادر عدة، منها سرقة الاطفال حديثي الولادة من المستشفيات والادعاء بأنهم ماتوا، وحجز الاطفال قبل ولادتهم من غير المرغوب فيهم خاصة الاطفال غير الشرعيين، وايواء المراهقات والعاملات في سوق الدعارة الحوامل، ومؤجرات الارحام اللواتي يتم وضعهن في أماكن سرية وتنتهي مهمتهن بعد الوضع فيباع الاطفال أو يستخدمون في تجارة الاعضاء البشرية، بل وصل الامر إلى حد تهريب المخدرات في بطون الاطفال بعد قتلهم وحشو بطونهم بالهيروين والكوكايين وغيرها من الآفات السامة. إضافة إلى شراء الاطفال من ذويهم كما يحدث في ألبانيا حتى الآن، حيث يباع الاطفال في سن مبكرة بسعر يتراوح بين 6 و15 ألف يورو ولا سيما إلى الايطاليين والفرنسيين والالمان.
وذكرت جيفيتسا أبادجيتش أمينة سر منظمة هلسنكي الدولية لحقوق الانسان في البوسنة أن «الاطفال في البوسنة يباعون بأسعار تتراوح بين 250 و2500 يورو للطفل الواحد»، وقالت إن «الاهالي يضطرون لبيع أطفالهم بسبب الاوضاع الاقتصادية الصعبة للعائلات». وأشارت صليحة دجوديريا من مجلس الوزراء البوسني في حديث لـ «الشرق الأوسط» إلى عدم توافر أدلة على وجود هذه التجارة في البوسنة، بيد أنها لم تستبعد حدوثها بسبب السرية التي تحيط بهذه الممارسات الاجرامية للبائع والمشتري على حد سواء. ومن ذلك بيع غجري لابنته التي تبلغ 14 سنة بـ 15 ألف مارك بوسني أي بنحو 7.5 ألف يورو. وتشير منظمة اليونسيف إلى أن «الادعاء بحماية الاطفال عن طريق ارسالهم إلى حياة أفضل هو أكثر الامور المثيرة للجدل في هذا المضمار والرابحون الوحيدون هم أصحاب الوكالات التجارية الذين تمنحهم الدول تراخيص تجارة الاطفال في الولايات المتحدة وكندا واستراليا حيث يسيطر هؤلاء على السوق العالمية لبيع الاطفال». وهذا ما تؤكده الشرطة الاوروبية «يوروبول» في تقرير حديث لها حيث طالبت بملاحقة أصحاب الاعلانات في الصحف، والتأكد من صحة ما ينشرونه حول فرص العمل في أوروبا الغربية وجميعها كاذبة تهدف للايقاع بالفتيات».
ويشير تقرير أعده المجلس الاوروبي إلى أن أرباح عصابات الجريمة المنظمة ارتفعت في المدة الأخيرة إلى نسبة 400 في المائة في سوق يبلغ عدد ضحاياه والمتعاطيات معه نحو نصف مليون امرأة ربعهن من منطقة البلقان وتحصد منظمات الجريمة المنظمة من هذه التجارة أكثر من 13 مليار يورو سنويا.
وفي دراسة أعدتها منظمة مساعدة الاطفال التابعة للأمم المتحدة «يونسيف» ذكرت أن التجارة الدولية غير المشروعة بالنساء والاطفال تزيد في العالم باطراد
وخاصة في أوروبا. ووفقا لنتائج الدراسة التي أعلن عنها في مدينة كولون بالمانيا «يتم سنويا بيع 120 ألف نسمة بينهم أطفال ونساء وفتيات في دول الاتحاد الاوروبي 80 في المائة منهم لا تتجاوز أعمارهن الثمانية عشرة سنة غالبيتهم من دول البلقان»، وأن «90 في المائة من الضحايا أجبرن على ممارسة الدعارة» ولم تفلح جميع الدعوات التي يطلقها المسؤولون الاوروبيون في الحد من هذه التجارة الرائجة. وتعتبر اسرائيل مركزا لاجتذاب الرقيق الابيض ويقدر عدد النساء اللواتي يتم تهريبهن إلى البلاد لامتهان الدعارة بالآلاف، وقد ارتفع عدد بيوت البغاء التي تجبر فيها الاجنبيات على امتهان البغاء من 2000 بيت في سنة 2001 وفق تصريحات للميجور يوسي سيدبون قائد لواء تل أبيب إلى 3200 في العام الجاري 2005 .
وتشير التقديرات إلى أن 30 في المائة من الضحايا تم جلبهن من دول الاتحاد السوفياتي سابقا ودول البلقان، ولم يكن يعلمن مسبقا بأنهن سيمارسن الدعارة بعد التغرير بهن وايهامهن بأنهن سيعملن في مجالات أخرى، ولا يحصلن مقابل ممارسة الدعارة سوى على الطعام والسجائر. وتحاول السلطات الاسرائيلية التمويه بأنها تكافح تجارة الرقيق الابيض من خلال طرد نحو 390 فتاة سنويا بينما الضحايا يعددن بالآلاف، وتقدر بعض الاحصائيات عددهم بنحو 10 آلاف امرأة وفتاة. ونشرت منظمة «البيت الآمن» في البلقان ومقرها مدينة توزلا بشمال البوسنة تحذيرا للأسر في دول البلقان من ضياع بناتهم الصغيرات اللواتي يقعن فريسة لعصابات الجريمة المنظمة، ويصبحن سلعة يطلق عليها الرقيق الابيض. وجاء في التحذير «أيتها العائلات احفظي أبناءك، راقبي أصدقاءهن وصديقاتهن، اقلقوا عندما لا يعود الابناء قبل الساعة العاشرة مساء، حاسبوهم إذا عادوا للبيت الساعة الثالثة صباحا، وانظروا إلى حالاتهم بعد العودة وأدينوهم إذا عادوا ومعهم بعض المال». كما حذرت من أصدقاء الفتيات الذكور الذين غالبا ما يكونون أعضاء في عصابات الجريمة المنظمة ومهتمهم اصطياد الفتيات، «وممارسة الجنس معهم مقدمة لدعارة الفتيات والانخراط في سوق الرقيق الابيض».
وقالت مارا رادوفانوفيتش من منظمة ( البيت الآمن ) لـ«الشرق الأوسط» ان هناك حالات كثيرة غادرت فيها الفتاة المنزل ولم تعد». وتابعت «لدينا بعض الحالات التي تم انقاذها من قبل الشرطة قبل تسفيرها للخارج وقد عثر عليها في بعض الفنادق، ففي البوسنة وحدها هناك 1200 حالة ذهبت ضحيتها فتيات قاصرات معظمهن من بنيالوكا وذلك من أصل 12 ألف حالة في البوسنة».
وأكد صالح أرناووط من فرقة مكافحة الجريمة المنظمة التابعة لوزارة الامن البوسنية على ان «البوسنة هدف للمافيا الدولية، وهي منظمة بشكل أفضل منا».
وأشار إلى أن «القوانين ليست رادعة بما فيه الكفاية فأحد المدانين بالتجارة في الرقيق الابيض صدر بحقه حكم بـ 24 شهرا سجنا فقط، وهذا مضحك في حد ذاته». وأضاف «سيخرج هذا الشخص من السجن ويعود لممارسة عمله السابق المخالف للقانون ويجني الملايين من الدولارات».
وقال القاضي حسين باستورياك «ليس القضاء وحده المسؤول عن ايقاف جريمة تجارة الرقيق الابيض ولكنه يجب ان يكون الجدار الاخير الذي يستند إليه المجتمع بعد خندق التربية والتوجيه والثقافة والتوعية الاعلامية والمدرسية والمؤسساتية بمختلف أنواعها». كما أظهرت دراسة نشرت في مقدونيا أن 68 في المائة من المقدونيات يحتفظن بسلاح فردي آلي لاسباب مختلفة أهمها حماية النفس من أخطار متوقعة من بينها الخطف في الشارع من قبل عصابات الجريمة المنظمة. كما شهدت المحاكم تصاعدا في عدد الجرائم التي ترتكبها النساء باستخدام السلاح.
Bookmarks