بل لا أرتاب الآن في أني قد حركني في ذلك محرك خفي من حب الظهور على أصحاب الصناعات العقلية والفلسفية، وإظهار التمكن من بضاعتهم والقدرة على مخاطبتهم بها، تماما كما تراني الآن أذمّ به عامة المتكلمين! أي "فلسفة أديان" هذه التي ولجت بابها بالتنظير والبحث حتى "أقلب الحجة الفلسفية" على من لا يعجبهم تشريع الإسلام وما فيه من أمر ونهي؟ وماذا تركت للمتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة وأضرابهم ممن فتنتهم تلك الصناعات وطرائقها وأنا أزعم الانتساب إلى سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم وأرضاهم، أتحرى منهجهم وأقتفي أثرهم؟ ومن ذا الذي كنت أراني مخاطبه بمقال كهذا أصلا؟
جاء في تقديمي للبحث قولي: "فهذه ورقة بحثية موجزة في فلسفة الأديان، في بيان المنطق الشكلي لطريقتين لقلب الحجة على المخالف، رأيت أن أعرض لكيفية استعمالهما في نقض دعوى أهل الملل المخالفة (بما فيها الإلحاد بألوانه) أن من شرائع الإسلام ما يعد دليلا على بطلانه وعلى أنه ليس دين الله عز وجل." اهـ. فبالله هل يحتاج العاقل إلى استعمال المنطق الشكلي التحليلي الذي شاع بين فلاسفة الغرب المعاصرين، أو إلى صياغة الحجج الكلامية على طريقة فلان أو فلان من الفلاسفة في الصياغة أو في "قلب الحجة المنطقية" أو نحو ذلك، حتى يتبين له ما هو واضح جلي من تهافت وبطلان اعتراضات المعترضين على شرائع هذا الدين (مستندين في ذلك - لا محالة - إلى أهوائهم وأهواء فلاسفتهم والمشرعين في مجتمعاتهم)، واتخاذهم تلك الاعتراضات دليلا على بطلان نسبته إلى رب العالمين؟ أما كان يكفيني تقرير ما أشرت إليه في مقدم المقال من كونها مسألة بدهية للغاية أن الرب سبحانه لا يأمر عباده إلا بالخير ولا ينهاهم إلا عن الشر، علم بذلك من علمه وجهل بذلك من جهله، وأن مدار المسألة في النهاية على التسليم بأن القرءان كتاب الله حقا وصدقا (وهو ما لا نفتقر فيه – أيضا – إلى برهان نظري، كما قررناه في هذا المجلد) وأن شريعة الإسلام هي شريعة الرحمن قطعا؟ بلى كان يكفي ولا شك، ولكن يبدو أنه قد كان في النفس ما فيها، أسأل الله العفو والغفران.
والعجيب أني فيما يبدو قد استوحشت هذا المسلك الذي سلكته في ذاك المقال، ونازعتني نفسي فيه، فلم أقو على زجرها عن نشره، واكتفيت بكتابة حاشية موجزة في ذيل البحث أكرر فيها ما ذكرته في صدر المقال من بيان عدم افتقار العاقل الصادق إلى تلك الألاعيب الفلسفية في معرفة الحق الذي معنا معاشر المسلمين أتباع المرسلين، فقلت:
تقدم معنا أن إغراق الفلاسفة في ضرب الصياغات الشكلية قد أدى بهم – لا محالة – إلى تطويل الطريق إلى الحق، وفتح الباب أمام المسَلَّمات العقلية والبدهيات الأولى لأن تكون محلا للاشتباه والنظر! فلا يفوتني أن أنبه القارئ الكريم إلى أن هذه الحجة التي رد بها مور على هيوم في مثالنا هذا، إنما هي مثال واضح لهذا التطويل والتماس المعنى الأبعد للوصول إلى الأقرب (بحسب تعبير شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله)، الذي تورثه تلك الخصلة عند الفلاسفة في الحقيقة. فمع أن الأمر من الجلاء بما يكفي معه أن يقال للعاقل إنك لا يستقيم لك عقل ولا لغة لو أنك شككت يوما ما في أن هذا الذي أمامك هو يدك على الحقيقة، إلا أن أمثال هيوم لما وضعوا من الحجج السوفسطائية (الشبهات العقلية) ما يضرب في أصول البدهيات العقلية الأولى في قوالب مصوغة بأمثال تلك الصياغات الشكلية، خرج أقرانهم من مخالفيهم ليردوا عليها بمثلها، واستفاض الأمر حتى أصبح من الطبيعي أن نمر في كتب الفلسفة بحجج طويلة ينتهي منها صاحبها إلى إثبات ما يبدأ منه العقلاء بالضرورة المحضة والبداهة الأولى في كل نظر عقلي! فترى رجلا يكتب حجة منمقة طويلة، لينتهي منها إلى إثبات أن هذه التي يكتب بها هي يده، وإلى الله المشتكى! لهذا جاء في الأثر عن بعض السلف أن العلم قطرة كثرها الجهلاء! ولهذا نقول إن من السفاهة بمكان أن يقال لطريقة السلف رضوان الله عليهم في فهم صفات خالقهم إنها "أسلم" في مقابل وصف طريقة من جاء بعدهم من المتأثرين بتلك المسالك بأنها "أحكم"، أو يقال إن العلم بالفلسفة والكلام ضرورة للعقلاء حتى يتمكنوا من معرفة الحق فيما جاء به المرسلون! لا والله إنما طريقة المرسلين ومن تبعهم هي الأسلم والأوفى والأجمع لخصال الحكمة لمن تأمل، وفيها الكفاية لكل عاقل صادق! فالحكمة إنما تكون في قصد السبيل، واحتواء المعنى الجزيل في اللفظ القليل، والتماس أقرب الطرق وأقصرها لبيان الدليل، والسعي إلى تقريب المعنى البعيد بالمعاني القريبة إلى الذهن لا العكس من ذلك، وتغليق الأبواب أمام دعاة السفسطة والتشكيك في المسلمات والبدهيات الأولى، فيا ليت الفلاسفة يتعلمون من طريقة القرءان ومن جوامع الكلم فيما جاء به النبي العدنان، صلوات ربي عليه وآله وسلم، ويا ليتهم يعقلون!
قلت: لو كان الأمر كذلك عندك، فأي خير يخرج به القارئ المسلم من بحثك هذا إذن يا أبا الفداء، ولماذا تكلفت كتابته أصلا هداك الله وأصلح حالك؟ ما ثمرة إيقاف قارئك على فكرة "معكوس مور" وجوابه عن دعوى "هيوم" أنه لا يدري هل هذه التي يكتب بها هي يده أم لا (!!)، وما تحذلقت بتسميته "معكوس الشبهة" وما سميته "بالحجة المعاكسة" وما استعرضته في متن البحث من طريقة صعبة المراس عسيرة الفهم (للوهلة الأولى على الأقل) في تحليل الدعوى إلى مقدمات ونتائج محررة، ثم قلب تلك المقدمات وعكس بعضها مع استظهار وتحرير ما كان شأنه أن يكون مستصحبا في كلام العقلاء من مسلمات أولية لا يحتاج العاقل إلى صياغته أصلا لبداهته؟ ما كل هذا العبث يرحمك الله، وما حاجة العقلاء إليه أصلا؟ وما الشأن مع من لم يفهم بعضه أو غمض عليه وجهه؟ هل تجيز له التوقف في إثبات ما تريد إثباته، وهل يتسع العقل لذلك الموقف عندك؟ ألا تتقي الله في نفسك وفي المسلمين؟ وإن كان الجواب بأنك لا تجيز لأحد من بني آدم أن يتوقف في هذه المسألة (وهو ما لا تملك إلا الجواب به): فما ثمرة هذا التكلف القبيح وما نفعه للمسلمين، وأي ثمرة ترجى من إلقائه بين أيدي المجرمين المعاندين؟
لا شيء! وكأني ما أردت في الحقيقة إلا استعراض "عضلاتي" الفلسفية، وإن زينت لي نفسي الظن بأني أنفع المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
ومما زاد الأمر قبحا أني حاولت أن أستخرج مثالا لذاك المسلك الفلسفي البعيد الذي جئت به في ذاك البحث، من كتاب الله جل وعلا! فصنعت كما يحلو لكثير من المتكلمين ومن الدعاة المتسننين المتأثرين بهم أن يصنعوا، فاستخرجت النص القرءاني الذي فيه المعنى المطلوب، ثم تكلفت إثبات أن الله تعالى قد خاطبنا "بقلب الحجة المنطقية" في القرءان! مع أني كنت أرى بجلاء شدة ما عانيته من شقشقة وتكلف وتنطع مذموم في العبارة، حتى أنتهي إلى ما أريد! فلا جاء النص القرءاني "بمقدمات" ولا "نتائج" ولا بتسلسل لدعوى الخصم يقلبه هو بعبارة وتسلسل آخر كذاك الذي تكلفته أنا في المقال المذكور، وإنما جاء بعبارة واضحة بينة موجزة لا مزيد عليها في أداء المطلوب وكفاية العقلاء، فأي خير في عمل كهذا؟
تأمل أيها القارئ الكريم فيما تكلفته – غفر الله لي – في ذاك المقال من تلبيس النص القرءاني لبوس تلك الطريقة الفلسفية وكأني أدعو القارئ لتعلمها وتكلفها في مثل ذلك. فقد قلت ما نصه:
ومن أمثلة قلب الحجة في القرءان، ما حكاه الله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام من محاججته لقومه في قوله: ﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ (الأنعام 81).
فكأن حجة أو دعوى المشركين من قوم إبراهيم تنتظم في مقدمتين ونتيجة بيانها كالتالي:
1- الجماعة (م) تخاف الآلهة (الباطلة) ولا تخاف الله.
2- الجماعة (ع) تخاف الله ولا تخاف الآلهة (الباطلة).
3- إذن: (م) في أمن من أمرهم و(ع) على خطر عظيم.
حيث الجماعة (م): المشركون، والجماعة (ع): إبراهيم عليه السلام ومن وافقوه.
فعليه يكون مقلوب حجتهم "ق" كالتالي:
4- الجماعة (م) تخاف آلهتها (الباطلة) ولا تخاف الله........... (1)
5- الجماعة (ع) تخاف الله ولا تخاف الآلهة (الباطلة) .......... (2)
6- إذن : (م) في خطر عظيم و(ع) في أمن من أمرهم .......... مقلوب (3)
وتأتي الغلبة والظهور للحجة "ق"، (4،5،6) مما هو مستصحب ومعهود في الذهن من مقدمة أولى "أ" مفادها:
• إن الخالق (الله تعالى) لا يخاف من مخلوقاته (التي منها تلك الآلهة الباطلة)، وإنما يجب في العقل أن تخافه تلك المخلوقات جميعا.
فعلى أي شيء يقيم المشركون دعواهم في مقابل هذه المقدمة "أ"؟ لا شك أنه مقلوبها، وهو باطل كما لا يخفى.
قلت: فما جوابك يا أبا الفداء إن سألك سائل هذا السؤال: "لو كنت حقا تراه باطلا لا يخفى بطلانه كما تقول، فلماذا تكلفت هذا التحرير وتلك الصياغة على طريقة المناطقة؟" لماذا تنطعت على نفسك وعلى الناس، وسعيت في استظهار المستصحبات والمعهودات الجلية وفي تحليل ما لا يحتاج العقلاء إلى تحليله وتفكيكه وتجريده في تراتيب منطقية "فورمالية" على نحو ما فعلت؟ فأقول: لست أجد لنفسي جوابا عن هذا السؤال إلا وهو راجع علي بتهمة الهوى الخفي، والله المستعان!
ومما يجدر بي أن أذكره كذلك، أني يوم نشرت ذاك المبحث، راجعته بعدها بسويعات، فوجدتني أخطأت الترقيم والترتيب فيما صغته في ذاك النص المقتبس آنفا من مقدمات ونتائج، فسارعت بمطالبة الإخوة بتعديله في محله، ثم مكثت طويلا في حيرة أتساءل هل يستقيم النص على هذا النحو أم على ما كان عليه قبل التعديل، حتى مالت نفسي إلى تركه على ما صار إليه! وليت شعري أي خير أو نفع سقته إلى المسلمين ببحث كهذا، وقد أبيت إلا أن أذيله بعزو القارئ إلى كتب وأبحاث الفلاسفة الأكاديميين الذين سلكت طريقتهم في ذاك البحث، كما هو عرف الأكاديميين في كل صنعة (حتى أني التزمت في إثبات المصادر بطريقة apa المشهورة أكاديميا في مثل ذلك: وهي المتبعة في هذا المجلد أيضا بالمناسبة)، فعزوت إلى مرجعين، أحدهما ورقة بحثية من أخبث ما أنت راء في تفلسف الملاحدة في إطار ما يقال له "مشكلة الشر" والانتصار بها لشتى صور النحل الإلحادية المعاصرة، والآخر كتاب فيه تقديم لأخبث صناعات الفلسفة على ظهر الأرض: "فلسفة الدين"، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فهل أمثال تلك المواد مما لا يرى الباحث المسلم العاقل بأسا في إحالة القارئ المسلم عليه، حتى يقف على طريقة فلان أو فلان في قلب البرهان؟ سبحانك ربي، لا هداية إلا من عندك ولا بصيرة إلا بك، فاللهم عفوك ومغفرتك، كما هديتني أن أبرأ مما كان خافيا علي من قبل من مسالك المتكلمين، والحمد لله رب العالمين.
سيأتي معك أيها القارئ الكريم في الأبواب التالية من هذا الكتاب بيان أن التفلسف في الغيبيات (والتكلم فيها – أي على طرائق أهل الكلام – تبعا) إنما هو مرض نفسي عقلي خبيث في الحقيقة، يقلب البدهيات الأولية اليقينية إلى ظنيات نظرية احتمالية تفتقر إلى تحليل وتفكيك واستدلال، وليس هو فضيلة معرفية أو عقلية كما يزعمه أصحابه لأنفسهم! وهو مرض لا برء منه – عند من كتب الله له الرحمة منهم - إلا بأن يعالجوا نفوسهم بما جاء به القرءان من بشارة ونذارة، فإن آمنوا (وهو بعيد نادر الوقوع) فقد انشرحت صدورهم لبغض الباطل وكراهية العبث واللغو والتنطع وأهله والنفور منهم، ولمحبة الحق الذي عرفوا أنه لا حق سواه ومحبة أهله والتودد إليهم، وإذن فقد زالت الغشاوة من على أعينهم والقفل من على صدورهم ووافقوا العقلاء الأسوياء في ذلك، وإذن فقد اهتدوا وانعقد اليقين الصحيح في قلوبهم ولله الحمد، وإن صدوا واستكبروا وقالوا لا يكفينا هذا الكلام الذي تنسبونه إلى ربكم، بل نراه مفتقرا إلى الاستدلال النظري والبرهان الفلسفي لإثبات وجود الباري نفسه من الأساس (وهم أصحاب كبر وجحود وغرور عظيم بمجرد حقيقة إلحادهم وتشككهم نفسها، مهما زعموا خلاف ذلك)، فليملؤوا صدورهم بما يحلو لهم من بضاعة الفلاسفة واللاهوتيين وأهل الكلام، وإذن فليغرقوا أبدا في بحار الشك والجحود والاستكبار والمراء الخبيث، ومن يضلل الله فلا هادي له، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
Bookmarks