" أوجست كونت" قد وقع بين أمرين متعارضين :
أولهما : أن الدين بكل صوره وأشكاله المعروفة للناس وبخاصة النصرانية التي كان يدين بها باطل, وأنه خيال ووهم من أوهام الذات- وكما يراه أيضاً جمهرة الفلاسفة المعاصرين له والسابقين عليه-. ومن ثم يجب الانصراف عنه, وبيان بطلانه للناس, وتوضيح زيفه للجميع حتى يتم إنقاذ المجتمعات من زيفه وضلاله.
ثانيهما : أن الفيلسوف لاحظ- أيضاً- أن الدين وإن كان وهماً وخيالاً لا حقيقة له, إلا أنه نافع للإنسانية, وعامل هام من عوامل استقرار المجتمع أفراداً وجماعات, وكذلك رأى أن الدين يحد من انتشار الأنانية والأثرة والانحلال في المجتمعات, ويعمل على توازن الفرد وتماسكه نفسياً واجتماعياً. ومن ثم فإن القضاء على الدين قضاء على كل هذه المنافع, ونشر لما يقابلها من مفاسد ومضار.
وهنا يأتي سؤال : ماذا يفعل " كونت " إزاء هذه المعضلة ؟ وكيف يحل هذا الإشكال؟
لقد توصل " كونت " إلى حل لهذه المشكلة, وهذا الحل يحقق به الأمرين:
1-يبطل به الأديان الوهمية الخرافية – كما يزعم- ويصرف الناس عنها.
2-وفي نفس الوقت يضمن للمجتمعات ويوفر لها جميع المنافع التي كان الدين يحققها لتلك المجتمعات
أما كيف ذلك ؟
إن ذلك يتحقق- فيما رأى الفيلسوف- بإلغاء الأديان التي يدين الناس بها بكافة أشكالها, وبخاصة النصرانية, لأنها أديان خرافية وهمية من جانب, ولأنها تقوم على الإيمان بالغيب, والغيب في نظر الرجل هو أخطر خرافات الدين التي تزيف الواقع وتفسد العقل الإنساني وتضلله .
ثم بعد أن ألغى الرجل الأديان التي يدين بها الناس, أقام بديلا منها ديناً جديداً من اختراعه هو. وأهم ما يميز هذا الدين أنه لا يقوم على الغيب ولا يحتوي شيئاً منه, ذلك أن الإله المعبود في هذا الدين إله مشاهد محسوس. ذلك هو ما أسماه الرجل : " دين الإنسانية ". فما هذا الدين ؟
رأى " كونت " أن التدين خصيصة النوع الإنساني, وأن جميع أفراد المجتمع تتوحد حوله, وتجتمع عليه, وترى نفسها فيه. وحينما فكر الرجل في اختراع دين جديد أخذ يبحث عن الإله الذي يضعه لدينه. فهداه تفكيره إلى " الإنسانية ".
ولماذا الإنسانية ؟
لقد رأى الرجل أن الإنسانية هي أعظم شيئ في الوجود يستحق التقدير والإعجاب والإكبار. كذلك فالإنسانية – كما يراها- حقيقة ممتدة من الماضي البعيد إلى الحاضر, ثم هي تنتقل عبر الحاضر إلى المستقبل, ووجود الإنسانية وجود مادي حسي مشاهد, ليس هذا فحسب, بل كل فرد من أفرادها يشارك في صنعها وفي وجودها وتحققها حتى الفيلسوف ومعاصروه .
فليست الإنسانية قصراً على الماضي, بل هي ممتدة من الماضي الذي يؤثر في الحاضر ويوجهه, ويعطيه الخبرات والتجارب, بل إن تأثير الماضي أقوى من تأثير الحاضر في مسيرة الإنسان الخلقية والعقلية والمادية. إن آثار السابقين أقوى من آثار الحاضرين. والرجل يخلص من كل ذلك الحديث عن الماضي إلى أن الأموات الماضين من الإنسانية أحياء بآثارهم في المجتمع الحاضر أقوى من الأحياء أنفسهم.
ماذا يريد الرجل أن يقول من كل حديثه عن الإنسانية الماضية ؟ إنه يريد أن يؤكد على أن معبوده في دينه الجديد الذي هو الإنسانية معبود حي مؤثر فاعل, فإذا جعلها معبوداً فهو يعبد حياً وليس ميتاً ، حتى ولو كان المعبود هم أفراد الإنسان الذين مضوا وهلكوا وانتهى وجودهم .
وهنا لا بد أن يرد على فكرنا تلك المرأة التي عشقها" كونت " ثم لما ماتت أصيب بالجنون وحاول الانتحار,- وليت محاولته نجحت إذن لا سترحنا من غثائه وضلالاته- ثم كان الرجل فيما بعد يزعم آنها تأتيه وتوجهه وتلهمه أفكاره.
ويبين الفيلسوف لماذا اختار الإنسانية؟ لأنها صاحبة الفضل على الإنسان في كل شيئ. فكل فرد مدين للإنسانية بوجوده, لأن والديه هما اللذان أوجداه, ولا شيئ آخر, ولأن رخاءه وثراءه من والديه وأقاربه الذين ذهبوا لأنه وارثهم من بعدهم, كذلك هم الذين ربوه وعلموه. . وهكذا يعظم الرجل شأن الإنسانية وأفرادها الماضين, ويخلع عليهم ما لله من فضل ونعم على الإنسان.
إن الرجل يقرر أن الأمر سوف يبدو غريباً في البداية, ولكن علينا أن نعلم الناس كيف يتحولون بأفكارهم ومشاعرهم تجاه الإله الجديد الحقيقي الموضوعي بدلاً من آلهة الوهم والخيال . إن الإنسانية هي " الموجود الحقيقي الأعظم " وهو الأوحد المستحق للعبادة ، ولا يوجد سواه. هكذا زعم الرجل عليه من الله ما يستحق-.
2- المعبود في الدين الجديد :
بعد أن أوضح الرجل دينه الجديد الذي جعله بديلاً عن أديان العلم أخذ يوضح تفاصيل هذا الدين ؛ فبدأ بإلهه المقترح, أي المعبود في دينه ، فبين أن الإله يتكون من ثلاثة أشياء. لقد رأى الرجل أن " الإنسانية " التي هي المعبود الأعظم لا تعيش معلقة في فراغ, بل هي تعيش على الأرض, وتسبح في الهواء وتظلها السماء. فصاغ المعبود في دينه الجديد من هؤلاء الثلاثة: الإنسانية- الأرض- السماء والهواء.
وقد وضع لكل من الثلاثة اسماً خاصاً به؛ فصار معبوده مكوناً من :
أ‌-الموجود الأعظم. ويقصد به الإنسانية .
ب‌-الفتش الأعظم. ويقصد به الأرض .
ت‌-الوسط الأعظم. ويقصد به السماء والهواء .
هذا معبود الرجل. ثالوث مقدس. ويتضح- بداهة- تأثر الرجل بدينه: النصرانية. وسوف يتضح هذا التأثر في جوانب أخرى كثيرة تتمثل في جميع طقوس الديانة الجديدة المخترعة.

3- أنواع العبادة في الدين الجديد :
لقد قسم " كونت " العبادة في دينه الجديد إلى نوعين :
أ‌-عبادة فردية . وفيها يتوجه الفرد بالعبادة والتقديس إلى ما يخصه هو- شخصياً-, أو ما يتصل بشخصه ممن لهم فضل عليه, مثل أبيه وأمه, أو أحد أساتذته ممن لهم فضل خاص عليه, أو زعيمه السياسي, أو يتجه إلى قبيلته أو أسرته. فيتوجه إلى هؤلاء أو بعضهم بالعبادة تكريماً للإنسانية الموجود الأعظم في أشخاص هؤلاء.
ب‌-عبادة مشتركة. وفيها يتوجه الناس جميعاً بشكل جماهيري جماعي, وفي أيام معينة يطلق عليها الرجل اسم " أعياداً تذكارية" يتوجهون فيها بالعبادة إلى هؤلاء الأفراد الذين قدموا خدمات للإنسانية كلها, وامتازوا بالجد والاجتهاد في تقدم الإنسانية في كافة المجالات العلمية الاقتصادية والفنية وغيرها. وفي هذه الأعياد يُعبد هؤلاء الأشخاص ويقدسون تكريماً للإنسانية التي يمثلونها .
4- الهيئة الإكليريكية- رجال الدين الجديد -
ولأن كل دين لا بد له من رجال دين يُعرفون الناس بدينهم ويرشدونهم فإن " كونت " أنشأ هيئة دينية عليا " إكليريكية " جعل مهمتها الإشراف على شئون الديانة الجديدة, والدعوة إليها, وتوضيح طقوس العبادة فيها.وفي هذه الهيئة- أيضاً- نصطدم بتأثير التثليث النصراني في الرجل. حيث جعل هذه الهيئة مكونة ومنتخبة من ثلاث فئات, هم : الفلاسفة- الشعراء- الأطباء
5-طبقات المجتمع في الدين الجديد :
مثل " كونت " الإنسانية المعبودة بكائن أعظم يتمثل في المجتمع كله بجميع طوائفه. وجعل لهذا المجتمع من الأعضاء والحاجات مثل ما للإنسان المفرد الحقيقي . ومن ثم فقد قسم المجتمع إلى أربع طبقات:
أ- طبقة " الإكليريك " أو رجال الدين. وجعل منزلتهم من المجتمع منزلة الرأس المفكر, والعقل المدبر من الإنسان الفرد الحقيقي.
ب - طبقة النساء. وهن في المجتمع بمثابة أعضاء العاطفة والمشاعر والوجدانات في الفرد الحقيقي .
ج - طبقة رجال الصناعة والمال. وهم في المجتمع بمثابة أعضاء التغذية والنمو في الفرد .
د - طبقة العمال :وهم بمثابة أعضاء الحركةوالنشاط الإنتاجي في الفرد .

6- تعليق على الدين الجديد :
لم أشأ أن أكتب العنوان : " نقد الديانة الإنسانية " لأن نقد شيئ ما يتطلب بالضرورة أن يكون هذا الشيء قد حصل الحد الأدنى من الفكر المعتبر, والفهم المتزن, والمعالجة المقبولة لدى عامة العقلاء. وإلا ؛ فإنه لا يكون أهلاً للنقد, ولا مستحقاً لبذل الوقت ولإضاعة الجهد.
وهذا الذي كتبه الرجل" كونت " حول ما أسماه" ديناً" أو " دين الإنسانية" غثاء يعلو عليه الغثاء, وعبث وتفاهة يسمو عليه العبث وتكبر عنه التفاهة. أعني أن كثيراً مما يُطلق عليه غثاء وعبث وتفاهة أعلى وأكثر احتراماً واعتباراً من فكر الرجل. ومن ثم كان فكره هذا لا يستحق أن ينقد, لأنه ليس فيه ما ينقد . ثم إن النقد في ذاته عمل عقلي , وجهد فكرى, وفكر الرجل ومشروعه الذي طرحه عن دينه إزراء بالعقل, وإهانة للفكر, وازدراء بأدنى مستويات المنطق السليم ؛ لذلك آثرت أن أجعل ذلك " تعليقا" على كلام الرجل عن دينه المقترح ، وتعليقي على كلامه عن دينه إنما هو تنبيه إلى تناقضات واضحة في فكره, وأكاذيب بينة في دعاواه, وسأشير إلى ذلك- بحول الله- دون إطالة في أمور محددة :
1-أول الأخطاء التي ارتكبها الرجل : محاولته اختراع دين من عنده ، بدلاً عن دين يدين به المجتمع. فقد جهل الرجل أن الأديان لا تقترح ولا تطرح على الناس كما تطرح أي فكرة أو رأي أو مشروع .
2-ثاني الأخطاء التي ارتكبها الرجل يتمثل في طرحه ديناً خالياً من " الغيب " ليس فيه غيب أو أمور غيبية. وقد غفل الرجل- جهلا منه وحمقاً - عن أن الدين من حيث كونه ديناً لا يمكن أن يقوم إلا على الغيب. حتى الأديان التي تعتمد عبادة الأشخاص أو الأوثان المادية المحسوسة لا تستقيم عبادتها إلا على اعتقاد معتنقيها قوي غيبية تحل في هؤلاء الأشخاص أو الأوثان. وإلا ؛فكيف يصير الإنسان إلها عند عابدي الأشخاص وهو على حاله دون اتصاله بقوى غيبية, وامتلاكه إمكانات لا يمتلكها غيره ؟
3-زعم الرجل بأنه كفر بالنصرانية ديناً, وأنه يعارضها ويرفضها ويريد تخليص الناس منها. هذا الزعم كيف نصدقه؟ وقد بان لنا من النظام الذي أقام عليه دينه أنه اختار جميع ما فيه من الأصول على غرار النصرانية, حتى إن دينه الجديد كأنه صورة من النصرانية مع نوع من التحريف. ويتضح هذا من الإله الذي صنعه لدينه, إنه ثالوث يتكون من : الموجود الأعظم " الإنسانية " والفتش الأعظم " الأرض ", والوسط الأعظم " السماء والهواء". أليست هذه عودة إلى النصرانية. أو الثالوث النصراني في شكل جديد؟! ثم شيئ آخر يوضح تأثر الرجل بالنصرانية ، وإصراره على أن يكون دينه الجديد صورة مشوهة من النصرانية التي زعم أنه كفر بها ، إنها الهيئة المشرفة على الديانة الجديدة, أو رجال الدين في دينه. إن الرجل جعل هذه الهيئة ثلاثية أيضاً, لا ثنائية ولا رباعية, فجعلها من: الفلاسفة, الشعراء, والأطباء.
بان لنا أن الرجل ترك النصرانية من الباب علانية, وعاد إليها من النافذة خفية . ويأتي السؤال :هل تعمد الرجل جعل دينه الجديد مشابهاً هذه المشابهة الجوهرية بالدين النصراني نتيجة تأثره بالنصرانية, وأنها تعيش داخله دون شعور منه ؟ أم أن هذه خطة من الرجل ليجتذب الجماهير النصرانية التي تعودت التثليث النصراني, فلكي يجتذبهم إلى دينه الجديد, ويرغبهم فيه, ويجعل النقلة من دينهم النصراني إلى الدين الجديد يسيرة وسهلة وممكنة؟ يبدو أن الاحتمال الثاني هو الأرجح, بل هو الصواب. فإن الرجل كفر بالنصرانية من بداية شبابه ، وصعب أن يكون لها ذلك التأثير بعد تلك السنين الطوال التي عاشها الرجل كافرا بالنصرانية وبكل الأديان- عليه من الله ما يستحق-.

سادساً : موقف المجتمعات الغربية من الدين الجديد :
لقد وجدت آراء " كونت " في دينه المخترع- رغم غرابتها- صدى وقبولاً لدى بعض الطوائف في المجتمعات الغربية النصرانية ، وكان هؤلاء – بطبيعة الحال - من الناقمين على النصرانية ورجالها الرافضين لعقائدها وأضاليلها. وقد تحمس لها الكثيرون, ليس لكونها مقبولة أو معقولة, لكن لأن قبولها كان يمثل بالنسبة إليهم صورة من صور الاعتراض والرفض للدين النصراني, والازدراء والاحتقار لرجاله. ومن هنا – وبهذا الاعتبار- وجدت الديانة الجديدة أتباعاً لها في فرنسا وإنجلترا,وأمريكا شمالها وجنوبها, والسويد, وألمانيا,وغيرها.. وقد بدأ أتباع الديانة الجديدة عمليين, فأنشأوا لها المعابد, وعينوا لها رجالها وكهانها, وقد اخترعوا لديانتهم هذه شعاراً تعرف به ؛ فاختاروا لها: " المحبة- النظام- التقدم" . وهو شعار تثليثي أيضاً ليجذبوا إليهم أتباع النصرانية .لكن بمرور الوقت فقدت الديانة بريقها, وبدأ الاهتمام بها يقل, والإقبال عليها يضعف, حتى انتهي شأنها تماماً, ولم يعد لها ذكر إلا في إطار السرد التاريخي للأفكار الساقطة التي شغلت بعض الناس زمناً ثم احتلت مكانها في مزابل التاريخ .
والذي يجب التنبيه إليه أن الإقبال على هذه الديانة الفاسدة من البعض لم يكن للديانة نفسها, ولكن كان من أجل إظهار وإعلان النقمة على النصرانية ديناً ورجال دين, وأن اهتمامهم بها بعض الوقت إنما كان أملا في أن تقضي على النصرانية, لكن حين أفاؤا إلى أنفسهم أدركوا أنها مجرد غثاء لا يصلح لشيء ؛ فانصرفوا عنها إلى الأبد , لكنهم لم ينصرفوا عن الدافع الذي دفعهم إليها وهو نقمتهم على النصرانية ورجالها .


( المصدر : مذاهب فكرية معاصرة - عرض ونقد - ، للدكتور محمود مزروعة ، ص 231-255)