بسم الله الرحمن الرحيم
حديث الحرية

رحم الله بو عزيزي وغفر الله له وأسكنه فسيح جناته... لقد هيأ الله عز وجل له نهاية تجمع بين مختلفين ، فهو من حيث الوصف الظاهر له انتحار ومخالفة شرعية كبيرة ، وهو من حيث الواقع كان نتيجة ظلم وقهر طال زمانه ثم آل لموقف تُداس فيه الكرامة من قِبل شرطية ساقطة . فلعل هذا الواقع المظلم يكون سبباً في غفران الله عز وجل لهذا الشاب ورحمته به, وتجاوزه عنه .
أما من حيث المآل والأثر فقد كانت حادثة بو عزيزي حادثة مفصلية في تاريخ الأمة العربية والإسلامية, وستكون تاريخاً مهماً للأجيال اللاحقة, وهي رغم أنها حادثة يوجد منها آلاف الحوادث المماثلة لها, لكن شاء الله عز وجل أن تكون هي الشرارة المستطيرة للثورات العربية التي ستستمر لسنوات قادمة .
إن حادثة بو عزيزي هي اختزالٌ متراصٌ لدوافع الثورات العربية يغني عن تحليلات المحللين, وفبركات المفبركين, وتشريقات وتغريبات المشرقين والمغربين, هذا الاختزال يتجسد في عنوان واحد هو ((الحرية والعدالة )).
في الوقت الذي قعد فيه العلماء والمفكرون وغيرهم عن مجابهة الظلم والظلمة وانشغلوا بخلافاتهم المذهبية والفكرية, أو طموحاتهم الشهروية والدنيوية أو قضاياهم الشكلية, أو التقليدية المكررة المملة، انشغلوا عن ملايين الجياع وملايين الفقراء والمضطهدين والمقموعين والمعذبين والسجناء والمعتقلين, الذين لم يكن أحد يسمع صرخاتهم وآهاتهم, وهاهي الثورة قد سمعت وأسمعت !
ولكن لا يزال في الأحياء من يصم أذنيه، ويغمض عينيه, ويخدع نفسه, فكأنه لا يوجد في هذه الأمة عالم أو مفكر أو سياسي لا إسلامي ولا علماني ولا علم من الأعلام المشهورة في الفضائيات وغيرها يستحق أن يكون رمزاً من الرموز المفجرة للثورة .
وأبى الله عز وجل إلا أن يكون بوعزيزي هو ذاك الرمز ! لأن النخب بمختلف أنواعها الدينية والسياسية والفكرية والفنية والقيادية انشغلت بأهوائها – غالباً - عن مصالح الشعوب, ومصالح الأمة, وسكتت عن الظلم حتى لا تفقد امتيازاتها ومصالحها, وغضت الطرف عن الاستبداد والقمع حتى لا تفقد مكاسبها.
فأبى الله عز وجل إلا أن يكون رمز الثورات العربية ليس من كل أولئك(( المشهورين الذي يشار إليهم بالبنان))وإنما شاب فقير لا يؤبه إليه مدفوع بالأبواب, إذا استنكح لا يُنكح, وإذا استُشفع لا يُشفّع, وإذا قال لا يُسمع لقوله, تطاولت عليه امرأة ساقطة فصفعته فكان ما كان...!! فكان - بوعزيزي - ولعله ولا أزكي على الله أحداً " خير من ملء الأرض من أولئك أصحاب العمائم والكروش, أو أصحاب الندوات والمؤتمرات، وحقاً ما قيل ما حك جلدك مثل ظفرك!! فكانت الثورة من داخل الطبقة المقموعة, الفقيرة, المضطهدة, والمنسية في ذات الوقت .. حتى لا يكون لأحد عليها تبعة فضل أو منّ.
آلاف الخطب الرنانة في المنابر وفي الفضائيات، وآلاف الوعّاظ والمتصدرين، وآلاف الندوات والمؤتمرات فكانت توصياتها تُرمى في سلال المهملات من قبل الحكام والمسؤولين ، كل ذلك لم يُجْد شيئاً! وما أشبع جائعاً, ولا أغاث ملهوفاً, ولا فك سجيناً, ولا رفع استبداداً, ولا أنهى ظلماً. ولو أن الملايين التي تُنفق على المؤتمرات والفضائيات أُنفقت على البطون الجائعة, والأجساد العارية في هذه الأوطان العريضة لكان حال أمتنا شيئاًً آخر، لو أُنفق ذالك على الحضارة والرقيّ لكان شأن الأمة بين الأمم شأناً آخر .
كل ذلك لم يُجْد شيئاً ! إنما الذي أجدى هو صرخة بو عزيزي، صرخة مظلوم ، صرخة مكلوم ، مكلوم الفؤاد ، مجروح الكرامة! .ولم يكن بو عزيزي فرداً فيما فعل، وهو لا يمثل نفسه ،وإنما صرخته صرخة أمة، وحرقته حرقة شعب .
وما هو إلا تدبير إلهي لإخراج الناس من هذا الضنك الذي حصرهم فيه الطغاة، لم يكن يخطر ببال بو عزيزي وهو يسكب النار على نفسه أن أمته ستنتقم له، وأنها ستثور له، فكان كغيره يائساً من أمته ربما أشد من يأسه من نفسه ومن حياته، ولكن الله عز وجل أراد به أن يُفجّر القدرات الكامنة في هذه الأمة, وأن ]يُحرك الطاقات الراكدة، لتصحو من جديد, وتنبعث في روحها فسحة الأمل فتنطلق إلى العمل! ما هو إلا تدبير إلهي ليعلم الناس أنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الظالمون .
فمن صميم اليأس انبعث الفجر الجديد، ومن كرمة الإحباط والموت تألقت شمس الحرية وانبثقت عدوى وانبثقت غرسة الإخلاص .! فكانت العدوى طوال عقود بل قرون مضت هي عدوى الجبن، عدوى الخوف والجراثيم التي تنتقل من فرد إلى فرد وهي جراثيم الصمت، والخرس، والكبت، والكمد جراثيم الخوف والرعب، فأصبحت العدوى الجديدة: عدوى الشجاعة، والقوة، عدوى الحرية !
فكان الدرس: الجبن عدوى وكذلك الشجاعة.
ها هو الشباب العربي ينادي بملء فيه((الشعب يريد إسقاط النظام))وصدوره عارية، وعلى مرمى الرصاص، آلاف وملايين الشباب خرجوا يتحدون آلة القمع والظلم والطغيان، ولا يبالون بالموت،ولا يكترثون للدبابات، ولا بالطائرات فكل هذا أصبح لعب أطفال أمام إرادتهم الحديدية، وعزيمتهم الفولاذية.
ولكن هذا لا يمنع أنه بقي حثالة من الناس لا تؤثر فيهم صيحات الحرية، ولا صرخات الكرامة، ولا شحذت عزائمهم قوافل الشهداء، ولا قوت قلوبهم هتافات المزمجرين، ولا جموع الثائرين، فظلوا إذا ما أرادوا الحديث عن السياسة وأحداثها والمظاهرات وأخبارها التصقوا بك وغضوا أصواتهم، وحنوا رؤوسهم، واقتربوا من أذنيك : خائفين،مرتجفين، ولا يزالون، ولا أدري متى يزولون!! قالت الثورات كلمتها، وانطلقت مسيرتها، لكن العلماء لم يتفقوا بعد على لقاء يتداولون فيه الرأي حول الموقف من الثورة، أو الفتنة كما يسميها البعض، ومنذ عدة أشهر انطلقت شرارة الثورة في تونس وأٌسقط نظام بن علي، ثم في مصر، ثم في ليبيا واليمن ثم في سورية، وقارب الأمر الأشهر الستة، وإلى الآن لم يتفق العلماء على لقاء جامع، لقاء تشاوري، يوحدون فيه رؤيتهم، ويتناصحون فيه بشأن توجيه أطراف (( الفتنة أو الثورة )) .
إذ كان العلماء وإذا كانت نخبتهم في هذا المستوى من القيادة، وفي هذا المستوى من المسؤولية ، فهم لم ينجحوا في صياغة بيان موحد، ولا تأسيس مجلس لهم ، أو حتى لقاء جامع لكلمتهم، فكيف يمكنهم أن يكونوا قادة ثورة أو صُنّاع أمة ، ودعاة حضارة ؟ ! . أخشى أن كل ما يرى أنه بناء قوي وشامخ ومتين، ما هو أوهام لأنه لم يؤسس على تقوى من الله ورضوان .. ولا يزالون مختلفين !! .
آلاف الشهداء وآلاف الثكالى واليتامى وآلاف الصرخات (( وامعتصماه )) ولا معتصم اليوم، وآلاف المعتقلين الذين يسامون بأصناف العذاب، وألوان النكال من سلخ الجلود إلى ثقب الأجسام بالمسامير، أو بالرصاص، إلى تكسير الأسنان، وقلع العيون، إلى قطع الأعضاء الذكرية، إلى الإستهزاء بالمقدسات، والسخرية بالشعائر، وإرغام الناس على شتى ألوان الكفر من سجود للصور، وامتهان للقرآن الكريم ، واستهزاء بآياته ، إلى غير ذلك ... إلى اغتصاب النساء في البيوت أمام محارمهن ومن رفع صوته غاضباً أُردي قتيلاً بدم بارد، إلى سرقة الأموال، ونهب الممتلكات وانتهاك الحرمات .
كل ذلك ليس خبراً يقال فقط، بل صورة ناطقة، وعيان يهز الضمائر، ومشاهد تتقطع لها القلوب، غير أن علمائنا...لا يزالون مختلفين!! مختلفين حول إمكانية اللقاء وليس حول مضمونة، وحول إمكانية البيان وليس حول موضوعه..
* * *
البعض يقول : إن كل ما تذكره من فظائع يرتكبها النظام بحق الناس وكل ما يمكن أن يفعله هو الذي يجعل العلماء مختلفين أو مترددين لأن دفع الضرر الأشد بالضرر الأخف قاعدة مشروعة، وبناء على هذه القاعدة فقتل 1000 أهون من قتل 100000 وقتل مئة ألف أهون من قتل مليون وهكذا .... فالقاعدة الشرعية مسلطة على رقاب الناس، وعليهم أن يسكتوا ويرضوا بقدرهم، ويستكينوا أذلاء مدحورين، مقهورين خيرٌ لهم من أن يموتوا ! فلسان حال الجبناء يقول : " ألف قولة جبان ولا قولة الله يرحمه " يُعتقل الناس ظلماً، يُقتلون في السجون، يُدفنون في مقابر جماعية، يُعذبون عشرات السنين، كل هذا وعليهم أن يصبروا، ويصابروا حتى لا يموتوا، أو يُبادوا .. وهنا غيّب مشايخنا نصاً قرآنياً واضحاً صريحاً وهو قوله تعالى : " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون " لحساب قاعدة اجتهادية قد تنطبق على الواقع الآن وقد لا تنطبق .
إن القول : لنبق ساكتين حتى لا ندفع ثمناً أكثر ليس صواباً لأن الأمة كانت تدفع قبل الثورة فاتورة دائمة في كل يوم، وفي كل صباح، ولكنها فاتورة غير محسوبة . والظلم في الدوائر الحكومية : في القضاء ، في السجون والمعتقلات، في الوظائف، في الجيش، الإذلال والإهانات المستمرة للناس، وأكل أموال الناس بالباطل، محاصرة ومضايقة أهل الدين والصلاح، وفتح الأبواب لأهل الفجور والضلال، وألوان من التنكيل والتعذيب في المعتقلات والسجون، كل ذلك كان قبل الثورة، ولكنه كان فاتورة يدفعها الشعب بلا مقابل بلا أمل، ما كان أحد يسمع صرخات المعذبين، ولا آهات المكلومين ، ولا زفير المظلومين، ولا حسرات المستذَلين، لأن ذلك كله كان يحصل في صمتٍ مطبق، تحت الأرض في ظلامٍ حالك، أو فوقها في استكانة مريرة، ضوضاء بلا شغب ، بلا إعلام بلا تصوير !
المسرحية لا يشاهدها إلا الممثلون فقط، مسرحية بلا مشاهدين، بلا متفرجين، وهي مسرحية طال أمدها، فصولها لا تنتهي ، ومشاهدها لا تنحصر ..!
ويقولون : لنسكت رغم كل ذلك! فما نحن فيه صحيح، ولكنه أهون مما سيكون لو تكلمنا، لو رفعنا صوتنا، ستكون هناك فظائع لم تخطر على بال البشر ..
ولذلك بقي العلماء ساكتين ..!
وأنطق الله عز وجل المساكين ..!
نطقت الشعوب فقالت حيث خرس أرباب الفصاحة والبيان ..!

ولطالما صدعوا الرؤؤس بخطبهم ومواعظهم حين كانت تدر عليه مغانم من الشهرة والمجد، أما اليوم فحين أصبحت الكلمة خطراً قد يجلب الموت واللحد ، فها هي المنابر خالية، أعني منابر الثورة، أما منابر الرويبضات فهي عاجّة بالكذب والنفاق .
لكن الحقيقة أنه لا فرق بين ما يحصل اليوم من قتل وتعذيب وتنكيل بالشعب، وما كان يحصل قبل الثورة إلا في السرعة والتسرع، حيث يتم ذلك اليوم بسرعة وتسرع، في حين كان يحصل ببطء، فالقوم ما كانوا مستعجلين، والفارق الثاني هو أن الصوت اليوم مسموع، والفاتورة المدفوعة اليوم هي رصيد من ثمن الحرية والعزّة والكرامة .
وهذا هو الذي صنعته الثورة نطقت فقالت : كفى ظلماً، طفح الكيل، الصور هي هي ، لكنها كانت بلا مشاهدين، فجعلتها الثورة على مرآى ومسمع من الناس والإعلام، كانت بلا متفرجين ، فأصبحت تهز ضمائر الملايين وتستثير نصرة الصادقين في كل مكان .
إن صورة ذلك العجوز الذي كان يركل على رأسه بالأحذية من قبل الجنود وهو يتأوه ويصيح ليست جديدة، بل أمثالها قبل الثورة كثير، والفارق أن الثورة كشفتها للناس، وكشفت مثلها وأمثالها الكثير . وكذلك صورة حفلات (( الدوس )) والتقاط الصور فوق الأجسام والكوّمة، وركلها بالأقدام، أو المشي فوق الجثث المقطعة، والرؤوس المهشّمة، كل ذلك ليس غريباً على نظامنا وليس جديداً بل هو استراتيجية متبعة تُبطئ وتُسرع بحسب الحاجة ..
وقد كانت وظيفة الثورة أنها أحرجت أولئك الساكتين الصامتين حين أظهرت أمثال هذه الفواجع، وهذه الفظائع لتكون شاهداًً على عصرٍ نام عنه روّاده وقادته، ولكن عين الله عز وجل حاشا أن تنام، لقد أصبحت كل حادثة وكل جريمة وكل واقعة اليوم هي جزء من ثمن الحرية التي اقترب الوصول إليها بعون الله وتوفيقه .
* * *
هل كان بوعزيزي حين أحرق نفسه مدفوعاًًًًًًًًًًًًًًًًًً من أميركا أو أوربا أم أنه الظلم الذي دفعه لذلك ؟
وهل نزل شباب مصر وشيبها ونساؤها وكهولها إلى ميدان التحرير بتحريض من أمريكا وأوربا ؟ أم هو الظلم الذي جعل الشعوب تنتقص لتسحق ظالميها وجلاديها ؟ ومثلها اليمن وليبيا، وكذلك الحال في سورية، ما كان لأمريكا ولا لغيرها أن تصنع في الربيع العربي، بل كانت السند الأول للحكومات المستبدة لتظل قوية في مواجهة الشعوب وكبتها وكبحها، لأن ما يخيف الغرب هو الشعوب وإرادتها، وليس الحكام وصنائعهم .!
وما تخلت أمريكا عن ولاتها من الحكام العرب إلا بعد أن أدركت أن الثورات أقوى منها ومنهم، وأن هزيمة الحكام وانتصار الشعوب حتمية لا مفر منها، ولذا فعليها أن تسلك طريقاً آخر في التسلل إلى مكاسب الثورات لتنتهبها، وإلى مآلاتها لتحرفها باتجاه مصالحها .
لا يمكن لأحد أن ينكر أن هناك مؤامرة، ولكن الثورات هي بالدرجة الأولى ثورة على المؤامرة، والغريب أن توصف الثورات بأنها مؤامرة، وننسى أننا نعيش في ظل المؤامرة منذ مئات السنين قبل سايكس وبيكو، وأن هناك مؤامرات تلت ذلك لا تزال متلاحقة لإقصاء الشعوب وإذلالها وإضعافها دائما وتغييبها عن ساحة التقدم والحضارة والحرية، وما الربيع العربي إلا محاولة للتملص والإفلات من عنق الزجاجة الذي تختنق فيه الشعوب العربية منذ سنوات طويلة.
هذه الثورات لا يمكن وصفها إلا بأنها لطف إلهي بهذه الأمة الجريحة منذ مئات السنين، ما هي إلا تدبير إلهي لإعادة الثقة إلى أرواح المسلمين اليائسة، وهي تغيير رباني لفتح نافذة أمل في الجدر السمكية التي أحدقت بهذه الأمة، بفعل المؤامرات المتلاحقة، ما هي إلا تدخل ألهي، ومعونة ربانية لهذه الأمة التي حاصرتها المكائد، وكبلتها القيود، وأحدقت بها الويلات من كل الجهات، فما عاد الحلماء والحكماء فيها يجدون منفذاً للخروج، أو ممسكاً للنهوض.
ولذا فإن الله عز وجل بتحريكه لهذه الشعوب بشكل مفاجئ وغير متوقع، وبعد يأس وقنوط، يحيى في هذه الأمة، أمل الحياة، والنهضة والتقدم، ويُجدد في كيانها الثقة بالنصر والقيادة والريادة بعد عهود من الذل والتخلف، وبعد أن كادت الأمة أن تفقد الثقة بنفسها وأجيالها .
* * *
إن الثورات العربية حين بدأت ثورة عارمة فأسقطت عروش المستبدين من الحكام الموالين للغرب، ثورات عفوية دفع إليها الظلم والقمع والقهر، ولكن هذه الثورات أمامها مخاطر عظيمة إن هي انتصرت فكيف إن خسرت؟! فإن الثورة بعد أن يتم لها سقوط الطاغية تبدأ الحرب من وراء الكواليس، وتنشط المؤامرات، وتبدأ حرب المخابرات العالمية كل يريد أن يحصد مكاسب الثورة لنفسه، والحقيقة أن الحرب المخابراتية تبدأ مع إرهاصات الثورة وأثناءها وبعد انتصارها، وهي حرب خفية لا يراها الجمهور، يُلعب فيها بالمال والاقتصاد والسياسة والقوة والذكاء والدهاء والدين والفكر والإعلام، الجميع يخوض حرباًًًًًًًًًًًًًًً ويوظف كل ذلك لاقتناص مكاسب الثورة .!!
وهذا هو الذي يخافه الخاذلون للثورة ويعزفون عليه كثيراً : المؤامرة، الغرب، أمريكا، والسؤال الذي يواجههم الآن " هذه المعركة قد بدأت، والشعب اليوم قوي أكثر من أي يوم مضى ؟ فلماذا تخذلون شعوبكم، وتتخلون عنهم وتتركونهم نهباً للمؤامرات؟! لماذا تكتفون بالنحيب والتحذير والنكير ولا تخوضون المعركة مع شعوبكم ضد طغاة العصر، وفراعنة الزمان ؟!
إن ثورات الشعوب ماضية إلى غير رجعة, وإذا خسرت فلأن العلماء خذلوها، إذا سُرقت فلأن العلماء ناموا وتركوها .
(( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ))
(( ولله العزة ولرسوله ))
(( إن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير ))
المؤامرات متلاحقة منذ عقود بل قرون، وهي تنشط وتشتد بعد الانتصار المبدئي للثورات، وذلك بإسقاط أنظمة الاستبداد، عندئذ يزداد حراك المتآمرين، ويبذلون الغالي والرخيص لتغيير مسارات هذه الثورات، لأن النصر الحقيقي هو لمن يتمكن من ذلك، ويتحكم بمآل الثورات ونتائجها، لا شك أن أعداء الأمة في الداخل والخارج سيسعون لتحقيق هذا الهدف بكل الوسائل، وكافة السبل، ويبقى السؤال للعلماء والنخب الصامتة والمترددة والمتلعثمة : لماذا تقفون متفرجين لما سيفعل بنا ؟ لماذا لا تسعون لتكونوا فاعلين مؤثرين ، فهذه هي المعركة الحقيقية ، وهنا يكمن النصر الجوهري !!
نعم إن الأعداء يملكون قوة مادية كبيرة وكثيرة ، قد لا تملك أمتنا ما يوازيها من حيث الظاهر، ولكن من يملك الشعوب هو الرابح دائماً ، والشعوب اليوم تنتدب قادتها، وتستصرخ سادتها ليأخذوا زمام المبادرة في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة، لأن من يمتلك المبادرة سيتحكم بالتاريخ لعقود قادمة، وربما أكثر .
لم يعد الأمر اليوم يحتمل خلافاً ولا شقاقاً، يحتاج الموقف إلى حسم عاجلٍ بلا تردد، هناك طرفان: ظالم ومظلوم، قاتل ومقتول، والأمرُّ من ذلك أن شعباً بأسره يقتل، وأعراضاً تُنتهك، وأجساداًًًً يُمثل بها، وديناً يُستهزأ به، وشعائر تدنس، وأرواحاً تزهق، إنها أمة بأسرها تُذبح على مرأى ومسمع من التاريخ والإنسانية .
فمجلس الأمن يحتاج إلى جهود متضافرة حتى يتمكن من استصدار قرار الإدانة بعد كل ما حدث من مذابح، ومجازر، والجامعة العربية شبعت موتاً منذ سنين، والنخب العلمانية مشغولة بمشاريعها العاجية التي نبتت واستنبتت في بيآت غريبة بعيدة عن مصالح الأمة ومطامحها .
وأما بعض المشايخ والعلماء فلا يزالون مختلفين في فهم الحكم، هل يجوز الخروج ؟ أم لا يجوز ؟ هل يجوز التظاهر أم لا يجوز ؟
أما النظام فقد حزم أمره وخرج عن كل الأعراف والقيم الإنسانية، وقرر أن يكون متوحشاً ضارياً بلا هوادة، وأن يبطش بلا رحمة، وإلى أن يتفق العلماء على موقف تكون الفئات المختلفة قد تقاسمت التركة : الغرب، والعلمانيون، والفلول العديدة ذوات النفوذ والمصالح .
وعندئذ يقول المشايخ للناس ألم نقل لكم لا تقوموا، لا تخرجوا، ها قد فررنا من المطر إلى الميزاب، وكأن قدر الأمة أن تبقى تحت العذاب تُسامه ظاهراً عنيفاً مرة، وباطناً مخيفاً مرة أخرى !!.
لماذا لا يكون العلماء ومن معهم من النخب المختلفة جزءاً من المعركة، لماذا لا يكونون الرقم الصعب فيها، لماذا يقبلون أن يظلوا منفعلين غير فاعلين، يتلقون فقط ولا يُلقون، يتأثرون ولا يتأثرون، يُساقون ولا يسوقون، يستجدون ويتوسلون، وما أكثر ما استجدوا، وما أكثر ما توسلوا!! لماذا يرضون بالذل وقد أعزهم الله؟ ! لماذا يرضون بالدون وقد رفعهم الله تعالى؟! لماذا يتأخرون وقد قدمهم الله عز وجل؟!
كانوا قبل ذلك يتذرعون بجبن الناس، يتذرعون بانفضاضهم عنهم في أي أزمة أو ملمة، واليوم الناس أمامهم، والشعوب زاخرة مزمجرة تقدم الدماء والشهداء، وقد خنست كثير من العمائم، وطأطؤا رؤوسهم، وخذلوا شعوبهم، وتراجعوا وقد كانوا يتصدرون، لأن الغرم ثمين قد يكون المهج والأنفس، وسكتوا وقد كانوا بلغاء خطباء لا تخونهم الكلمات، ولا تعجزهم البلاغات !!.
د. أحمد إدريس الطعان - كلية الشريعة - جامعة دمشق
كلية أصول الدين - جامعة العلوم الإسلامية العالمية