بـسـم الـلـه الـرحـمـن الـرحـيـم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف الأنبياء والمرسلن وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.... وبعد،،،،
من اكثر ما يلفت الإنتباه هو ان الليبراليين يطالبون بمنح مخالفيهم حرية الرأي ، واقصد بمخالفيهم أي الإسلاميون ، فما وراء ذلك؟
إنه ليس من العقل ان تمنح عدوك سيفا بنفس مواصفات سيفك كي يقاتلك به ؛ فهذا سفه وجنون ، وكذلك فإن الليبراليين ليسوا بهذه النزاهة والمثالية حتى يكونوا منصفين ومتجردين من ذواتهم فيطالبوا بمنح مخالفيهم ما يطالبون به لأنفسهم ، ومن عباراتهم المشهورة قول احدهم: "انا اكره افكارك ، ولكن لك الحق علي بأن ادفع حياتي في سبيل حقك للتعبير عنها" ، شعار براق لكنه غير واقعي.
فما السر في ذلك؟
لابد أن تكون لنا عودة الى الماضي لنلقي نظرة على الملاحدة والفلاسفة وأي نهج انتهجوه وأي ادوات توسلوا بها في نشر معتقدهم.
إن امة الإسلام قامت على الرسالة الخالدة ، وهي توحيد الله ، وقد ختمت الرسالات بهذا الدين المتصف بتشدده في باب التوحيد وتوسعه في باب العبادات ، على ان امة الإسلام كانت في تلك الأيام امة غالبة وغيرها امم مغلوبة.
إندس من اندس من الملاحدة والعقلانيين والفلاسفة في الصف الإسلامي ، واتوا الناس بما يتقبلونه وينطلي عليهم بل وبما يتحمسون للدفاع عنه ، حتى يتوصلوا إلى نشر إلحادهم ، فكان ذلك الباب هو تحقيق التوحيد ، فقالوا بوجوب تنزيه الله عن الصفات المماثلة للصفات التي يمكن ان يوصف بها المخلوق، زاعمين بأن من اعتقد ان لله صفات فقد اشرك في التوحيد.
فالقول بأن الله له يد أو ان له حكمة أو أن له قدرة فيه مشابهة للمخلوق ، فالمخلوق له يد يبطش بها ، وله حكمة يقدر بها الأمور ، وله قدرة يسيطر بها على ما حوله، فإذا قلنا بإتصاف الله بهذا فقد اشركنا المخلوق مع الخالق ، وتناسوا ان منهج اهل السنة هو إثبات الصفات وتفويض الكيفة.
وبدأ الخلاف العنيف في الصفات بين أهل السنة من ناحية واهل التحريف من ناحية أخرى ، فخرج المأولون والمعطلون والمفوضون ، وتشكلت منهم فرق ومناهج لا يكاد احد يطيق عدها ، بل كلهم اتهم اهل السنة فقالوا مجسمة ومشبهة وحشوية.
وقد لزم من قولهم هذا ان يكون الله بلا صفات ، أي ان الله عدم ـ تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ـ وهذا هو الإلحاد بالمعنى المعاصر ، أي إنكار وجود الله ، لكن لم يكن ذلك بصورة مباشرة.
وقد تخرج من هذه المدرسة الإلحادية العديد من الشخصيات كابن عربي والراوندي والحلاج والنظام وابن سينا وابن عطاء والجهم وغيلان والفارابي وغيرهم كثير ، و كانت لهم نظريات عقلية معقدة ومبتذلة لعلنا نشير بالإسم الى اشهرها: الحلول ، الإتحاد ، الجهة ، الحد ، الأعراض ، الأغراض، الأبعاض، حلول الحوادث ، التسلسل، الإسم والمسمى ، اللفظ والملفوظ ، الأحوال ، طفرة النظام....الخ.
وابتليت الأمة الإسلامية بهم قرونا طويلة ، وعذب احمد بن حنبل وقتل نعيم بن حماد وسجن ابن تيمية وصار ماصار من مساجلات.
وهكذا كان فعلهم ، وقد بنوا ذلك على تحقيق التوحيد بتنزيه الخالق عن مشابهة المخلوق ، ودخل في هذا الفكر أناس عن حسن نية ظانين انهم يحققون التوحيد ، فكان الرجل يأخذ بهذا الفكر ثم ما يلبث أن يصل إلى مرحلة الإلحاد رغم قناعته بوجود الله ، فيعيش في تخبط وهيام ، فلا هو استفاد من عقله ولا استفاد من النصوص الشرعية.
وما أشبه اليوم بالبارحة ، فاليوم يطالب الليبراليون بحرية الرأي للمخالف ، والسؤال المتبادر إلى الذهن: أفلا يخشون أن يغلبهم مخالفهم بهذا ويدحرهم؟
في الحقيقة أن الليبراليين ـ وكما هو متفق عليه ـ ليسوا إلا ذراعا لمشاريع تغريبية في بلاد الإسلام ، هذه المشاريع يمنع من تقدمها عدم قبول المجتمع بمساس أو انتقاد ثوابته الدينية والثقافية.
ولأنهم أمة غالبة فهم يعزفون على وتر سنة كونية ، وهي التي نظرها ابن خلدون في مقدمته لعلم الإجتماع ، حيث قال: "إن المغلوب مولع بتقليد الغالب".
ولكي تتخلى هذه الأمة المغلوبة عن مبادئها فلابد من أن يتاح مجال شاسع لنقد هذه المبادئ ؛ حتى تخجل هذه الأمة من مبادئها وتتجه لإستيراد مالدى الغالب ولو بدون قناعة ، وعلى هذا صاروا يطالبون بحرية نقد الشخص لما يشاء ، وان هذا تحضر وتقدم ، ومنعه تخلف ورجعية.
وحتى يكون الشعار براقا وأكثر قبولا فقد طالبوا بأن يكون النقد لكل من اراد النقد ، وللجميع الحق في الرد على هذا النقد، وهو ما يسمى بالرأي والرأي الآخر.
وعليه فلليبرالي الحق ان ينتقد موروث المجتمع الإسلامي الفكري والثقافي بكل حرية ، وكذلك كامل الحرية للإسلامي أن يرد عليه بل وينتقده وينتقد الليبرالية أيضا.
في ظاهر الأمر هذا عدل وإنصاف، فالنتيجة هي التساوي ، فلك وعليك مثل ما لي وعلي.
ولكن عندما نلقي نظرة بانورامية ينكشف امام اعيننا مكر كبار ، فالليبرالي لم يطالب بالعدل في هذه النقطة إلا لأن جوانب أخرى تدعمه يمتكلها ويفتقدها غيره ، وهي أن الليبراليون ينطلقون من أمة غالبة قادرة بغلبتها على تصدير فكرها وثقافتها الى امة مغلوبة جرت عليها سنة الله الكونية بأن تقلد الأمة الغالبة.
وكذلك فإن الليبراليون ينطلقون لنشر فكر اسيادهم من عقر دارنا وليس من دار سيدهم ، وعلى هذا فنقدهم لمبادئ الإسلام سيكون اكثر قبولا ، ودفاعنا عن مبادئنا سيكون اقل قبولا.
تخطيط ولا شك جهنمي ، وفهم عميق بالسنن الكونية ، بل وفهم عميق بما تتعرض إليه امتنا من جهل وضعف أيمان ، لكن لا شك بإنهم مغلوبون بإذن الله وأن الدوائر ستدور يوما ما عليهم مما خططوا ، وهذا ما قرره الله في قوله جل من قائل {{إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليضلوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون}}
Bookmarks