أولاً: حياته:
ولد" أوجست كونت " بباريس سنة ثمان وتسعين وسبع مائة وألف, لأسرة متدينة شديدة التعلق بالنصرانية الكاثوليكية. وكان المنتظر أن يكون ابن أسرته في ذلك, متديناَ شديد التعلق بالنصرانية. لكنه فاجأ أسرته بإعلانه كفره بالنصرانية وجميع الأديان, وقد اتخذ هذه الخطوة الخطيرة في سن مبكرة حيث كانت سنة حين أعلن كفره حول الرابعة عشرة, أما عن مسيرته العلمية والعملية ., فهو لم ينتظم في التعليم طويلاً ، ولكنه تولي تعليم نفسه, فدرس الرياضيات وبرع فيها, ثم درس الفلسفة وبرز فيها كثيراً, وفي أثناء دراسته اتصل بالفيلسوف الفرنسي " سان سيمون" وعمل سكرتيرا له لخمس سنين ( 1817-1822 ). ثم اختلف معه حول بعض القضايا الفكرية, فتركه . اشتغل بعد ذلك بإلقاء محاضرات في " فلسفة العلوم", ثم مزج بفلسفة العلوم فلسفته الوضعية واللاهوتية, وكانت محاضراته تجتذب الكثيرين من العلماء, لكنه بعد ثلاث سنوات أصيب بلوثة عقلية وانهيار عصبي , ولما شفي من مرضه عاد إلى إلقاء محاضراته, ولم يطل به الأمر حتى عاوده المرض العقلي مرة أخرى, فحاول الانتحار, لكن امرأته عنيت به حتى مرت الأزمة. وكان مرضه الثاني بسبب هيامه بامرأة عشقها حتى الجنون, ولما ماتت هذه المرأة بعد سنتين من هيامه بها أصابته هذه اللوثة التي بدا أنه شفي منها ظاهراً, بينما كانت لوثته وجنونه يعيشان معه يستقي منهما أفكاره وفلسفته, حتى كان ذلك الكم الهائل الذي جاء به الرجل من فلسفته التي أقل ما توصف به أنها فلسفة ساقطة, وفكر تافه لا يصدر إلا عن رجل مجنون, وقد ظل هذا الفيلسوف يدعو إلي أفكاره وفلسفته وبخاصة الدين الذي اخترعه حتى استطاع في أخريات حياته أن يجتذب إليه طوائف من أمثاله, ثم هلك الرجل في سنة سبع وخمسين وثمان مائه وآلف.

ثانياً: مفتاح شخصيته :
ترجع المؤثرات في شخصية " أوجست كونت ", كما يرجع نتاجه الفكري والفلسفي – فيما نرى – إلى عوامل كثيرة أهمها:

1- العصر الذي كان يعيش فيه الفيلسوف.
حيث اتسم ذلك العصر بالفوضى الفكرية, والغوغائية المذهبية, فقد ظلت الشعوب الغربية تعيش حالة من الكبت والحجر على الحريات لأكثر من ألف عام تقريباً. وكانت تلك الشعوب مطحونة بين رجال الكنيسة وفسادهم من جانب, وطغيان الملوك والحكام وجبروتهم من جانب آخر, فلما جاء الوقت الذي ثارت فيه الشعوب على ثنائي الجريمة هذا, واستنشقت نسيم الحرية الأول مرة منذ ألف عام, انطلق الناس كالسوائم التي طال سجنها فأصابها ما يشبه السعار فأخذوا يعبرون عن أنفسهم بأفكار وآراء على قدر كبير من الشذوذ, والكثير من هذه الآراء والأفكار تخطى عدوة العقل إلى عدوة الجنون, وليس من شك في أن أفكار" كونت" هذا تعتبر أوضح مثال هذه النوعية, وعلى التأثر بهذا العامل.

2- عداء الرجل الشديد للدين والمتدينين.
ولم يكن الرجل بدعاً في هذا وقتذاك, فإن العداء للدين, والمقت الشديد للمتدينين كان السمة المميزة لذلك العصر الذي عاش فيه. غير أن كراهية الرجل للدين, ومقته للمتدينين قد فاقا كل مثال, وتخطيا كل حد . ولعل بعض أسباب ذلك يرجع إلى ما اتسمت به أسرته من التدين الشديد, والتمسك بالنصرانية في تزمت وتعصب مما جعل الأمر ينقلب عند الرجل إلى " رد فعل" عكسي دفع به إلى العدوة القصوى من العداء والمقت للدين والمتدينين . وإذا كان هذا بعض السبب., فلعل السبب الأقوى والمؤكد في عداء الرجل للدين والمتدينين إنما يرجع إلى رجال الدين النصراني, وما كانوا عليه من تحجر وجمود في الفكر وعداء شديد للعلم والعلماء, هذا من جانب, ومن جانب آخر ما كانوا مغرقين فيه من الفساد الخلقي والفجور والانحلال والشذوذ, بينما هم يمثلون الدين, ويوجهون المتدينين .

3 – ما أدركه الرجل من حاجة المجتمع إلى الدين .
وهذا ما أصاب الرجل بحيرة واضطراب وفقدان الاتزان النفسي والفكري. فهو يمقت الدين ويرى أنه خرافة ووهم. وفي نفس الوقت يدرك جيدا ًأن الدين يمثل ضرورة جوهرية للمجتمع لا يمكن الاستغناء عنها, من هنا اشتعلت نار الحقد في قلب الرجل, وأصابه الاضطراب والحيرة ؛ كيف سيتصرف مع هذا العدو الذي لا غنى عنه ؟ هذه الحيرة وهذا الاضطراب الذي حاول الوصول إلى علاج لهما, والذي ستكون لنا معه وقفات- بحول الله سبحانه- .

4- حالة الرجل النفسية والعقلية :
فالرجل كان يتميز بصفات نفسية وعقلية لازمته طوال حياته, وتركت آثارها على مسيرته الفكرية كلها. فلقد كان ذكياً إلى حد كبير, وكان إلى ذكائه صاحب مزاج حاد, ونفسية مهزوزة, وطبيعة متقلبة, ومشاعر مضطربة. وكل هذه الصفات جعلته مؤهلاً للإصابة بالأمراض النفسية, والهزات العصبية, والاختلال العقلي, المرة بعد المرة كما رأينا من سيرة حياته.ومثل هذا الرجل بحالته التي جعلته معرضاً للجنون في أي وقت, بل جعلت الجنون يراوده ثم يرتاده حيناً بعد حين, مثل هذا لايمكن أن ننتظر منه فكراً سليماً, ولا فلسفة سوية . . وليس من باب المصادفة أن أهم نتاج الرجل في الفكر الإنساني ومراحله, والدين الذي اخترعه ودعا إليه, إنما كتبه وهو في حالة جنونه الأخيرة والتي لم يشف منها قط, بل لازمته ما بقي له من عمر, وقد كان يصرح بأن معشوقته التي هلكت تتمثل له, وتعايشه وتملي عليه جميع أفكاره ومشاريعه الفلسفية, وبخاصة مشروعه الذي أسماه" دين الإنسانية ". أفيكون عاقلا من يزعم أن هذا الرجل قد شفي من جنونه ؟

5- موقف علماء عصره من فكره :
لقد كان الرجل بطبعه شديد الاعتداد بنفسه, وكان يرى نفسه فذا بين المفكرين في عصره, فنزعة الغرور والكبر كانت متأصلة فيه, ولما بدأ يلقي محاضراته في فلسفة العلوم أقبل عليه المفكرون يستمعون إليه, ويهتمون بأفكاره, ويثنون عليه, فزاده ذلك غروراً وكبراً. ثم لما انتقل إلى تحليل المجتمعات الإنسانية والمراحل التي مر بها العقل الإنساني لم يراجعه أحد من العلماء, بل ازداد إعجابهم به, مما جعله, يزداد اغتراراً واستكباراً إلى أن بلغ به غروره إلى اختراع دين يعارض به جميع الأديان وليحل محلها.
ولو أن مفكري عصره وقفوا لأفكار بالمرصاد يحللونها ويظهرون فسادها وضلالها, ولو أنهم راجعوه وبينوا له أخطاءه, لعرف لنفسه حداً يقف عنده ولما انتهى به الأمر إلى ما انتهي من إليه من هذا الكم الهائل من الضلال. ولكن أنى لهم ذلك؟ وهم في مثل ضلاله أو أضل.

ثالثاً: فلسفته :
للرجل نتاج فكري وفلسفي واسع ومتشعب لكنا نستطيع أن نصنفه إلى نوعين :
الأول : نتاجه الفكري في فلسفة العلوم والرياضيات وغير ذلك مما لا صلة لـه بالدين أو بالعقل الإنساني ومراحله, أو الطبيعة البشرية وما وقع لها أو مر بها. وهذا نتاج فكري له قيمته ووزنه عند المشتغلين به. وهذا النوع من فكر الرجل هو الذي لفت الأنظار إليه في البداية وصنع له اسمه عند علماء عصره, وبخاصة نتاجه في فلسفة العلوم. وهذا النوع من الفكر قد يصيب فيه الرجل أو يخطئ, ولسنا في مجال دراسته أو الحديث عنه أو تقويم فكر الرجل فيه.

الثاني : فلسفة " كونت " وأفكاره التي تتصل بطبيعة الإنسان, والمراحل التي مر بها الإنسان في تقدمه وتحضره عبر العصور المختلفة منذ وجد على ظهر الأرض حتى العصر الحديث الذي كان فيه" كونت ". وهذه المراحل التي يطلق عليها " كونت" وأتباعه " "مراحل التقدم الإنساني ". وفي إطار فلسفة "كونت"حول مراحل التقدم الإنساني وضع جملة أفكاره ومبادئه التي قام عليها المذهب الوضعي أو الفلسفة الوضعية, التي يعتبر " كونت" هو مؤسسها وواضعها, والتي تابعه عليها وطبق مبادئها جمهرة الفلاسفة الذين جاءوا بعده .

******************

فلسفة " كونت " الوضعية :
نذكر فيما يلي أهم الأسس التي تقوم عليها الفلسفة الوضعية " كونت" . ثم نعقب ذلك بنقد هذه الفلسفة. وأهم الأسس التي تقوم عليها الفلسفة الوضعية :
1-تقوم الفلسفة الوضعية على أن الفكر الإنساني لا يدرك إلا الظواهر المحسوسة في العالم الذي نعيشه. ويدرك ما بين تلك الظواهر من علاقات مادية محسوسة واضحة . أما البحث وراء الظواهر الطبيعية عن علل لها خفية, أو أمور غائية, أو حكمة وعناية, أو فاعل ومدبر, أو خالق وصانع. فهذه كلها أوهام وخرافات ما ينبغي أن يفكر فيها أحد. وإن وجد من يتمسك بها, فإنما هي أوهام ذاتية لا صلة لها بالواقع إطلاقاً. فالبحث عن العلل والغايات وراء الظواهر إضافة إلى أنه وهم وخيال, فإنه لا يمكن إدراك شئ من ذلك, ولا فائدة له في عالم الواقع, وهو مفسدة للعقل, مضيعة للوقت والجهد .
يتضح من هذا أن المذهب الوضعي الذي وضع" أوجست كونت " أسسه مذهب مادي إلحادي يقوم على الإيمان بالمادة وحدها, وينكر كل ما وراء المادة والحس, ويرى أن المعرفة اليقينية هي المعرفة الحسية المادية التي تقوم على الملاحظة والتجربة الحسية. وكل معرفة لا تقوم على الحس أو التجربة فإنها عند هؤلاء وهم وخيال . المذهب الوضعي – إذن – مذهب مادي إلحادي ينكر جميع الأديان, ويرفض الغيب والمغيبات عن الحس , ويطعن في كل معرفة تأتي عن طريق الوحي, لأنه لا يؤمن بوجود الموحي – سبحانه -.

2-قانون الحالات الثلاث :
يرى " كونت " أن البشرية مرت عبر تاريخها الطويل منذ وجودها حتى زمانه بحالات ثلاث, أو مراحل ثلاث متتابعة ومتوالية. وكل مرحلة تسلم للأخرى التي تليها ، وهذه الحالات الثلاث يطلق عليها " كونت " " قانون التقدم الإنساني" والفيلسوف مثل كل الفلاسفة والمفكرين الماديين الملاحدة يعتقد أن البشرية بدأت حياة بدائية قريبة من حياة الحيوان. ثم تقدمت تدريجياً عن طريق الخبرات والتجارب الحياتية, دون معونة أو توجيه من وحي أو إله. وهذه هي نفس عقيدة علماء الاجتماع والنفس, فكل هؤلاء يعتقدون أن الإنسان نشأ بدائياً, ثم تدرج بذاته وخبراته وتجاربه ، حتى وصل إلى ما هو عليه الآن. وهذا الرأي مناقض تماماً بل مصادم للعقيدة الحقة التي نعتقدها ونؤمن بها نحن المسلمين. بل ويؤمن بها كذلك اليهود والنصارى أصحاب الكتابين السماويين, رغم ما وقع فيهما من تحريف وتبديل , فالكل يؤمن بأن البشرية بدأ تاريخها بأبي البشر" آدم" عليه السلام, وأن الله- سبحانه- خلقه ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته, وأسكنه جنته. وقد كان آدم عليه السلام نبياً, ولم يكن جاهلاً ولا بدائياً, بل كان لديه من العلم الذي أفاضه الله- تعالى- عليه. وعلمه إياه ما لم يكن لدى الملائكة, ولقد أمر ربنا- سبحانه- آدم أن يعلم الملائكة بعض ما كانوا يجهلون, فقد قال الله- تعالى- لآدم عليه السلام, " ياآدم أنبئهم بأسمائهم " هذه عقيدتنا, وهذا هو الحق لدى المسلمين, بل لدى غيرهم من أصحاب الدينين السماويين .
لكن" كونت " حسب ما يرى أن البشرية نشأت بدائية ثم تدرجت نحو التقدم, وإنه- بناء على ذلك- وضع ما أسماه " قانون الحالات الثلاث, أو التقدم الإنساني ". حيث إن البشرية مرت عبر تاريخها نحو التقدم بثلاث حالات أو مراحل :
-الحالة الأولى: اللاهوتية
-الحالة الثانية : الميتا فيزيقية
-الحالة الثالثة : الوضعية
-الحالة اللاهوتية : يرى " كونت " أن هذه الحالة أو المرحلة كانت البشرية تحاول فيها التعرف على ما حولها. وكان العقل الإنساني يبحث في هذه المرحلة عن كنه الأشياء, وحقيقة الظواهر, وكان يحاول إرجاع كل طائفة من الظواهر إلى علة أو مبدأ مشترك. ويقرر "كونت " أن الإنسان في هذه الحالة اللاهوتية قد مر عبر ثلاث مراحل :
-المرحلة الأولى : ويسميها المرحلة " الفتشية " وفي هذه المرحلة كان الإنسان يخلع على الأشياء والظواهر الطبعية من حوله نوعاً من الحياة, ويعتقد أن لها تأثيراً في حياة الناس وأنها تتصرف في مصائرهم. ومن ثم كان الإنسان في هذه المرحلة يعبد هذه الظواهر أو هذه الأشياء, ويتقدم إليها بأنواع من الطقوس دفعاً لضرها وطلباً لنفعها. ولعل " كونت " يشير إلى ما يذهب إليه علماء الاجتماع الملحدة إلى أن نشأة التدين لدى الإنسان ترجع إلى بضع نظريات منها ما يسمونه" غريزة الاستحياء" ويريدون بذلك نفس ما أشار إليه الفيلسوف من أن الإنسان الأول – فيما يزعمون – كان يستحيي الأشياء والظواهر , أي يرى أن لها نوعاً من الحياة , وأن لها قوى تؤثر بها في حياته, ومن ثم كان يعبدها.
المرحلة الثانية : من مراحل الحالة اللاهوتية ؛ وهي مرحلة تعدد الآلهة المفارقة أو الآلهة العلوية . ويزعم الفيلسوف أن الإنسانية في هذه المرحلة أخذت تسلب الحياة وقوة التأثير عن الظواهر الطبيعية التي كانت تؤلهها وترجع القوة المؤثرة في الوجود من حولها إلى كائنات علوية غير منظورة وهي كائنات متعددة بتعدد شئون الحياة ؛ فإله للزرع وآخر للمطر وثالث للصيد وهكذا لكل لشأن من شئون الحياة إله علوي غير منظور .

المرحلة الثالثة : من مراحل الحالة اللاهوتية ؛ وهي مرحلة ( التوحيد) ؛ فالرجل يزعم أن البشرية في هذه المرحلة قد جمعت جميع الآلهة التي كانت تعبدها ثم وحدتها في إله مفارق أي علوي غير منظور خارج عن عالمنا الذي نعيش فيه ، ويضرب الرجل مثالا لهذه المرحلة الأخيرة بظهور الدين النصراني والدين الإسلامي !
وقد رأى " كونت" أن من خصائص الحالة اللاهوتية وبخاصة في مرحلتها النهائية أن موضوعها مطلق وأن تفسيرها للظواهر والأحداث تعتمد " ما فوق الطبيعة " وأن منهجها خيالي وهمي ، وأن كل ما لدى أصحابها أمور ذاتية لا صله لها بالواقع أو الموضوع ، لكن الفيلسوف لاحظ شيئا آخر على قدر كبير وخطير من الأهمية ، حيث لاحظ أن الدين – أي دين – يمثل أساساً متينا وضروريا وحاجة ملحة للمجتمعات الإنسانية وللعلاقات الاجتماعية وأنها تمثل ضرورة اجتماعية على الفرد أو الجماعة ، كذلك لاحظ أن الدين – كذلك - يمثل من الجانب السياسي الأساس الذي تقوم عليه سلطة الكهنة والملوك حيث يستمدون سلطاتهم لدى الجماعة من الدين الذي تدين به الجماعة .
وهذه الملاحظة الأخيرة التي لاحظها " كونت " وهي ضرورة الدين للمجتمعات الإنسانية سيكون لها أعمق الأثر في فلسفته بعد ذلك – على ما سنرى بحول الله تعالى .
الحالة الميتافيزيقية :-
وفي هذه الحالة يحاول العقل الإنساني – أيضا - أن يكتشف حقائق الأشياء وأصولها ومصائرها ولكنه في هذه الحالة بدلا من أن يبحث عن علل مفاقة للظواهر كما فعل في الحالة الأولى ، فإنه يرفض العلل المفارقة ، ويبحث عن علل وأهداف في ذات الأشياء وبواطن الظواهر ، ففي هذه المرحلة لا يرجع العقل الإنساني حقائق الظواهر أو الأحداث إلى علل مفارقة ، وإنما يرجعها إلى نظم وقوانين وأسباب داخل الأشياء ذاتها .
ويرى الفيلسوف أن مسيرة العقل الإنساني ومنهجه في هذه الحالة إنما هي ضرب آخر من أضرب الوهم والخيال، وأن ذلك ناتج عن أوهام الذات التي لا صله لها بالواقع .
ويلاحظ الفيلسوف أن هذه الحالة الميتافيزيقية شبيهة بالحالة اللاهوتية من حيث موقف العقل الإنساني منهما . حيث بدأ الإنسان يعتقد في التعدد ثم انتهى بالتوحيد مع اختلاف الموضوع في الحالة الميتافيزيقية عنه في الحالة اللاهوتية .
ففي الحالة اللاهوتية اعتقد الإنسان في موجودات كثيرة ، ثم بدأ يرجع الظواهر إلى كائنات علوية مفارقة ، ثم انتهى به الأمر بتوحيد الكائنات المفارقة في كائن واحد . وهذه الكائنات المفارقة العلوية التي اجتمعت في واحد بعد ذلك كانت هي التي تتصرف في الأشياء والظواهر.
أما في الحالة الميتافيزيقية بدأ العقل الإنساني يبحث عن علل الأشياء والظواهر في الأشياء والظواهر نفسها ، وليس في كائنات علوية مفارقة . وقد بدأ الإنسان في هذه المرحلة بالتعدد أيضا ، فأخذ يرجع العلل إلى قوى متعددة بتعدد الظواهر مثل القوة المكيانيكية ، القوة الفيزيائية ، القوة الحيوية .. إلى غير ذلك من قوى متعددة ثم انتهى الأمر بالعقل الإنساني إلى توحيد هذه القوى المتعددة في قوة واحدة هي ( الطبيعة ) فالطبيعة أصبحت جامعة لكل القوى التي كانت متفرقة في الظواهر والأشياء .
الحالة الوضعية :-
يرى " كونت" أن العقل الإنساني في المرحلتين السابقتين كان يعيش حالات من الأوهام الذاتية والخرافات المتوارثة التي لا صله لها بالواقع . ولذلك كان يتخبط من الحالة اللاهوتية بمراحلها الثلاث ، ثم الحالة الميتافيزيقية ، لكن الأمر لا يستمر على ذلك بل أن العقل ينتقل من هذه الأوهام الذاتية إلى حقائق الحالة " الوضعية" .
والعقل في هذه الحالة الثالثة التي أطلق عليها كونت " الوضعية" يتخلص في الواقع من أوهام اللاهوت والميتافيزيقيا ، ويدرك الأشياء على حقيقتها كما هي في الواقع والموضوع . ويرى الفيلسوف أن السبب في تخبط العقل في الحالتين السابقتين أنه كان يبحث في الأشياء عن حقائقها وعللها المطلقة لكنه أخيرا يدرك أنه من المستحيل الحصول على حقائق مطلقة يقينية فيقصر همه على الاهتمام بواقع الأشياء واستكشاف قوانين الظواهر من خلال واقعها المادي الوضعي القائم على الملاحظة والتجربة.
3- وقد قرر " كونت" أن هذه الحالات الثلاث التي مرت على الإنسانية أو مر بها العقل الإنساني عبر رحلته الطويلة منذ كانت الإنسانية حتى عصره ، هذه الحالات تمر على الإنسان نفسه أو يمر بها كل إنسان عبر حياته أو مراحل عمره : ففي طفولته أو بداية حياته يقنع بالحلول اللاهوتية ثم في منتصف حياته يتحول إلى الحالة الميتافيزيقية فيبحث عن العلل وحقائق الأشياء في باطن الظواهر والأشياء . ثم في أواخر حياته حيث يكون قد نضج عقلا وفكرا ينتقل إلى الحالة الوضعية فيعتمد على ملاحظة الظواهر ويجري عليها التجارب متخذًا المنهج الوضعي طريقا للوصول إلى القوانين التي تحكم الأشياء .

******************

رابعا : نقد فلسفته الوضعية:-

1- من الملاحظ – ابتداء – أن الفيلسوف " كونت" وهو يتكلم عن فلسفته الوضعية يقدم لها بما افتراه من قانون الحالات الثلاث وغيرها ، نقول : نلاحظ كما لاحظ غيرنا أن الرجل يصدر عن فكر نظري بحت . وعن أوهام ذاتية خالصة لا صله لها بالواقع ولا بالموضوع . وبذلك أضحى – وهو الذي ينعى على الأوهام الذاتية ويدعو إلى الوضعية – مثالا واضحا أو نموذجا فاضحا لهؤلاء الذين يعيشون أسرى الأوهام الذاتية من جانب ثم يصدرون في فكرهم عن أبحاث نظرية لا صله لها بالواقع أو الموضوع من جانب آخر ،وبذلك فقد الفيلسوف مصداقيته من اللبنة الأولى للنظرية التي أقام عليها فلسفته .
وقد وقع الفيلسوف في هذه المناقضة الواضحة بين ما يدعو إليه والحقيقة التي هو عليها فعلا حين أقام نظريته في قانون التقدم الإنساني الذي أطلق عليه " قانون الحالات الثلاث" على فكر نظري خيالي بحت ، دون أن يعنى بدراسة المجتمعات الإنسانية في بيئاتها المختلفة ، وأقاليمها المتعددة . ودون أن يعطي الحضارات الدينية والوحي الإلهي لدى المتدينين حقه من حيث البحث والنظر والتحليل والتحقق . كما سيتضح لنا في الفقرات التالية من النقد – بحول بحول الله تعالى ..
2- ينظر " كونت " إلى المجتمعات الإنسانية على أنها بناء واحد ذو لبنات متماثلة ، أو أنها كلٌ لا يتجزأ ، وأن تطورها وتقدمها يخضع لقانون واحد ونمط معين لا يختلف ، بينما الواقع يكذب الذي ذهب إليه الرجل ، ويبين أن المجتمعات تختلف اختلافا بينا في أنماطها الحياتية وأساليبها المعيشية ومستوياتها الثقافية والحضارية مما يجعل إخضاعها جميعها لقانون واحد في التقدم أو التطور أمرا بعيدا عن الواقع والموضوع ويجعل ذلك وهما ذاتيا أو افتراضا خياليا لا يمت للواقع بصلة .
3- مما يؤكد ما قلنا أن الحالات الثلاث التي ذكرها الرجل وأقام عليها نظريته لا تبدو متعاقبة في المجتمعات الإنسانية كما ذكرها بل تختلف المجتمعات فيما بينها من حيث مرورها بهذه الحالات الثلاث ، ومن حيث ترتيبها – إن هي وردت - ؛ فبعض المجتمعات يسير فيها الفهم العلمي للظواهر والأشياء متساويا مع الالتزام الديني أيا كان حظ الدين من الحق أو الباطل ، وذلك كالغرب النصراني ، أو الشرق الهندوسي . وبعضها يسير الفهم العلمي بعيدا عن الدين كما كان الحال في روسيا الشيوعية قبل أن تسقط الشيوعية وترمى في مزابل التاريخ .
فالحالة الوضعية – كما يسميها الفيلسوف – لم تأت على أنقاض الحالة اللاهوتية بل صاحبتها في جملة المجتمعات الإنسانية عدا المجتمعات الشيوعية التي ما إن زالت الشيوعية عنها حتى عادت إلى ما أسماه الفيلسوف " الحالة اللاهوتية " وعاد الناس كلُ ذي دين إلى دينه .
4- وحتى الحالة اللاهوتية - كما أسماها الرجل – لا تسير في نفس المراحل الثلاث التي ذكرها . فلم تبدأ الإنسانية في جميع المجتمعات بالتعدد ثم تنتهي جميعها بالتوحيد . بل هناك مجتمعات تقدمت في مسيرتها العلمية – أو الوضعية – وهي مازالت متمسكة بدينها الوثني القائم على التعدد ، كما في الهند واليابان وما يماثلها
5- وفيما يتصل بالمراحل الثلاث التي ذكرها الرجل للحالة اللاهوتية فإن الرجل عكس الأوضاع وقلب الحقائق حين زعم أن التعدد هو الأصل وأن التوحيد طارئ في آخر المراحل .
فالحق الذي ندين به ، بل ويدين به أصحاب الدينين الكتابيين " اليهود والنصارى" أن التوحيد هو الأصل وهو الصورة الأولى للدين في تاريخ البشرية ، فنحن نؤمن بأن أبا البشر آدم عليه السلام قد خلقه الله – تعالى –وأهبطه إلى الأرض نبيا ، فهو – عليه السلام – أول الأنبياء ، وهو أول البشر ، والدين الذي جاء به هو دين التوحيد لله رب العالمين ، لا شريك له ، وعلى دين آدم عليه السلام كان أولاده ولم يحدث التعدد والوثنية إلا من بعد نوح عليه السلام .
فالتوحيد – إذن – هو أصل الدين في الإنسانية والتعدد هو الطارئ الذي جاء بعد التوحيد . على هذا عقيدتنا وكذلك يعتقد اليهود ، ويعتقد النصارى.
وإذا كان ذلك ، فمن أين وقع الخلط عند الفيلسوف ؟ وما منشؤه ؟ إن الفيلسوف وقع في هذا الخطأ وفي جميع الأخطاء التي شاعت في فلسفته كلها فلم تترك فيها شذرة واحدة من فكر الرجل إلا وهي بينة الخطأ واضحة الفساد ، نقول إنه وقع في ذلك الخطأ وهذه الأضاليل بسبب إلحاده وكفره بالدين النصراني ، وبالأديان جميعها بعامة ، وليس ضلاله هو نوعية الدين الذي يكفر به ، فدينه النصراني باطل ـ لكن رغم بطلانه كان أفضل من إلحاد الرجل وضلاله الذي يجعله يرى أن الأديان كلها فاسدة ، وأنها ظاهرة اجتماعية لا أصل لها ، كما أنها من أوهام الذات وأساطير المجتمع لا صله لها بالواقع ، ومن هنا أقام الرجل فلسفته على هذا الأساس الذي يرى أن جميع الأديان باطلة وأنها من أوهام الذات, واختراع الإنسان .
6- ومن أسباب ضلال الرجل أنه وجد في وقت وزمان كان الناس في حالة افتتان بالعلم وانصراف عن الدين. إذ من المعلوم أن القرون الميلادية : السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر كانت كلها قرون افتتان الناس بالعلم, وانتشار الفلسفات والنظريات الإلحادية, وكان الرجل في هذا ابن بيئته وزمانه ومجتمعه, فكان ملحداً شديد الإلحاد, مفتوناً أشد ما يكون الافتتان بالعلم المادي وطرائقه من الملاحظة والتجربة والفروض والقوانين وغير ذلك. وقد ظن الرجل- كما ظن معاصروه – أن الدين إلى زوال وأفول, وأن الإلحاد إلى انتشار وشمول, ولكن الذي حدث إنما كان على عكس ما توقع الرجل ومتابعوه على " وضعيته ".
فإنه من بدايات القرن العشرين بدأ الناس يثوبون إلى أديانهم, كل إلى دينه, وبدأت مسيرة الإلحاد تبطئ وتتلاشى تدريجياً, حتى عاد الأمر طبيعيا, وبدأت – مساوقة للعودة إلى الدين – الكثير من أصوت الماديين تختفي أو تضعف.
7- وفي ختام نقدنا فلسفة " كونت" الوضعية, أو الفلسفة الوضعية ممثلة في شخص أول من نظّر لها وقعّد لمبادئها. نستطيع أن نبين بوضوح أهم ما وقع فيه الرجل ومشايعوه من أخطاء كانت السبب في فساد فكرهم, وأفول فلسفتهم, وأهم ذلك كله خطآن كبيران :
الأول : أن الرجل لم يدرس المجتمعات البشرية كلها, بل ولا الكثرة منها, بل اكتفى بدراسة أحوال المجتمعات الغربية, وبخاصة المجتمع الفرنسي في زمانه, الذي كان يشيع فيه الإلحاد والمادية, فوضع نظريته بناء على دراسته هذا المجتمع, وطبق نظريته على المجتمعات الإنسانية جميعها, ظانا أنها كلها صورة للمجتمع الذي درسه. وهذا خطأ فاحش, ومنهج فاسد أدى إلى فساد النظرية- كما أشرنا قبلا-.
الثاني :أن الرجل كما اقتصر على دراسة مجتمع واحد ثم عممه على جميع المجتمعات, كذلك اقتصر على دراسة فترة زمنية معينة, وظن أن ما يجري في هذه الفترة الزمنية هو المقياس والمثال لجميع ما يجد من عصور وظروف وملابسات, وأن ما عاصره من ظواهر اجتماعية في بلده ومجتمعه وفي نهاية الفترة سوف يكون هو بعينه في كل الأزمان والعصور التي تجد حتى نهاية الدنيا. ولكن لو طال بالرجل العمر بضعة عقود فقط لرأى وعاش فشل جميع آرائه ونظرياته.
فالرجل أخطأ كثيراً, لكن كانت أقبح أخطائه أنه وضع نظرياته وآراءه لمجتمع واحد من المجتمعات البشرية, ولفترة زمانية معينة من تاريخ هذا المجتمع ؛ فكانت آراؤه فاسدة, وجميع نظرياته فاشلة.

خامساً : دين الإنسانية :
1-أشرنا فيما سبق إلى أن " أوجست كونت" رأى أن الأديان لا حقيقة لها ولا صلة لها بالواقع, وأنها من الأوهام الذاتية, والأساطير الجماعية التي اخترعتها الاجتماعية تحت ظروف معينة, لكن الفيلسوف لاحظ في الوقت نفسه أن الدين- أي دين- يمثل ضرورة اجتماعية ملحة, حيث هو من أهم العوامل التي تؤدي إلى تماسك أفراد المجتمع واستقرارهم نفسياً واجتماعياً, كما أن الدين يمثل الأساس المتين الذي تقوم عليه العلاقات بين الأفراد, ويعتمد عليه التوازن الاجتماعي على مستوى الفرد والجماعة.

من هنا نري أن " كونت" قد وقع بين أمرين متعارضين :
أولهما : أن الدين بكل صوره وأشكاله المعروفة للناس وبخاصة النصرانية التي كان يدين بها باطل, وأنه خيال ووهم من أوهام الذات- وكما يراه أيضاً جمهرة الفلاسفة المعاصرين له والسابقين عليه-. ومن ثم يجب الانصراف عنه, وبيان بطلانه للناس, وتوضيح زيفه للجميع حتى يتم إنقاذ المجتمعات من زيفه وضلاله.
ثانيهما : أن الفيلسوف لاحظ- أيضاً- أن الدين وإن كان وهماً وخيالاً لا حقيقة له, إلا أنه نافع للإنسانية, وعامل هام من عوامل استقرار المجتمع أفراداً وجماعات, وكذلك رأى أن الدين يحد من انتشار الأنانية والأثرة والانحلال في المجتمعات, ويعمل على توازن الفرد وتماسكه نفسياً واجتماعياً. ومن ثم فإن القضاء على الدين قضاء على كل هذه المنافع, ونشر لما يقابلها من مفاسد ومضار.
وهنا يأتي سؤال : ماذا يفعل " كونت " إزاء هذه المعضلة ؟ وكيف يحل هذا الإشكال؟
لقد توصل " كونت " إلى حل لهذه المشكلة, وهذا الحل يحقق به الأمرين:
1-يبطل به الأديان الوهمية الخرافية – كما يزعم- ويصرف الناس عنها.
2-وفي نفس الوقت يضمن للمجتمعات ويوفر لها جميع المنافع التي كان الدين يحققها لتلك المجتمعات .

أما كيف ذلك ؟
إن ذلك يتحقق- فيما رأى الفيلسوف- بإلغاء الأديان التي يدين الناس بها بكافة أشكالها, وبخاصة النصرانية, لأنها أديان خرافية وهمية من جانب, ولأنها تقوم على الإيمان بالغيب, والغيب في نظر الرجل هو أخطر خرافات الدين التي تزيف الواقع وتفسد العقل الإنساني وتضلله .
ثم بعد أن ألغى الرجل الأديان التي يدين بها الناس, أقام بديلا منها ديناً جديداً من اختراعه هو. وأهم ما يميز هذا الدين أنه لا يقوم على الغيب ولا يحتوي شيئاً منه, ذلك أن الإله المعبود في هذا الدين إله مشاهد محسوس. ذلك هو ما أسماه الرجل : " دين الإنسانية ". فما هذا الدين ؟
رأى " كونت " أن التدين خصيصة النوع الإنساني, وأن جميع أفراد المجتمع تتوحد حوله, وتجتمع عليه, وترى نفسها فيه. وحينما فكر الرجل في اختراع دين جديد أخذ يبحث عن الإله الذي يضعه لدينه. فهداه تفكيره إلى " الإنسانية ".
ولماذا الإنسانية ؟
لقد رأى الرجل أن الإنسانية هي أعظم شيئ في الوجود يستحق التقدير والإعجاب والإكبار. كذلك فالإنسانية – كما يراها- حقيقة ممتدة من الماضي البعيد إلى الحاضر, ثم هي تنتقل عبر الحاضر إلى المستقبل, ووجود الإنسانية وجود مادي حسي مشاهد, ليس هذا فحسب, بل كل فرد من أفرادها يشارك في صنعها وفي وجودها وتحققها حتى الفيلسوف ومعاصروه .
فليست الإنسانية قصراً على الماضي, بل هي ممتدة من الماضي الذي يؤثر في الحاضر ويوجهه, ويعطيه الخبرات والتجارب, بل إن تأثير الماضي أقوى من تأثير الحاضر في مسيرة الإنسان الخلقية والعقلية والمادية. إن آثار السابقين أقوى من آثار الحاضرين. والرجل يخلص من كل ذلك الحديث عن الماضي إلى أن الأموات الماضين من الإنسانية أحياء بآثارهم في المجتمع الحاضر أقوى من الأحياء أنفسهم.
ماذا يريد الرجل أن يقول من كل حديثه عن الإنسانية الماضية ؟ إنه يريد أن يؤكد على أن معبوده في دينه الجديد الذي هو الإنسانية معبود حي مؤثر فاعل, فإذا جعلها معبوداً فهو يعبد حياً وليس ميتاً ، حتى ولو كان المعبود هم أفراد الإنسان الذين مضوا وهلكوا وانتهى وجودهم .
وهنا لا بد أن يرد على فكرنا تلك المرأة التي عشقها" كونت " ثم لما ماتت أصيب بالجنون وحاول الانتحار,- وليت محاولته نجحت إذن لا سترحنا من غثائه وضلالاته- ثم كان الرجل فيما بعد يزعم آنها تأتيه وتوجهه وتلهمه أفكاره.
ويبين الفيلسوف لماذا اختار الإنسانية؟ لأنها صاحبة الفضل على الإنسان في كل شيئ. فكل فرد مدين للإنسانية بوجوده, لأن والديه هما اللذان أوجداه, ولا شيئ آخر, ولأن رخاءه وثراءه من والديه وأقاربه الذين ذهبوا لأنه وارثهم من بعدهم, كذلك هم الذين ربوه وعلموه. . وهكذا يعظم الرجل شأن الإنسانية وأفرادها الماضين, ويخلع عليهم ما لله من فضل ونعم على الإنسان.
إن الرجل يقرر أن الأمر سوف يبدو غريباً في البداية, ولكن علينا أن نعلم الناس كيف يتحولون بأفكارهم ومشاعرهم تجاه الإله الجديد الحقيقي الموضوعي بدلاً من آلهة الوهم والخيال . إن الإنسانية هي " الموجود الحقيقي الأعظم " وهو الأوحد المستحق للعبادة ، ولا يوجد سواه. هكذا زعم الرجل عليه من الله ما يستحق-.
2- المعبود في الدين الجديد :
بعد أن أوضح الرجل دينه الجديد الذي جعله بديلاً عن أديان العلم أخذ يوضح تفاصيل هذا الدين ؛ فبدأ بإلهه المقترح, أي المعبود في دينه ، فبين أن الإله يتكون من ثلاثة أشياء. لقد رأى الرجل أن " الإنسانية " التي هي المعبود الأعظم لا تعيش معلقة في فراغ, بل هي تعيش على الأرض, وتسبح في الهواء وتظلها السماء. فصاغ المعبود في دينه الجديد من هؤلاء الثلاثة: الإنسانية- الأرض- السماء والهواء.
وقد وضع لكل من الثلاثة اسماً خاصاً به؛ فصار معبوده مكوناً من :
أ‌-الموجود الأعظم. ويقصد به الإنسانية .
ب‌-الفتش الأعظم. ويقصد به الأرض .
ت‌-الوسط الأعظم. ويقصد به السماء والهواء .
هذا معبود الرجل. ثالوث مقدس. ويتضح- بداهة- تأثر الرجل بدينه: النصرانية. وسوف يتضح هذا التأثر في جوانب أخرى كثيرة تتمثل في جميع طقوس الديانة الجديدة المخترعة.

3- أنواع العبادة في الدين الجديد :
لقد قسم " كونت " العبادة في دينه الجديد إلى نوعين :
أ‌-عبادة فردية . وفيها يتوجه الفرد بالعبادة والتقديس إلى ما يخصه هو- شخصياً-, أو ما يتصل بشخصه ممن لهم فضل عليه, مثل أبيه وأمه, أو أحد أساتذته ممن لهم فضل خاص عليه, أو زعيمه السياسي, أو يتجه إلى قبيلته أو أسرته. فيتوجه إلى هؤلاء أو بعضهم بالعبادة تكريماً للإنسانية الموجود الأعظم في أشخاص هؤلاء.
ب‌-عبادة مشتركة. وفيها يتوجه الناس جميعاً بشكل جماهيري جماعي, وفي أيام معينة يطلق عليها الرجل اسم " أعياداً تذكارية" يتوجهون فيها بالعبادة إلى هؤلاء الأفراد الذين قدموا خدمات للإنسانية كلها, وامتازوا بالجد والاجتهاد في تقدم الإنسانية في كافة المجالات العلمية الاقتصادية والفنية وغيرها. وفي هذه الأعياد يُعبد هؤلاء الأشخاص ويقدسون تكريماً للإنسانية التي يمثلونها .
4- الهيئة الإكليريكية- رجال الدين الجديد -
ولأن كل دين لا بد له من رجال دين يُعرفون الناس بدينهم ويرشدونهم فإن " كونت " أنشأ هيئة دينية عليا " إكليريكية " جعل مهمتها الإشراف على شئون الديانة الجديدة, والدعوة إليها, وتوضيح طقوس العبادة فيها.وفي هذه الهيئة- أيضاً- نصطدم بتأثير التثليث النصراني في الرجل. حيث جعل هذه الهيئة مكونة ومنتخبة من ثلاث فئات, هم : الفلاسفة- الشعراء- الأطباء
5-طبقات المجتمع في الدين الجديد :
مثل " كونت " الإنسانية المعبودة بكائن أعظم يتمثل في المجتمع كله بجميع طوائفه. وجعل لهذا المجتمع من الأعضاء والحاجات مثل ما للإنسان المفرد الحقيقي . ومن ثم فقد قسم المجتمع إلى أربع طبقات:
أ- طبقة " الإكليريك " أو رجال الدين. وجعل منزلتهم من المجتمع منزلة الرأس المفكر, والعقل المدبر من الإنسان الفرد الحقيقي.
ب - طبقة النساء. وهن في المجتمع بمثابة أعضاء العاطفة والمشاعر والوجدانات في الفرد الحقيقي .
ج - طبقة رجال الصناعة والمال. وهم في المجتمع بمثابة أعضاء التغذية والنمو في الفرد .
د - طبقة العمال :وهم بمثابة أعضاء الحركةوالنشاط الإنتاجي في الفرد .

6- تعليق على الدين الجديد :
لم أشأ أن أكتب العنوان : " نقد الديانة الإنسانية " لأن نقد شيئ ما يتطلب بالضرورة أن يكون هذا الشيء قد حصل الحد الأدنى من الفكر المعتبر, والفهم المتزن, والمعالجة المقبولة لدى عامة العقلاء. وإلا ؛ فإنه لا يكون أهلاً للنقد, ولا مستحقاً لبذل الوقت ولإضاعة الجهد.
وهذا الذي كتبه الرجل" كونت " حول ما أسماه" ديناً" أو " دين الإنسانية" غثاء يعلو عليه الغثاء, وعبث وتفاهة يسمو عليه العبث وتكبر عنه التفاهة. أعني أن كثيراً مما يُطلق عليه غثاء وعبث وتفاهة أعلى وأكثر احتراماً واعتباراً من فكر الرجل. ومن ثم كان فكره هذا لا يستحق أن ينقد, لأنه ليس فيه ما ينقد . ثم إن النقد في ذاته عمل عقلي , وجهد فكرى, وفكر الرجل ومشروعه الذي طرحه عن دينه إزراء بالعقل, وإهانة للفكر, وازدراء بأدنى مستويات المنطق السليم ؛ لذلك آثرت أن أجعل ذلك " تعليقا" على كلام الرجل عن دينه المقترح ، وتعليقي على كلامه عن دينه إنما هو تنبيه إلى تناقضات واضحة في فكره, وأكاذيب بينة في دعاواه, وسأشير إلى ذلك- بحول الله- دون إطالة في أمور محددة :
1-أول الأخطاء التي ارتكبها الرجل : محاولته اختراع دين من عنده ، بدلاً عن دين يدين به المجتمع. فقد جهل الرجل أن الأديان لا تقترح ولا تطرح على الناس كما تطرح أي فكرة أو رأي أو مشروع .
2-ثاني الأخطاء التي ارتكبها الرجل يتمثل في طرحه ديناً خالياً من " الغيب " ليس فيه غيب أو أمور غيبية. وقد غفل الرجل- جهلا منه وحمقاً - عن أن الدين من حيث كونه ديناً لا يمكن أن يقوم إلا على الغيب. حتى الأديان التي تعتمد عبادة الأشخاص أو الأوثان المادية المحسوسة لا تستقيم عبادتها إلا على اعتقاد معتنقيها قوي غيبية تحل في هؤلاء الأشخاص أو الأوثان. وإلا ؛فكيف يصير الإنسان إلها عند عابدي الأشخاص وهو على حاله دون اتصاله بقوى غيبية, وامتلاكه إمكانات لا يمتلكها غيره ؟
3-زعم الرجل بأنه كفر بالنصرانية ديناً, وأنه يعارضها ويرفضها ويريد تخليص الناس منها. هذا الزعم كيف نصدقه؟ وقد بان لنا من النظام الذي أقام عليه دينه أنه اختار جميع ما فيه من الأصول على غرار النصرانية, حتى إن دينه الجديد كأنه صورة من النصرانية مع نوع من التحريف. ويتضح هذا من الإله الذي صنعه لدينه, إنه ثالوث يتكون من : الموجود الأعظم " الإنسانية " والفتش الأعظم " الأرض ", والوسط الأعظم " السماء والهواء". أليست هذه عودة إلى النصرانية. أو الثالوث النصراني في شكل جديد؟! ثم شيئ آخر يوضح تأثر الرجل بالنصرانية ، وإصراره على أن يكون دينه الجديد صورة مشوهة من النصرانية التي زعم أنه كفر بها ، إنها الهيئة المشرفة على الديانة الجديدة, أو رجال الدين في دينه. إن الرجل جعل هذه الهيئة ثلاثية أيضاً, لا ثنائية ولا رباعية, فجعلها من: الفلاسفة, الشعراء, والأطباء.
بان لنا أن الرجل ترك النصرانية من الباب علانية, وعاد إليها من النافذة خفية . ويأتي السؤال :هل تعمد الرجل جعل دينه الجديد مشابهاً هذه المشابهة الجوهرية بالدين النصراني نتيجة تأثره بالنصرانية, وأنها تعيش داخله دون شعور منه ؟ أم أن هذه خطة من الرجل ليجتذب الجماهير النصرانية التي تعودت التثليث النصراني, فلكي يجتذبهم إلى دينه الجديد, ويرغبهم فيه, ويجعل النقلة من دينهم النصراني إلى الدين الجديد يسيرة وسهلة وممكنة؟ يبدو أن الاحتمال الثاني هو الأرجح, بل هو الصواب. فإن الرجل كفر بالنصرانية من بداية شبابه ، وصعب أن يكون لها ذلك التأثير بعد تلك السنين الطوال التي عاشها الرجل كافرا بالنصرانية وبكل الأديان- عليه من الله ما يستحق-.

سادساً : موقف المجتمعات الغربية من الدين الجديد :
لقد وجدت آراء " كونت " في دينه المخترع- رغم غرابتها- صدى وقبولاً لدى بعض الطوائف في المجتمعات الغربية النصرانية ، وكان هؤلاء – بطبيعة الحال - من الناقمين على النصرانية ورجالها الرافضين لعقائدها وأضاليلها. وقد تحمس لها الكثيرون, ليس لكونها مقبولة أو معقولة, لكن لأن قبولها كان يمثل بالنسبة إليهم صورة من صور الاعتراض والرفض للدين النصراني, والازدراء والاحتقار لرجاله. ومن هنا – وبهذا الاعتبار- وجدت الديانة الجديدة أتباعاً لها في فرنسا وإنجلترا,وأمريكا شمالها وجنوبها, والسويد, وألمانيا,وغيرها.. وقد بدأ أتباع الديانة الجديدة عمليين, فأنشأوا لها المعابد, وعينوا لها رجالها وكهانها, وقد اخترعوا لديانتهم هذه شعاراً تعرف به ؛ فاختاروا لها: " المحبة- النظام- التقدم" . وهو شعار تثليثي أيضاً ليجذبوا إليهم أتباع النصرانية .لكن بمرور الوقت فقدت الديانة بريقها, وبدأ الاهتمام بها يقل, والإقبال عليها يضعف, حتى انتهي شأنها تماماً, ولم يعد لها ذكر إلا في إطار السرد التاريخي للأفكار الساقطة التي شغلت بعض الناس زمناً ثم احتلت مكانها في مزابل التاريخ .
والذي يجب التنبيه إليه أن الإقبال على هذه الديانة الفاسدة من البعض لم يكن للديانة نفسها, ولكن كان من أجل إظهار وإعلان النقمة على النصرانية ديناً ورجال دين, وأن اهتمامهم بها بعض الوقت إنما كان أملا في أن تقضي على النصرانية, لكن حين أفاؤا إلى أنفسهم أدركوا أنها مجرد غثاء لا يصلح لشيء ؛ فانصرفوا عنها إلى الأبد , لكنهم لم ينصرفوا عن الدافع الذي دفعهم إليها وهو نقمتهم على النصرانية ورجالها .
( المصدر : مذاهب فكرية معاصرة - عرض ونقد - ، للدكتور محمود مزروعة ، ص 231-255)