لا يخفى عليكم ما يقوم به العلمانيون والليبراليون في هذا الوقت من هجوم شرس على ثوابت الأمة. فما الواجب تجاه هؤلاء؟
العلمانية غربية المولد نشأت تمرداً على الكنيسة المحرفة، فبعدما حاولت الكنيسة التوفيق بين اللاهوت والعلم، وفشلت وخشيت التمرد من أهلها، لجأت إلى الفكر اليوناني إلى فلسفة أرسطو محاولة الاستنجاد بها، فقامت فلسفة تدعى السكولاستية (scholasticism).
فبنو تجديدهم هذا على منطق أرسطو ومفهومه لما وراء الطبيعة، محاولين إخضاع الفلسفة للاهوت أو للتوفيق بينهما، وكان مَن رواد هذه الفكرة هو توما الأكويني، فقد حاول إقامة صلة بين العقل والدين المحرف بكل وسيلة وطريقة لما يبدو ظاهراً جلياً من شدة التنافر وعدم التقارب بين الكنيسة المفاهيم النصرانية المحرفة وبين العلم.
ولما نشط التنافر وكان هناك من يحيه من المناوئين لتوما الأكويني ومن حذا حذوة، بدأت تظهر ردود الفعل ضد هذه الفلسفة المسماة السكولاستية وضد منظريها.
حينها أخذت الفكرة الفلسفية تتجه نحو التصورات الدنيوية المعزولة عن اللاهوت أو عن الدين، بعد أن فشلت النصرانية المحرفة في تقديم أصول وأفكار تنسجم مع واقع متطلباتهم الجديدة أو مع واقع حياتهم الدنيا.
وتمخض هذا عن ظهور الحركة العلمانية seular humanism وهي تعني دنيوي علماني مرتبط بالدنيا غير مرتبط بعالم أخروي، وهذه الحركة تهدف إلى ترسيخ التصور البهيمي الجاهلي وهو التصور الدنيوي معزولاً عن الآخرة، ووجدت هذه الفكرة قبولاً لدى الغرب وأغلب أتباعها هم من اللا دينين.
ثم أخذت هذه الحركة تمتد من تصور الحياة إلى الفلسفة الفكرية إلى السياسة والأدب، فهي تحرص على عزل التصور الديني المرتبط بالآخرة عن التصور الدنيوي مهما كان التصور الأخروي معاملة أو فكرة أو سياسة أو سلوكاً وغير ذلك.
وهي تركز بالدرجة الأولى على الحرية الفردية في الاختيار والتدبير، وأن العقل خلق ليختار لا ليحكم، ومنشأها في أوربا من إيطاليا ثم عمت أوربا ثم نقلت إلى أمريكا.
وكان أول من سيَّس هذه الفكرة هو الإيطالي نيكو ميكايا فيلي في كتاب سماه (الأمير) ونصح فيه السلطان مهما كان موطنه أن يتخلى عن الأخلاق وما تمليه النواميس النصرانية أو العرفية وليعتمد على المصالح المادية والدنيوية ويدور معها حيث دارت إذا أراد ثبات سلطانه وبقاءه.
وهذا هو النهج السائد الآن في معاملة أغلب الدول سياسياً، وتحت هذه الدعوة انسحقت الأخلاق والقيم وحقوق الإنسان التي يدندن حولها كل من أراد مطمع في ضعيف.
ثم جاء من تأثر بهذه الفكرة من أبناء المسلمين ممن تربى تربية غربية إما بالإقامة بين ظهرانيهم أو بالدراسة أو بالمزاوجة وغير ذلك، وأخذوها عن جهالة وعدم تبصرة، صاحبها انبهار بما عليه الغرب فرسخ قواعدها، فكان في نفوسهم تلازم غير مشعور به بين الحضارة الغربية الصناعية وبين العلمانية.
وجهلوا أن الإسلام دين الله المحفوظ بحفظه جعله الله صالحاً لجميع الناس في جميع الأحوال، وليس فكرة وضعية تناسب يوماً دون آخر، وشخصاً دون آخر، فقلدوا العلمانية وجهلوا أصلها، وجهلوا شريعتهم وانصرفوا عنها.
فبدؤوا الدعوة للحرية والدعوة للعلمانية والمروق من التعاليم والقيم الإسلامية، عن جهل وضياع فكري، وإعارة تامة للأذهان بطريقة بهيمية حيوانية.
ونتج عن هذا أن كانت الحضارة العلمانية الغربية أرفق من العلمانية العربية، فتصور العلمانيون العرب التلازم السابق ذكره بين العلمانية والحضارة الصناعية الغربية، نتج عنه المبالغة في الانخراط في الأخلاق الغربية والقيم، والبعد عن الدين، وكانت دعوتهم تدعوا للتأسي بالغرب خلقاً أكثر من دعوتهم للتأسي بالغرب صناعة وتحضراً تقنياً.
وقاموا بسلوك أي سبيلٍ لبلوغ الغاية وكان أعظم مسالكهم هوَ تزييف الحقائق فكانت الدعوة سريعة الانتشار لكنه سريعة الاندثار فتزييف الحقائق كتزييف النقود مربح جداً، لكنه خطيرٌ جداً، فصاحبه يسقط في يوم واحد، وتكسد تجارته.
فدعوتهم لامعة لكن لمعانها كسراب بقيعة، يدعون لنجاة الأمة والأخذ بها من الحضيض وليس لهم من دعوتهم إلا عباراتهم الجميلة.
وقد صدق الرافعي حينما قال في أمثالهم: هم يقولون أنّهم يريدون بآرائهم الأمة ومصالحها ومراشدها، ويقولون في ذلك بما يسعه طغيانهم على القول واتساعهم في الكلام واقتدارهم على الثرثرة، حتى إذا فتَّشت وحقَّقت لم تجد في أقوالهم إلا ذواتهم وأغراضهم وأهواءهم يريدون أن يبتلوا بها الناس في دينهم وأخلاقهم ولغتهم، كالمسلول يُصافحك ليُبلغك تحيته وسلامه، فلا يُبلِّغك إلا مرضه وأسباب موته.
فدعوا للحرية وهذا مطلب جاهلي قديم وإن غير مسماه طالب به قوم شعيب وجهال قريش، وبحثوا يريدون في كل حكم شرعي علة ظاهرة تقنع كل عقل مهما ضحل وقل فهمه، وإلا فالشرع متهم، ونسوا أن الحكمة لو كانت ظاهرة جلية في كل حكم، وقبلها كل عقل بلا أدنى تفكر، لأصبح لا يخالف الشرع إلا المجانين والسفهاء، ولا محل للابتلاء حينئذٍ.
فقد نهى شعيب قومه عن معاملات اقتصادية محرّمة فطلبوا الحرية، فقالوا: ما علاقة صلاتك ودينك باقتصادنا، قال تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} (هود: 87).
قال القرطبي: "قيل معنى {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}(سورة هود87) إذا تراضينا فيما بيننا بالبخس، فلِمَ تمنعنا منه، {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}(سورة هود87)؛ يعنون: عند نفسك بزعمك".
روى ابن جرير قال: حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله قالوا: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}(سورة هود87)، قال: "نهاهم عن قطع الدنانير والدراهم، فقالوا: إنما هي أموالنا، نفعل فيها ما نشاء، إن شئنا قطعناها، وإن شئنا حرقناها، وإن شئنا طرحناها".
ونهى نبينا صلى الله عليه وسلم جُهَّال قريش عن الرِّبا؛ فقالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (البقرة: 275) قال ابن كثير: "البيع مثل الربا: أي هو نظيره، فلِمَ حُرِّم هذا وأُبيح هذا؟! وهذا اعتراض منهم على الشرع، أي: هذا مثل هذا، وقد أحل هذا وحرم هذا!!". انتهى كلام ابن كثير.
والواجب على المسلمين عامة في مواجهة هذا الفكر ورموزه:
1- التحذير منه وبيان ما فيه من مُحادَّة الله ورسولة ومناقضته للفِطْرَة الحَقَّة.
2- التحذير وبيان حال رموزه ومُنَظِّرِيه، لكي يكون الناس منهم على حذر.
ولأصحاب الفكر دعوات متنوعة، وأفكار متشعبة، ومن خلال قراءتي لكلامهم، والتأمل في أطروحاتهم، فإني لم أجد لهم حتى الآن أصلاً واحداً يسلم من النقض طرداً أو عكساً، ولو كان في المجال متسع لأوسعت الكلام في هذا الموضوع فإنه هام.
الشيخ / عبدالعزيز مرزوق الطريفي حفظة الله