الحمد لله وحده،
أما بعد، فقد طرح أحد الإخوة موضوعا في المجلس العلمي سأل فيه هذا السؤال:
هناك شبهة تقول :كيف يعذب الله تعالى الكفار عذابا أبديا رغم أن عصيانهم كان مؤقتا بمدة بقائهم في الدنيا.و استدل بعضهم للرد على هذه الشبهة بقوله تعالى*و لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه*لكن هذا الرد ينتج عنه أن الله تعالى يعذب بعلمه و هذا باطل من جهة أن العاصي أو الكافر قد يحتج بكونه يعذب بذنب لم يرتكبه.أجيبونا نفع الله بكم.
فأجبته بجواب رأيت أن أنقله إلى هنا للفائدة، والله الهادي للرشاد.

أخي الفاضل، إعلم وفقك الله أن أصل هذه الشبهة باطل من جهة تطلع صاحبها لقياس ما لا يملك له قياسا، وتجاوز مقداره المعرفي بالحكم على ما لا يملك فيه نظرا ولا تقديرا. فمن بابتها اعتراض بعضهم - مثلا - على رجم الزاني في الإسلام وقطع يد السارق ونحوها من الحدود الجنائية. فنحن نقول إن تقدير مقادير العقوبات للجرائم مرده إلى صفة العلم والحكمة لدى الشارع، وليس لمن هو دون ذلك الشارع في العلم أن يعترض على ذلك التقدير عنده، لأنه يشهد على نفسه بأنه دونه في العلم والحكمة! الله جل وعلا هو الغاية وهو صاحب الكمال التام في هاتين الصفتين، سبحانه وتعالى، فمن ذا الذي يملك من مقاييس المعرفة ما يعترض به على عقوبة من عقوباته سبحانه فيقول إنها أشد مما ينبغي أو إنها أخف مما ينبغي؟ من الذي يملك أن يعين مقدار الجريمة ومن ثمّ ما يناسبها من العقوبة، وعلى أي أساس يقوم ذلك التقدير لديه؟
هب أن الجريمة (س) نحن نتفق على أنها أشنع وأشد فسادا في الأرض من الجريمة ( ص). الآن افترض معي أن هاتين الجريمتين هما كل ما يمكن أن يقع من الجرائم من جنس من المخلوقات في حق خالقها في عالم من العوالم الممكنة عقلا، وأن الخالق قد اختار أن يشرع عقوبة لهما (في الدنيا أو في الآخرة). أنت كمخلوق غايتك أن ترى أن إحدى هاتين الجريمتين أشد من الأخرى في حق الخالق (وفي بعض الأحيان لا يمكنك ذلك لخفاء حكمة التشريع نفسه عنك)، ولكن من الذي يملك أن يعين مقدار العقوبة الملائم لها إن وقعت ممن تلبس بها وتحققت فيه شروط استحقاق العقوبة (التي هي العلم بوجود التشريع المانع من الفعل وعدم الإكراه عليه وغير ذلك)؟ من من المخلوقات يملك أن يقول إن (س) عقوبتها تكون التعذيب لشهر، بينما ( ص) تكون عقوبتها نصف ذلك أو دونه؟ العقوبة أمر مكروه للنفس أصلا، فلا ينبغي أن يكون تقديرها إلا من الأحكم والأعلم. لذا فإن الخالق سبحانه يجب بالعقل المجرد أن يُرفع تشريعه في ذلك التقدير (كما في غيره من أبواب التشريع) إن جاءنا على الأنبياء والمرسلين فوق تشريعات المخلوقين، ولا يعترض عليه ولا يسأل في ذلك سبحانه. ونحن نعلم أن بني إسرائيل قد خُففت لهم العقوبات في تشريع عيسى عليه السلام، وأنهم قد عاقبهم الله تعالى على أفعال لم يعاقبنا على كثير منها أصلا. فهو لا شريك له في حقه في التشريع لمخلوقاته، ولا في حقه في تقدير العقوبات لمن يقع في مخالفة ذلك التشريع وتتحقق فيه شروط العقوبة وتنتفي عنه موانعها.
فإذا فرغنا من هذا، فلا شك أن الجريمة الأكبر والأعظم في مقدارها، تكون لها العقوبة الأشد والأثقل، والجريمة الأخف تكون دونها في مقدار العقوبة، وهذا المبدأ في تناسب العقوبات مع الجرائم صحيح عقلا لا يماري فيه إلا سفساط. لذا ففي جميع الأحوال فإن قاعدة أن العقوبة الأشد تكون للجريمة الأشد، لا تتغير من تشريع إلى تشريع لأن العقل يقتضيها.

فالآن إن قلنا لك إن الجريمة (س) هي أشنع الجرائم الممكنة عقلا من مخلوق من المخلوقات على الإطلاق، فإنه يلزم إذن أن تكون لها أشنع العقوبات الممكنة عقلا لمخلوق من المخلوقات على الإطلاق، أليس كذلك؟
فكيف يكون تقديرك لتلك العقوبة؟ لو قلتَ إنه التعذيب لمئة سنة، فإن العقل يتصور ما هو أشد من ذلك! ولو قلت ألف سنة فثمة ما هو أشد، وهكذا.. فلزم أن يكون أشد العقوبات على الإطلاق = الخلود في العذاب أبدا!
وقد اقتضت حكمة الله وعلمه أنه ما من جريمة أشد وأشنع عنده في حقه من أن يخلق مخلوقا ثم يرسل إليه الرسل بالبشارة بعاقبة التسليم والخضوع، والنذارة من عاقبة العصيان والإباء، ومع ذلك يصر ذلك المخلوق على إهانة خالقه وجحده حقه في طاعته والخضوع له ذلك الخضوع الذي شهد العقل بوجوبه لذلك الخالق. هذه هي أشد الجرائم عنده سبحانه وليس لأحد من المخلوقات أن يجادله في ذلك! ليس لأحد من المخلوقات أن يقول - مثلا - إن قتل مخلوق ما لمئات أو آلاف من المخلوقات مثله أو إفساد الأرض عليهم أو نحو ذلك، هو الجريمة الأشنع على الإطلاق التي كان حقها أن تكون لها أشد العقوبات على الإطلاق عند الخالق، أو يقول إنها أشنع من جريمة الشرك أو الموت على الكفر! لا يمكن لمخلوق يعقل أن يدعي أن ثمة جريمة فيما يمكن تصوره من أفعال المخلوقين، أشنع أو أعظم من سب ذلك المخلوق وإهانته لخالقه جل وعلا! فحسبك أن تقول إن أبشع الجرائم الممكنة عقلا من فعل المخلوقين (كجنس) تستحق أبشع العقوبات الممكنة عقلا لهم (كجنس)! وعليه فلو أمكن في العقل تصور عقوبة أشد من هذه للمخلوق، لاستحقتها - عند الله تعالى - تلك الجريمة لا محالة!
أما زعمهم بأن العقوبة يجب أن تتناسب مع الجريمة من جهة التأقيت، بمعنى أنه ما دامت الجريمة مؤقتة، فالعقوبة كذلك يجب أن تكون مؤقتة، فمن أين لهم هذا الشرط وما دليله في العقل المجرد؟ هذا باطل، وليس من شروط العدالة في العقوبة (عقلا) في شيء البتة! بل إن سائر القوانين الوضعية تشهد ببطلانه! فإن جريمة السرقة أو القتل - مثلا - قد تستغرق بضع دقائق، ومع ذلك، يعاقب فاعلها بالسجن لشهور وربما لسنوات طويلة، فمن أين لهم الزعم بأن العقوبة يلزم أن تتناسب زمنيا مع الجريمة نفسها؟ العقل لا يوجب ذلك بل يرده كما نرى.