روى البخاري رحمة الله في صحيحه تعليقا، فقال: وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم. انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خفت دروس العلم، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا.
بهذه الرواية تعلق قوم، فقالوا: إن السنة لم تدون إلا في مطلع القرن الثاني الهجري، لأن أول من أمر بتدوينها هو الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، وهو قد تولى الخلافة سنة 99 هـ وتوفى سنة 101 هـ.
ومعنى ذلك أن السنة قد تأخر تدوينها قرنا كاملا، أو قرابة القرن، وإنما تعلق هؤلاء القوم بهذه الرواية، لأنهم يريدون أن يصلوا من وراء ذلك إلى غرضهم، وهو التشكيك في السنة الشريفة. وهؤلاء الناس وهم من أعداء الإسلام، ومن شايعهم، يطرحون سؤالا فيقولون: إذا كانت السنة قد تأخر تدوينها إلى مطلع القرن الثاني الهجري، فأين كانت طوال القرن الأول الهجري كله ؟
فإذا قلت لهم كانت محفوظة في الصدور، قالوا لك: إن الحفظ خوان ونحن لا نأمن الحفظ، لأنه قد يطرأ عليه النسيان أو الوهم والخطأ، وكل ذلك يؤدي إلى احتمال الزيادة والنقصان، والحقيقة أن السنة كانت محفوظة في الصدور ومسطورة في الصحف أيضا، وبادئ ذي بدء، نحن نجزم بصحة هذه الراوية التي صدرنا بها البحث، وهي التي تفيد أن عمر بن عبد العزيز هو أول من أمر بكتابة السنة نجزم بصحتها، لأنها وردت في أوثق مصادرنا، وأصحها بعد كتابه تعالى ألا وهو صحيح البخاري، ولكننا نهدف من وراء هذا البحث إلى إثبات حقيقة هامة وهي: أن عمر بن عبد العزيز حينما أمر بكتابة السنة فإنه لم يبدأ ذلك من فراغ، ولكنه اعتمد أصولا مكتوبة كانت تملأ أرجاء العالم الإسلامي كله، من خلال روح علمية نشطة، أشعلها الإسلام في أتباعه، فأصبحوا يتقربون إلى الله تعالى، بأن يزدادوا في كل يوم علما، وخير العلوم، قطعا، ما كان متعلقا بالقرآن والسنة، وحينما نثبت أن تدوين السنة بدأ في عصر مبكر جدا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وبإذن منه صلى الله عليه وسلم شخصيا، فإننا لن نتعسف الأدلة أبدا. وصولا إلى تلك الغاية، ولكننا لن نقول في هذا الشأن قولا إلا ونشفعه بالدليل القوي المستمد من أوثق المصادر، وأأكدها وأصحها، والقول بأن السنة قد بدأ تدوينها منذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم قد أصبح حقيقة علمية مؤكدة، ثبتت بالبراهين القطعية، وتضافرت على إثبات هذه الحقيقة الساطعة أقوال جملة من الباحثين الثقات الأثبات , والآن إلى الطواف ببطون الكتب نجمع لك منها خلاصة آراء العلماء في ذلك، وبالله التوفيق. في أول العهد بالإسلام أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ينشغل الصحابة رضي الله تعالى عنهم بشيء غير القرآن الكريم. ومن هنا نهى في بدء الإسلام عن كتابة أي شيء غير القرآن الكريم، ولقد ورد هذا النهي في قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار "، وهذا النهي النبوي كان وراء جملة من الأسباب نجملها على الوجه التالي:
• مخافة اختلاط شيء بالقرآن الكريم. لأن القرآن الكريم كان جديدا عليهم، ولم يتعودوا بعد على إسلوبه، فلو سمح لهم بكتابة شيء غير القرآن معه فلربما أدى ذلك إلى أن يدخل في القرآن الكريم ما ليس منه.
• أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن تتوجه همة المسلمين في المقام الأول إلى القرآن الكريم، الذي نزل من عند الله تعالى، وهو المصدر الأول للتشريع، فلابد أن يتركز نشاط المسلمين على حفظه وتدوينه.
• قلة أدوات الكتابة، وقلة عدد الكاتبين في ذلك الزمان، وهذا جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يستفيد بهم في تدوين القرآن الكريم أولا، ولم يشأ أن يوزع الجهود، وهي قليلة، بين القرآن الكريم وغيره.
• لكي لا يركن المسلمون إلى الكتابة ويتركوا الحفظ، ومن هنا طلب منهم النبي صلى الله عليه وسلم عدم كتابة الحديث، وأن يعتمدوا على ذاكرتهم فيستودعوها الحديث الشريف في تلك المرحلة المبكرة ثم جاءت حقبة زمنية، في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا، جدت فيها عوامل أدت إلى زوال تلك الأسباب. فقد تمرس المسلمون بأسلوب القرآن الكريم، وألفوه وتعودا عليه، وأصبحوا يستطيعون التمييز بينه، وبين أساليب البيان الأخرى، لأن القرآن له سماته المميزة، كما كثر تعدد الكاتبين، وزاد اهتمام المسلمين بها، لأن الإسلام يدعوا إلى العلم منذ نزول أول آية، ولقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم فداء الأسير من المشركين، يوم بدر أن يعلم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة، ولما زاد عدد الكاتبين زاد بالتالي، وتبعا لذلك، أدوات الكتابة، لأن المجتمع الذي ينشط في تحصيل العلم، وتعلم القراءة والكتابة، لابد أن ينشط في توفير أدواتها كما تتابع نزول الأحكام التشريعية، فزادت الأحاديث النبوية، لأنها تبين القرآن الكريم وأصبح تدوينها ضرورة، واشتدت عناية الصحابة بالسنة خصوصا بعدما كثرت الأحاديث.
أقول لما زالت هذه الأسباب جميعا أذن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في كتابة الحديث لمن أراد من المسلمين. وقد تمثل هذا الإذن النبوي في مجموعة من الأدلة نوجز بعضها فيما يلي:
• لما فتح الله تعالى مكة للمسلمين خطب النبي صلى الله عليه وسلم، فقام رجل من أهل اليمن اسمه أبو شاه، وقال: يا رسول الله، اكتبوا لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اكتبوا لأبي فلان "، يقصد أبا شاه. وعند البخاري زيادة، عن الوليد بن مسلم، قال: قلت للأوزاعي، ما قوله، اكتبوا ؟ قال: هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدل ذلك على صريح إذنه بالكتابة.
• روى الإمام أحمد بسنده إلى عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه، قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " أكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق " .
• كما روى الخطيب، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: كان رجل يشهد حديث النبي صلى الله عليه وسلم فلا يحفظه، فيسألني، فأحدثه فشكا قلة حفظه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " استعن على حفظك بيمينك ".
وهناك أدلة غير ذلك كثيرة على إذنه صلى الله عليه وسلم، وقد تعددت آراء العلماء حول العلاقة بين أحاديث الإذن، وحديث النهي المشار إليه في أول هذا المبحث. وأقوى الآراء في ذلك وأرجحها أن أحاديث الإذن ناسخة لحديث النهي، وعلى ذلك فإن آخر الأمرين منه صلى الله عليه وسلم هو الإذن بالكتابة. وتلقف الصحابة الكرام هذا الإذن النبوي الكريم فشرع كثير، منهم في كتابة الحديث الشريف، فمن الصحابة الكاتبين على بن أبي طالب رضي الله عنه، فقد روى البخاري بسنده إلى أبي جحيفة، قال: قلت لعلي: هل عندكم كتاب ؟ قال: لا إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. قلت: أو ما في هذه الصحيفة ؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر. ومن الصحابة الكاتبين عبد الله بن عمرو بن العاص، وقد مر بك منذ قليل ذكر الدليل على ذلك، وقد أثمرت كتابته هذه صحيفة عبد الله التي أسماها الصادقة، وكانت قريبة جدا إلى قلبه، فقد قال تلميذه مجاهد: دخلت عليه فتناولت صحيفة تحت رأسه فتمنع عليّ فقلت تمنعني شيئا من كتبك ؟ فقال: هذه الصحيفة الصادقة التي سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه فيها أحد، فإذا سلم لي كتاب الله، وهذه الصحيفة، والوهط: فما أبالي ما كانت عليها الدنيا، والوهط أو الوهطة حديقة كانت لعمرو بن العاص، وآلت من بعده لابنه عبد الله، ومن أحاديث هذه الصحيفة ما رواه الإمام أحمد في مسنده بسنده إلى أبي سبرة، أنه قال: كان عبيد الله بن زياد يسأل عن الحوض، حوض محمد صلى الله عليه وسلم، وكان يكذب به بعدما سأل أبا برزة، والبراء بن عازب، وعائذ بن عمرو، ويكذب به، فقلت له ألا أحدثك في شفاء هذا ؟ إن أباك بعث معي بمال إلى معاوية، فلقيت عبد الله بن عمرو بن العاص، فحدثني بما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأملى علي فكتبته بيدي، فلم أزد حرفا ولم أنقص حرفا، حدثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " إن الله لا يحب الفاحش والمتفحش، ولا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والتفاحش، وقطيعة الرحم، وسوء المجاورة، وحتى يؤمن الخائن ويخون الأمين، وقال: ألا إن موعدكم حوض عرضه وطوله واحد، وهو كما بين آيلة ومكة وهو مسيرة شهر، فيه مثل النجوم أباريق شراب أشد بياضا من الفضة، من شرب منه شربة لم يظمأ بعد أبدا، فقال عبيد الله: ما سمعت في الحوض حديثا أثبت من هذا، فصدق به وأخذ الصحيفة فحبسها عنده، ومن الصحابة الكاتبين أبو هريرة، ورغم أنه لا يعرف الكتابة، فإنه كان يستكتب لنفسه، وقد حفظت لنا صحيفة من صحفه رواها عنه تلميذه التابعي همام بن منبه، ثم نسبت إليه فقيل عنها: صحيفة همام، وعرفت بذلك واشتهرت به، ولقد سمعها من شيخه أبي هريرة المتوفي سنة 59 هـ على أرجح الأقوال. ومعنى ذلك أنها كتبت في منتصف القرن الأول الهجري تقريبا. وهذه الصحيفة تعتبر من الأدلة اليقينية على أن السنة قد شرع في تدوينها منذ مرحلة مبكرة جدا، كما أنها تعتبر وثيقة تاريخية هامة حيث إنها وصلت إلينا كاملة، وقد تتبع الأستاذ سيد صقر سلسلة رواتها، فقال: وقد رواها عن همام رواة كثيرون، آخرهم معمر بن راشد ثم عبد الرزاق، عن معمر بن راشد، ثم آخر من رواها، عن عبد الرازق إسحاق الدبري، ثم آخر من رواها من إسحاق أبو القاسم الطبراني المتوفي 360 هـ، ومن رواها عن عبد الرازق الإمام أحمد بن حنبل، ولقد أتى بها كاملة في مسنده، وقد عثر الباحث المحقق الدكتور محمد حميد الله على نسختين متماثلتين في دمشق وبرلين لهذه الصحيفة، وعدد أحاديث هذه الصحيفة ثمان وثلاثون ومائة حديث، وهي محققة ومطبوعة، ومن أحاديث تلك الصحيفة ما رواه الإمام بسنده إلى همام بن منبه، قال: هذا ما حدثنا به أبو هريرة، عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتينا من بعدهم، فهذا يومهم الذي فرض الله لهم، فاختلفوا فيه وهدانا الله إليه ثم كنا فيه تبع، فاليهود غدا والنصارى بعد غد ". وهذه الصحيفة وإن لم تكتب في عصر النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنها كتبت في عصر الصحابة، كاتبها همام، كتبها عن شيخه أبي هريرة مباشرة، ولذلك جعلناها من صحف الصدر الأول. وهذه الصحيفة من بين الأدلة على أن الصحيحين لم يستوعبا كل الأحاديث الصحيحة، لأنها رويت كلها بإسناد واحد، فدرجة أحاديثها في الصحيفة واحدة، ومع ذلك أخرج البخاري ومسلم بعضها ولم يخرجها كاملة. ومن الصحابة الكاتبين عبد الله بن أبي أوفي المتوفي بالكوفة سنة 87 هـ، ولقد كتب كتابا إلى عمرو بن عبيد الله بن معمر القرشي أمير فارس عندما وجهه عبد الله بن الزبير إلى حرب الأزارقة، وقد قرأ هذا الكتاب سالم أبو النضر مولى عمرو وكاتبه، وقد حدث بما فيه من أحاديث، وقد روى البخاري في صحيحه بعضها، ومن أحاديث هذه الصحيفة. ما رواه البخاري بسنده، عن موسى بن عقبة، عن سالم أبي النضر مولى عمرو بن عبد الله، وكان كاتبا له، كتب إليه عبد الله بن أوفي فقرأته، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقى فيها العدو، انتظر حتى مالت الشمس، ثم قام في الناس، فقال: " أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، ثم قال: اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم.
والخليفة الأول رضي الله تعالى عنه كتب شيئا من السنة أيضا، فقد ذكر البخاري بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه، أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له فريضة الصدقة التي أمر بها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. " من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة، وليست عنده إلا حقة، فإنها تقبل منه الحقة ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهما..... الخ "
ومن الصحابة الكاتبين، أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان له كتاب دفعه إلى أبي بكر بن عبد الرحمن القرشي أحد الفقهاء السبعة، ومن كتاب أبي رافع هذا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة، قال: " وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ". " اللهم أنت الملك، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، أنت ربي، وأنا عبدك، لا شريك لك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنوبي، فاغفر لي ذنوبي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، ولا منجى ولا ملجأ منك إلا إليك، أستغفرك وأتوب إليك ثم يقرأ "، وكان أنس من الصحابة الكاتبين وقد قابله عتبان بن مالك، فكتب عنه أنس حديث زيارة النبي صلى الله عليه وسلم، له ونص الحديث عند مسلم: روى مسلم بسنده، إلى أنس بن مالك، عن محمود بن الربيع، عن عتبان بن مالك رضي الله عنهم أجمعين، قال أنس قدمت المدينة فلقيت عتبان، فقلت: حديث بلغني عنك: قاك: أصابني في بصري بعض الشيء، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أحب أن تأتيني فتصلي في منزلي، وهو حديث طويل وفي آخره، قال أنس: فأعجبني هذا الحديث، فقلت لا بنى، اكتبه، فكتبه.
وكان الناس إذا أكثروا على أنس طلبا للسماع، يلقي إليهم كتبا، ويقول: هذه كتب سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرضها عليهم، وكان يقول لبنيه: يا بني، قيدوا العلم بالكتاب. وقد ورد هذا النص مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وورد موقوفا على كثير من الصحابة منهم عمر بن الخطاب، وأنس، وغيرهم، وقد استعرض ذلك كله الخطيب البغدادي في كتب تقييد العلم، ومن الصحابة الذين كتبوا، الصحابي الجليل سعد بن عبادة، فقد روى الترمذي: قال: قال ربيعة، وأخبرني ابن سعد بن عبادة، قال: وجدنا في كتاب سعد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد. وابن حجر في تهذيب التهذيب، يجزم بأن سعد بن عبادة كان من كتاب الجاهلية، ونص ابن حجر في ذلك نقلا، عن ابن سعد: كان في الجاهلية يكتب بالعربية، ويحسن العوم والرمي، وكان من أحسن ذلك يقال له الكامل. كما أن سمرة بن جندب قد جمع أحاديث كثيرة، ورثها عنه ابنه سليمان ورواها عنه، وهي على ما يظن الرسالة التي بعثها سمرة إلى بنيه، ومن أحاديثها.
بسم الله الرحمن الرحيم من سمرة بن جندب إلى بنيه: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يأمرنا أن نصلي كل ليلة بعد المكتوبة، ما قل أو كثر ونجعله وترا "، وقد قال ابن سيرين عن هذه الصحيفة، في رسالة سمرة إلى بنيه علم كثير، وقد قال الأستاذ سيد صقر عن صحيفة سمرة هذه: وصلت هذه الرسالة كاملة إلى الحسن البصري المتوفي سنة 110 هـ. وكان يعتمد عليها في روايته، ويبيح نسخها لمن يشاء، ويستمع إلى من يرغب في قراءتها عليه، وجاء في كتاب العلل، ومعرفة الرجال لأحمد بن حنبل، عن ابن عوف، قال: وجدت عند الحسن كتاب سمرة فقرأته عليه. وروى النسائي منها، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل "، وابن عباس رضي الله عنه كان أيضا من الصحابة الكاتبين، وكان عند كريب مولى ابن عباس كتب كثيرة من كتب ابن عباس، ولقد تعددت الراوايات في أن كريبا حمل من عند ابن عباس حمل بعير من الكتب، وكان علي ابنه: ابن عبد الله بن عباس، يبعث إلى كريب إذا أراد كتابا من كتب أبيه، فيبعث كريب إلى علي بما يريد، فينسخها ثم يردها إلى كريب مرة ثانية، ويقول الدكتور صبحي الصالح، عن كتب ابن عباس هذه، ويتعاقب الناس على الرواية عنها، والأخذ منها، حتى امتلأت كتب التفاسير والحديث بمسموعات ابن عباس ومروياته، ولكننا، مع ذلك، لا نستطيع تحديد الزمن الذي تلقت فيه تلك الصحف، ولا الصور التي تلقت عليها، ومن الصحابة الذين كتبوا: جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وكان له منسك في الحج، كما كانت له حلقة في المسجد النبوي، يلقي إلى تلاميذه من كتبه، وقد روى عنه منسكه في الحج أبو جعفر بن علي بن الحسين، وأخرجه مسلم في صحيحه. وإن أوسع الروايات في وصف حجة الوداع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت من رواية جابر بن عبد الله، وهي تصف تلك الحجة من أول ما عزم على الحج، وهو بالمدينة إلى أن انتهى من مناسكه صلى الله عليه وسلم، وهذه الرواية عند مسلم. ويذكر ابن حجر أن أبا ريحانة الأزدي، من الصحابة، كذلك له صحف، فيقول في ترجمته. أبو ريحانة الأزدي من الصحابة الذين نزلوا الشام ومصر، كانت له صحف، وهو أو ل من طوى الطومار، وكتب فيه مدرجا مقلوبا. وكل تلك الصحف السابقة، غير الصحف التي كان فيها بعض من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، كان يكتبها لهم، لمناسبة من المناسبات، ومن ذلك ما يرويه ابن أبي ليلى، عن عبد الله بن حكيم، قال: قرئ علينا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب "، ومثل ذلك أيضا الكتاب الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابه بتدوينه في السنة الأولى من الهجرة، وفيه حقوق المسلمين المهاجرين والأنصار، وعرب يثرب، ومواجهة اليهود في المدينة، وتكررت فيه عبارة هذه الصحيفة خمس مرات، وجاء في مقدمة هذا الكتاب. " هذا كتاب محمد النبي رسول الله، بين المؤمنين والمسلمين من قريش، وأهل يثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم، يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين "، وربعتهم يعني على حالهم، ويتعاقلون: أي يشتركون في الدية، والعاني: هو الأسير، ولقد ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن حزم على اليمن، وكتب له كتابا فيه الفرائض والسنن والديات، وغير ذلك كما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا لوائل بن حجر لقومه في حضرموت، حدد له فيه الملامح الرئيسة، والخطوط الكبرى للإسلام، كما كتب له في هذا الكتاب بعض الأحكام من الزكاة، وحد الزنا، وتحريم الخمر، وبيان أن كل مسكر حرام.... الخ ، وكل ذلك غير تلك الصحف التي كان يكتبها الصحابة لأنفسهم ولغيرهم، ومنها، ما مر عليك ذكره من صحيفة أبي بكر لأنس بن مالك في الصدقة، ومنها ما رواه ابن سعد، وغيره، قال: لما مات محمد بن مسلمة الأنصاري، وجدنا في جراب سيفه كتابا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: " وإن لربكم في أيام دهركم لنفحات، فتعرضوا لها ". وكتبت سبيعة الأسلمية إلى عبد الله بن عتبة، تروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمره بالنكاح بعد قليل من وفاة زوجها بعدما وضعت. إن كل تلك الأدلة السابقة التي سقناها، تؤكد لنا في جزم ويقين أن العصر النبوي المبارك لم يكد ينتهي، إلا وقد شرع في تدوين السنة، بل وتم تدوين كثير منها، في صحائف وكتب، وتلك حقيقة علمية توصل إليها كثير من الباحثين. يقول الأستاذ سيد صقر في أول سطور تحقيقه لكتاب فتح الباري: من الحقائق المطوية في الكتب، أن الأحاديث النبوية، قد دونت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حياة صحابته، فكان لبعض الصحابة كتب تشتمل على ما سعوا من أحاديث كتبوها بأيديهم، وكتبها عنهم من سمعها منهم، وقد شارك الرسول في تدوين سنته بإملائه على كتابه ما أملى من كتب في الفرائض وغيرها، أو أرسلها إلى من رأى إرسالها إليه، لتكون تبصرة وتذكرة، فيما افترض من ألوان الفرائض، أو أدبهم به من سنن الأدب، ويقول الدكتور محمد عجاج الخطيب في تعليقه على صحيفة همام: ولهذه الصحيفة أهمية تاريخية في تدوين الحديث الشريف، لأنها حجة قاطعة، ودليل ساطع على أن الحديث النبوي كان قد دون في عصر مبكر، وتصحح الخطأ الشائع، أن الحديث لم يدون إلا في أوائل القرن الثاني الهجري، ويقول الدكتور صبحي الصالح، ليس علينا إذن أن ننتظر عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز حتى نسمع للمرة الأولى- كما هو الشائع- بشيء اسمه تدوين الحديث، أو محاولة لتدوينه. وليس علينا أن ننتظر العصر الحاضر لنعترف بتدوين الحديث في عصر مبكر، جريا وراء بعض المستشرقين كجولدزيهر وشبرنجر. لأن كتبنا ووثائقنا وأخبارنا التاريخية لا تدع مجالا للشك في تحقيق تقييد الحديث في عصر النبي نفسه، وليس على رأس المائة الثانية للهجرة. كما يمن علينا هذان المستشرقان، وهي تنطق فوق ذلك، بصدق جميع الوقائع، والأحوال والسير والتصرفات التي تنطوي عليها الأحاديث الصحاح والحسان في كتب السنة جميعا لا في بعض دون بعض كما يظن دوزي.
السنة في عصر الصحابة: ولما توفى النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل اهتمام الصحابة بدراسة السنة، بل ظلوا على ذلك، إن لم يكونوا قد زادوا من جهودهم. وبالقطع قد فعلوا، لأن توضيح الدين للناس، وخصوصا تلك الأمم التي دخلت في الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أصبح معلقا بهم، وعلى مسئوليتهم لأن الوحي قد انقطع كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعد بين ظهرانيهم. كما كانت لهم محفزات أخرى تدعوهم إلى مضاعفة الجهد، في سبيل نشر السنة وحفظها، والعمل على نشرها، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم. فليبلغ الشاهد الغائب. ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: " نضر الله امرئ سمع مقالتي، وأداها كما سمعها ورب مبلغ أوعى من سامع " وفي رواية: " فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " من أجل ذلك نقول: واصل الصحابة مجهودهم الشاق بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الحفاظ على السنة ونشرها، وقد تمثل هذا الاهتمام الشديد في مظاهر متعددة. أولا: التشدد في أمر الرواية، وقد مر بك موقف أبي بكر رضي الله تعالى عنه، حينما ذكر عنده المغيرة بن شعبة حق الجدة في الميراث، كما مر بك أيضا موقف الفاروق من أبي موسى في حديث الاستئذان. ولم يكن ذلك، كما قلنا سلفا، شكا في أقوال الصحابة، فإن ذلك لم يدر بخلدهم قطعا، وإنما هم أرادوا أن يؤسسوا المنهج الواضح في ضرورة التثبت في أمر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن كلامه، كما أسلفنا، دين نتعبد الله تعالى به.
ثانيا: حفظ السنة في الصدور
لقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتلقفون كل ما يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم يحفظونه. ويعملوا بما فيه من أحكام. ولقد بلغ من شدة حرصهم على تتبع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنهم كانوا يجتهدون في ألا يفوتهم شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، لدرجة أنهم حينما كانت تحبسهم المشاغل عن حضور مجالسه صلى الله عليه وسلم، كانوا يتناوبون حضور تلك المجالس. بمعنى أن يحضر البعض اليوم، والبعض الآخر غدا، على أن يتبادلوا ما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى البخاري صحيحه إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، قال: كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يوما، وأنزل يوما، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك.. إلخ الحديث، ولقد كان من محفزاتهم لحفظ السنة ما ذكرناه لك منذ قليل. من ترغيب النبي صلى الله عليه وسلم في حفظ أحاديثه وروايتها للأجيال القادمة. فربما وفقهم الله تعالى إلى فقهها، وفهم كنوزها بأكثر مما وفقت إليه الأجيال السابقة. هذا بالإضافة إلى ما يعلمونه، من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يبين القرآن الكريم، ويشرح لهم أحكامه، بالإضافة إلى ما يشرعه لهم صلى الله عليه وسلم.
ثالثا: وكان من مظاهر عناية الصحابة بالسنة؛ أن تسارع الكثير منهم إلى تدوينها في الصحف صيانة لها من النسيان، ولقد مر بك ذكر بعض الصحف.
رابعا: عمل الصحابة على نشر السنة بين الأجيال اللاحقة لهم.
جلس كثير من الصحابة للتحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل:أبي هريرة، وأنس، وجابر، وعبد الله بن عمرو، وغيرهم كثير، وتخرج في مدرستهم جمع غفير من التابعين، كانوا فيمابعد هم جنود السنة المخلصون الذين يروونها ويدافعون عنها، ويردون عنها كيد الطاعنين، ويعلمونها لمن بعدهم.
خامسا: أخذ الصحابة في تكوين المدارس العلمية في البلاد التي دخلوها بعد فتح الإسلام، وأقاموا فيها يعلمون الناس أمور دينهم، وكانت المادة العلمية التي تشتغل بها تلك المدارس الصحابية المباركة، هي كل ما يتعلق بالقرآن الكريم من تفسير، وفهم لكتاب الله العزيز واستنباط الأحكام، منه كما اهتمت هذه المدارس أيضا بدراسة كل ما يتعلق بالرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أستاذهم الأول، من حيث ما صدر من أقوال وأفعال إلخ، وهو ما يعرف بعلم الحديث، أو من حيث دراسة كل ما يتعلق بشخصه الكريم، وهو ما يعرف بعلم السيرة، وكانت لهذه المدارس أهمية عظمى في الحفاظ على تلك العلوم وذلك لما يلي:
• مكنت هذه المدارس لكثير من النابغين أن يتخرجوا فيها- كما ذكرنا- ويتحملوا مسئولية الحفاظ على تلك العلوم، بعد جيل الصحابة.
• لقد توسعت دائرة العلوم تبعا لانتشار تلك المدارس، ولو مكث الصحابة في المدينة فقط ؛ فالله وحده الذي يعلم هل كانت ستنتشر تلك العلوم لتشمل أرجاء العالم الإسلامي. وهل كنا سنسمع عن نوابغ في علوم التفسير، والحديث، والفقه، والسيرة في بلاد العالم الإسلامي مثل البخاري، شيخ المحدثين من بخاري، أو الليث بن سعد، ويزيد بن أبي حبيب في مصر مثلا.
• مكنت هذه المدارس لحلقات العلوم أن تتواصل بأسانيد متصلة يتلقاها الخلف عن السلف.
• وأهم من ذلك كله، أن تلك المدارس قد مكنت تلاميذ تلك البلاد المختلفة، من أن يتلقوا تلك العلوم من مصدرها الأول الذي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، مباشرة وهو جيل الصحابة، وفي ذلك من الاستبشاق ما فيه لتلك العلوم، ولحديث الرسول صلى الله عليه وسلم خاصة بما يبعث الاطمئنان الأكيد في قلب المؤمن تجاه تلك التركة المباركة من علوم الدين المختلفة، وعلى رأسها علم الحديث الشريف. والفضل في ذلك يرجع إلى هؤلاء الصحابة الأجلاء الذين تحملوا فوق ما يتحمله جهد البشر في سبيل الذود عن الدين الحنيف، وعلومه المختلفة، ونحدثك الآن عن أهم تلك المدارس الصحابية التي انتشرت في بلاد العالم الإسلامي، والأساتذة الذين أسموها، وأهم التلاميذ تخرجوا فيها، فنقول:
• مدرسة المدينة المنورة: وهي سيدة هذه المدارس جميعا وأهمها على الإطلاق في ذلك العصر، لأن أستاذها الأول هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدون، والصحابة من بعده، والمدينة هي مقر هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها نزل كثير من الوحي، كما أنها مقر الخلافة الإسلامية الراشدة، وكانت الهجرة إليها عبادة لا يعد لها إلا الجهاد في سبيل الله، والنية الصادقة في الإيمان، كما كانت المدينة مسرحا خاصا لكثير من الحوادث الإسلامية الهامة التي أثرت في مسار الدعوة إلى الإسلام، ومن المدينة المنورة خرجت قوافل الخير تحمل الهدى والرشاد إلى أرجاء المعمورة داعية الناس أجمعين إلى دين الله القويم وصراطه المستقيم، من أجل تلك الأسباب جميعا، كانت مدرسة المدينة المنورة هي سيدة المدارس في عصرهم كما ذكرنا. وفيها تخرج أفذاذ علماء المسلمين، من بينهم على سبيل المثال لا الحصر، إمام دار الهجرة الذي تضرب إليه أكباد الإبل مالك بن أنس، وقبله من جيل التابعين سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وبعد ذلك محمد بن إسحاق، وغيرهم. مدرسة مكة: وقد حمل لواءها الأول معاذ بن جبل ذلك الصحابي الجليل الذي خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بعد فتحها، ليعلم أهلها الحلال والحرام، ويقرئهم القرآن، وكان معاذ بن جبل من أفضل الصحابة، وأكثرهم علما وفقها. كما ساهم في نهضة هذه المدرسة بقدر كبير الصحابي الجليل عبد الله بن عباس، الذي جلس بها في أخريات أيامه، بعد أن علم في البصرة والمدينة، ولذلك تكونت لمدرسة مكة شهرة عظيمة. ومن أبرز تلاميذ تلك المدرسة مجاهد بن جبر، وعطاء بن أبي رباح، وتواصلت حلقات تلك المدرسة، إلى أن أنجبت خير تلاميذها النابغ النجيب الإمام الشافعي رضي الله عنه.
• مدرسة الكوفة : وبها نزل عدد كبير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عنهم بعض العلماء أنهم ثلاثمائة من أصحاب الشجرة، وسبعون بدريا على رأسهم علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، الذي قال عنه الفاروق حينما أرسله إلى أهلها، آثرتك بعبد الله على نفسي، وفي هذه المدرسة تخرج عدد من النابهين منهم عامر بن شراحيل الشعبي، وسعيد بن جبير وغيرهم.
• مدرسة البصرة: وبها حل كثير من الصحابة منهم أنس بن مالك، وأبو موسى الأشعري، وعمران بن حصين، وأبو برزة الأسلمي، وغيرهم كثير، ومن أجل أساتذتها عبد الله بن عباس، حينما كان واليا عليها من قبل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وكان من أنجب تلاميذ تلك المدرسة الحسن البصري الذي قيل عنه: إنه لقي خمسمائة صحابي، وكان من تلاميذها أيضا محمد بن سيرين، وقتادة بن دعامة السدوسي، وغيرهم.
• مدرسة الشام: وإليها ذهب عدد كبير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قدره بعضهم بعشرة آلاف صحابي، وفي خلافة عمر رضي الله عنه بعث إليهم معاذ بن جبل في فلسطين، وعبادة بن الصامت في حمص، وأبو الدرداء في دمشق، وممن نزل الشام أيضا أبو عبيدة بن الجراح، وبلال بن رباح، والنعمان بن بشير، وخالد بن الوليد وغيرهم، وتخرج في مدرستهم عدد كبير من النابهين منهم أبو إدريس الخولاني، والأوزاعي الذي يقرن بمالك، وأبي حنيفة ويلقب بإمام أهل الشام، ورجاء بن حيوة، وغيرهم
• مدرسة مصر: وإليها ذهب عدد كبير من الصحابة برفقة جيش الفتح، منهم الزبير بن العوام، ومسلمة بن مخلد , وعبادة بن الصامت، والمقداد بن الأسود، وقائد جيش الفتح عمرو بن العاص، وغيرهم كثير، وأستاذ هذه المدرسة الأول هو عبد الله بن عمرو بن العاص، وقد مر بك أنه أحد الذين كتبوا الحديث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبإذن منه صلى الله عليه وسلم، وعن عبد الله أخذ كثير من محدثي الديار المصرية، فكان له بذلك فضل نشر الحديث الشريف بمصر، ومن أجل تلاميذه الذين ساهموا بقسط وافر في نشر الحديث بمصر أيضا، يزيد بن أبي حبيب، وعلى يديه تخرج الليث بن سعد الذي كان يقارن بكبار الأئمة، وعليه تلقى خلق كثير، وكان في عصره أعظم أساتذة الحديث بالمدرسة المصرية.
• مدرسة اليمن، وأستاذها معاذ بن جبل، الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهلها ليعلمهم أمور الدين، وأبو موسى الأشعري، وغيرهما كثير، وأنجبت هذه المدرسة عبد الرازق الصنعاني صاحب المصنف وغيره، وهناك مدارس أخرى في خراسان والمغرب وغيرهما مما لا نطيل بذكره
سادسا: الرحلات العلمية: ومن أهم ما تميز به عصر الصحابة قيامهم بالرحلات العلمية، والتي كانوا يطوفون فيها في أرجاء العالم الإسلامي كله، وصارت الرحلات العلمية هذه سنة حميدة يسير عليها طلاب العلم، واستمرت حتى نهاية القرن العاشر الهجري تقريبا، وبقيت بعد ذلك على قلة شديدة جدا، وكان لهذه الرحلات العلمية فوائد عظيمة، نجمل أهمها فيما يلي.
• كانت من أهم مصادر التكوين العلمي للعلماء، ولا تكاد تقرأ ترجمة لأحد الأعلام النبهاء إلا وتطالعنا أنباء الرحلات التي قام بها، وجاس خلالها بلاد العالم الإسلامي شرقا وغربا، وفي كل بلد يلتقي بطائفة من الشيوخ يتلقى عنهم علمهم، وليفضي أيضا إلى من يشاء الله من التلاميذ، وهكذا تكونت بين أيدينا ثروة هائلة من المعارف الإسلامية المتعددة في الفقه، والحديث، والتفسير، والسيرة، وغيرهما.
• أدت هذه الرحلات العلمية إلى توطيد أواصر العلاقة بين المدارس العلمية المختلفة التي أشرنا إليها، ومن الرائع أن يلفت نظرك وأنت تقرأ أسانيد بعض الأحاديث، فتجد التلميذ المصري فيه قد تلقى عن شيخ شامي، والشامي تلقى عن البصري، وهكذا برزت جهود علمية متكاملة في خدمة دين الإسلام الحنيف وعلومه.
• أدت هذه الرحلات إلى تبادل المعلومات بين تلاميذ المدارس المختلفة فلم تغلق كل مدرسة أبوابها على نفسها فقط متكيفة بما تلقته من علم من شيوخها الأوائل، كلا، وإنما شرعوا ينهلون من علوم كل مدرسة، فيزدادوا بذلك علما، فينفعوا أنفسهم وينفعوا المسلمين، وبذلك استفادت المدارس من علم المدارس الأخرى.
• أدت هذه الرحلات إلى توثيق المعلومات وتأكيدها، فمثلا البصري الذي يحفظ الحديث عن أنس بن مالك، إذا ذهب إلى مصر مثلا، فقد يجد هذا الحديث عندهم من رواية عبد الله بن عمرو، فيكون ذلك طريقا أخرى للحديث، ومن المعروف أن تعدد طرق الرواية عند المحدثين يكسب الحديث قوة وصدقا ويقينا.
عصر التابعين
أهم خصائص تدوين السنة في عصر الصحابة التشدد في الرواية، وحفظ السنة في الصدور، وفي الكتب، مع العمل على نشرها وتعليمها لمن بعدهم، بالإضافة إلى تكوين المدارس العلمية، والقيام بالرحلات العلمية. فإذا انتقلنا إلى عصر التابعين سنجد هذه الخصائص مستمرة وباقية، بل وتزداد تأكيدا ورسوخا، بالإضافة إلى اتساع حركة الكتابة بينهم. فمن التابعين الذين كتبوا، عروة بن الزبير، والزهري، وعاصم بن قتادة، وهمام بن منبه، وصحيفته التي أشرنا إليها، ومجاهد بن جبر، وأبو الزبير المكي، وخالد بن معدان الكلاعي، وسعيد بن جبير، والحسن البصري، وعبد الرحمن بن هرمز المعروف بالأعرج، وأبو جعفر الباقر، وغيرهم كثير وكثير يضيق المقام عن حصرهم. إذن فجيل الصحابة قد كتب السنة، وكذلك التابعين من بعدهم، وأصبح تدوين السنة في مرحلة مبكرة حقيقة لا ينكرها إلا جاحد. وتلك الحقيقة لا تتعارض مع ما رواه البخاري، وغيره من أن عمر بن عبد العزيز هو الذي أمر بتدوين السنة في مطلع القرن الثاني الهجري، لأنه خاف دروس العلم وذهاب العلماء، لأنه حينما أمر بذلك، فإن العلماء لم يبدأوا من فراغ، وإنما اعتمدوا على تلك المدونات المكتوبة سلفا، والتي كانت عند كثير من علماء الأمة. والفضل كل الفضل لعمر بن عبد العزيز، الذي جمع تلك الجهود المتفرقة التي كانت تملأ العالم الإسلامي، فأصبح بذلك تدوين السنة عملا جماعيا منظما، لكنه يعتمد في المقام الأول على ذلك المجهود الشاق المبذول في تدوين الصحائف الأولى.
عصر أتباع التابعين ومن بعدهم: فإذا انتقلنا بعد ذلك إلى القرن الثاني، وفيه كان كثير من التابعين وأتباعهم، فسنجد الكتابة قد انتشرت بشكل كبير جدا، وكثر عدد الكاتبين إلى درجة لا تحصى، بل وتزامنوا إلى درجة لا نعرف معها أيهم كان أسبق بالكتابة، فكتب في القرن الثاني عبد العزيز بن جريح، ومالك بن أنس، وموسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق، والربيع بن صبيح، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك، والأوزاعي، وعبد الرازق الصنعاني، ومعمر بن راشد، وهشيم، وأبو داود الطيالسي بل والإمام الشافعي، والأخيران توفيا في مطلع القرن الثالث، ولكن جل حياتهما، وإنتاجهما العلمي كان في القرن الثاني، ولقد تميز القرن الثاني بنفس الخصائص التي تحدثنا عنها في عصر الصحابة والتابعين، وزادت حركة الكتابة، وتميز هذا القرن أيضا بظهور المصنفات المختلفة في علوم الإسلام، ومما يعنينا في السنة، موطأ مالك، ومسند الطيالسي وكتب الإمام الشافعي، وغيرهم كثير. وحتى ظهور عصر المصنفات، فقد مرت السنة الشريفة بمراحل ثلاث، كما يقول العلامة فؤاد سزكين في تاريخ التراث العربي. فيقول: فقد مرت كتابة الحديث بالمراحل التالية:
• كتابة الأحاديث: وقد سجلت الأحاديث في هذه المرحلة في كراريس الواحد منها له اسم الصحيفة أو الجزء، وتمت هذه المرحلة في عصر الصحابة، وأوائل التابعين.
• تدوين الحديث: وفي هذه المرحلة ضمنت التسجيلات المتفرقة، وتم هذا في الربع الأخير من القرن الأول للهجرة، والربع الأول من القرن الثاني.
• تصنيف الحديث: وقد رتبت الأحاديث في هذه المرحلة وفق مضمونها، في فصول وأبواب، وبدأ هذا مع الربع الثاني من القرن الثاني، واستمر إلى أن ظهرت في أواخر القرن الثاني للهجرة، عن طرق أخرى لترتيب الأحاديث، وفق أسماء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتب يحمل الواحد منها اسم المسند.
وتأسيسا على ما سبق تستطيع أن تتأكد من الحقائق التالية:
• أن السنة دونت خلال عصر النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة من بعده، وأوائل التابعين، صحيح أنها في صحف وأجزاء، لكنها على أي حال قد دونت.
• أنه قد تلت ذلك مرحلة ثانية، وهي مرحلة طبيعية، وتترتب تلقائيا على المرحلة الأولى، وهذه المرحلة هي مرحلة التكوين، وهي عبارة عن جمع تلك الجهود المتفرقة لتكون في تسجيلات كبيرة.
• وبذلك نكون قد دخلنا إلى مرحلة المصنفات التي كانت في القرن الثاني الهجري في وسطه وفي آخره أيضا.
السنة في القرن الثالث الهجري : أطل علينا هذا القرن المبارك، ونستطيع أن نعتبره كما اعتبره العلماء العصر الذهبي للسنة، لأنه العصر الذي تميز فيه صحيح السنة من ضعيفها، كما أنه هو القرن الذي استقرت فيه السنة المطهرة في بطون الكتب المعروفة لدينا الآن وعلى رأسها الكتب الستة، ومسند الإمام أحمد وغيرها، وهكذا استمرت حلقات السنة في تتابع مستمر، وسارت في رحلة مباركة، تحوطها الرعاية والصيانة، والحفظ بجهود جبارة لعلماء أفذاذ، من لدن أستاذها الأول رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى حفظتها لنا تلك الكتب المباركة التي بين أيدينا الآن. لقد عاشت السنة المباركة في صدر هؤلاء الكرام وكتبهم، حتى سلموا لنا الأمانة الغالية خالية من كل شبهة، بعيدة عن كل ريب، محفوظة، مصونة بفضل الله تعالى، ثم بجهود هؤلاء الكرام البررة، فجزاهم الله عن الإسلام وأهله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا.


المصدر