اعلم –أرشدك الله إلى مواقع الحق – أنه لو قدّر لأحد أن يستعرض حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فينظر إليها كأنها زويت له من أنحائها , أو كأنما هي لوحة استطاعت ريشة الراسم أن تصوغ من حياة الرسول معالم , ينتظمها إطار عام فسيرى من الدلائل ما لو تفكر في آحادها العاقل كانت آخذة بناصيته إلى معاينة الحق رأي العين ..وهو ما سأحاول متحريا في الإبحار سبيل الاختصار.. وشرطي في راكب البحر معي أن يضبط بوصلته لا إلى الغرب ولا إلى الشرق ولكن حيث يكون التجرد والصدق وليكن على ذكر أني سأطوّف به في خضم الشاطيء فحسب وسيرفيء بعد الرحلة ولمّا يلج اللجة بعد ..وما لي رجاء إليه سوى أن يروز ما يرى بعقله , وإذا استوقفه نبض قلبه في مواطن ,فليفزع إليه.. لا منه..إنه نحيب الفطرة..شيء من بقاياها انبعثت فيه الحياة عند سماع صوت الحق..
-ليس يسع أحدا أن ينكر خصيصة الفطرة المركوزة في بني آدم ,إنها تنادي في جنبات النفوس أن دينوا بعبادةِ إله.. ويتعاظم النداء بلحاظ معترك الحياة وما فيها من ألوان الظلم والشقاء ,حتى لا يستقيم لأحد أن يهنأ بعيش إلا أن يجزم بحياة أخرى بعد الموت ليحق الحق ويعود كل شيء إلى نصابه حسب موازين القسط التي لا خطأ فيها (ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا انهم كانوا كاذبين ) فتكتمل عندئذ عناصر المشهد وتلتئم أجزاء الصورة الناطقة بحقيقة الإله سبحانه حيثما وجهت بصرك في هذا الكون المهيب.وقد تصفو النفوس فيعلو صوت النداء حتى يكون له رجع صدى, وتارة يخبو الصوت بحسب العوارض والآفات.ولمّا كان العقل في الأصل مركبًا لينظر , اقتضى ضجيج النداء الخفي أن يتطلب المرء صفات هذا المعبود وعرفان ما عساه أن يكون المصير حتى يسوغ تلبية النداء على معنى معقول ..أما الرجاء بمعرفة صفاته التفصيلية وما يريد منا سبحانه بطريق العقل فقد انقطع , فلم يبق إلا خبرٌ من قِبل من رَكَز في النفس ذلك الأنس إلى معرفته ثم عبادته , ومن هنا حقّت الغاية في الرسل , وانحصرت وظيفة العقل حينئذ في استعراض سِير مدعي النبوة وما نقل عنهم من أقوال وأفعال على مبحث النظر العلمي المتجرد من الأهواء والحظوظ بعد الإلقاء بركام العلائق وأوهام العوائق عن جناب الفكر..على أن الصراع المشهود في البشرية لو تأملته بإنصاف في مجموعه ألفيته يربو من نواحٍ كثيرة على نظيره عند الوحوش في البرية , فكيف يستقيم هذا مع إقرار الناس كافة بأن الإنسان أرقى في الرتبة من بقية الأجناس الحية التي تشركنا هذا الكوكب إلا أن يكون مقتضى هذا العقل أن واضعه أراد منه أن يهتدي بتشريعه ليحق معنى هذا الرقيّ الذي تأهل له بأصل الخلقة
-وأنت إذا نظرت فيمن اتخذهم الناس أنجما يهتدون بها أو جعلوهم أسماء في سماء العظمة لم يخرجوا عن أن يكونوا أنبياء مرسلين أو ملوكا وقادة أو فلاسفة مفكرين أو شعراء وأدباء ,أو مخترعين وفيزيائيين وأطباء ونحوهم (1) , فأما أهل الأدب فنتاجهم الفني قاصر عن أن يكون ملمّا بحاجات الإنسانية , بل قصاراه لا يعدو أن يكون تعبيرًا عاطفيًا يتعلق بتجاربهم الخاصة ورؤاهم النفسية وقلما تخلو من الكذب حتى قيل أعذب الشعر أكذبه! ,وأما الفلاسفة الكبار المشهورون فلا يعرف التاريخ لأحدهم حياة في ضوء منهج شمولي موزون يصلح أن يُتَرسّم الخطى فيكون منهج حياة وإنما هي تنظيرات فكرية ألصق ما تكون بالخيال المنفلت والنزعات النفسية وفي احسن أحوالها تظل منسوبة للنقص البشري موسومة بالافتقار الذاتي , فتارة تكون مغرقة في المثالية أو مفرطة في المادية ,أو تكون مقصورة على زاوية حادة جدًا لا تكاد تمثل من دائرة الحياة الإنسانية شيئا مذكورا على فرض صحته,ومع تعدد المناهج الفلسفية ترى كل نتاج فلسفي معارضًا بنتاج الآخر على ما يحمله من تناقضات في المنهج الواحد نفسه ..وليست في حقيقتها سوى رؤى فكرية تخص أربابها بحسب نظراتهم للحياة وأذواقهم وبحسب الزاوية التي يهتمون بالنظر خلالها..سواء كان متعلق هذه الفلسفة السياسة أو الجمال أو الاقتصاد أو الأخلاق أو العلوم..إلخ , وخلف هذه المتعلقات منطلقات عقدية ولابد..
وكلامهم في عالم الغيب الذي يسمى ماورائيات يقطع العقلاء أنه محض أوهام خيالية من بنات تخرصاتهم الموؤودة منذ ولادتها,ولم يدعوا هم لأنفسهم أنهم رسل من عند الله تعالى ,وكذلك قل عن المخترعين والرياضيين والفيزيائيين فإنهم وإن نفعوا البشرية في جانب , فليس ذا سوى معادلة أو قانون مكتشف يتعلق بقضية اختصاصية بحتة لا تمتد معها الأكفّ بالغوث لتنتشل الإنسان من درك الشقاء إلى بحبوحة عمارة الأرض بإقامة الفرض الذي وضعه الله قانونا يبتلي به الإنسان بعد أن حمّله الأمانة بما هيأه من آلة العقل التي هي مناط الاختبار , ولا تجيب عن الأسئلة الكبرى الوجودية التي يستنقذ جوابها الحيارى من ضنك العيش إلى رحابة الحياة ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ,وأما الملوك ونحوهم فتعلم أن همهم في إشباع نهمهم في الاستيلاء بعد الاستيلاء , وكلما ملك أكثر تعاظم في عين نفسه أكثر فترى من آثار بأسه وبطشه ما ينبيك عنه التاريخ (2)
ولا يعرف هذا التاريخ ملوكا صالحين إلا أن يكونوا من أتباع الأنبياء(3) ,ثم هؤلاء الأصناف ليس لواحد منهم قط سيرة تامة تصلح أن تحتذى ,وإنما المعروف عنهم بعض الجوانب الإنسانية والفكرية , فيبقى كلامهم المنسوب إليهم حتى في شقه النافع منه ,كلاما نظريًا خاويا من دبيب الحياة وإن وجد فيه شيء الحركة لم تكن مصحوبة بالبركة, ولا تجد فيه ذخيرة تغذّي عمران الحياة في شتى مفاصلها بالقيم العليا والشرائع السامية في عامة جوانبها المادية والفكرية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها ..لا تحفل كثيرا بكلمة تقف عليها في مراكب الأيام لمفكر هنا وهناك..فكل أحد يستطيعها .. يستنبطها من تجربة مرت به أو كائنة شهد عليها, وتبقى هذه الكلمات إن صحّت حبيسة الفكرة الجميلة المجردة ,وهي على قلتها ليست غير ومضات تتلاشى قدام قرص الشمس ، وإنما تتحول المعاني العظيمة إلى كيان حيوي ذي بنيان راسخ في عالم الوجود الحقيقي الفاعل حين ينفخ فيها واضعها روحا بتوقيعها على الأرض ..وذلك حين يكون لها من يتمثلها على أكمل وصف ممكن..وحين تكون رسالة سابغة في شمولها لبنيان الإنسان بكل ما فيه من ألوان
وأما الأنبياء الذي اصطفاهم الله فلم ينقل لنا من سيرهم في كتب الأمم السابقة إلا جزيئات لا تصلح أن يرتق بها فتق الإنسانية , وهذا القليل ما ثم سبيل يمكن معه إثبات أنهم قالوه ..بل الأدلة المتكاثرة قائمة على أنهم لم يقولوا ولم يفعلوا كثيرا مما نسب إليهم باعتراف كبار النقاد من أهل الكتاب (اليهود والنصارى) وغيرهم(7 ) , إن الوحيد اليوم في التاريخ الإنساني كله الذي نستطيع وبكل قوة أن نقيم البراهين على أن تراثه محفوظ هو محمد صلى الله عليه وسلم ,وهذا التراث يشمل الشمائل التي كان عليها حتى لينقل لك صورة دقيقة من شؤونه الخاصة في بيته ,وشؤونه العامة مع الخاصة والعامة , وما كان عليه من آداب وأخلاق ومعاملات وعبادات واعتقادات بلوغًا إلى أدق الصفات الخلْقية المتعلقة بهيأته ووجهه وطوله وشعره ولونه وكيف كان ياكل وينام حتى لم يفت شريعته الإلهية الخالدة تعليم أمته آداب قضاء الحاجة (4)..إنه كتاب مفتوح شفاف يُرى باطنه من ظاهره على غير عادة العظماء تراهم يخفون شؤونهم الخاصة لأن اطلاع الناس عليها تخدش صورتهم التي يرجونها قدسّية في أعينهم..صفحاته صلى الله عليه وسلم تطوي الزمان والمكان لتكون ينبوعا للأمم تفجَّرُ منه كل المثل:المغازي والشمائل والحلال والحرام والهدي والأقوال والأفعال ومواضع الرضا والغضب والضحك والسلم والحرب والألم والأمل والبلاء والعافية والعلاقة مع الأقارب والأباعد ومع المؤمنين على درجاتهم والكافرين في دركاتهم..إلخ (5),كل ذلك مدون بالأسانيد الصحاح ,حتى حُفِظ لنا بحفظه حيواتُ آلاف من الناس الذين كانوا تلاميذ في مدرسته الكبرى , هم وأتباعهم وأتباعهم وأتباعهم إلخ..أتدري يا صاحبي؟ : ليس يصح لأحد أن ينصّبه الناس أسوة إلا أن يكون ترجم عن نفسه ببرهان نظري وآخر عملي , فنبئوني بعلم أي شخص جاء معه بهذين الترجمانين شاهدي عدل على صحة نبوته ؟ الكتاب إذن دستور القوانين العادلة والفاضلة والسنة هي الحكمة البالغة إذ هي التطبيق العملي الذي أخرجها من حيز المسطور إلى حيز المنظور واقعا ,لتكون شهادة حسية على صحة هذا المنهج ولذلك قال "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين "(6).. وما تظفر به من نتف تنسب إلى عظماء الدنيا لا يملك عاقل يحترم بديهيات البحث العلمي أن يزعم أنهم قالوه حقا فلا إسناد يصلنا بهم والهوة بيننا وبينهم ما أعظمها من هوة , إذن لابد لك حتى يصح اتباع إنسان من تحقق صحة النقل عنه ..الذي لابد منه في ثبوت الحقائق , وبعد ذلك لابد من حياة حافلة بأطوار كاملة تصلح أن تحتذى لتكون أسوة على أن تأخذ بأطراف الكمال البشري الملائم لفطرة الناس وطبائعهم من كل جهة , فهنا إذن خصائص :
-أن تكون موثقة بحيث يصح أن تنسب لصاحبها
-وأن تكون قابلة للإعمال.. أي محققة لما يلائم الطبيعة البشرية ليصلح الائتساء بها
-وأن تكون شاملة لجوانب الحياة لا قاصرة على بعضها فكل فرد في الجماعة مهما كان موقعه ورتبته يجد له فيها محالّ الاقتداء التي تليق بحاله
-وأن تكون كاملة مبرأة من المعايب والثغرات والنقائص ..متناغمة مع حاجات النفس والعقل والبدن
-وأن تكون خالدة منزهة عن القصور عن استيعاب حوادث الزمان
ولك أن تختصر فتقول :كاملة موثقة , فكمال القوانين والتشريعات لا يتأتى إلا أن يكون مصدره من قبل من كملت صفاته وهو الله سبحانه وتعالى , وقد قال "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً " والوثوق في المنقول لم يتأت واقعًا إلا في دين الإسلام كتابا وسنة "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"..وقد سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله فقالت :أتقرأ القرآن ؟ قال :نعم,قالت فإن خلق رسول الله كان القرآن (8) وجاء في السنة مصداق هذا التوصيف الشريف حتى لا تجد إضاءة في صفحة من الكتاب فيها دعوة لخير إلا ألفيت لها ظلالًا نورانية في صفحة من سفر الهدي النبوي..
-------
(1) انظر مثلا كتاب "الخالدون المئة" لمايكل هارت , تجده بعد أن افتتح بذكر رسول الله محمد , أتبعه بذكر أسماء تنتمي إلى الأصناف المذكورة !! فذكر مثلا عالم الفيزياء نيوتن ,والفيلسوف أرسطو ,والشاعر المسرحي وليم شكسبير ,والقائد المغولي جنكيز خان إلخ, ويخطيء جدا من يفرح بذكر رسول الله مع هؤلاء -وإن كان افتتح الكتاب به- ومن الجهل أن يظن أن هذا منه عدل.هؤلاء الذين اختارهم عظماء مؤثرين وضمنهم كتابه ومن في حكمهم ممن لم يذكرهم:ينطبق على جميعهم ما سيأتي من الكلام ..
(2) كالإسكندر المقدوني ونيرون وهرقل وجنكيز خان ..إلخ
(3) كمعاوية رضي الله عنه الصحابي الجليل , ونور الدين محمود زنكي رحمه الله تعالى.
(4)قال اليهودي لسلمان الفارسي رضي الله عنه : قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة (صحيح مسلم )
(5) تأمل في فهرس كتاب العلامة ابن القيم "زاد المعاد" لتعي حقيقة الامر
(6) أخرجه الإمام أحمد والترمذي بسند صحيح من حديث العرباض بن سارية, والسنة مع الكتاب إما كاشفة عن معانيه , وإما مبينة لمجمله ,وإما مقررة لشرائع لم ترد فيه كتحريم زواج المتعة مثلا .
(7) قرر عشرات من علماء اللاهوت في امريكا بعد دراسة مستفيضة استمرت لسنوات في معهد وستر أن 82% من أقوال المسيح المنسوبة إليه في الأناجيل المعتمدة لم يقلها و 84% من أعماله المنسوبة إليه لم يقم بها , والباقي محتمل انه قاله ! ,وأصدروا نتائجهم عام 1413من الهجرة النبوية المباركة (عام 93 ميلادية ) في كتاب الأناجيل الخمسة (The five Gospels) , وقد قال الله تعالى "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ " وقال تعالى "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ من الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ" وهذا كما ترى من الأدلة الباهرة على صدق الرسالة المحمدية لأن نبي الله لم يكن عالما باللاهوت بل كان أميًّا.
(8) أخرجه الإمام مسلم وغيره
"
يتبع إن شاء الله تعالى
[/RIGHT]
Bookmarks