لا عَزَاءَ لِمُرْتَدٍّ


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف خلقه وأكملهم وأسعدهم حظًّا بأُمَّتِه وأتباعه نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
وبعد:

ففي خضم المعارك الثقافية، والحروب الفِكْرِيَّة والدَّعَوِيَّة؛ قد ينسى الدَّاعِيَة وظيفتَه، أو يغفل عن طبيعةِ دعْوَتِه، فيأتيه الخلل من داخله، ويُضْرَبُ بيدِه لا بيد عدوِّهِ!
بل ربما كان مقتل الداعية ونهاية دعوته في غفلتِه عن طبيعة ما يدعو إليه، ولو لبعضِ الوقت.
ولذا فإِنَّنا دائمًا ما نقول: إِنَّ اليقظةَ والمراقبةَ الدَّائمة لطبيعة الدعوة وأصولها أهم بكثيرٍ مِن نتائجها التي نسعى إليها؛ لأنَّه ربما دَمَّرَ خطأٌ واحدٌ عشرات بل مئات النتائج في لحظةِ ضعفٍ أو غفلةٍ أو نسيانٍ لطبيعة ما نقوم به، أو لحقيقة ما نعمل لأجْلِه!

فلابد إِذَنْ من دوام المراقبة لدعوتنا أصولاً وفروعًا، نرقب ما سبق ونخطِّطُ لما يأتي، بروح الواثق من النَّصر، العامل لما يحسه ويراه، لا العامل لأمرٍ غيبيٍّ.
لأن النَّصر ليس غيبًا بل هو محسوسٌ مشاهدٌ في كل مناحي الحياة الإسلامية والدنيوية، يراه من فتح الله بصيرته ويغفل عنه من شاء الله له الغفلة من عباده.

ومن يعمل بروح الواثق في نصر الله عز وجل فإنه سيحرص على رضى الله عز وجل، ويتطلَّع لنيل وكسب رحماته عبر حسناتٍ يُقدِّمها ويسعى إليها، وهو مع ذلك كله يتذلَّل لربِّه سبحانه وتعالى ويتملَّقُ إليه أن يلهمه دوام الاستقامة ويثيبه عليها.
إنَّه المارد الذي قام من ثبات طويلٍ فقام تكسر خطوته قفل الباب الكبير الذي طالما حجب عنه ضوء الشمس، وأخذ شهيقه وزفيره يزمجر زمجرة الأسود، حتى إِنَّ جدران الباطل لتسقط رعبًا وهلعًا من زفراته القليلة!
ومع هذا فهو لا يزال في أولى خطواته الكبيرة، وأمامه الكثير والكثير ليُقَدِّمه، وما تنتظره الأمة منه أكثر وأكثر.

غير أَنَّه قد قام من ثباته ولم يعد يركن للنوم أو السكون أو الكسل؛ لكنَّه قام بعد طول رقادٍ يُعْلِن توبتَه من النَّوم الطويل، وبراءته من وصمة الكسل والسكون، ويُصِرّ على مسابقة الزمن في رحلةٍ من الإبداع النَّفْسِي والعملي والدَّعَويّ.

بل ويرفض أن يسبقه أحدٌ في هذه المجالات مهما كان.

نراه الآن واقفًا أَبِيًّا شامخًا يهزأُ بالباطلِ، ويُلَوِّح للإلحاد والكفر والنِّفاق بيدِه وكأنَّه يتوعَّدَهم مِنْ عَلٍ، وينظر إليهم باحتقارٍ لما هم عليه، ويتلو قوله سبحانه وتعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18].

وها هو يمضي في طريقه واثقًا ثابت الخطوات، عالي الجبين.

وفي هذه الأثناء يتولَّى عن نصره بعض الجبناء، ويعجز عن ركبه العاجزون، ويتخلَّف عن قافلتِه المتخلِّفون، فنراه يتلو قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272].

فهو يعلم أنَّّه ليس من وظيفته ولا من لوازم دعوتِه أن يهتدي هذا أو يضل هذا، وإنما وظيفته في الدعوة لا غير، كما قال سبحانه وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125].

فوظيفته هي الدَّعوة لا غير، وأما نتائج الدَّعوة والهداية والضلال للبشر فتلك اختصاصاتٌ أخرى لم يكلِّفه الله عز وجل بها، ولا طلبها منه، وإنما حجبها الله عز وجل لنفسه لقدرته عليها، ومناسبتها لله عز وجل دون غيره.
إِذِ الهداية والضلال لا يقدر عليهما إلا خالق النَّفس وبارئها ومسوِّيها، الذي خلق الإنسان من طينٍ ثم سوَّاه فجعله بشرًا سويًّا، في أحسن صورةٍ وأجمل تركيبٍ، ولو شاء ربُّك بعد ذلك لهدى الناس كلهم جميعًا، ولكنه سبحانه وتعالى قد نصب الدلائل على الهداية، وأرشد الخلق إلى طرق الهداية، وحذَّرهم من طرق الكفر والغواية ثم ترك لهم الاختيار، بل كامل الحرية في الاختيار كما قال سبحانه وتعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة :256].
وقال سبحانه وتعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً . وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف: 28- 29].

فليس مطلوبًا من الدَّاعية سوى أن يصبر نفسَه مع الذين يدعون ربَّهم بالغداة والعشي، وأن لا يطع من أغفل الله عز وجل قلبه، وأن تكون دعوته بالحكمة والموعظة الحسنة كما سبق، وأما النتائج فموكولة إلى الله عز وجل الذي ترك الحرية الكاملة للإنسان في اختيار مصيره بنفسه، كما قال سبحانه وتعالى أيضًا: {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ . وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر: 7- 8].

لكنَّه سبحانه وتعالى في هذه الآيات السابقات يبين لنا مصير الكافرين الجاحدين الذين تولَّوا عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعادوا لكفرهم وجحودهم، ويكشف لنا سبحانه وتعالى عن حقيقة مصائرهم في الدنيا والآخرة.

غير أنَّه سبحانه وتعالى يقرِّر لنا الحقيقة الكبرى التي طالما غفل عنها الكثيرون، وهي أَنَّ الله عز وجل غَنِيٌّ عن العالمين، غنيٌّ عن الكافرين، ليس محتاجًا لهؤلاء جميعًا، وأنه سبحانه وتعالى لو شاء لآمن من في الأرض كلهم، ولكنَّه سبحانه وتعالى ترك للإنسان حرية التَّصرُّفِ والاختيار، ثم هو سبحانه غَنِيٌّ عن هؤلاء الكفَّار جميعًا كما قال عز وجل في الآية السابقة، وكما قال أيضًا: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وَضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} [آل عمران: 96- 97].

وقال سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِياًّ حَمِيداً} [النساء: 131].

لكن انتبه أيها الكافر المرتَدَّ المتولِّي عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإِنَّ الجزاء آتٍ لا محالة، وأنك لا تضر الله شيئًا، لأنه هو الغني عنك وعن جميع من في الأرض، ولو أراد لذهب بجميع من في الأرض، وما ضرَّهُ ذلك أبدًا، ولا تأثر بذلك إطلاقًا كما قال سبحانه وتعالى: {وَرَبُّكَ الغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ . إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ [الأنعام: 133- 134].

وانتبه أيها الكافر المرتدّ المتولِّي عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإِنَّه سبحانه وتعالى يُحَذِّرك بأنه لن تغني عنك فئتك ولا أصحابك ولا من ركنتَ إليهم من الكافرين لن يغنوا عنك شيئًا أبدًا، ولن ينفعوك بشيءٍ عند الله عندما تلاقي الجزاء الوفاق على ما قدَّمْتَ وفعلتَ.
كما يقول سبحانه وتعالى: {إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الفَتْحُ وَإِن تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُوا نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ [الأنفال: 19].

وهذا درسٌ لك أنت أيضًا أيها الدَّاعية الأريب لتفتِّش في نفسك، وتبحث عن مواطن رضى الله عز وجل، وتترك نتائج أعمالك لله عز وجل، وما عليك إلا البلاغ وعلى الله الهداية والتوفيق، فلا تُقْحِم نفسك فيما لا دخل لك به، وتترك ما يجب عليك فِعْله!

ولننظر في هذه الآيات القرآنية حيث يقول سبحانه وتعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ . وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ . أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ . قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ
مُّسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ . قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ . وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ . وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ . وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ . وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ . مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ . يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ المَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَائِه عَذَابٌ غَلِيظٌ . مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ البَعِيدُ . أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ . وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ . وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ . وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [إبراهيم: 7 - 23].

وفي هذه الآيات الكريمات تتجلَّى لنا الحقائق والمعاني ناصعات واضحات لا لبس فيها ولا خفاء، حيث تبدأ بغنى الله عز وجل عن جميع العالمين، كلهم، وتُذَكِّر الدَّاعية الأريب بقوم نوحٍ وإعراضهم وما فعلوه مع رسُلِهم، ثم كانت العاقبة للرُّسُلِ، والبوار والخراب على أقوامهم المعرضين الكافرين.

فهل تأثر سبحانه حين أهلك كل هؤلاء بكفرهم وعتوِّهم وفسادهم؟
وهل تأثرت الأديان حين أهلك الله هؤلاء جميعًا؟

وهل تأثر موسى عليه السلام حين أهلك الله فرعون ومن معه من المخالفين؟
وهل تأثر عيسى عليه السلام حين اضطهده اليهود وحاولوا قتلَه؟

أم هل تأثر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حين جمعت له العرب صناديد الكفر وسيوفه لمحاربته فهزمهم الله ورفع دينه وأعز نبيه والمسلمين؟

ما تأثرت الأديان ولا الرُّسل ولا الدُّعاة بكفر مَنْ كفر ولا ارتداد مَن ارتدَّ لأن الله عز وجل باعث الرُّسل وخالق الخلق غَنِيٌّ عن جميع أهل الأرض، وما خلقهم للحاجة إليهم أصلاً!
فهو غنِيٌّ عن الجميع، ولو أراد لأرغمهم على الإيمان كرهًا ورغمًا عن أنفسهم، ولكنه سبحانه ترك لهم حرية الاختيار فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر كما سبق.

كما قال سبحانه وتعالى أيضًا: {هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الغَنِيُّ وَأَنتُمُ الفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].

ومع هذا فإنه سبحانه وتعالى قد وصف الذين تولَّوا على أدبارهم، وارتدوا عن الهدى والإيمان بصفاتٍ ذميمة كالكفر وغيره، وتوعدهم بالعذاب المهين كما سبق.

وكما قال سبحانه وتعالى أيضًا في قول نبي الله نوح لقومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52].
فوصفهم هنا بالمجرمين.

كما وصفهم بالكافرين في قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الكَافِرِينَ} [آل عمران: 32].

ووصفهم بالمفسدين في قوله عز وجل: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ القَصَصُ الحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ . فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} [آل عمران: 63].

ووصف سبحانه وتعالى المعرضين عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أنهم يريدون حكم الجاهلية، وما يدريك لعل الله عز وجل قد أراد أن يصيبهم ببعض ذنوبهم؛ وأنهم فاسقون؛ فقال عز وجل: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ . وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ . أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 48 - 50].


ونلاحظ في الآيات الكريمات السابقات وغيرها أن وظيفة الرُّسل لم تتوقف على استجابة الناس، ولا هي متلازمة مع الاستجابة أصلاً، وإنما تكمن وظيفة المرسلين في البلاغ وفقط والدّعوة بالحكمة والموعظة الحسنة لا غير، وهكذا دعوة أتباع الرُّسُل.
كما قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ . فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلاغُ المُبِينُ . يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الكَافِرُونَ} [النحل: 81- 83].
وقال عز وجل: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ البَلاغُ المُبِينُ} [النور: 54].

وتعهَّد سبحانه وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم بحفظه من أعدائه الذين تولَّوا وأعرضوا عنه، وكذلك حفظ دينه من بعده، فلا يُمْحى أبدًا ولو تكالبت عليه الدنيا كلها، ولا يصاب بسوء ولو خطَّط لذلك المخطِّطون، ودبَّر المدبِّرون، وإنما سيدافع الله عز وجل عنه بنفسه بل وعن عباده المؤمنين بالإسلام؛ كما قال سبحانه وتعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ . فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} [البقرة: 136 - 137].
وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38].
ولا يشترط الدفاع على جهةٍ دون غيرها؛ إِذْ قد ينصر الله عز وجل الدين بالرجل الفاجر كما ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يدافع الله عن دينه بجنودٍ لا يعلمها إلا هو؛ فإِنَّه لا يعلم جنود ربك إلا هو؛ كما قال سبحانه وتعالى: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر: 31].
ويقول صلى الله عليه وسلم: ((وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ)) [رواه البخاري (3062)، ومسلم (111)].
فحتى الرجل الفاجر أو الكافر أو الملحد أو المرتد قد يكون يُؤَيِّد الله عز وجل به دينَه، والله مُتِمٌّ نورِه ولو كره الكافرون كما قال سبحانه وتعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ . هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ} [الصف: 8 - 9].

وانظر كيف سخَّر الله عز وجل المستشرقين وأذنابهم لخدمة الدين في عدة مسائل، بل وانظر إلى الشبكة والغرض من إنشائها، وكيف سهر الكافر ليخترع شبكةً ينفع الله عز وجل بها المسلمين قبل الكافرين.
فالله مُتِمٌّ نورِه ولو كرِه الكافرون.

وحدد طريقته عند إعراض الناس عنه بقوله عز وجل: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64].
فإذا أعرض الناس عنك، أو ارتدُّوا وتركوك فقل: إني مسلمٌ ودعهم في غيِّهم يعمهون، ولا تتردَّد.

واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله، كما قال عز وجل: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة: 49].

ومع هذا فاحرص على إبلاغهم دعوتك ورسالتك كما قال عز وجل في قصة نبي الله هود عليه السلام: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ . فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [هود: 57]

ومن هنا كان لابد على الدَّاعية أن يعرف طبيعة دعوته وحقيقتها، فهي دعوة ذات سيادة إلهية، محفوفةٌ بتعهُّدٍ ألهي بنصرها وإمدادها حتى النهاية، وأنها دعوة للتبليغ بالحكمة والموعظة الحسنة، غير أَنَّك لست مكلفًا بتحمُّل النتائج بعد أَنْ تُؤَدِّي ما عليك من واجبات.
فالنتائج من صُنْع الله عز وجل وليس لك من الأمر شيءٌ.
كما يقول عز وجل: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56].

فما عليك إلا البلاغ والقيام بواجباتك، ولا عليك بعد ذلك من ارتداد من يرتدّ، فإِنَّنا نعلم أنه لا يرتد أحدٌ عن الإسلام سخطةً للدين كما في حديث هرقل مع أبي سفيان رضي الله عنه، والقصة مشهورة في كتب الحديث والسيرة وهي عند البخاري ومسلم وغيرهما.
وفيها نرى هرقل عظيم الروم يسأل أبا سفيان العدود اللدود للنبي صلى الله عليه وسلم قبل إسلامه فيقول له: ((كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ قُلْتُ هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ قَالَ فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ قُلْتُ لَا قَالَ فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ لَا قَالَ فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَقُلْتُ بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ قَالَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ قُلْتُ بَلْ يَزِيدُونَ قَالَ فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ قُلْتُ لَا قَالَ فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ قُلْتُ لَا قَالَ فَهَلْ يَغْدِرُ قُلْتُ لَا وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا قَالَ وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ قَالَ فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ قُلْتُ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ قَالَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ قُلْتُ يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ قُلْ لَهُ سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا فَقُلْتُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا قُلْتُ فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اتَّبَعُوهُ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ وَكَذَلِكَ أَمْرُ الْإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ وَ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لَا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ وَارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ وَأُخْرِجْنَا فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ وَكَانَ ابْنُ النَّاظُورِ صَاحِبُ إِيلِيَاءَ وَهِرَقْلَ سُقُفًّا عَلَى نَصَارَى الشَّأْمِ يُحَدِّثُ أَنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ قَدْ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ قَالَ ابْنُ النَّاظُورِ وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ فِي النُّجُومِ فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فِي النُّجُومِ مَلِكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَالُوا لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلَّا الْيَهُودُ فَلَا يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ وَاكْتُبْ إِلَى مَدَايِنِ مُلْكِكَ فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنْ الْيَهُودِ فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ أُتِيَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لَا فَنَظَرُوا إِلَيْهِ فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ وَسَأَلَهُ عَنْ الْعَرَبِ فَقَالَ هُمْ يَخْتَتِنُونَ فَقَالَ هِرَقْلُ هَذَا مُلْكُ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَةَ وَكَانَ نَظِيرَهُ فِي الْعِلْمِ وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْيَ هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ نَبِيٌّ فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِي دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الرُّومِ هَلْ لَكُمْ فِي الْفَلَاحِ وَالرُّشْدِ وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِيَّ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الْأَبْوَابِ فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ وَأَيِسَ مِنْ الْإِيمَانِ قَالَ رُدُّوهُمْ عَلَيَّ وَقَالَ إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ فَقَدْ رَأَيْتُ فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ)) [رواه البخاري (7)].

فانظر أيها الداعية الملهم كيف كان شأن الدين قديمًا؟ وكيف قالوا عنه في مهده وهم أعلم الناس باللغة التي نزل بها هذا الدين، وأعلم الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم فهم أهل عصره والعداوة بينهما مشتعلة والحرب قائمة على أشدها، ومع ذلك يعترف أبو سفيان ثم هرقل ملك الروم بأنه لا يرتدّ أحدٌ من المسلمين عن دين الإسلام سخطةً للدين.

وهذا يُفَسِّر لك منشأ الإلحاد واللادينية وغيرها من المذاهب التي تنشأ في بؤر الاكتئاب واليأس على أنغام الانحراف، بينما لا يدخل الدين إلا ذاك العاقل الحكيم الأريب المفكر، صاحب الهدوء والرّويّة في قراراته، والأيام هي التي تُثْبِت لنا هذه الصفات وليس مجرد دخوله من يثبتها لنا؛ إِذْ قد يدخله لمأرب ما، أو منفعة ما فلما ييأس من تحقّقها يرجع على أدباره وينكص على عقبيه.

فالأيام هي المحك الحقيقي لإثبات ذلك مِن عدمه.
ولذا كان خير الناس في الجاهلية خيرهم في الإسلام إذا فقهوا في دينهم وحَسُن إسلامهم.

أعود لك أيها الداعية الملهم لأقول: إذا كان الله عز وجل غنيٌّ عن العالمين، بل والإسلام في غِنى عن جميع أهل الأرض، لأنه لا مِنَّة لأحدٍ على الإسلام أبدًا، بل المِنَّة لله على المسلمين أَنْ هداهم للإسلام؛ كما يقول عز وجل: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17].

فلا مِنَّة لأحدٍ ولا فضل على الإسلام بل الله عز وجل هو الذين يمنّ على المسلمين بهدايتهم للإسلام، فينقذهم بذلك من تلك الصفات الذميمة للكافرين، ويخرجهم بذلك من ضيق الدنيا إلى رحابة الإيمان وسعة الإسلام العظيم، كما يُنْعِم عليهم بنعيم الجنة الدائم أبدًا.

ومن هنا فنحن أغنياء عن جميع البشر بإسلامنا، والإسلام في غِنًى عن جميع الناس، مسلمهم وكافرهم، وليس في حاجةٍ لا لنا ولا لغيرنا، فإِنَّ الله عز وجل هو الذي تَعَهَّد بأَنْ يُتِمَّ نوره ولو كره الكافرون وارتدَّ المرتدّون، فربما نصره بالفاجر أو بنا أو بغيرنا، ولسنا الذين نأتي بالنصر للإسلام، ولا المرتد هو الذي كان سيأتي به، ولا الكافر الذي لم يسلم هو الذي كان سيأتي به، إِن النصر إلا من عند الله عز وجل؛ كما قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُنزَلِينَ . بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ . وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ . لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ} [آل عمران:123 - 127].
فالنصر الحقيقي من عند الله عز وجل لا من عند غيره، ولو شاء لنصركم بملائكةٍ كما نصر نبيَّه صلى الله عليه وسلم بذلك من قبل، وما عليكم إلا أن تقوموا بواجبكم المناط بكم، وأما النتائج فعلى الله النصر يأتي به وقتما يشاء وكيفما يشاء وبيد مَن يشاء.

فلا قيمة لدينا لأشخاصٍ لا تؤمن بمبدإٍ، ولا نعترف بقداسةِ مَن يتخلَّى عن الإسلام مهما كان سمته ورسمه.
وكذا لا نحزن عليه لأنَّ الهدية والضلال ليست بأيدينا، وليس بأيدينا هداية من نحب وضلال من نكره، وإنما الأمر بيد الله عز وجل، هو وحده العالم الخبير بما كان وما سيكون، وما يدريك لعل الله أراد أن يصيب المرتد أو الكافر ببعض ذنبه، ولعله علم أن لا فضل فيه ولا خير، ولعله سبحانه وتعالى أراد له أمرًا ما، فلا تبتأس أيها الداعية من أعراض المعرض وارتداد المرتد أبدًا؛ لأنهم ليسوا بضارِّين الله شيئًا، وليسوا بضارِّين الإسلام شيئًا.

ولذا يُحذِّرك الله عز وجل أن تحزن على هؤلاء الذين ارتدوا على أعقابهم وأعرضوا عن الهداية فيقول سبحانه وتعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8].

فلا تذهب نفسك عليهم حسرات؛ أي لا تحزن عليهم أبدًا، ولا تهتم بإعراضهم وصدودهم أبدًا، فليست لكافرٍ قيمة ولا منزلة؛ فمثله في ترك الهداية كالكلب إِنْ تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث كما قال عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ . وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ . سَاءَ مَثَلاً القَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ . مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ . وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} [الأعراف: 175 - 179].

ويعيد سبحانه وتعالى التحذير لك بالحزن على المرتدين والمعرضين والمكذبين فيقول عز وجل: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ . وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَأِ المُرْسَلِينَ . وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ . إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام: 33- 36].

ويؤَكِّد سبحانه وتعالى الحقيقة السابقة بحقيقةٍ أخرى يضيفها معها فيُبَيِّن لك أنه لن يستجيب لدعوتك سوى هؤلاء الذين يسمعون فقط، أما الكافر والمرتد والمنافق والمعرض فهؤلاء موتى في الحقيقة القرآنية، وهم صم بكم عُمْيٌ كما قال عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ . مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ . صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [البقرة: 16 - 18].
وقال سبحانه وتعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171].

فلا تذهب نفسك حسراتٍ ولا تحزن على الصُّمِّ البُكْم العُمْي الذين لا يعقلون، ولا تُقِم عزاءً لمرتدٍّ لا عقل له، ولا لكافرٍ كنتَ ترجو له الهداية فلم يسلم، فإِنَّ ذلك لا يصح لك.


دفع شبهةٍ

فإِنْ قيل: فما دام المرتد لا قيمة له لديكم فلماذا تقتلونه وتطبقون عليه حد الردة؟
فالجواب على ذلك من وجوهٍ عديدةٍ؛ أكتفي هنا ببعضها كالتالي:

أولاً: لأنَّه قد خان الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، وخان المسلمين والدولة المسلمين، وحدّ الخيانة العظمى القتل في الإسلام وفي غير الإسلام، وبهذا أخذت القوانين الحديثة فتحكم بالإعدام على كل من اتهم بالخيانة العظمى للدول.

ثانيًا: لأن المسلمين كالجسد الواحد؛ فمن خرج عليهم فإِنما يريد إعطاب هذا الجسد والإضرار به، وأقوى طرق الحفاظ على هذا الجسد الواحد هو منع الخارجين عليهم بالطرق الرَّادعة لهم ولأمثالهم.

وفي مسألة حدّ الرِّدَّة تفصيل طويلٌ لم نقصد له في هذا الموضع، وقد أُشْبِعَتْ بحثًا ودرسًا فلنقتصر على هذه الإشارات.

وآخر دعوانا أَن الحمد لله ربِّ العالمين.