صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12
النتائج 16 إلى 26 من 26

الموضوع: لقاء علمى فى ملتقى اهل التفسير مع الدكتور احمد الطعان حول العلمانية

  1. افتراضي

    ما قولكم في مصطلح الثقافة ومن ينتسب اليها ويسمي من المثقفين ؟

  2. #17
    تاريخ التسجيل
    Sep 2004
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    1,886
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    أسلمة العلمانية


    سؤال:
    يحاول المنادون بالخطاب العلماني الحصول على تأشيرة مرور للعلمانية إلى العقل المسلم ـ لعامَّتهم وخاصتهم ـ فما هي أساليبهم ؟

    هناك ثلة من المفكرين يسعون إلى أسلمة العلمانية، وذلك من أجل الحصول على مشروعية لاستيرادها أو جواز عبور لمرورها، وبطاقة إقامة لها في العقل المسلم، ولذلك تحاول تعريفاتهم وتنظيراتهم أن تردم الهوة، أو على الأقل تقوم بتمويهها بين الإسلام والعلمانية.
    فالعلمانية عند نصر حامد أبو زيد ليست مروقاً أو كفراً أو إلحاداً وإنما هي "" التأويل الحقيقي والفهم العلمي للدين، وليست ما يروج له المبطلون من أنها الإلحاد الذي يفصل الدين عن المجتمع والحياة ""، باختصار إن العلمانية عند نصر حامد هي التأويل. وسوف نجد أن التأويل يحتل المساحة الرئيسة في الفكر العلماني.
    وإذا كان نصر حامد يبرئ العلمانية من الإلحاد ويعتبرها الفهم الحقيقي للدين فإن محمود أمين العالم يذهب إلى أكثر من ذلك عندما يأمل أن تكون العلمانية منطلقاً صالحاً للتجديد الديني نفسه بما يتلاءم ومستجدات الواقع. ذلك لأن العلمانية عنده هي: رؤية وسلوك منهج. وهذه الرؤية تحمل الملامح الجوهرية لإنسانية الإنسان، وتعبر عن طموحه " الثنائي " الروحي والمادي للسيطرة على جميع المعوقات التي تقف في طريق تقدمه وسعادته وازدهاره.
    ولكن إذا كان كل المنظرين للعلمانية إسلاميين وعلمانيين يتفقون مع أمين العالم على أن العلمانية تعبر عن الطموح المادي للإنسان وتتطرف في هذا إلى حد التأليه للمادة، فإنه لا أحد يتفق معه على أن العلمانية تعبر عن الطموح الروحي للإنسان، فالعلمانية لا تعترف بالروح أصلاً، وإذا اعترفت بها فإنها تحولها إلى مادة وتتعامل معها على هذا الأساس، إن العلمانية تُهْدِر الجانب الروحي في الإنسان، وتُهدر المقاصد الروحية له، وتُلغي كل ما تطمح الروح إليه من خلود وعبودية وسعادة دائمة.
    أما د. حسن حنفي فالعلمانية عنده مصطلح وافد، وبما أنه كذلك فإن الرفض هو ما سيواجَه به، فلماذا لا ندع إلى الإسلام الحقيقي، والإسلام الحقيقي هو إسلام علماني في جوهره لا حاجة له إلى علمانية زائدة عليه مستمدة من الخارج.
    نلاحظ أن حسن حنفي لا يرفض مضمون العلمانية، وإنما يرفض المصطلح لأنه بضاعة المستعمر، ولكن المضمون أيضاً بضاعة المستعمر، ولا يكفي أن نلبسه لباساً إسلامياً، أو نعطيه صبغة ذاتية. إن الثقافة الغازية يراد لها أن تتمكن في ذواتنا ولكن من أجل التخلص من عقدة النقص نضفي عليها غطاءً إسلامياً، وتبريراً فكرانياً، ونطلق على الإسلام بأنه دين علماني في جوهره.
    إنها نفس النتيجة التي يصل إليها د. عابد الجابري فالمصطلح مثقل بالأفكار والمعاني الغربية الوافدة، والتي تدفع إلى ردة فعل لدى الإسلاميين تجعلهم يسارعون إلى رفضه، والمصطلح البديل لديه هو: الديمقراطية والعقلانية "" فالديمقراطية تعني حفظ الحقوق، حقوق الأفراد والجماعات، والعقلانية تعني الصدور في الممارسة والسياسة عن العقل ومعاييره المنطقية والأخلاقية وليس عن الهوى والتعصب وتقلبات المزاج "" ثم يضيف الجابري: "" بأنه لا الديمقراطية ولا العقلانية تعنيان بصورة من الصور استبعاد الإسلام "". فهو أيضاً لا يرفض مضمون العلمانية وإنما يرفض الشعار لأنه شعار مزيف ملتبس يجب استبعاده من قاموس الفكر العربي. والعقلانية الجابرية باعترافه هي على النقيض من سيرة السلف الصالح لأن عقلانيتهم تقوم على مبدأ أن الدنيا قنطرة الآخرة وهو منطق قد أدى وظيفته يوم كان العصر عصر إيمان فقط، وليس عصر علم وتقنية وأيديولوجيا وهو ما يعني إذن أن الإيمان يتناقض مع العلم والتقنية.
    ولكن يقال هنا بأن الديمقراطية والعقلانية " المطلقة " كلاهما مصطلحان وافدان والخلاف بشأنهما بين الإسلاميين والعلمانيين لا يقل عن الخلاف بشأن العلمانية. ولذلك لم يحاول حسين أمين أن يرفض المصطلح بل إن المصطلح ومضمونه لا يناقضان الإسلام، لأن العلمانية تولي الحياة الدنيا اهتماماً أكثر مما تفعل المسيحية ولذلك وقعت في صدام معها، أما الإسلام فإنه يهتم بالحياة الدنيا ويعطي لكل من الدارين نصيبهـا " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ " [البقرة: 172]. و " وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيا " [القصص: 77]. " قلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ " [الأعراف: 32].
    ولكن نسي أنه ينقض رؤيته هذه عندما يعرف العلمانية بأنها: "" محاولة للاستقلال ببعض مجالات المعرفة عن عالم ما وراء الطبيعة وعن المسلمات الغيبية ""، ذلك لأن الإسلام يرفض أن يستقل العقل عن الوحي في أهم الأسئلة التي تواجه الإنسان، إنها الأسئلة المصيرية الكبرى التي تتعلق بالغيب.
    وعلى كل حال يسعى أغلب العلمانيين العرب لكي يؤسلموا العلمانية، ويجعلوها متحالفة مع الدين، أو أن الدين علماني في جوهره ""الكلام على العلمانية لا يعني ألبتة نفي الدين بما هو إرث وتاريخ وتجربة أي بما هو حقيقة واقعة لا مجال لإنكارها وتجاوزها ""
    "" ولكن لا يخلو هذا التنظير في كثير من الأحيان عن التناقض فعلى سبيل المثال: يقول د. فتحي القاسمي "" إن العلمانية تصور وضعي لمختلف أنشطة الإنسان بعيداً عن التأويلات المفارقة"" ثم يقول مباشرة ""وليس في ذلك بالضرورة تحامل على الدين ""، ثم يقول في نفس الصفحة "" لقد جعلت العلمانية الدين في وضع جديد، يسوده الحرج، ولم تلغه، وإنما قيدت مجال نشاطه "".
    إن كلام القاسمي هذا يعبر عن سذاجة أو استيذاج للآخرين، لأن آخر الكلام ينقض أوله فعندما تكون العلمانية تصور وضعي، والدين قرار إلهي، والعلمانية تصور مادي، والدين فيه مساحة واسعة للغيب، أو ما يسميه " التأويلات المفارقة " فكيف لا تكون العلمانية في هذه الحالة متحاملة على الدين ؟
    وكذلك عندما يطرح الدين رؤيته الشاملة للوجود، ومنهجه الكامل للحياة، فتحد العلمانية من هذه الرؤية وترفض هذا المنهج، وتضع الدين في وضع حرج، وتقيد فاعليته، كيف لا تكون متحاملة على الدين في هذه الحالة ؟ وكيف لا تكون - العلمانية - كذلك وهي بنظر القاسمي نفسه تَعتَبر المقولات الثابتة للدين متطرفة مهترئة لا يصدقها العقل.
    وبالرغم من هذا التناقض الواضح يظل هؤلاء يصرون على أن الإسلام دين علماني كما طرح حسن حنفي والجابري ونصر حامد أبو زيد وحسين أحمد أمين وعبد المجيد الشرفي وفتحي القاسمي ومحمد أركون وطيب تيزيني وطارق حجي ولكن كيف يكون الإسلام ديناً علمانياً عند هؤلاء ؟

    ---------------------------------

    سؤال:
    ما أدلتهم على إمكانية أسلمة العلمانية وعلمنة الإسلام ؟

    أ - لأنه اهتم بالحياة الدنيا كما سبق ورأينا عند حسين أحمد أمين، ولأنه لم يعرف في تاريخه كنيسة أو نظاماً كهنوتياً، ولم يحكر المعرفة والنظر على أحد. ولأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان ملِكاً وعاش ملكاً، ومات ملكاً، وحبب إليه من الدنيا ثلاث النساء والطيب والصلاة وانخرط في الواقع الدنيوي المعيش. وقال للناس: " أنتم أعلم بشؤون دنياكم ".
    ب - ولأنه قاصر على الأخلاق والقيم، وليس فيه نظام سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي عند طـارق حجي، أو بتعبير طيب تيـزيني ومحمد سعيد العشماوي لأنه دين الهداية والرحمة، وليس دين العلم والتشريع، أو بتعبـير آخر للتيزيني لأن القـرآن "" يقـول كل شيء ولا يقول شيئاً "" لأنه كتاب مودة وأخلاق. أو لأن القرآن على حد تعبير محمد أركون "" مجازات عالية "" ومن الوهم اعتقاد الناس بتحويل هذه التعابير المجازية إلى قانون فعال، أو شريعة واقعية.
    ج - ولأنه تخلص من أقوى أعراض المقدس: الأسرار والمعجزات، وأعلى من قيمة العقل حتى تُكُلِّم عن معقولية الشريعة وهذا يعني أن بوادر العلمنة تكمن في داخله.
    د - ولأن الإنسان هو محور الكون في القرآن، فقد ذُكر في خمس وستين آية، والدنيا ذُكرت في مائة وخمسٍ وعشرين مرة، وهي ليست إفلاساً كما يصورها المغالون وإنما هي مليئة بالطيبات والخيرات، والقطوف الدانية.
    هـ - " ولأن أسس التشريع في الإسلام انطلاقاً من مصادره الكبرى تتوفر على قسط كبير من الأريحية والقابلية للتشكل والتلون بما يسعد الإنسان في الأرض حتى وإن بلغ ذلك حد تعطيل المفروض من الأحكام، وتجميد نصوص شرعية. إن هذا النص لا يختلف عما قرره أركون وطيب تيزيني آنفاً وهو مـا يعني أيضا أن "" القرآن كل شئ فيه متحرك ومتموج ومفتوح ومليء بالاحتمالات "".
    و - ولأن الرسـول ـ صلى الله عليه وسلم ـ " لو قُدّر له أن يعيش بين ظهرانينا حيناً من الدهر، وفي وسطنا المُعلمَن لعدل كثيراً من المواقف ولنسخ العديد من أقواله، لأنه كان مؤمناً بجدلية العلاقة بين المفاهيم الدينية التشريعية، والواقع البشري النسبي والمتطور على الدوام، ولكننا ما نزال نرتطم بالرافضين لذلك. "" ولا يزال النص يسيطر على حساب الفكر "".
    ز - " وما قام به علماء المسلمين عبر العصور من اجتهادات جريئة وطريفة يدل على أنه يمكن في الإسلام علمنة المقدس بما يلائم وضع المسلمين، ولا يتناقض ذلك مع مقاصد الشرع، وما دام في إطار المصلحة ". فالاجتهاد في الإسلام ممارسة عقلانية ذات طابع علماني تنويري يجعل الشريعة والأحكام ناسوتية لأن العقل هو الذي يؤسسها ويصبح أولى من النص، مما يجعل الحقائق متعددة كما نرى في كثرة الاختلافات والمذاهب.
    -------------------

    سؤال:
    ولكن، نتساءل هنا: كيف لا تتناقض علمنة المقدس مع مقاصد الشرع ؟

    إن الإجـابة عند فتحي القاسمي نفسه "" لقد سبقنا الفقهاء والأصوليون إلى تطويع جريء للشريعة، ولكننا منذ عصر النهضة إلى الآن لم نجترئ على إحداث سنة ثقافية إسلامية جديدة داخل المنظومة الإسلامية قادرة على فرقعة كثير من الثوابت التي أضفيت عليها قداسة لم تزدها عصور الانحطاط والتخلف إلا ترسخاً، فهل ذلك يكون بواسطة العلمانية ؟ "". وخصوصـاً إذا كـانت العلمانية "" هي أساس الوحي، فالوحي علماني في جوهـره، والدينية طـارئة من صنـع التاريخ، وتظهر في لحظات تخلف المجتمعات وتوقفها عن التطور "".
    ونعيد السؤال الذي أجاب عنه فتحي القاسمي ولكن بطريقة تكشف موطن التناقض والمغالطة فنقول: هل يمكن في الإسلام فرقعة كثيرٍ من الثوابت دون أن يتناقض ذلك مع مقاصد الشريعة ؟ ذلك ممكن في العلمانية فعلاً كما يأمل فتحي القاسمي، لأنه في العلمانية "" كل شيء يجوز"" !! "" كل شئ يجوز "" أقترحه تعريفاً للعلمانية، وليس فيه من جديد إلا طريقة التعبير، لأنه مضمن لدى من يزاوج بين العلمانية والنسبية كمراد وهبة على سبيل المثال.
    ولأن التاريخ الإسلامي يفيض بالعلمنة ففيه الشعر الماجن والدنيوي، والتراث يفيض بالدنيوية وتصوير الحيـاة الاجتماعية، وخصوصاً حياة القصور على أنها مملوءة بالملذات والشهوات، والإقبـال على الدنيا، والخـمر كان شائعـاً ومنتشراً في مجمل العالم الإسلامي، وانتشار ظاهرة الزندقة في أوساط المسلمين واستفحالها حتى وُصِم بذلك بعض الخلفاء مثل الوليد بن يزيد [ 88 هـ 126 هـ ] والمهدي [ 158هـ، 169 هـ] وإعلان الزنادقة لآرائهم بكل شجاعة وصراحة دون خوف.
    إن كـل هـذا يؤكد – بنظر الخطاب العلماني – على أن الإسلام أجاز لأبنائه في التنظير والممارسة بعض أشكال العلمانية، ويؤكـد "" أن العلمنة في المجتمع الإسلامي القديم ليست بدعاً، أو رجماً بالغيب، وإنما واقع عايشه المسلمون واستأنسوا به أكثر من استئناسهـم بالشريعة ""!!!.

    ----------------------

    سؤال:
    كيف نرد على القائلين بعلمانية الإسلام وإسلامية العلمنة ؟

    المقولات العلمانية السابقة والتي من خلالها يتوصل العلمانيون إلى القول بأن الإسلام دين علماني، ويقبل العلمنة تتركز حول المحاور التالية:
    أولاً: أن الإسلام اهتم بالحياة الدنيا.
    ثانياً: جعل الإنسان مركزياً في هذا الكون.
    ثالثاً: تخلص من المقدس.
    رابعاً: تخلص من المعجزات.

    ----------------------

    سؤال:
    أرجو التكرم بالتفصيل في مناقشة هذه المحاور الأربعة.

    أولاً:
    لقد أوْلى الإسلام بالفعل عناية بالحياة الدنيا ولكن بقدر، ويبدو أن الإسلام يبالغ في الاهتمام بالحياة الدنيا إذا ما قُورن بالمسيحية المزوّرة التي دعت إلى الرهبنة، وتطرفت في قمع الفطرة الإنسانية المحتاجة إلى البلاغ في طريق الآخرة.

    ولكن المغالطة العلمانية تقوم على الإغفال والإبراز:
    فيستدل العلماني بأن الدنيا ذُكرت في القرآن 115 مرة وهذا يعني أن الدنيوية " العلمانية " لها أصولها القرآنية وهذا هو الإبراز، أما الإغفال فيقوم على طمس وتجاهل أن الدنيا عندما ذُكرت في القرآن غالباً تذكر بالذم والامتهان والتحذير من بهرجها وزخرفها، وأن المستدل بالآيات يغالط دون أن يخجل بل إنه عندما يقول: إن الدنيا ليست في القرآن مصدر إفلاس كما يصورها المغالون، يعلم أنه يتجافى عن الحقيقة وهي إلى جواره، لأنه لو تأمل في الآيات التي قام بإحصائها لوجد أن القرآن هو الذي يحكم على الحياة الدنيا بأنها " مَتَاعُ الْغُرُورِ " و " هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ " [الكهف: 45]. وليس المغالون.
    إن الأصل في دعوة القرآن هي الآخرة " وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ " [العنكبوت: 64]. والدنيا بُلْغة إلى الآخرة، ووسيلة لا بد من الأخذ بها، ولا بد من الإعمار والقيام بالأمانة، ولكن الآخرة في النهـاية هي الغاية وهي الجوهر. " وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ " [القصص: 77]. ولكن الآخرة هي المراد والمقصد " وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ " إن الأصل في دعوة القرآن الابتعاد عن الانخراط الأعمى في الدنيوية من شهوات وملذات، والاكتفاء بـ َالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ، والحلال الذي فصله الله عز وجل في كتابه.
    ------
    ثانياً:
    وأما أن الإسلام دين علماني لأنه جعل الإنسان محور الكون، فالمقدمة صحيحة، والنتيجة كاذبة، فالإنسان فعلاً هو محور الكون في القرآن الكريم فهو " الخليفة " إني جاعل في الأرض خليفة " [البقرة: 30] وهو حامل الأمانة " إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا " [الأحزاب: 72].
    ولكن ههنا مغالطة أخرى أيضاً تقوم على الإغفال والإبراز:
    الإبراز هو الإشادة بالموقف الإيجابي للقرآن من الإنسان، والإغفال هو تجاهل موقف القرآن من الإنسان المنحط والمغرور. الإنسان المحور في القرآن الكريم هو الإنسان الذي حُبِي بالعقل والعلم " وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا " [البقرة: 31] وشُرّف بالتكليف " وَمَا خَلَقْتُ الْجنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ " [الذاريات: 56] وكرم بالرسالة " قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ " [آل عمران: 183] وأُجيب على كل أسئلته حتى لا يتخبط في الظلام، واُمر بالعبادة لتشبع روحه، ودُعي إلى التفكر والنظر ليشبع عقله، ورُخّص له التمتع بالطيبات ليشبع جسده، وحُذّر من الإسراف والانحراف حتى لا تنزو نفسه، وتجمح غريزته، ويعسر عليه حينئذ حفظ الأمانة التي رضي بحملها.
    الإنسان في القرآن يمكن أن يسمو حتى يقترب من الملأ الأعلى، ويصبح أسمى من الكون، وأشرف من كل ما فيه، ويصدق عليه عندئذ قول الحق عز وجل: " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ " [الإسراء: 70] و " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ " [التين: 4] ولكنه يمكن أيضاً أن ينحط ويهوي في مدارك الشقاء حتى يصبح في " أسفل سافلين " [التين: 5] ويقول: " يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا " [النبأ: 40] ويصبح أسوأ من البهائم " أُوْلئكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ " [الأعراف: 179]. هذا ما يغفله الخطاب العلماني ليكرس مركزية الإنسان في الكون، وسيادته المطلقة فيه كما أرادت العلمانية الغربية في مرحلة من مراحلها.
    "" إن الإنسان في القرآن الكريم ليس مخلوقاً ساقطاً خاطئاً منذ البداية كما هو في الرؤية المسيحية ""، وليس هو ذلك الإنسان المتمرد الجبار العنصري النازي الذي أرادته فلسفة التنوير كما طرحها ماكيافللي ونيتشه وداروين ومارسها هتلر وستالين وموسوليني. إنه في القرآن الإنسان المتوازن الذي استُخلف في الكون، ووُكِلت إليه عمارته، وأُمر بالعبادة والتقوى والعمل الصالح.
    --------
    ثالثاً:
    وأما القول بأن الإسلام تخلص من المقدس فهو أمر في غاية العجب ! كيف ذلك ؟ وأين الأدلـة ؟ والمقدسات في الإسـلام كثيرة فالكتاب الكريم مقدس، والبيت الحرام مقدس، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مقدس، والمسجد مقدس، والعبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج مقدسة، والجهاد مقدس، وهكذا فالمقدس يحتل مساحة واسعة في الرؤية الإسلامية لا يمكن اختراقها، والمسلم مأمور بالدفاع عن مقدساته حتى أن روحه لا تساوي شيئاً في سبيلها " إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْءَانِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ " [التوبة: 111].
    إلا إذا كان المقصود هو التخلص من المقدسات الخرافية التي كانت سائدة عند الفراعنة، واليونان، كتقديس الكواكب والنجوم، وظواهر الطبيعة، واتخاذ آلهة للقمر، وآلهة للشمس، وآلهة للمطر وغير ذلك فإن الإسلام بالفعل جرّد الطبيعة من هذه القداسة الخرافية والوهمية.
    ولكن لا بد من الإشارة إلى أن الإسلام في الوقت الذي سلَب فيه من الطبيعة قداستها الزائفة، إلا أنه لم يجرد الطبيعة من مغزاها الروحي والرمزي، لأنه رأى في الخليقة كلها المتمثلة في السماوات والأرض وما بينهما والشمس والقمر والكواكب واختلاف الليل والنهار، والرياح اللواقح، والغيث النازل، والسحاب المسخر، والبحار المالحة، والأنهار العذبة، والجبال الأوتاد، رأى في كل ذلك آيات بينات لله عز وجل في الكون، وبصائر للإنسان.
    إن الطبيعة في القرآن ذات مغزى كوني تستوجب احترام الإنسان لها وتقديرها، لأجل صلتها الرمزية بالله جل شأنه، وتعامُله معها يجب أن يقوم على أساس العدل والتناغم والانسجام لأنه خليفة مؤتَمَن عليها، وضعها الله عز وجل تحت مسئوليته ليستفيد منها، وهي إلى جانب ذلك كتاب مفتوح منظور، إلى جانب القرآن الكريم الكتاب المقروء وفي كل منهما آيات بينات، ودلالات مشاهدات، ودروس واضحات يأخذ منها الإنسان الموعظة والعبرة.
    إن هذا التجريد الإسلامي تجريد إيجابي ينفي الخرافة، ويستبقي الدلالة، بعكس التجريد العلماني فإنه يقوم على سلب المغزى الكوني والدلالي من الطبيعة، وقطع العلاقة الرمزية بينها وبين الخالق عز وجل، وبالتالي تصبح الطبيعة - في الرؤية العلمانية - بلا غاية، وبلا هدف، وكذلك بلا حماية أو رعاية، فينتج عن ذلك عدم احترام الإنسان لها، وخيانته للأمانة التي أوتمن عليها، وتصبح علاقة الإنسان مع الطبيعة قائمة على الانتقام أو اللامبالاة، وهو ما يؤدي أو سيؤدي إلى كوارث كونية تنتظرها البشرية برعب لم يسبق له مثيل، كالتلوث البيئي والنفايات النووية والأوزون وأخطار أسلحة الدمار الشامل.
    وحتى فيما سمي بلاهوت الأرض أو لاهوت الطبيعة فإن علاقة الإنسان مع الطبيعة علاقة صراع وقهر وسيطرة، وليست كما هي في الإسلام علاقة تسخير وحب وتقدير. إن الإسلام يحول بين الإنسان والطغيان الذي يساوره بسبب غرور العلم أو غرور القوة ويذكره دائماً " إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعى " [العلق: 8].
    -----
    رابعاً:
    والقول بأن الإسلام تخلص من المعجزات لا يقل عجباً عن سابقه، فإنا إذا غضضنا الطرف عن المعجزات الحسية التي رويت بالتواتر المعنوي لسيدنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل الإسراء والمعراج، وانشقاق القمر، ونبع الماء من بين أصابعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وحنين الجذع، فإن القرآن الكريم نفسه يفيض بالحديث عن المعجزات كانفلاق البحر، وانقلاب العصا، وانبجاس الماء من الحجر لسيدنا موسى عليه السلام، وشفاء المرضى، وإحياء الموتى، والكلام في المهد لسيدنا عيسى عليه السلام.
    إن إنكار كل هذه المعجزات أو التعسف في تأويلها ليس إلا لوناً من أو ألوان الصلف والمكابرة والجحود.
    والآن بعد أن كشفنا المغالطات التي يبني عليها الخطاب العلماني رؤاه وتصوراته ونتائجه يمكننا أن نقول: "" إن العلمنة ليست فقط رؤية غير إسلامية للوجود، بل إنها تقف موقفاً مناهضاً للإسلام نفسه، ولذلك فالإسلام يرفض العلمنة ومآلاتها النهائية ما ظهر منها وما بطن ""، يرفضها نظراً وعملاً لأنها الدنيوية المحضة، والدهرية الخالصة، والمادية المطلقة، وهي مقولات جاء الإسلام لمحاربتها، وإنقاذ الإنسان من ظلماتها وأزماتها.

    --------------------------

    سؤال:
    لكن العلمانيين يقولون إن العلمنة تنقذ الإنسان من الخرافات لا الإسلام.

    إن الأسلمة وليست العلمنة هي التي تحرر الإنسان من الأساطير والخرافات، والأرواح الشريرة، والشعوذة التي يُظَن أنها تتحكم في مصير الكون، وتحرره كذلك من الأنانية والنفعية والمادية، وتقيم توازناً بين الجوانب المختلفة في كيانه "" وعندما يتحرر الإنسان على هذا النحو فإن وجهة حياته وسيرها يكونان نحو تحقيق طبيعته الأصلية، تلك الطبيعة المتوائمة مع طبيعة الكائنات، ومع الوجود كله ألا وهي الفطرة، وهو كذلك يتحرر من العبودية لدوافعه الحيوانية النزاعة إلى ما هو دنيوي، وإلى ما من شأنه أن يكون ظلماً وتعدياً على جوهر كيانه وعلى روحه، ذلك أن الإنسان بما هو كائن مادي يغلب عليه نسيان طبيعته الحقة، فيجهل هدفه الحقيقي الذي من أجله خُلق، وبالتالي يزيغ عنه "".
    هذا التحرير للإنسانية قد تحقق بالوحي، وهو يتجلى في أكمل صوره في الرسالة الخاتمة التي ضَمِنت للإنسانية التحرر والتقدم والرقي. كل ما علينا أن نتمثل هذه الرسالة ونتفاعل معها بكل ثقة وطمأنينة ونقبل عليها طائعين مختارين.

  3. #18
    تاريخ التسجيل
    Sep 2004
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    1,886
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    مركسة الإسلام


    سؤال:
    ما المقصود بمركسة الإسلام ؟

    إن بعض الماركسيين رأى أنه لا جدوى من إظهار مجابهة صريحة مع الإسلام تؤدي إلى استفزاز ردود فعل مقاومِة، فهناك طريقة أكثر إجداءً يمكن استثمارها دون استثارة مباشرة وهي تفريغ الإسلام من مضمونه وإعادة حشوه بمضامين ماركسية.
    وعلى هذا الأساس اعتُبر كارل ماركس لدى بعض العلمانيين ممثلاً للإسلام أصدق تمثيل في دعوته إلى إلغاء المؤسسة الدينية. واعتبارُه الدين أفيون الشعوب لم يكن إلا بسبب ظلم المؤسسات الدينية التي تمثل الأديان تمثيلاً خاطئاً. وكانت دعوته إلى الثورة العالمية المسلحة هي الجهاد الذي حض عليه الإسلام، وإلغاؤه لنظام الدولة هو قيام الشرع الجماعي، وتأميمه لوسائل الإنتاج هو تحريم الربا، وتحريره للمجتمع من الطبقية هو الحج. ومبـادئ الإسلام جميعها كالتوحيد والعدل والمساواة والأذان والحج كلها كان ماركس يمثلهـا تمثيلاً واقعيـاً صحيحاً. وكان يعي تماماً معنى قوله عز وجل " كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ " [المدثر: 38]. في مبادئ فلسفته وثورته.
    وكيف لا يكون كذلك وهو - أي ماركس - وكل أئمة العلم المادي والطبيعي يعتبرون من أئمة المتقين الموصوفين في القرآن بأنهم عباد الرحمن، هؤلاء هم ماركس وإنجلر وداروين لأن"" أئمة المتقين في فرقان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ هم أئمة العلم المادي وأئمة الناس الذين يؤمنون بالبينات المادية، وذوي التفكير العلمي البعيد من الخرافة "".
    ومن هنا فالرسالة الإسلامية تسير على جناحين هما الاشتراكية والديمقراطية. والزكاة ذات المقادير هي خطوة أولى باتجاه الاشتراكية المطلقة، والغرض منها إعداد الناس نفسياً ومادياً ليطيقوا الاشتراكية، فإذا تم عهد الاشتراكية ثم الشيوعية، وتم محو الطبقات والفوارق فإننا نصل عندئذ إلى شريعة الأمة المسلمة التي لم تأت بعد، وسيكون ذلك أرقى ما يمكن أن تصل إليه المدنية في جميع العصور، وهو ما لن يحصل في المستقبل إلا بالجهد الشاق والتربية المضنية.
    لقد كان الإسلام في أساسه - بمنظور الخطاب العلماني الماركسي - ثورة لإعادة بناء شخصية الفرد العربي وإعادة تخطيط المجتمع العربي.
    ولتأمين الثورة ضد المؤامرات الرجعية الوثنية انتقل مركز الثورة ومقر قيادتها من مكة إلى المدينة. وكان عمر القائد التالي للثورة مناضلاً قديماً انضم إلى الثورة أيام الهجرة الأولى إلى الحبشة. أما إسلام أبي بكر وغيره من التجار الوسطيين فلأنهم قرأوا الواقع قراءة صحيحة ورأوا أن سير خط التطور يسير إلى وحدة العرب.
    بل إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في منظور هذا الخطاب كان أحد الحنفاء الثوار الذين ثاروا على الطبقات الثرية بسبب حالة الإعدام والفقر التي كان يعيشها ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل نبوته.
    وكان الواقع الاجتماعي والثقافي للعرب يفترض ويتحرك باتجاه الوحدة، فكانت النبوة وسيلة لتحقيق ذلك، لأن العرب لا تقودهم إلا النبوة بسبب أنفتهم وغلظتهم. فالنبوة على ذلك كانت إفرازاً ثقافياً واجتماعياً اقتضاه التطور العربي آنذاك وخطط له أقارب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث "" لم يجد الآخرون [ يقصد أقارب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ] سوى الاهتداء إلى‍ أنه لا حل سوى أ‍ن يكون منشئ الدولة المرتقبة نبياً مثل داوود "". فكان ذلك عندما أعلن محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه ‍النبي ‍المنتظر‍‍،وأخذ ينادي طيف جده: أي جدي ها آنذا أحقق حلمك.
    لقد كان الواقع إذن مهيأ لخروج نبي، وكانت الظروف تحتم وتفرض ظهور مصلح في الجزيرة العربية فكان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الذي هيأته الأسباب لذلك، هذه هي القراءة الماركسية للواقع الاجتماعي الذي كان يسير حتماً باتجاه إفراز تغيير جديد في حياة العرب. وهكذا تقرر الماركسية "" إن مسألة ظهور فرد معين لا أي فرد آخر في عصر محدد، بل في بلد محدد هي بالطبع مسألة متعلقة بالصدفة الخالصة، ولكننا إذا ما حذفناه سوف يكون دوماً بحاجة إلى بديل، وهذا البديل سيوجد بهذه الصورة أو تلك، سيوجد حتماً مع مر الزمن فلو لم يوجد نابليون هذا لقام غيره بمهمته "".
    وهكذا – وطبقاً للتحليل الماركسي - تُفسَّر أيضاً قداسة الكعبة المشرفة فهي واحدة من جملة كعبات كانت منتشرة في الجزيرة العربية، وتَميُّزها عن غيرها كان بسبب تحول الطرق التجارية إليها، وقبول مكة لوضع أرباب الآلهة الأخرى في الكعبة مما أدى إلى سيادتها واستئثارها فيما بعد بالقداسة. فالقضية إذن ليست أكثر من انعكاس اقتصادي، أليس ماركس هو الذي يقرر أنه "" مع تغير الأساس الاقتصادي يحدث انقلاب في كل البناء الفوقي "". وأنه "" لا يجب البحث عن مفتاح التاريخ في أدمغة الناس وآرائهم وأفكارهم، بل في علاقات الإنتاج والقوانين الاقتصادية والموضوعية التي تعمل مستقلة عن إرادة الناس "".
    وهكذا يتوالى الإسقاط الماركسي على الإسلام فلأن "" الآفاق المعرفية للجماعة التاريخية هي آفاق تحكمها طبيعة البنى الاقتصادية والاجتماعية لهذه الجماعة ""، فإن تحريم القتال في الأشهر الحرم كان من أجل الحفاظ على وسائل الإنتاج الاقتصادي من الدمار الكامل. والبحث عن دين إبراهيـم عليه السلام كان بحثاً عن الهـوية الخاصة للعرب الذين يتهـددهم الخطر الاقتصادي النابع من ضيق الموارد الاقتصادية.
    أما الأحناف فقد كانوا تجسيداً لنزوع ما لاتجاه جديد في رؤية العالم في هذه الثقافة يبحث عن الوحدة والهوية وتحقيق الذات، وكان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ جزءاً من هذا الاتجاه، ومعبراً عن هذا النزوع، ومجسداً لكل هذه الأحلام والطموحات "" كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد تجسدت في داخله أحلام الجماعة البشرية التي ينتمي إليها، إنسان لا يمثل ذاتاً مستقلة منفصلة عن حركة الواقع، بل إنسان تجسدت في داخله أشواق الواقع وأحلام المستقبل "". وهكذا قررت الماركسية أنه "" ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم ""، و "" ليست حركة الفكر سوى انعكاس لحركة الواقع بعد أن انتقلت إلى دماغ الإنسان "".
    وهكذا نجد المقولات الماركسية تشكل الخلفية الحقيقية للخطاب العلماني في قراءته للإسلام والقرآن فنلاحظ:
    - جدلية البنى التحتية والفوقية في النصوص التالية: "" ولم يكن لهذا البحث أن يتجاوز الآفاق المعرفية للجماعة التاريخية، وهي آفاق تحكمها طبيعة البنى الاقتصادية والاجتماعية لهذه الجماعة "". وذلك من منظور "" أن البنى التحتية، والفوقية تتفاعل في جدلية معقدة "".
    - التفسير الاقتصادي للعلاقات الاجتماعية وذلك يتجلى في: اعتبار البحث عن دين
    إبراهيم بحثاً عن الهوية الخاصة بالعرب، وحماية للذات من الحاجة الاقتصادية.
    - نفي النفي وذلك حين يقرر الخطاب العلماني أنه "" ليس معنى القول إن محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ ابن الواقع ونتاجه أنه نسخة كربونية من صورة العربي الجاهلي... إن الواقع الذي ينتمي إليه محمد ليس بالضرورة هو الواقع المسيطر فالواقع... يحتوي في داخله وفي بنائه الثقافي نمطين من القيم: النمط السائد المسيطر، ونمط القيم النقيض الذي يكون ضعيفاً خافت الصوت، لكنه يسعى لمناهضة نمط القيم السائد، وليس هذان النمطان من القيم إلا تعبيراً عن قوى اجتماعية وعن صراعات اقتصادية واجتماعية "".
    هذا ما قرره الخطاب العلماني وهو ذاته الذي تقرره الماركسية حين تؤكد أن "" الظاهرة الجديدة التي تبرز في الطبيعة والمجتمع تمر هي أيضاً في طريقها الطبيعي، أي أنها مع مرور الزمن تهرم وتخلي المكان لظاهرات وقوى أكثر جدة منها، وإذا كانت في السابق قد نفت القديم لكونها جديدة، فإنها أصبحت الآن هي نفسها قديمة يجري نفيها من قبل ظاهرات أفتى منها وأجدى وأقوى، وهذا هو نفي النفي "".
    وأيضاً: "" يوجد في كل مرحلة من مراحل التاريخ في جميع المجتمعات جنباً إلى جنب أفكاراً مختلفة متناقضة، لأنها انعكاس لتناقضات المجتمع الموضوعية، ومع ذلك فلا تتساوى هذه الأفكار في القيمة، منها ما يصبو إلى الإبقاء على المجتمع في أوضاعه القديمة، ومنهـا ما يسعى إلى تجـديد هـذا المجتمع "". وهو ذاته الذي يؤكده ماركس حين يقرر أننا "" لا نستطيع الحكم على عصر من العصور بناء على وعيه لنفسه، وحدها التناقضات بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج تؤلف الأسباب الموجبة أي القوى المقررة الحاسمة "".
    وهكذا فالأفكار الجديدة - في الماركسية – تتولـد كحـل لتنـاقـض موضوعي نشأ في المجتمع، لأن الدافع على كل تغيير هو التناقض، ونمو هذه التناقضات داخل مجتمع معين يثير مهمة حلها عند اشتدادها، فتظهر حينئذ الأفكار الجديدة كمحاولة لحل هذه التناقضات. ذلك لأن قانون نضال الأضداد هو الدافع لكل تغيير، وهو وراء كل حركة، وطبقاً لهذا القانون يتم تفسير كل التطورات التي تنشأ في الوجود والتي تطال الإنسان والعقل والمجتمع.
    وبذلك يتم فهم التطور الذي حصل في المجتمع العربي طبقاً لقوانين المادية الجدلية، والمادية التاريخية بعيداً عن أي ميتافيزيقا تنظر إلى تاريخ المجتمعات على أنه عبارة عن خليط من العوارض التي لا سبب لها، فالمادية الجدلية هي وحدها التي تحمل جواباً علمياً على مشكلة الوعي كما أنها تتيح لنا فهم أصل الأفكار وعملها، وفهم النظريات الاجتماعية والآراء السياسية.
    هذه هي الرؤية الماركسية الجدلية التي يراد لها أن تحكم الوجود بكل ذراته، وتفسر كل أسراره فـ "" الطبيعة بحذافيرها من الجزئيات الدقيقة إلى الأجسام الضخمة، ومن حبة الرمل إلى الشمس أو من الخلية الأولى إلى الإنسان، كلها رهينة بدوام الظهور والاختفاء، هي في جريان لا ينقطع، وفي حركة وتبدل دائمين "". وهكذا يتم تفسير الوحي.

    ------------------

    سؤال:
    لنعد إلى الجذور التاريخية لنظرية الأنسنة ؟

    كان بروتاغوراس قد اعتبر الإنسان مقياساً لجميع الأشياء، فتصدى له سقراط ثم تلاميذه من بعده حتى أُجهضت السفسطة البروتاغوراسية، وفي عهد شيشرون عرف اليونان فكرة التعليم المتوازن الذي يتناول مختلف المعارف الإنسانية وكانت الكلمة التي اختارها شيشرون للتعبير عن هذه الفكرة هي Humanitas وفي عصر النهضة أصبح المصطلح الخاص بالمواد المدروسة في مجال اللغات والآداب الكلاسيكية هو Stu Dia Humanitisالتي تترجم " الإنسانيات Humanitiest.
    وكانت الدراسات الإنسانية في القرن الخامس عشر تشير إلى دراسة القواعد اللغوية والبلاغة والتاريخ والآداب، والفلسفة الأخلاقية، وكانت تتكون من قراءة النصوص اللاتينية الخاصة بالعصر الكلاسيكي ما قبل المسيحي، أما كلمة هيومانزم فلم تكن معروفة لا للقدماء، ولا لعصر النهضة، وإنما صاغها في سنة 1808 م المفكر التربوي الألماني " نيثامر " أثناء مجادلة حول مكانة الدراسات الكلاسيكية في التعليم الثانوي، أما من طبقها في عصر النهضة فقد كانا المؤرخين " بروكهارت " و" نويجت " في كتاب " إحياء الكلاسيكيات القديمة أو القرن الأول للهيومانزم " سنة 1859 م.
    إلا أن اسم الإنسانيين أو أصحاب النزعة الإنسانية قد كان يطلق قبل ذلك على المفكرين الذين اهتموا بالإنسان في عصر النهضة وهم الذين " آمنوا بأن الإنسان معيار كل شيء، وأن كل إنسان معيار ذاته ". فأعادوا الحياة لفلسفة بروتاغوراس التي كانت راقدة ومحاصرة بالأرسطية والمسيحية، فهي لذلك نزعة تطوي تحتها كل من كانت له نظرة إلى العالم لا هي لاهوتية أساساً ولا هي عقلانية في المقام الأول وتتمرد على تصورات العصور الوسطى.
    وأصبح التنوير يعني التحول من نعيم المسيحية الغيبي في السماء بعد الموت إلى النعيم العقلاني على هذه الأرض. ولذلك يمكن اعتبار البروتستانتية هي بداية الأنسنة في العصور الحديثة باعتبارها ركزت على الإنسان وآمنت بقدرته على الفهم، وشكلت ردة فعل قوية ضد الدين المسيحي الذي يميل بأهله إلى الزهد، وإنكار الذات دون مراعاة لحاجات الإنسان ورغباته الأساسية، واتجهت الأنظار لمركزة الإنسان بدلاً من الله عز وجل وتمثل ذلك في:
    - الاهتمام بالحياة الدنيوية والعمل والنشاط بدلاً من حياة التأمل والتفكير المجرد.
    - دفع المجتمع باتجاه التنافس والإبداع والمجد في هذا العالم.
    - تبني معيار جديد للقيم علماني الطابع بحيث ينظر إلى العالم عن أنه نتاج لفعاليات الإنسان ومحاولاته وتجاربه.
    - التأكيد على ضرورة التعليم ومركزيته، والتعليم المقصود هو التعليم الدنيوي الذي يخدم الإنسان في هذه الحياة بعكس ما يسعى لتكريسه اللاهوت المسيحي.
    - التأكيد على قدرة الإنسان في مواجهة القدر، وحريته في تشكيل حياته الشخصية، وقدرته على تحقيق طموحاته وفق مواهبه دون اعتداد بالفاعلية الإلهية. ويعبر " رابليه " أحد هؤلاء الإنسانيين عن وجهة نظر هؤلاء في معنى الحرية عندما يصور ديراً علمانياً يضم الجنسين وقد كتبت على بوابته عبارة تقول: " إفعل ما بدا لك ".
    ثم تفاقمت الأنسنة في عصر التنوير بسبب الاكتشافات العلمية وبروز جيل واسع من المثقفين تجمعهم الرغبة في التخلص من التدخل الكنسي في شؤون الحياة الفردية والاجتماعية واتفق أغلب الإنسانيين على استبعاد التفسيرات التي تقدمها أديان الوحي واعتبارها ضرباً من الأوهام. وإذا كانت هناك ضرورة لقراءة الكتاب المقدس فيمكن قراءته قراءة رمزية بحيث يصبح من الممكن أن يكون الإله إنساناً.
    -------------------

    سؤال:
    ما هي أشهر مدارس الفلسفات الإنسية ؟

    يمكن إذا أردنا أن نشير إلى أبرز الفلسفات الإنسية أن نعتبر فلسفة سبينوزا 1634 – 1677 م تكريساً لهذا الاتجاه، وذلك عندما أنزل الإله من عليائه وأدمجه في الطبيعة وجعله مساوياً لها، بل أصبح العالم – عنده - هو الله سبحانه وتعالى، واقترب الإله السبينوزي جداً من الإنسان، لأنه أصبح إلهاً ذا قدرات محدودة ولا يملك المشيئة الكاملة.
    وتُصنَّف فلسفة فختة أو فشتة 1762، 1814 م الألماني في هذا الاتجاه الإنسي الذي لا يقبل من الوحي إلا ما يتطابق مع العقل، وماهية الدين عنده أن يؤمن الإنسان بالنظام الخلقي، ويعتبره مصدر واجباته ويساعد على نموه، ولا بأس أن يُشخِّص شعوره بهذا النظام في موجود معين إذا كان الغرض تقوية هذا الشعور في ضميره، أما إذا تصور الله سلطاناً حاكماً آمراً وانتظر من وجوده لذَّات مقبلة كان عابد صنم، وكان جديراً بأن يُدعى ملحداً. وإن الإله الحقيقي عنده هو الإنسان والنظام والحرية التي تتحقق في العالم بالتدريج.
    أما أوجست كونت 1768، 1857 م فقد عُرف بدين الإنسانية الذي يقوم على عبادة الإنسانية بدلاً من عبادة الله عز وجل. ويقسم التاريخ الإنساني إلى ثلاث مراحل: المرحلة اللاهوتية، والمرحلة الميتافيزيقية، والمرحلة الوضعية. والمرحلتان الأوليتان تجاوزهما العلم، ويجب أن تزولا من الحياة، ويجب أن تسود الفلسفة الوضعية بنظره لأنها إيجابية وبناءة، وتجعل الموجود الأعظم هو البشرية، وإذا كان لا بد للناس من موجود عظيم يعطونه ولاءهم فيجب أن يكون هو البشرية، وعلينا أن نصلي ونترنم للبشرية بدلاً من الله عز وجل. وإذا كان لا بد للناس من ثالوث يعظمونه فليكن هذا الثالوث هو: الإنسانية " الموجود الأعظـم " والسماء أو الهواء " الوسط الأعظم " والأرض " الفيتش الأعظم " وشعار هذا الثالوث هو: المحبة كمبدأ، والنظام كأساس، والتقدم كغاية.
    والعبادة عنده مشتركة وفردية أما المشتركة فتقوم على أعياد تذكارية يُكرَّم فيها عظماء البشرية عرفاناً بجميلهم، وقد وضع كونت تقويماً واقعياً دل فيه على كل يوم وكل شهر بأسماء الرجال الذين امتازوا بالعمل على تقدم الإنسانية، وأما العبادة الفردية فعلى كل شخص أن يتخذ لنفسه أشخاصاً أعزاء عليه يجعلهم مثلاً أعلى يحتذى بهم في حياته.
    إلا أن أبرز ممثلي النزعة الإنسية هما لودفيج فيورباخ 1804، 1872 م وفريدرش فلهلم نيتشة 1844، 1900م وكلاهما ألماني.
    كان فيورباخ يرمي في فلسفته إلى إزالة إله المسيحية ومطلق هيجل، ويرى أن مهمته الأساسية هي تأنيس الإله واعتبار الوجود الحقيقي الفعلي صفة للإنسان وحده، فالإنسان عنده هو الإله الحقيقي الوحيد لنفسه، والله ليس إلا تجسيداً للطبيعة الإنسانية في طموحها إلى الكمال "" فالإنسان يبدأ بأن يرى طبيعته وكأنها خارج نفسه قبل أن يجدها في نفسه، وفي الحالة الأولى يتأمل نفسه وكأنها نفس كائن آخر، وليس الله سوى هذه الطريقة العازلة في النظر إلى الماهية الإنسانية، وكأنها كائن آخر، فهو المثل الأعلى للماهية الإنسانية التي نجردها من أفراد التجربة ثم نعزلها كرصيد حقيقي لكل صفات الطبيعة الإنسانية وكمالاتها، والدين هو عملية إسقاط وجودنا الجوهري على مجال الألوهية المثالي، ثم العودة إلى إذلال أنفسنا أمام ماهيتنا الخاصة التي أحلناها إلى موضوع، والواقع أن الناس في عبادتهم لله يمجدون ماهيتهم المعزولة منظوراً إليها من مسافة مثالية "".
    وأما نيتشة فقد أعلن عن موت " الله [سبحانه وتعالى] من أجل أن يفسح المجال للإنسان، لأن الاعتقاد بالله " عز وجل " - في نظره - يحول دون تأكيد الإنسان لذاته. ولذلك يقول: "" لو كان هناك إله فكيف كنت أطيق أن لا أكون إلهاً "". ودعا إلى الإنسان الأرقى أو الإنسان الأقوى، وأخلاق القوة، وسخر من الضعفاء والفقراء الذين يحسبون أنفسهم صالحين لأنهم لا يملكون مخالب لينشبوها في الآخرين.
    وحارب المسيحية لأنها تحض على أخلاق الرقيق كالحب والتسامح والغفران والتواضع وقال عن العهد الجديد بأنه إنجيل إنسان من نوع وضيع، لأن مثله الأعلى إنسان متجرد تماماً من التعاطف والرحمة، متحجر القلب، لا يعرف الشفقة، خبيث لا يعبأ إلا بقوته. وهو يعلل نفسه بأن تغدو الحياة أكثر شراً ومعاناة دائماً، ويرغب بالقضاء على الملايين من الضعفاء والفقراء، لأنه لا يؤمن إلا بالبطل وأخلاق القوة.
    على هذا الشكل تتوزع فلسفات أخرى متعددة في أوربا تكرس المركزية الإنسية كالفلسفات النفعية التي نادى بها بنتام 1748، 1832 م وجون استيوارت مل 1806، 1873 م ووليم جيمس 1842، 1910 م وجون ديوي 1859، 1952 م وبرجسون الذي يعتبر الله عز وجل " كامن فينا، وفي أعماقنا الذاتية فهو محايث وليس مفارقاً، وكلما تغلغلنا في أعماقنا عثرنا على الله سبحانه وتعالى.
    ولا ننس أيضاً الفرويدية التي تعتبر الحاجة إلى التدين حاجة نفسية تنبع من الخوف ومحاولة الانتصار على هذا الخوف بأنسنة الطبيعة، وخلق إله يتمتع بنفس الصفات التي يرغب الإنسان نفسه بها، ولذلك فالتدين عند فرويد مرض عصابي قهري يصيب الأفراد كما يصيب المجموع. هكذا يجب أن نفسر - بنظره - ديانات الإنسانية فما هي إلا استرجاع لحوادث عفى عليها الزمن وطواها النسيان من التاريخ البدائي للبشرية.
    أما في القرن العشرين فإن أبرز الفلسفات التي تمجد الإنسان هي الوجودية وقد عرضها سارتر في محاضراته على أنها مذهب إنساني مغلق أي أن الإنسان هو الخالق الوحيد للقيم في العالم، والإنسان متروك لذاته لكي يحقق ما يستطيع من القيم والإنسان وحده هو الذي يوجد خارج ذاته ولذلك فإن الفكرة الأساسية في الوجودية هي فكرة " الإنسان الأوحد " "" إنني لست إلا ذاتي "" ولذلك يرفض الوجودي أن يُحشر ضمن مجموعة من الناس أو يُصنَّف فيها. وموقفها من الخالق عز وجل هو ترديد لموقف الفلسفات الإلحادية الإنسية التي سبقته فعنده فكرة الله عز وجل كغيرها من الأفكار من نتاج الوعي الإنساني الخلاق، ومع ذلك فثمة شيء في هذه الفكرة الخاصة يجعلها اختيارية صرفة، بل هي من الأفكار الحتمية التي لا مندوحة للعقل عنها، لأنها تعبر عن ميل ضروري في طبيعتنا "" فالإنسان في جوهره رغبة في أن يكون إلهاً "" ولذا عليه أن يبدع قيمه الخاصة دون اعتماد على أي معيار إلهي.
    "" وألح سارتر في تحليل النواحي القذرة في الإنسان في قصص تلقى رواجاً كبيراً"". واعتبر الوجود الإنساني سابقاً على الماهية، ولذلك ليس في الإنسان شيءٌ يحد من حريته أو يقيد سلوكه، وعلى الإنسان أن يفسر الأشياء بنفسه كما يشاء، لأنه محكوم عليه في كل لحظة أن يختـرع الإنسان، وما الإنسان إلا مـا يصنع نفسه، وما يريـد نفسه، ومـا يتصور نفسه بعد الوجود. والوجود لديه نوعان: وجود ذاتي، ووجود موضوعي، فالوجود الذاتي هو وجود الإنسان، أما الوجود الموضوعي فهو وجود كل ما عداه، وهو بنظرهم وجود تافه لا قيمة له إلا من حيث أنه يدور على محور الوجود الإنساني ويسعى إلى تحقيقه. فالوجود الرئيس في الفلسفة الوجودية هو الوجود الإنساني والموضوعات السائدة فيها هي: الحرية واتخاذ القرار الحر والمسؤولية وتحقيق الإنسان لذاته الحقة وتتكرر لدى الوجوديين مفردات مثل التناهي والإثم والاغتراب واليأس والموت لتعبر عن العصر الغارق في الشك والإحباط والعدمية وهكذا لم تكن الوجودية إلا جزءاً في كل الحداثة التي تعني: "" أن الإنسان هو ما يفعله "".

    ----------------------------------------

    سؤال:
    ماذا عن الأنسنة في العالم العربي ؟

    أولاً - النُسخ العربية:
    يمكننا أن نفرز ثلاث نسخ أساسية مترجمة إلى العربية عن الإنسية الغربية وكل نسخة من هذه النسخ تمثل شكلاً من أشكال الأنسنة أو بعداً من أبعادها:

    النسخة الأولى:
    القصيمية " النيتشوية " يمكننا أن نعتبر عبد الله القصيمي نيتشة العربي وإذا كانت الإنسية تعني تمجيد الإنسان على حساب الخالق عز وجل فإن القصيمي قد بلغ الذروة في ذلك، وتفنن في التعبير عن جبروته وطغيانه وسخريته من الباري عز وجل بشكل قد لا يوجد له مثيل في تاريخ الزندقة والإلحاد إلا عند نيتشة. يَعتبر القصيمي فكرة ألوهية المسيح دعوة لكل الناس إلى التأله، والارتفاع إلى مستوى الألوهية، وما انتصار الإنسان في الحضارة الحديثة على الأمراض المستعصية إلا خطوة في طريق ألوهية الإنسان وتجسيد عظمته وجبروته وكبريائه. حتى لقد كاد الإنسان بنظره أن يصبح إلهاً يمشي على الأرض يقول للشيء كن فيكون. وإذا كان هناك إله فإن الإنسان قد خُلق لينازع هذا الإله في علمه وقدرته وقوته. وإذا كان الإنسان لا يمكنه أن يسمو إلى صفات الكمال فإن القصيمي يسعى لإنزال الخالق " سبحانه وتعالى " من عرش الكمال والجلال لكي يتساوى بالإنسان، وبذلك يصبح الإله أقرب إلى الإنسان فيوصف الباري عز وجل في العبثية القصيمية بكل صفات الضعف البشري، والمجون، وكل حاجاته من طعام وشراب ونوم وجنس، وهو في كل ذلك يتفنن في التعبير عن إلحاده البغيض بكل فنون السخف والعدمية النيتشوية.

    النسخة الثانية:
    د. عبد الرحمن بدوي " الوجودية " وهو أول وأبرز - فيما أعلم - من أدخل الوجودية كمذهب إنسي إلى الفكر العربي، وتابع أستاذه سارتر في التأكيد على محورية الإنسان، فالأنسنة عنده هي العود المحوري إلى الوجود الروحي الأصيل. والوجود الحق أو الوحيد بنظر الوجودية هو الوجود الإنساني، فكل شيء من الإنسان وإلى الإنسان بالإنسان، ومعيار التقويم هو الإنسان، وتلح الوجودية البدوية على فكرة " الإنسان الأوحد " وتقارن بين هذه الفكرة الوجودية وبين ما يتردد لدى أصحاب التصوف الفلسفي عن "الإنسان الكامل".

    النسخة الثالثة:
    الحسنفية " الفيورباخية و " السبينوزية ": يُعتبر المشروع الحسنفي [ نسبة إلى حسن حنفي ] نسخة ملفقة من مجموعة فلسفات غربية أبرزها الفيورباخية، والسبينوزية، والهوسرلية – نسبـة إلى هوسرل - والشبنغلرية – نسبة إلى شبنغلر – واللسنجية – نسبة إلى لسنج. والجانب البارز فيه من هذه الفلسفات هو النزعة الإنسية، والتركيز على الإنسان. ولكنه يحاول أن يُلوِّن نسخته العربية ويزركشها ببعض المنمنمات الإسلامية عن طريق استخدام الدين " كأيديولوجيا" لتحقيق مشروعه في الأنسنة "" تحويل الوحي إلى إيديولوجية "". "" تحويل الوحي ذاته إلى علم إنساني "" ولذلك فالأثر الفيورباخي أكثر ظهوراً من غيره بشكل واضح حتى لقد وصف المشروع الحسنفي بأنه " مشروع فيورباخي تماماً منقول التطبيق من المسيحية إلى علم الكلام في الإسلام، وغايته الانتقال من علم الله إلى علم الإنسان.
    -------------------

    سؤال:
    ما خطورة الأنسنة على الثوابت العقدية ؟

    ليس من المهم أن نكتشف مدى الاجترار العلماني وخطورته، وإنما المهم أن نلاحظ أن مصادمة الثوابت هي السمة البارزة لهذا الاجترار، فكأن الغربيين اختُزلت جهودهم النهضوية في هذه السمة ولا يوجد غيرها، لتنقل إلينا كمشاريع للإصلاح والنهضة بكل ما تتضمنه من استفزاز، وتثيره من رفض، ولا يقف الأمر عند حد الاستيراد للمشاريع الآنفة الوصف، وإنما لا بد من تطعيمها بجذور تراثية يتم التنقيب عنها في طبقات رسوبية بعيدة القعر، وهي جذور ميتة في الأساس، ولكن يراد لها أن تُسقى وتُهيأ لها التربة وتُستنبت من جديد لكي ترفد الفلسفات الإلحادية المستوردة.
    ولذلك نجد أن أبرز من يمثل النزعة الإنسية في تاريخنا عند دعاتها المعاصرين هم ثلة من الزنادقة والمُجَّان الذين ظهروا ثم اندثروا في الحضارة الإسلامية من أمثال بشار بن برد، وابن الراوندي، والرازي، وأبي نواس، ويُقدَّم هؤلاء على أنهم قادة الفكر والحرية والممثلين الحقيقيين للنزعة الإنسية في الفكر العربي، لأنهم جعلوا الإنسان مركز الوجود، وأعلوا من شأن العقل وفاعليته.
    وكانوا – بنظر الخطاب العلماني - ثواراً إنسانيين في مواجهة الإسلام الذي يعتبرونه ضد الثورة، ولا يسمح بها، تلك الثورة التي تعني تغييراً في نظرة الإنسان إلى الكون والحياة.
    وفي هذا الإطار يدعونا هؤلاء إلى أن نفهم أهمية ثورة الزنج والقرامطة فقد كانت ثورة ضد الظلم والقمع والاضطهاد، كانت ثورة لتوليد الشروط الملائمة لحياة الإنسان. وهو ما يعني - بنظرهم - نفي النبوة الإسلامية، وإقامة نبوة على أنقاضها، وإقامة دين العقل، ودين الإنسان. ولم يعد الدين هبوطاً ليس للإنسان فيه إلا دور التلقي، بل أصبح صعوداً للإنسان فيه دور الإبداع "" الدين للإنسان، وليس الإنسان للدين "".
    وهكذا كان الرازي وابن الراوندي مؤسِّسيَن للعقل مكانه بديلاً للوحي، ومؤسِّسَين لحرية الإنسان وممهدين للتحرر من الانغلاقية الدينية. ومثلهما مسكويه والتوحيدي عند أركون في ترسيخ الأنسنة، باعتبارها موقفاً نضالياً ضد نوعين من العنف يمارَسان ضد الإنسان على مدى تاريخه: عنفٌ مقدس يخلع المشروعية على ذاته من خلال التعاليم الإلهية للأديان والتي لم تتعرض بعد للنقد العلمي. وعنف مادي أو دنيوي: محض يشكك في قدرة الإنسان على تحسين طبيعته البشرية. وعلى ذلك فالموقف الإنسي يمثل مقاومة الإنسان لكل ما يريد أن يسحق إنسانيته وحريته. فالعقل لوحده قادر بنفسه وبإمكانياته الخاصة على تحقيق التقدم للبشرية. وفهم كل الأشياء والسيطرة عليها، وهو جدير أيضاً بمخاطبة الإله وطرح الأسئلة عليه.
    ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بإلغاء النبوة، ومن هنا يحرص الخطاب العلماني على الإشادة بكلمة محمد إقبال في هذا الخصوص والتي يقول فيها: "" إن النبوة في الإسلام لتبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها، وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمداً إلى الأبد على مِقْود يُقاد منه، وأن الإنسان لكي يُحصِّل كمال معرفته لنفسه، ينبغي أن يترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو "". فيُعتبر هذا النص بنظر الخطاب العلماني دعوة من الفيلسوف والشاعر الإسلامي إلى التحرر من النصوص واستقلال الإنسان بشكل مطلق، وإنهاء أي مصدر آخر للمعرفة خارج الإنسان ومؤهلاته الذاتية، وإيذان بانفتاح عهد جديد في وجه البشرية قاطبة وقد بلغت سن الرشد لكي تتحمل مسؤولياتها، وتبعات اختياراتها.
    وبذلك يكون محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد ختم النبوة ليقضي على التكرار، والاجترار ليفتح المجال للمستقبل الذي يبنيه الإنسان مع أبناء جنسه في كنف الحرية الذاتية والمسؤولية الفردية والتضامن الخلاق.
    من الواضح أن أهم ملمح تؤكد عليه النزعة الإنسية هو إنكار أي معرفة خارج الإنسان " كالوحي أو الدين " وتحقيق الإنسان لقواه وقدراته الخلاقة واعتبار السعادة الإنسانية غاية في ذاتها لا تتطلب أي تبريرات خارج الإنسان ".
    ولكن تحقيق الإنسان لقواه وقدراته الخلاقة لا يمكن أن يتم إلا بظهور " الإنسان الكوني " كما يأمل مراد وهبة، حيث يتمكن الإنسان من ناصية الكون والغيب، ويحصل ذلك عندما يكتمل الوعي الإنساني، ويتحد الإنسان بالكون وهو ما سيتحقق بنظر - وهبة - استناداً إلى قانونين:
    - قانون النشوء والارتقاء.
    - وقانون الانتقال من الكم إلى الكيف.
    والفيزياء النووية هي بداية الخيط في تحكم الإنسان بالكون، وستسهم في بزوغ الإنسان الكوني. وغزو الفضاء يستلزم تعَوُّد الإنسان على الحياة في الفضاء، وهو من شانه أن يُحدث تغييراً جذرياً في الإنسان ينبئ ببزوغ نوع جديد يكون في مقدوره تمثل الأبعاد الأربعة للزمكان الذي تنبأ به أينشتاين، ومن شأن هذا التمثل أن يسمح للإنسان برؤية الأحداث قبل أن تقع فتزول غربة الإنسان في الكون.
    وغربة الإنسان في الكون يعمقها الدين، وبالتحديد مقولة الفارق [أي الله عز وجل] التي تعني أن الله هو السيد، والإنسان هو العبد، وهو نقيض للأنسنة التي يرغب بها الخطاب العلماني.
    لقد تفرغ فيورباخ لنقد هذا الاغتراب، ولكنه - بنظر مراد وهبة - غير مجدٍ لأنه على المستوى النظري لا يفضي إلى الحل، رؤية ماركس هي التي تؤدي إلى تحرير الإنسان من الاغتراب، لأنه يرى أن الإنسان هو الذي يصنع الدين وليس العكس، فالدين في حقيقته هو الوعي الذاتي للإنسان. والدولة والمجتمع هما اللذان يصنعان الدين: الوعي المقلوب للعالم، ولهذا فإن النضال ضد الدين هو نضال بطريق غير مباشر ضد اغتراب الإنسان.
    -------------------------------------

    سؤال:
    أرجو التكرم بتلخيص ما سبق.

    بناءً على ما أوجزناه سابقاً من تاريخ الأنسنة في الفكر الغربي، ثم انتقال ذلك إلى الفكر العربي الإسلامي لعلنا نستطيع أن ندرك بسهولة أن المداخل التي يستند عليها الخطاب العلماني لقراءة النص القرآني قراءة " تاريخية " هي بالفعل مداخل أو أسس وهمية، وأن الأساس الحقيقي هو النزعة الإنسية التي بالغت في تمجيد العقل الإنساني، وإحلاله محل الوحي والإله سبحانه وتعالى، ومما ساعد على سرعة انتشار هذه النزعة الإنسية وتفاقمها اكتشافات الإنسان المتلاحقة للكون، وبروز قدرات خارقة أنجزها العقل الإنساني كانت أقرب إلى الخيال في العصور السالفة، وهو ما أصاب الإنسان بغرور شديد وصلافة وغطرسة، وأبرز ما تجلى ذلك في تعامله مع المقدسات والمطلقات، وخصوصاً النصوص الدينية.
    إن قراءة النص المقدس والقرآن الكريم كمثال - في داخل هذا المنظور - يجب أن تتخلص من كل المعايير والضوابط التي تحول دون مراد الإنسان أياً كان هذا المراد، وكما صرح بذلك الخطاب العلماني فإن الهدف الأساسي هو التحرر من سلطة النصوص، ومن المعلوم أن النصوص ليست شيئاً يقيد الإنسان إلا من خلال مضامينها وما تطرحه من رؤى متضمنة في داخل لغة بشرية يفهمها الإنسان، ومن هنا يجب قبل كل شيء، إزاحة اللغة كمعيار وضابط يحول دون تحقيق الإنسان لمراده، وطرح بدائل جديدة تكون أكثر مرونة ومتحررة من المعايير كالمقاصد، والمقاصد المرادة هنا هي ليست مقاصد الخالق عز وجل وقائل النص، وإنما مقاصد الإنسان ومراداته، وأهدافه وغاياته، ومما يرفد ذلك أيضاً المنهج الأدبي حيث يقلل من معيارية اللغة وضبطها للمعاني، لأنه في المنهج الأدبي يحتل المجاز دوراً قبل الحقيقة، ولا يشترط لاختياره تعذر الحقيقة أصلاً، وتصبح الكلمات رموزاً وإشارات يقوِّلها الإنسان ما يشاء.
    وهكذا كما ألح الخطاب العلماني يصبح القرآن بالفعل لا يقول شيئاً، ويقول كل شيء، والعبارة في الحقيقة إذا أردنا أن تكون دقيقة فالمقصود أن القرآن لا يقول شيئاً لا يرغب به الإنسان، ويقول كل شيء لكل إنسان، فهو فضاء لكل إسقاطات الإنسان ورغباته وفكرانياته. ويصبح القرآن بذلك عجينة يُصنع منها ما يشاء من الأشكال والألوان، وتصبح مهمة القرآن في كل هذه الحالات ليست مهمة معيارية قيادية تربوية، وإنما مهمة ترويجية تبريرية، وعلى كل إنسان أن يختار معتقده وسلوكه أولاً ثم يبحث في القرآن عما يبارك له في ذلك، وهو ما لن يُعدمَه إذا ما أحسن استخدام المداخل الآنفة التي يسلكها الخطاب العلماني.
    وهكذا يبدو لنا بوضوح أن الأنسنة تعتبر ركيزة أساسية أولى في تحقيق القراءة التاريخية التي يتوخاها الخطاب العلماني للنص القرآني ولكي نزيد الأمر وضوحاً سننظر في انعكاسات هذا المنزع الإنسي على النظرة العلمانية إلى الوحي.

  4. #19
    تاريخ التسجيل
    Sep 2004
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    1,886
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    الوحي


    سؤال:
    ما يهمنا هنا في ملتقى أهل التفسير، هو الوحي. ولنبدأ من الجذور الفلسفية لموقف العلمانيين من الوحي.

    إن الهاجس الأساسي الذي يسيطر على الخطاب العلماني الوضعي هو استبعاد أي تفسير مفارق للوحي، وإقصاء أي مفهوم غيبي أو سماوي، وهو ما يعني قبول كل مفهوم يكرس بشرية الوحي، ويؤكد على " وضعانيته " وإنسيته حتى لو اقتضى ذلك مناطحة الحقائق ومشاكسة البدائه.
    الوحي عند علماء المسلمين هو إعلام الله تعالى لنبي من أنبيائه بحكم شرعي أو هو كلام الله تعالى المنزل على نبي من أنبيائه. أو هو أن يُعلم الله تعالى من اصطفاه من عباده كل ما أراد إطلاعه عليه من ألوان الهداية والعلم، ولكن بطريقة سرية خفية غير معتادة للبشر.
    والمقصود بالوحي الذي نتحدث عنه هنا هو وحي الله عز وجل إلى أنبيائه فليس حديثنا عن أنواع الوحي الأخرى، والتي تُفسَّر بحسب سياق الآيات أو قرائن الأحوال كالوحي إلى النحل أو الوحي إلى مريم عليها السلام، أو إلى أم موسى عليهم السلام جميعاً.
    وأما عند الفلاسفة فالوحي: "" إلقاء خفي من الأمر العقلي بإذن الله تعالى في النفوس البشرية المستعدة لقبول مثل هذا الإلقاء "". أو هو "" إفاضة العقل الفعال على العقل المنفعل بتوسط العقل المستفاد ". وعند الشيخ محمد عبده الوحي هو "" عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله بواسطة أو بغير واسطة "".
    - مكمن الخطأ:
    في التعريفات السابقة ثلاثة مصطلحات يمكن أن يستند إليها الخطاب العلماني في تأكيد ه على كسبية النبوة ومن ثم أنسنة الوحي.
    الأول: الاستعداد النفسي لقبول وتلقي الوحي في تعريف ابن سينا يغيب الإرادة والاصطفاء الإلهيين " اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ " [الأنعام: 124]، " اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ " [الحج: 75]. لأن التعريف لم يشِر إلى الإعداد والاصطفاء الإلهي لأنبيائه.
    الثاني: الإفاضة في تعريف الفارابي، بالإضافة إلى تغييب مُنزِّل الوحي سبحانه وتعالى لأن العقل الفعال في المنظور الفلسفي يقوم مقام جبريل عليه السلام وليس مقام الباري عز وجل، إذا افترضنا أن ذلك صحيحاً.
    الثالث: العرفان في تعريف الشيخ محمد عبده يُقرِّب الوحي من الإيحاء النفسي والوحي الشعوري.
    إن الخطاب العلماني استند على هذه العناصر وعلى كل ما يبرر له القول بكسبية النبوة من أجل أن يطرح نظرياته الإنسية في الوحي، فوجد في الموقف الفلسفي من النبوة ما يخدم أطروحاته، لأن النبوة في الرؤية الفلسفية تستند على المخيلة، بينما الفلسفة تستند على العقل وهو ما يلزم منه أن النبوة أدنى من الفلسفة، وهو ما رأيناه سابقاً عند كلٍ من سبينوزا وحسن حنفي.
    وإذا كان عدد من المستشرقين قديماً وحديثاً قد اعتبر الوحي الذي يتنزل على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حالة مرضية بعضهم وصفها بالهستريا، وبعضهم وصفها بالصرع ثم بدأوا يتخلون عن ذلك منذ بداية القرن العشرين أمام الانتقادات التي وُجِّهت إليهم من داخل مدرستهم فإن بعض الباحثين العرب لا بد وأن يُعبروا عن استلابهم للآخر حتى وإن كانت أفكاره تعتبر من نفايات الفكر وحثالاته.
    ومن هؤلاء هشام جعيط الذي يحلو له أن يردد مقولات فرويد وماكس فيبر حول النبوة فيعتبر الأنبياء مطبوعين بشيء من العصاب، ويعتبر حالة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي يعيشها أثناء الوحي من النمط الاستلابي أو الاستحواذي أو الامتلاكي. وهي حالة مرضية تُصنَّف في الأمراض النفسية، ولكنه يرى أن حالة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ المرضية هذه حالة متحضرة إذا ما قورنت بأنبياء بني إسرائيل في نوباتهم العصبية، لأن ما كان يمس محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يجري - بنظر جعيط - في داخل الضمير فلا يُبرهَن عليه بأي اضطراب خارجي.
    ثم يجعل - جعيط - الجنون أصلاً للوحي، والجنون في القرآن – بنظره - لا يعني الاختلاط العقلي وذهاب العقل والتمييز، وإنما يعني أن محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ مسكون من الجن !!.
    والأنبياء اقتربوا من الجنون دون الوقوع فيه.
    والوحي هجوم مباغت داخل الضمير.
    والاستلاب والامتلاك والاستحواذ مفردات غريبة يصف بها حالة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أثناء تَنزُّل الوحي عليه. والهلس والهلوسة - بنظره - تفسير صحيح للوحي في الغرب نادى به ماكس فيبر وهذا التفسير سينتشر يوماً بين المسلمين فيسبب لهم تشنجاً.

    ---------------------

    سؤال:
    يبدو التقارب بين نظرة كثير من المستشرقين إلى الوحي، ونظرة العلمانيين، ما رأيكم ؟

    نعم، وقد عبَّرتُ عن ذلك التقراب بالأنسنة والوحي الشعوري عند النسخة الاستشراقية والمُسخة العلمانية:
    وسبب التعبير هنا بكلمة (مُسخة)؛ لكي تفيد أنها نسخة مشوهة للخطاب الاستشراقي
    قال بعض المستشرقين إن الوحي المحمدي يمكن أن يكون شعوراً داخلياً، أو حالة نفسية وصلت إلى شعور محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من لا شعوره وإلى وعيه من لا وعيه. وهي فكـرة تقوم على أن اللبيدو – الطاقة النفسية أو الحيوية – تولِّد الوحي من اللاشعور، وأن هذا اللا شعور قد يكون اللاشعور الجمعي الذي تتراكم فيه الرغبات أو الطاقات ثم تتجمع في لا شعور فرد من أفراد المجتمع يقوم بالتعبير عن مجتمعه ككل.
    في الرؤية السابقة صحيح أن الوحي يبدأ من اللاشعور، ويفيض منه إلا أنه ينتقل إلى الشعور ويصبح واقعـة شعورية، وهو ما يعبر عنه حسن حنفي بقوله: "" والوحي ينبت في الشعور "" "" ويحدث كله في الشعور "".
    فهو كما هو مصرح ينبت نباتاً في الشعور، وينشأ نشوءاً في النفس الإنسانية وليس للإنزال أي حضور، وليس للوحي أي مصدر خارج الزمان والمكان "" ويكون العيب كل العيب في جعل الوحي مطلقاً خارج الزمان والمكان أو حرفاً في نص مدون ""، فالوحي ليس معطى من الله في لا زمان ولا مكان، بل هو تنزيل إلى البشر، وحلول في التاريخ.

    وهو على أربعة أنواع عند د. حسن حنفي:
    وحي مباشر من الله وهو الكتاب، ووحي تفصيلي من الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتوجيه من الله، ووحي جماعي من الأمة، فالأمة خليفة الله، ووحي فردي من العقل مستند إلى وحي الكتاب والسنة والجماعة. والأصلان الأولان – أي الكتاب والسنة - يدلان على الوحي المكتوب، والأخيران – أي الوحي الجماعي والعقلي - يدلان على الوحي الحي المستمر. ولأن الوحي لم ينزل دفعة واحدة بل حسب حاجات الناس فهو إذن ليس وحياً معطى، بل وحي مُنادَى به اقتضته أحوال الناس واحتياجاتهم.
    "" ونصوص الوحي ذاتها نشأت في الشعور، إما الشعور العام الشامل، وهو ذات الله [عز وجل] أو في الشعور المرسَل إليه وهو شعور الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو شعور المتلقي للرسالة وهو شعور الإنسان العادي الذي يشعر بأزمة فينادي على حل ثم يأتي الوحي مصدقاً لما طلب "".
    هذا هو مفهوم الوحي عند د.حسن حنفي لا يتجاوز كونه رد فعل انفعالي يشعر به أي إنسان حينما تواجهه مشكلة في حياته فيبحث لها عن حل، إنه إذن في متناول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستطيع أن يستدعيه في الوقت الذي يريد، ويصرفه عندما لا يريد، إنه شعور كسبي يصل إليه الإنسان عن طريق بعض الممارسات والمحاولات بل هو مجرد تبرير يُكسب تصرفات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الشرعية السياسية ليضمن استجابة الناس له.
    الوحي في كل ما سبق ليس نازلاً من الباري عز وجل وبمشيئةٍ منه سبحانه وتعالى، وإنما صادر من داخل الحياة الأرضية البشرية، وهو بهذا الشكل مفردة لا تتجاوز المنظور والخبرة الإنسانية لأنه:
    - مجموعة حلول قابلة للتعديل والتطوير، فالوحي ليس خارج الزمان بل في داخله ويتطور بتطوره.
    - معطى بشرياً إنسانياً وليس ربانياً.
    ولذلك يجب أن تُؤوّل نصوص الوحي التي تخالف اختياراتنا أو مصالحنا [ أو نزواتنا وأهوائنا ] فإذا لم تخضع للتأويل يجب تعطيلها إما عملاً بقاعدة النسخ التي شهدها العصر الإسلامي الأول وأقرها الأصوليون، وإما بتحـويل النصوص إلى عـالم المعـاني أي إلى أنساق من التصورات والتجريدات.
    الغاية الأساسية لحسن حنفي كما يصرح إذن هي ليست فهم الوحي والتفاعل معه، وإنما "" تحويل الوحي من علوم حضارية إلى إيديولوجيا "". لأنه لا يهمنا في الوحي مراد المُرسِل ومقاصده، فلا يهمنا البعد الرأسي في الوحي وإنما البعد الأفقي، لأن الوحي هدفه الإنسان، ومصلحه الإنسان وسعـادة الإنسان،"" فالإنسان هو اتجاه الوحي وموضوعه وهدفه وغايته ""،""وهـذا هو معنى أن الـوحي أنتروبولوجيا وليس ثيولوجيا أي علم إنسان وليس علم إله"".
    وعلى ذلك فلا يمكن أن ينقطع الوحي لأنه تعبير عن الطبيعة الإنسانية وهو مفهوم لا ينكر النبوة بل يعني استمرارها ودوامها عن "" طريق نزوع الطبيعة، فالطبيعة هي الوحي، والوحي هو الطبيعة وكل ما يميل إليه الإنسان بطبعه هو الوحي، وكل ما يتوجه به الوحي هو اتجاه في الطبيعة، الوحي والطبيعة شيء واحد، ولما كانت الطبيعة مستمرة فالوحي بهذا المعنى مستمر، والنبوة دائمة، ولكننا أنبياء يوحى إلينا من الطبيعة، وصوت الطبيعة هو صوت الله، والوحي الطبيعي هو أكبر رد فعل على الوحي الرأسي فهو وحي بلا معجزات ولا ملائكة ولا أنبياء "". وبذلك "" لا يكون الوحي مجرد واقعة حدثت في الماضي عدة مرات ثم توقفت تاركاً شأن البشرية سدى بل الوحي اسم يُطلق على النشاط الذهني للإنسان في كل زمان ومكان "".
    "" وهكذا يكاد الخطاب اليساري أن يُحوِّل الوحي إلى الطبيعة، ويرد الميتافيزيقي إلى الفيزيقي ويبلور فهماً تنويرياً للعقيدة والوحي، فهماً يجعل من كل إنجاز بشري عقلاني في مجال معرفة الطبيعة والواقع إضافة للوحي، واستمراراً له "".
    وهنا تبدو الدهرية المطلقة بصبغتها المادية، فالتنوير هو هذا الذي يطرحه د.حنفي حيث تصبح الطبيعة هي الإله، والوحي منها وإليها، والغيب يرتد إلى المادة والمحسوس والمشاهد، وبذلك لا ينقطع الوحي ولا ينتهي فهو مستمر ولا أدل على استمراره من الإنجازات البشرية المذهلة والمتواصلة، لأن الوحي اسم يطلق على النشاط الذهني للإنسان في زمان ومكان.
    هذا هو إذن الفهم التنويري العقلاني للوحي في الخطاب العلماني يبقي عليه مستمراً دائماً في كل عمليات التفكير أو الإبداع أو الابتداع البشرية، إنه ينبع من البشر من أجل البشر، ولا حاجة لمرسِل ولا لمرسَل إليه ولا لرسول، فهو واقعة إنسانية لا صلة لها بالدين، ويحدث بناء على اقتراحات الأفراد وأزماتهم ومطالبهم.
    هذه الرؤية الحسنفية للوحي القائمة على المنهج الشعوري "" الوحي تجربة في شعور الرسول الذي يشعر بأزمة "" والذي يحكم نظرتها إلى التراث ككل وليس إلى الوحي فقط هو بغض النظر عن كونه منهجاً مستعاراً من هوسرل كما يشير بعض الباحثين فإنه يؤدي إلى تفريغ الوحي من مضمونه، وإعادة شحنه بمضامين يختارها كل قارئ وكل مغرض فهو منهج "" في التعامل مع النصوص ينتهي في التحليل الأخير إلى التعامل معها بوصفها صوراً عامة فارغة قابلة للامتلاء بالمضمون الذي يفرضه المنهج، منهج الشعور الذاتي، وفي مثل هذا التصور لطبيعية النص تتساوى النصوص الدينية والنصوص الفكرية الكلامية "".

    --------------------------------------------

    سؤال:
    لماذا يُحاط الوحي القرآني بكل هذه (الإشكالات) المتوهمة في رأيكم ؟

    ممكن تلخيص سبب أشكلة مفهوم الوحي الحقيقي من أجل زحزحته:
    فتلك الرؤية الحسنفية - السابقة - لا تختلف عن الرؤية الأركونية للوحي وخصوصاً إذا علمنا أن الوحي المستقر في المفهوم الإسلامي بنظر أركون مفهوم أسطوري ثُبِّت نتيجة البلورة التاريخية الطويلة والتعليم والتلقين المتواصلين، مع أن ذلك رُفِض من معاصري محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ المشركين.
    وهو ما يجعل هاشم صالح - مترجم أركون - يعبر عن أسفه لأن العقل العلمي والفلسفي الحديث لم يحُلّ محل الوحي أو العقـل اللاهوتي في بلادنا الإسلامية في حين حصل هذا في الغرب، وهُجر مفهوم الوحي التقليدي من قِبل العقل العلمي.
    ومما يجعل تجاوز مفهوم الوحي التقليدي بنظر أركون صعباً هو أنه شديد الوضوح والبساطة مما يجعل " أشكلته " صعبة، وهو ما يعني أن أركون يريد أن يحوِّل الوضوح والبسااطة اللتين يتميز بهما الوحي في المفهوم التقليدي إلى غموض وتعقيد، وذلك لكي تتحول اللامشكلة إلى مشكلة في تصور الناس، والقصد من ذلك هو زحزحة المفهوم التقليدي الساذج للوحي وتجاوزه.
    هذا هو مفهوم " الأشكلة " الذي يطرحه أركون ويفسره هاشم صالح بأن الأشكلة وسيلة لتحقيق " الأرخنة " يعني أن نجعل البدهيات والثوابت مشكلة، لكي نتمكن من تجاوزها عن طريق طرح أفهام جديدة تزحزح الفهم السائد والمستقر.
    ----------------------------

    سؤال:
    ما هي الزحزحة التي ينجزها أركون وهل تختلف عما رآه حسن حنفي ؟

    ليس فيما يطرحه أركون إضافة على ما رأيناه عند حسن حنفي إلا في طريقة العرض والأداء والتي تسهم الترجمة أيضاً بدور في إبراز الإطار الذي تدور في فلكه، إنها الزحزحة من المفهوم الإسلامي للوحي، إلى المفهوم الوضعي الغربي المادي أو " الإنسي ".
    فـ "" الوحي ليس كلاماً معيارياً نازلاً من السماء من أجل إكراه البشر على تكرار نفس طقوس الطاعة والممارسة إلى ما لا نهاية، وإنما يقترح معنى للوجود، وهو معنى قابل للمراجعة والنقض بناء على وجود الناسخ والمنسوخ في القرآن، كما أنه قابل للتأويل داخل إطار الميثاق أو العهد المعقود بكل حرية بين الإنسان والله "" عز وجل.
    وإذا تأملنا في النص السابق نلاحظ أن:
    - الوحي هنا بكل صراحة ليس معيارياً، أي ليس له حق الحاكمية والإلزام، أقصى ما هنالك أنه مجرد نصائح يحق للإنسان قبولها أو رفضها أو تعديلها عن طريق النسخ، إنها مجرد اقتراحات، وبذلك تكون وظيفة الوحي أنه "" دينامو روحي يغذي الطموح المطلق والبحث عن الكمال، وليست وظيفته الضبط والتنظيم والتسويغ "".
    - ولكن يقال هنا: إن العهد المعقود بكل حرية بين الله والإنسان يُحمِّل الإنسان التزامات وواجبات قبِل أن يلتزم بها الإنسان نفسه فلماذا يراوغ لينقض العهد ويتحلل من مسؤلياته، ويتبرم بطقوس الطاعة والعبادة. إن الإنسان قبل التكليف مقابل الخلافة في الأرض فعليه أن يفي بالتزاماته.
    ولكن الخطاب العلماني يريد أن يعيد المفاوضات من جديد بينه وبين الخالق عز وجل ليقرر الإنسان بناء على نموه المعرفي ماذا يقبل وماذا يرفض من الوحي إذ "" الوحي يكون موجوداً كلما جاءت لغة جديدة لتعدل جذرياً نظرة الإنسان إلى وضعه إلى كينونته في العالم إلى علاقته بالتاريخ إلى نشاطه في إنتاج المعنى "". الإنسان هذه المرة هو الذي يريد أن يملي على الباري عز وجل ماذا يريد، هو الذي يسهم ويشترك في إنتاج المعنى، الوحي يصبح من الإنسان من الأسفل، والباري عز وجل عليه أن يبارك ويقبل.
    ومع أن نسخ الوحي المتلاحقة والرسالات المتتابعة لا تحمل تغييراً جذرياً - كما يزعم الخطاب المذكور - إلى الكون لأنها في الأصل نسخة واحدة من حيث القضايا الكونية والمصيرية المشتركة للإنسان، والتغيير لا يمس إلا التفاصيل التشريعية، وبعض الأحكام، إلا أن الخطاب العلماني يريد أن يبقى الباب مفتوحاً لتعديل العهد والميثاق، يريد أن تظل اتفاقيات السلام بينه وبين خالقه دائماً مفتوحة وفي نقطة الصفر، ودائماً قابلة للمراجعة والتغيير، وغير خاضعة للحسم والإلزام ليظل التنزيل متواصلاً من داخل الإنسان فـ "" التنزيل هو ورود هكذا يُكوِّن معنى غير معهود، يفتح إمكانات غير محدودة أو متواترة بدلالاتها على الوجود الإنساني، وردوده إلى الحيِّز الداخلي للإنسان إلى قلبه "".
    هذا الورود لا يمكن أن يُفهم منه أن الوحي هابط من الأعلى إلى الإنسان لأن هذا سيُخرج أشكالاً كثيرة من الوحي يقول أركون: "" إن تعريفنا للتنزيل له هذه المزية، ويجعله يفسح المجال لتعاليم بوذا وكونفوشيوس وحكماء إفريقيا وجميع الأصوات العظمى التي تحمل تجربة المجموعة البشرية الجماعية لتُسقطَها على مصـائر جديـدة، ولتغني التجـربة الإنسانية للألوهية "".
    في هذا النص السابق يلتقي كل من حنفي وأركون في اعتبار الوحي والألوهية كلتاهما تجربة بشرية إنسانية تخضعان لإرادة البشر ومطالبهم فالوحي "" تركيبة اجتماعية لغوية مُدعّمة من قبل العصبيات التاريخية المشتركة ""، "" وهذا هو معنى الوحي الذي يهبط كلما وجه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقرار منه المستقبل الروحي للجماعة "".
    ويلتقيان كذلك في اعتبار الوحي تجربة شعورية "" إن الوحي حدوث معنى جديد في الفضاء الداخلي للإنسان، القرآن يقول: في القلب، وهذا المعنى يفتح إمكانيات لا نهائية أو متواترة من المعاني بالنسبة إلى الوجود البشري "".
    وهكذا يصبح الوحي في النصوص السابقة شاملاً لكل خواطر الإنسان وهواجسه ومشاعره ما دامت تحدث في القلب الفضاء الداخلي للإنسان، وشاملاً لكل جهود المصلحين عبر التاريخ من بوذا إلى كونفوشيوس وربما أركون وحنفي، فالنبوة ليست بالضرورة أن تكون علاقة مخصوصة بالله عز وجل وليست بالضرورة ذات طابع ديني ففي الشعر نبوءة، وهذا شاعر كأدونيس يذهب إلى أنه نبي وثني، والقرآن شكل من أشكال النبوءة.
    وبذلك يصبح الـوحي في الخطـاب العلماني "" أوسع من أن يحصره معتقد أو تستنفده قراءة "" أي يتحول إلى مفهوم غائم مُشْكِل كما أراد الخطاب العلماني لكل إنسان الحق في أن يعبر عنه كما يشاء ويفهمه كما يريد، ويقرأه كما يحب، ويعتقده كما يحلو له.
    هذه الرؤية الأركونية تحظى بالقبول المطلق لدى تلاميذه المُستَلبين لظاهرة الحداثة، والمنبهرين بالجديد أياً كان مضمونه ومحتواه، وهو ما يعبر عنه أحد هؤلاء التلاميذ بقوله: "" هكذا وبهذا الفهم التاريخي والنقدي للوحي يكون أركون قد تجاوز الفهم السائد للوحي بما هو نص مكتوب مغلق ونهائي الدلالة، وهو بذلك يؤكد على فاعلية العقل في فهم ظاهرة الوحي، ويجعل من النص الديني مفتوحاً ولا نهائي الدلالة، ويُخرج النص من الفهم الضيق المنغلق اللاتاريخي الذي تكرسه الثقافة الرسمية عادة والمحافظة، نظراً لفراغها الداخلي معرفياً وعدم قدرتها على الإضافة النوعية التي تتطلبها شروط اللحظة التاريخية لتفاعل النص الديني مع الواقع تفاعلاً حوارياً إيجابياً، ومنتجاً حضارياً وثقافياً "".
    ويضيف التلميذ المخدَّر: "" هكذا نتبين مدى تاريخية القراءة الأركونية للنص القرآني باعتباره وحياً منزَّلاً من قبل الله، وبالتالي مدى علمية هذه القراءة باعتبارها قراءة مفتوحة، ونقدية، وليست قراءة منغلقة ودوغمائية نهائية وأبدية الدلالة "".
    في النصين السابقين تتسارع الأحكام الجزافية المطلقة التي لا تستند إلى دليل أو برهان كقوله: بأن الفهم السلفي السائد والمستقر للوحي هو فهم منغلق ونهائي الدلالة، وهو غير صحيح فالفهم السلفي ليس منغلق الدلالة، كما أنه ليس لا نهائي الدلالة، وإنما منضبط الدلالة، فلا بد لكل دلالة من دليل وضابط حتى لا يصبح العبث واللعب هو الغاية من القراءة.
    ولكن تتواتر الأوصاف الشاتمة والأحكام التسفيهية للفكر السلفي السائد والمستقر فهو فكر جامد، محافظ، ضيق، منغلق، لا تاريخي، فارغ معرفياً، غير قادر على الإضافة. أما الفكر الأركوني فيُحاط بهالة من التقديس والتمجيد فهو فكر تاريخي، نقدي، متفاعل مع الواقع، مفتوح على كل المعاني، قادر على الإضافة، علمي القراءة، كل ذلك لأنه تجاوز الفهم السائد والمستقر للوحي، فقد أصبح كل ما هو سائد ومستقر سُبَّة في منظور الحداثة والحداثيين. إنها الفاشية المعاصرة.

    --------------------------------

    سؤال:
    حدثنا باختصار عن خلاصة الموقف العلماني من الوحي.

    يمكننا الآن أن نوجز الموقف العلماني من الوحي بالعناصر التالية:
    - الوحي هجوم مباغت داخل الضمير، والجنون يمكن أن يعتبر أصلاً للوحي، والنبوة مطبوعة بشيء من العصاب.
    - الهلس والهلوسة تفسيرات صحيحة للوحي ستسود ذات يوم في الفكر الإسلامي.
    - الوحي يبدأ من اللاشعور، ثم يتحول إلى واقعة شعورية.
    - الوحي حدوث معنى في الفضاء الداخلي للإنسان.
    ومن الواضح أن هذه العناصر جميعاً ترد الوحي إلى الحيِّز الإنساني الوضعي، وتسعى جاهدة لجعل الوحي نابعاً من ذات الإنسان، وليس نازلاً عليها من المطلق المفارق "" إنه حالة استثنائية يغيب فيها الوعي، وتتعطل الملكات ليبرز المخزون المدفون في أعماق اللاوعي بقوة خارقة لا يقدر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على دفعها ولا تتحكم فيها إرادته "".
    إنه ليس واقعة خارجية منفصلة عن ذات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأن "" العلم الوضعي العقلاني لا يمكن له أن يقول بحقيقة تجلي كائن ميتافيزيقي كحقيقة موضوعية "". لماذا !؟ لأنه عندئذ "" عليه أن يعتبر أنه موجود فعلاً "" بينما الوحي "" ظاهرة دينية فحسب معطاة من التاريخ والعقلانيون لا يؤمنون بواقعيته الفعلية هذا شأن المؤمن وليس شأن العالم أو الفيلسوف "".
    ولأننا إذا اعترفنا بالوحي كما هو في المفهوم السلفي السائد المستقر فإن ذلك سيدفعنا إلى الاعتراف باستمرارية الإسلام وفاعليته من خلال القدوة النبوية "" ولكننا لا نستطيع العودة إلى النموذج النبوي لأننا أصبحنا نرى بوضوح تاريخيته واندماجه في الأنماط العابرة لإنتاج المعنى داخل التاريخ "".

    --------------------------

    سؤال:
    بعد كل الإشكالات المطروحة من الفكر العلماني حول الوحي، كيف ننقضها ؟

    في البداية: من حقنا أن نسأل هنا:
    هل حقق العلمانيون الزحزحة المرادة أم أنهم يجترُّون كل ما ردده فلاسفة الغرب ومستشرقوهم حول الوحي، وأن التجديد الذي يزعمون أنهم يمارسونه ليس أكثر من عملية نقـل أو سطو على ما هو شائع في الثقافة الغربية الوضعية وعرضه في الساحة الثقافية العربية والإسلامية على أنه إبداع أصيل ؟
    في الواقع لم يختلف الموقف العلماني عن الموقف الاستشراقي في هذا الصدد فلقد اتفق جل المستشرقين قديماً وحديثاً على أن الوحي لا يمكن أن يكون واقعة مستقلة عن كيان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونفسيته أو شعوره، وإن كانت اختلفت تعبيراتهم وصياغاتهم في ذلك فهو لدى بعضهم نوع من أنواع الصرع، ولدى آخرين نوع من أنواع الهوس، أو الهلوسة، أو الهذيان أو الاستبطان، أو الهستريا العصبية، أو الشعور الداخلي، أو التصوف العميق.
    والمتأمل في الرؤيتين الاستشراقية والعلمانية يجد أنهما انعكاس للفلسفة المادية الوضعية التي كرّسها فلاسفة النهضة الأوربيين منذ ديكارت وسبينوزا إلى فيورباخ وماركس، ثم فلسفة الحداثة المعاصرة. لقد قال سبينوزا: يختلف الوحي عند الأنبياء تبعاً لمزاجهم وبيآتهم واحوالهم، فالنبي الفرح توحي إليه الحوادثُ السلامَ، والانتصارتِ، والنبي الحزين توحي إليه الشرورَ، والهزائم، والأحزان. فكان الصدى من د.حسن حنفي: الوحي عبارة عن مواقف إنسانية زاخرة بالأمل والمعاناة والجهد والفرح والألم وتجارب النفاق، والخداع، إنه قلقٌ وضيقٌ، وأملٌ وألمٌ وتوجعٌ يحس به الفرد. وكان الصدى من أركون "" الأنبياء كالشعراء والكبار، و "" كالفنانين الكبار "". وكان الصدى من نصر حامد أبو زيد "" فإن الأنبياء والشعراء والعارفين قادرون دون غيرهم على استخدام فاعلية المخيلة في اليقظة والنوم على سواء، وليس معنى ذلك، التسوية بين هذه المستويات من حيث قدرة المخيلة وفاعليتها، فالنبي يأتي من دون شك في قمة الترتيب، يليه الصوفي العارف ثم يأتي الشاعر في نهاية الترتيب "".
    والآن يمكننا القول بأن الرؤى العلمانية والاستشراقية التي عرضناها حول الوحي لم تأت بجديد حول مفهوم الوحي أو الاعتراض عليه، وإنما هو تكرار لمواقف المشركين المُحتارة والمضطربة في معارضة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وإن كان ثمة جديد فهو الصياغات التي تُعرَض بها التفسيرات الحديثة:
    - فلقد قال المشركون شاعر، وقال المُحدَثون - مستشرقون وعلمانيون - شعور داخلي.
    - وقال المشركون: مجنون، وقال المُحدَثون: صرع أو هلوسة، أو هوس.
    - وقال المشركون: ساحر، وقال المُحدَثون: عبقري.
    - وقال المشركون: كاهن، وقال المحدَثون: مصلح اجتماعي أو قائد فريد.
    - وقال المشركون: أضغاث أحلام، وقال المحدثون: هذيان أو استبطان.
    - وقال المشركون: بل افتراه، وإنما يعلمه بشر، وقال المحدثون، تعلم من بحيرا، أو من أهل الكتاب.
    ثم تخلى كثير من المستشرقين عن افتراءاتهم. وسلموا بأن محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسمى من كل ذلك وأن واقعة الوحي أجل من كل ما عرضوه من تخمينات أو تخرصات، ولكن العلمانيين لأنهم جاؤوا متأخرين فإنهم يحتاجون إلى بعض الوقت ريثما تزول الغشاوة عن العيون، وتنكشف الحقائق من بين الظنون " كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ " [الرعد: 17].
    وهكذا بقي أن الوحي كلام الله عز وجل نزل به جبريل على قلب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليبلغه إلى الناس، والله عز وجل هو الخالق لهذا الكون بما فيه، وجبريل عليه السلام ملَك وخلْق من خلْق الله الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ومحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشر اختاره الله جل شأنه واصطفاه ليكون للناس بشيراً ونذيراً. فأين العجب في كل هذا ؟ وأين المحال ؟ ولماذا يكابر الناس ويجحدون ويتبرمون ؟


    حقيقة الوحي كما هيأه الله عز وجل وأراده، تنقض المقولات العلمانية:

    لقد فوجئ محمد صلى الله عليه وسلم وهو في غار حراء بجبريل أمامه يراه بعينيه – بعيني رأسه – وهو يقول له: إقرأ حتى يتبين أن ظاهرة الوحي ليست أمراً ذاتياً داخلياً مردُّه إلى حديث النفس المجرد، وإنما هي استقبال وتلق لحقيقة خارجية لا علاقة لها بالنفس، وداخل الذات، وضمَّه الملَك ثلاث مرات حتى بلغ منه الجهد، أي حتى ضاق به نفسه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائلاً في كل مرة: إقرأ، ليؤكد أن هذا الذي يراه ليس خيالاً أو شعوراً، وإنما هو حقيقة يُحس بها في ثنايا جسده، ويرى أثرها في أعضاء جسمه، ولقد داخله الخوف والرعب مما سمع ورأى حتى أنه قطع خلوته في الغار وأسرع عائداً إلى بيته يرجف فؤاده، لكي يتضح لكل مفكر عاقل أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن منتظراً رسالة أو متشوفاً أو متشوّقاً إليها، ولم تكن خاطرة له على بال، وإنما طرأت طروءاً مفاجئاً ومثيراً على حياته دون أي توقع، ولا شك أن هذا ليس شأن من يتدرج في التأمل والتفكير إلى أن تتكون في نفسه بطريقة الكشف التدريجي المستمر عقيدة يؤمن بالدعوة إليها.
    ثم إن شيئاً من حالات الإلهام أو حديث النفس، أو الإشراق الروحي أو التأملات العلوية لا يستدعي الخوف والرعب واصفرار اللون، كما أن الخوف والرعب ورجفان الجسم وتغير اللون كل ذلك من الانفعالات القسرية التي لا سبيل إلى اصطناعها والتمثيل بها، حتى لو فرضنا إمكان صدور المخادعة والتمثيل منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وفرضنا المستحيل من انقلاب طباعه المعروفة قبل البعثة من الصدق والأمانة إلى عكس ذلك تماماً.
    ويتجلى مزيد من صورة المفاجأة المخيفة لديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في توهمه بان هذا الذي رآه ووعظه وكلمه في الغار قد يكون طائفاً من الجن إذ قال لخديجة بعد أن أخبرها الخبر، " لقد خشيت على نفسي " ولكنها طمأنته بأنه ليس ممن يطولهم أذى الشياطين والجان لما فيه من الأخلاق الفاضلة، والخصال الحميدة، وقد كان الله عز وجل قادراً على أن يربط على قلب رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويطمئن نفسه بأن هذا الذي كلمه ليس إلا جبريلاً عليه السلام، ملك من الملائكة جاء ليخبره الخبر بأنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الناس، ولكن الحكمة الإلهية الباهرة اقتضت إظهار الانفصال التام بين شخصية محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل البعثة وشخصيته بعدها، وبيان أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يستبطن شيئاً من الرغبات والآمال، ولم يكتنز صنوفاً من المشاعر أو الأحزان، ثم بدأ يعبر عنها بشكل مفاجئ الآن.
    أما انقطاع الوحي بعد ذلك وتلبثه أشهراً أو أكثر على الخلاف المعروف فيه فينطوي على مثل المعجزة الإلهية الرائعة إذ في ذلك أبلغ الرد على الذين يفسرون الوحي بأنه إشراق نفسي، أو استبطان داخلي انبعث من أعماق ذاته نتيجة طول التأمل والتفكير.
    لقد شاء الله عز وجل أن يحجب عنه الملَك الذي رآه لأول مرة في غار حراء مدة طويلة وأن يستبد به القلق من أجل ذلك، ثم يتحول القلق لديه إلى خوف في نفسه من أن يكون الله عز وجل قد قلاه بعد أن أراد تشريفه بالوحي والرسالة لسوء قد صدر منه، حتى لقد ضاقت الدنيا عليه، وراحت تحدثه نفسه كلما وصل إلى ذروة جبل أن يلقي بنفسه منها، إلى أن رأى الملَك جبريل عليه السلام مرة أخرى.
    إن هذا الانتظار الحزين ثم ما تلاه من ابتهاج مفاجئ كانا في الواقع الظرفين النفسيين لتلك الحالة من الفيض العقلي لم تعد تخطر معه ظلال الريبة أو الشك. إن هذه الحالة التي مر بها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تجعل مجرد التفكير في كون الوحي إلهاماً نفسياً أو شعوراً داخلياً ضرباً من الجنون، إذ من البداهة بمكان أن صاحب الإلهامات النفسية والتأملات الفكرية لا يمر إلهامه أو تأمله بمثل هذه الأحوال.
    فلا يمكن للاختلاط أو الهلوسة أن تؤدي أصواتاً وأمراً: إقرأ، ثم ينتج عن ذلك قرآن مفهوم بكلام فصيح يُتلى على الناس فيبهر أسماعهم، وعقولهم، وممن ؟ من أمي لم يتعلم القراءة والكتابة ولم يحاولهما وتتواتر الآيات: " إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً " [المزمل: 5]. " وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى.. " [النجم:1] لكي تفرض الحقيقة العلوية للوحي نفسها فرضاً على العقل الوضعي، فكل ما يراه وما يسمعه وما يشعر به وما يفهمه يتفق الآن مع حقيقة واضحة تماماً في ذهنه جلية في عينيه هي: الحقيقة القرآنية. وسيتابع الوحي نزوله بسور القرآن سورة سورة، فتتزاحم في وعيه الحقائق التاريخية والكونية والاجتماعية التي لم يسبق أن سُجِّلت في صفحة معارفه بل حتى في معارف عصره واهتمامه.
    وكل ذلك يؤكد أن الوحي حقيقة خارجية منفصلة عن ذاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا خيار فيها، وإنما تفاجئه في أي وقت وبغير ميعاد، ويتفاعل معها جسمه وعقله وضميره ووجدانه ليؤدي الرسالة كما تصله، ويبلغها كما سمعها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
    والآن قس هذه الأحوال التي ترافق نزول الوحي على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع الاحتمالات التي قلّبها المُغرضون واقترحها المُرجفون فهل تستقيم مع واحد منها، وتأمل في تلك الحيرة التي لا تصدر إلا عن عازم على المكابرة والجحود، قاصد إغماض العين عن الحقيقة حتى لا تبهر عينه "" فانظر كم قلبوا من وجوه الرأي في هذه المسألة ؟ حتى أنهم لم يقفوا عند الحدود التي يمكن افتراضها في كلامٍ رصينٍ كالقرآن، وفي عقلٍ رصينٍ كعقل صاحبه، بل ذهبوا إلى أبعد الأحوال النفسية التي يمكن أن يصدر عنها كلام العقلاء والمجانين، إن ذلك لمن أوضح الأدلة على أنهم لم يكونوا يشيرون بهذا الوجه أو ذاك إلى تهمة محققة لها مثار في الخارج أو في اعتقادهم، وإنما أرادوا أن يُدلوا بكل الفروض والتقادير مُغضِين على ما فيها من محالٍ ونابٍ ونافرٍ ليثيروا بها غباراً من الأوهام في عيون المتطلعين إلى ضوء الحقيقة، وليلقوا بها أشواكاً من الشك في طريق السائرين إلى روض اليقين "".
    "" ولقد نعلم أنهم في قرارة أنفسهم غير مطمئنين إلى رأي صالح يرضونه من بين تلك الآراء، وأنهم كلما وضعوا يدهم على رأي منها وأرادوا أن ينسجوا منه للقرآن ثوباً وجدوه نابياً عنه في ذوقهم، غير صالح لأن يكون لبوساً له، فيفزعون من فورهم إلى تجربة رأيٍ ثان، فإذا هو ليس بأمثل قياساً مما رفضوه فيعمدون إلى تجربة ثالثة... وهكذا دواليك ما يستقرون على حالٍ من القلق، فإن شئت أن تطلع على هذه الصورة المضحكة من البلبلة الجدلية فاقرأ وصفها في القرآن " بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُون " [الأنبياء: 5]. فهذه الجملة القصيرة تمثل لك بما فيها من توالي حروف الإضراب مقدار ما أصابهم من الحيرة والاضطراب في رأيهم، وتريك من خلالها صورة شاهد الزور إذا شعـر بحرج موقفه كيف يتقلب ذات اليمين وذات الشمال، وكيف تتفرق به السبل في تصحيح ما يحاوله من محال "" " انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا " [الإسراء: 48].
    =-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=
    عودة إلى مصطلحاتهم

    سؤال:
    لننتقل إلى موضوع آخر: أرجو التكرم بإعادة توضيح أبرز مصطلحاتهم التأويلية التدويلية ( أقصد بكلمة تدويلية " ترويجية " ).


    يتـداول الخطـاب العلمـاني مصطلح الهرمينوطيقا، وأحياناً القراءة وأحياناً المقاربة وأحياناً التأويلية الحديثة وأحياناً التأويل وهي مصطلحات يُراد بها أحياناً معنى واحداً وأحياناً تختلف المعاني بحسب السياق الذي يُتحدَّث فيه.
    ويُستغَل مفهوم التأويل لكونه مفهوماً إسلامياً قرآنياً وتراثياً كمدخل إلى الهرمينوطيقا، وذلك من أجل قراءة النص قراءة جديدة أو معاصرة أو تنويرية أو غنوصية أو غير ذلك، ومن ثَم تصبح المعاني القرآنية المستقرة، والأصول الثابتة، والأفهام السلفية الراسخة والمعلومة من الدين بالضرورة والمجمَع عليها أفهاماً تاريخية خاضعة للتجديد والتغيير والمعاصَرة، لتحِل محلَّها معاني أكثر تطوراً وأكثر ملاءمة للعصر.

    - تعريف الهرمينوطيقا:

    "" الهرمينوطيقا هي فن كشف الخطاب في الأثر الأدبي "". كما "" تعني تقليدياً فن تأويل النصوص المقدسة الإلهية أو النصوص الدنيوية البشرية، وهي كذلك مساوية للتفسير أو للفلولوجيا بما هي تفسير حر في أو نحوي وصرفي لغوي لبيان معاني الألفاظ والجمل والنصوص، وهذا ما يعرف بالتفسير اللفظي "".
    وهـو مصطلح مستخدم في دوائر الدراسات اللاهـوتية ليشير إلى مجموعة القواعد والمعايير التي يجب أن يتبعها المفسر لفهم النص الديني.
    صحيح أن الهرمينوطيقا اتخذت بُعداً شاملاً يتعلق بكافة العلوم الإنسانية إلا أنها ارتبطت أخيراً بعلم النصوص، وأصبحت تعني الكشف عن الطرق والوسائل التي تمكِّن من فهم النص، ولذلك فهي أخص من السيميوطيقا التي تُعنى بالعلامات التي يبدعها البشر عموماً، وتسعى إلى تصنيفها وتحليلها، ولكنهما منهجان يراد منهما تطوير عملية القراءة. وهي كذلك تختلف عن التأويل في أن الأخير يبحث في الدلالة أما في الهرمينوطيقا فمحور البحث هو في آليات الفهم ولذلك يكون التركيز على القارئ فيها أما في التأويل فالتركيز يكون على القائل. كما سنرى.
    هذا هو المعنى التقليدي للهرمينوطيقا، ولكن مع تطور نظرية النسبية أصبحت الهرمينوطيقا تُعنى بفن الفهم، وهذا المعنى " فن الفهم " هو الذي سيؤسس له شلاير ماخر 1768 – 1834 م الذي يُعتبر أبا التأويلية الحديثة، وأصبح فن الفهم أو فن التأويل يتناول ليس النصوص المقـدسة فقـط بل تعـدى ذلك إلى النصوص البشرية ذات المضمون الطبيعي اليومي.
    ومعنى كونها تجاوزت الكتب المقدسة إلى الكلام البشري اليومي أنها أصبحت تُخضع كل شيء للتأويل، وتعتبر التأويل هو الأصل في الكلام، وبذلك تكون الهرمينوطيقا نمطاً من أنماط القراءة والتأويل للنصوص والتراثات الفكرية.
    وتنتهي القراءة في الهرمينوطيقا إلى أن تصبح مفهوماً يمثل تصوراً أو فهماً معيناً للعالم والإنسان والتراث، ويعكس فكر القارئ ومنهج تعامله مع النص كوجود تاريخي، وممارسة للوجود والكون في شروط إمكان زمكانية، وتغدو القراءة بذلك عملية تأويلية وتفسيرية للوجود والكون. "" إن البحث التاريخي في دلالة الهرمينوطيقا يجعلنا نعود إلى دلالة هذا المصطلح في أصله اللغوي إذ يعود في اللغة الإغريقية إلى فعل hermenuo الذي قد يعني traduireأي ترجم وexpliquer بمعنى فسِّر، و exprimer أي عبَّر وأفصَح وأبان، وبذلك تفيد الهرمينوطيقا معنى القراءة بما هي تفسير وتأويل أو شرح وكشف وبيان، أما داخل فضاء اللغة اللاتينية فإن المصادر والمراجع المعتمدة تفيد أن مصطلح الهرمينوطيقا لم يتشكل إلا في بداية العصر الحديث رغم أن فكرة فن أو نوع من التأويل موجودة منذ القدم "". وقد استخدم المصطلح على الأرجح لأول مرة في عنوان كتاب لدانهاور سنة 1654 م.

    ----------------

    - الهرمينوطيقا الخاصة:

    في مقابل الهرمينوطيقا العامة التي اهتمت بتفسير الوجود تقوم هرمينوطيقا خاصة تركز بالذات على تفسير النصوص، ومن أبرز ممثليها بول ريكور [ ولد سنة " 1913م ] الذي يُعوِّل كثيراً على التفسير الرمزي، وهو ما سيُعتَبر أساساً تقوم عليه الهرمينوطيقا، إذ يَعتبر ريكور الرمز وسيطاً شفافاً ينم عما وراءه من معنى، ومعنى ذلك أن يقول القائل شيئاً وهو يعني شيئاً آخر في آن واحد، وبغير أن تتعطل الدلالة الأولى وهو ما يسمى " بالوظيفة الأليغورية " للغة بالمعنى الحرفي للكلمة. وهذه الطريقة لجأ إليها بولتمان في تحطيمه للأسطورة الدينية في العهد القديم، والكشف عن المعاني العقلية التي تكشف عنها هذه الأساطير.
    وهناك طريقة أخرى يمثلها كل من فرويد وماركس ونيتشة كما يبين ريكورنفسه، وهي التعامل مع الرمز باعتباره حقيقة زائفة لا يجب الوثوق به، بل يجب إزالتها وصولاً إلى المعنى المختبئ وراءها، فالرمز في هذه الحالة لا يشف عن المعنى بل يخفيه ويطرح بدلاً منه معنى زائفاً، ومهمة التفسير هي إزالة المعنى الزائف السطحي وصولاً إلى المعنى الباطني الصحيح. لقد شكك فرويد في الوعي باعتباره مستوى سطحياً يخفي وراءه اللاوعي، وفسر كلٌّ من ماركس ونيتشة الحقيقة الظاهرة باعتبارها زائفة، ووضعا نسقاً من الفكـر يقضي عليها ويكشف عن زيفها.
    والرمزية الريكورية تقوم على الكشف والإبلاغ عندما تساعد في تفجير دلالات اللغة عوضاً عن انكفائها على ذاتها. وتعتمد على مفهوم العلامة عند سوسير باعتبارها ذات صلة وعلاقة مع غيرها من العلامات، وباعتبارها ذات إمكانات استدعائية عجيبة، وذات قدرة فريدة على تأويل بعضها البعض، وبكون العلامة قادرة على التعبير عن شيء دون أن تتعطل عن التعبير عن شيء آخر. وبذلك يعتبر ريكور رمزيته ظاهرة ملموسة للمعنى على مستوى الخطاب، موثقة على أرضية العمليات الأولية للعلامات، وبذلك تكتسب رمزيته - بنظره - قيَماً وظيفية، فلم يعد الاشتراك اللفظي ظاهرة انحراف في ذاته، ولا الرمزية زينة في اللغة.
    ويصل ريكور إلى أن القيمة الفلسفية للرمزية تكمن في كونها تعبر عن غموض الكينونة من خلال تعدد إشارية علاماتنا.
    هذه الرمزية تنتهي بريكور إلى تقرير النتائج التي يتفق عليها أغلب الهرمينوطيقيين فالنص بمجرد أن يُدوَّن كتابة يصبح مستقلاً عن قصد الكاتب، وتنفتح عندئذ إمكانيات التأويل المتعددة المفتوحة التي لا تختزلها أية رؤية، وتكون مهمة الهرمينوطيقا هي الكشف عن "" شئ النص غير المحدود "" لا عن نفسية المؤلف، لأن دلالة النص العميقة ليست هي ما أراد الكاتب قوله، بل ما يقوم عليه النص بما فيه إحالاته غير المعلنة. ولذلك يعلن ريكور: "" أحياناً يطيب لي أن أقول: إن قراءة كتاب ما هي النظر إلى مؤلفه كأنه قد مات … وبالفعل تصبح العلاقة مع الكتاب تامة وثابتة بشكل ما عندما يموت الكاتب "".
    ونصل الآن إلى هيرش الفيلسوف الأمريكي الذي حاول أن يُعيد الاعتبار للنص والمؤلف بعكس ما سبق أن قرر أسلافه الهرمينوطيقييين، ولكنه اتجه إلى التفرقة في النص بين المعنى والمغزى، فالنص الأدبي قد يختلف ولكن معناه ثابت، المغزى فقط هو المتغير من عصر إلى عصر، ولا يهمنـا في النص الأدبي ما يعنيه المؤلف أو ما كان يقصده، أو ما أراد أن يعبر عنه، إنما الذي يعنينا بحق هو المعنى كما يعبر عنه النص.
    ونحن إذا تأملنا في الفكرة الأساسية لدى أغلب الفلاسفة الذين عرضنا لهم آنفاً نتبين بوضوح أن الفكرة الأساسية الشائعة لديهم والمتفق عليها أن النص خاضع لأفق القارئ، ومدى قدرته على استنطاقه، ومدى قدرته على الاستدعاء من خلاله. إن مهمة القارئ مع النص هي أن يتمكن من إبداع نصوص إلى جانب النص الأصلي، ولا يهم أن تكون ذات صلة بمقاصد المؤلف الأول أو مراميه، المهم أن يتمكن القارئ من ربط استيحاءاته واستدعاءاته وإبداعاته بالنص بأي شكل من الأشكال، أو بأي رمز من الرموز أو بأي علامة من العلامات "" هذه الدائرة الهرمينوطيقية ستحول الثبات إلى حركة، نظراً لأن المعنى وقع استبداله بالفهم، هذا الفهم مرتبط بذات بشرية متحولة ومتغيرة، لذلك أصبح الفهم بحسب ما يريده القارئ، لا كما يريده المؤلف، لأن زمن التأليف غدا زمناً غائباً ينتمي إلى الماضي، بهذا لا يمكن الاستقرار على معنى، فهناك موت وانهدام للمعاني، وتخلُّق جديد لدلالات أخرى، ومن ثَّم فهذه الدائرة الهرمينوطيقية تجعلنا ندور في مجال لا نهائي ""، ونمتعض من افتراض معنى موجود سلفاً، لأن هذا المعنى سيكون ضد حركة الفكر.

    ---------------------

    - اللسانيات:
    اللسانيات فرع من علوم اللغة الحديثة أرسى قواعدها العالم السويسري فرديناند دي سوسير 1857 – 1913م وذلك في محاضراته التي أملاها على طلابه بين عامي 1907 – 1913م.
    غير أن ولادة هذا العلم لدى كثير من الباحثين الغربيين ترجع إلى مائة سنة قبل سوسير وذلك لدى الألماني فرانز بوب سنة 1791، 1867 م.
    وتطورت على أيدي عدد من الباحثين فيما بعد أمثال: بريس باران الذي كتب كتابه " أبحاث في طبيعة اللغة ووظائفها " سنة 1942م، وبول شوشار الذي كتب كتابه " اللغة والفكر " سنة 1956م وتشومسكي في كتابه " اللسانيات الديكارتية " و " الطبيعة الشكلية للغة " نشره سنة 1966 وغيرهم من أمثال رومان جاكبسون وآيميل بنفنيست.
    تقوم اللسانيات على اعتبار اللغة مجموعة مصطلحات أو علامات ارتضاها المجتمع حتى يتيح للأفراد أن يمارسوا قدرتهم على التخاطب يقول دي سوسير "" اللغة نتاج اجتماعي لملكة الكلام ومجموعة المواضعات التي يتبناها الكيان الاجتماعي ليمكن الأفراد من ممارسة هذه الملكة "". وتنشأ بين الكلمة والفكرة رابطة، أو تلازم نفسي يحدد اللسان باعتباره ظاهرة نفسية جماعية، ولذلك يُفترض بالتخاطب حتى يؤدي عمله أن يصل بين شخصين يملكان قدراً مشتركاً من الأفكار والألفاظ.
    ويميز سوسور بين اللسان والكلام، فاللسان هو مجموع الكلمات التي يملكها المجتمع والتي تُدوَّن في المعجم بينما الكلام هو ما يملكه الفرد من مصطلحات في ذاكرته أو قاموسه اللغوي.
    وأطلق سوسور على التصور الفكري للعلامة أو الإشارة اسم المدلول، وأطلق على الصورة السمعية لها اسم الدال، وهذان المفهومان متلازمان في كياننا النفسي، وهذا التلازم هو الذي يكوِّن الإشارة، وبذلك يكون الدال والمدلول مترابطان بالضرورة، فهما أشبه بصفحة من الورق يشكل المدلول وجهها الأمامي والدال وجهها الخلفي. ويتألف من الدال والمدلول ما يسمى بالدلالة التي يمكن تعريفها بأنها كيان يمكن أن يصير محسوساً ويشير بذاته بالنسبة لمجموع مستعمليه إلى أمر غائب.
    إن جوهر اللسانيات هو مفهوم العلامة التي تُعتَبر تشكُّلاً لا يستمد قيمته ودلالته من ذاته، وإنما يستمدها من طبيعة العلاقات القائمة بينه وبين سائر العلامات الأخرى، فهو دليل لا يدل في بدئه بمقومات رمزية، وإنما يكتسب دلالته باتفاق عارض يضفي عليه قيمة الرمز دون أن يحوله إلى رمز. ولذلك وصفت العلاقة بين الدال والمدلول بأنها علاقة اعتباطية ولكن العلامة لا بد أن تنطوي على القصد، إذ يقتضي دستورها الدلالي توفر النية في إبلاغ ما تفيـده، لأن العلامة إنما تدل بوضع هو اصطلاح متفق عليه تصريحاً أو مُسلَّم به ضمناً.
    فالعرف أو الاصطلاح هو الذي يُقر للعلامة بدلالتها لأنه ما من دال إلا وكان يمكن استبداله بدال آخر. فالقواعد أو المواضعات المنظمة والضابطة لمعنى القضايا اللسانية ترجع في أصلها إلى طبيعة اجتماعية أو إلى عرف الجمهور، ولذلك فقيام كل فرد بإنشاء لسان خاص لنفسه يقضي على ضرورة التواصل بين الناس، لأن اللسان ليس ملكاً مخصوصاً، والقواعد اللسانية هي قواعد مشتركة بين الجمهور.
    ولذلك حتى عندما تكون اللغة أو أي من الدلائل رمزاً، يجب أن تكون خاضعة لنظام بحيث يكون كل رمز يقابله معنى معين. ومن هنا فإن قواعد التواصل هي الاتفاقات التي يجب مراعاتها عند إرادة الوصول إلى الغرض والقصد والتواصل، وكل ذلك يكوِّن الخاصية اللسانية لتلك القواعد، وهي قضية بدهية لأننا نستخدم اللغة في إيصال أشياء مفرطة في التعقيد للآخرين. وهكذا فإن الاتفاق والتواطؤ والمواضعة الكائنة نتيجة الاستعمال هو طريق التواصل والقصدية، وهو الدال على نوايا المتكلمين.
    إن ما نريـد أن نصل إليه هنا هو أن اللسانيات علم من علوم اللغة يقوم على النحو ويستند إليه. ويمكن لهذا العلم أن يكون حيادياً ويقوم بدوره في خدمة البحث اللغوي، وإثراء عمليات الاستدلال، إلا أن الأمر لم يسر على هذا النحو من حيث الواقع، ولم يوفَّق هذا العلم لذلك والسبب – بنظري – في غاية الخطورة وهو أنه نشأ وارتبط بتاريخ فلسفي يموج بالشك والعدمية واللاأدرية، وانعكس عليه ذلك في الدراسات التطبيقية إن على مستوى الدراسات الغربية أو على مستوى الدراسات العربية، فالخلفيات الفكرانية هي التي توظف هذا العلم بطريقة تخدم توجهاتها وأغراضها.
    لقد أشرنا آنفاً إلى مكانة العلامة في اللسانيات السوسيرية، ونضيف هنا أن هذه العلامات تتكون بشكل اعتباطي كدوال على الأفكار. وهذه الفكرة - اعتباطية الإشارة - تقوم على التقاليد التجريبية التي كان ينادي بها جون لوك كما يرى آرت بيرمان، فلقد كان لوك يرى كما يرى سوسير أن أي صوت محدد يمكن استخدامه حتى تصبح الكلمة بشكل اعتباطي علامة على فكرة معينة، وهذه الرابطة التجريبية هي التي تُكسب اللسانيات السوسيرية سنداً علمياً.
    ولكن الارتباط الأكثر يبدو بين اللسانيات واشهر المذاهب الفلسفية التي مهدت لها مثل ظواهرية هيجل، ومادية وماركس، ووضعية أوجست كونت 1798 – 1857م، واجتماعية دوركايم 1858 – 1917م فلقد كرست هذه المذاهب مَنزَعَين هما الوعي بنواميس الصيرورة التاريخية، والثاني البحث عن القوانين المتحكمـة في نظام الظواهر عبر حركة التاريخ، وهما منزعان استوعبتهما العلوم اللغوية على أكمل وجه "" فما أفاض فيه اللغويون من دراسات النحو المقارن كشفاً للقرابات اللغوية، وتصنيفاً للألسنة البشرية بين أسر وفصائل، وإحكاماً لشجرة الأنساب عن طريق التدرج السُلالي بحثاً عن الأصل الأوحد المصفى، إنما كان امتثالاً أميناً لتصور مبدئي يخص علاقة الإنسان بالوجود والكون والطبيعة والتاريخ، مما طفت فقاقيعه على سطح الوعي الفلسفي والاجتماعي"" مرتبطاً "" بظواهرية هيجل، ومادية ماركس، ووضعية كونت واجتماعية دوركايم، وتطورية داروين "".
    وأبرز مظاهر الارتباط بين لسانيات سوسير والبيئة الفلسفية التي نشات فيها يمكن أن يظهر في العلامة، والعلامة اللغوية والرمزية بالذات، فلقد كانت الكلمة المفردة ممثلة لشيء محدد في الواقع الخارجي داخل رؤية جزئية، فأصبحت اللغة عبارة عن تراكيب وأنساق من مفردات لغوية ترمز لعمليات ذهنية في إطار رؤية سياقية. إنه تطور يعبر عن ابتعاد تدريجي عن الوضوح والشفافية الأولى التي كانت تتميز بها اللغة كما منحها الله عز وجل للبشر.
    لكن الأمر لم يقف عند حد الابتعاد عن الوضوح، وإنما تحول فيما بعد على يد شتراوس وياكبسون ورولان بارت وميشال فوكو إلى ألغاز وشفرات، وتطـور مفهـوم العلامة إلى رمزية معقدة لا يمكن أن تعني شيئاً، ولكنها يمكن أن تعني كل شيء. وهو ما نريد أن نخلص إليه في هذه الفقرة، وهو أن مفهوم العلامة في اللسانيات أتاح أو استُغل لكي يصبح أساساً تُبنى عليه النظريات اللغوية اللاحقة كالبنيوية والتفكيكية التي تقرأ في النص كل شيء وهو ما سيقرأ العلمانيون من خلاله النص القرآني.

    ---------------

    - البنيوية:
    "" جاء لفظ البنيوية من البنية، وهي كلمة تعني الكيفية التي شُيِّد عليها بناء ما، وبناء على ذلك أصبحت الكلمة تعني الكيفية التي تنتظم بها عناصر مجموعة ما، أي أنها تعني مجموعة العناصر المتماسكة فيما بينها بحيث يتوقف كل عنصر على باقي العناصر الأخرى، وبحيث يتحدد هذا العنصر بعلاقته بتلك العناصر، فالبنية هي مجموع العلاقات الداخلية الثابتة التي تميز مجموعة ما، بحيث تكون هناك أسبقية منطقية للكل على الأجزاء. وعلى هذا فالبنيوية تهتم بكشف الارتباطات القائمة بين البنيات المختلفة بعضها ببعض "".
    و"" تُعنى البنيـوية في معناها الواسع بدراسة ظواهر مختلفة كالمجتمعات والعقول واللغات والاداب والأساطير، فتنظر إلى كل ظاهرة من هذه الظواهر بوصفها نظاماً تاماً، أو كلا مترابطاً، أي بوصفها بنية، فتدرسها من حيث نسق ترابطها الداخلي لا من حيث تعاقبها وتطورها التاريخيين، كما تُعنى أيضاً بدراسة الكيفية التي تؤثر بها بُنى هذه الكيانات على طريقة قيامها بوظائفها. أما في معناها الضيق والمألوف فالبنيوية محاولة لإيجاد نموذج لكلٍّ من بنية هذه الظواهر ووظيفتها، على غرار النموذج البنيوي للغة، وهو النموذج الذي وضعته الألسنية في أوائل القرن العشرين... ويمثل كتاب فرديناند دو سوسور " محاضرات في الألسنية العامة " نسخة باكرة من النموذج البنيوي للغة، أما محاولات تطبيق هذا النموذج على الأدب فتعود إلى عام 1928م حين وضع كل من جاكوبسون وتينيانوف برنامجاً بهذا الخصوص وكانت تلك بداية البنيوية الأدبية "".
    نتبين مما سبق أن البنيوية اللغوية مرتبطة جنينياً باللسانيات لأنها أتاحت للوعي أن يكتشف خبايا اللغة الطبيعية، فاللغة هي الرحم الأولى لنشأة المعيار البنيوي، فهي على ذلك فرع من الألسنية. وعلى ذلك تعرف البنيوية الأدبية بأنها "" الكشف عن النسق أو النظام الكلي الذي يُفترض وجوده وانتماء النص اللغوي إليه، وذلك عن طريق دراسة الأنساق الصغرى "". ويعتبر رومان ياكبسون أول من نحت مصطلح بنيوية في مؤتمر عقد سنة 1929م. ولكن الأب الروحي للبنيوية والذي يعتبر من أشهر مؤسسيها هو الفرنسي كلود ليفي ستروس إلى جانب مفكريها المشهورين أيضاً أمثال لوي ألتوسير، وميشال فوكو، ورولان بارت.
    انعكست الفلسفة الماركسية على المفهوم البنيوي وذلك عبر مقولتها في البنية الفوقية والبنية التحتية، فالبنية الفوقية هي " الأيديولوجيا " والدين والسياسة والثقافة والقانون، أما البنية التحتية أو القاعدة فهي القوى الاقتصادية والاجتماعية والعلاقات المتغيرة بينهما من صراع طبقي مستمر بين قوى مسيطرة وقوى مقهورة، وفي ظل هذا المفهوم فإن مكونات البنية الفوقية لا يمكن دراستها بمعزل عن البنية التحتية التي تحددها وتحكم حركتها، ومن هنا فلا نستطيع أن نناقش الثقافة أو الأدب بمعزل عن القوى التي تحكم النظام الاجتماعي والاقتصادي، والظروف التي تقرر حياة البشر المادية وكما قال ماركس "" ليس وعي البشر هو الذي يحدد وجودهم، وإنما وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم "".

    ------------------

    - التفكيكية:
    لم تعمِّر البنيوية كثيراً فقد دُفنت في سنة 1966م بعد محاضرة جاك دريدا المشهورة في مؤتمر جونزهوبكنز والتي تعتبر أساس ما يعرف الآن بالتفكيك. هذا مع أن التفكيك يرتبط بهـايدغر في الأصل ولكن جـاك دريـدا هو الذي عممه بشكل سريع في الفكر الفرنسي المعاصر.
    التفكيك والبعض يطلق عليه التقويض هو المصطلح الذي أطلقه الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا على القراءة النقدية التي اتبعها في مهاجمته للفكر الغربي " الماورائي " منذ بداية هذا الفكر حتى يومنا هذا. والقراءة التفكيكية هي قراءة مزدوجة تسعى إلى دراسة النص أياً كان دراسة تقليدية أولاً لإثبات معانيه الصريحة، ثم تسعى إلى تقويض ما تصل إليه من نتائج في قراءة معاكسة تعتمد على ما ينطوي عليه النص من معان تتناقض مع ما يصرح به. ويمكن القول إن دريدا يسير على أثر كلٍّ من نيتشة وهايدغر في فلسفتهما العدمية والهدمية.
    لقد استطاع التفكيك أن يسهم في زعزعة المسلمات التقليدية الميتافيزيقية الغربية إلا أنه وصل إلى دوامة محيِّرة، إذ إن دريدا لم يطرح بديلاً عن هذه المسلمات بعد أن قوّضها، بل إن البديل نفسه كما يرى دريدا لا بد يتسم بسمات الميتافيزيقا لا محالة.
    لقد انبثق التفكيك على يد دريدا بعد قراءة لفلسفات أفلاطون وكانط وهيجل وروسو ونيتشة وهوسرل وهايدغر. ولكن يبدو أن أكثر الفلسفات تأثيراً في التفكيك هي الفلسفة النيتشوية حتى إن دريدا يجعل النص يتماهى مع نيتشة فيقول: "" إن مستقبل النص / نيتشة لم يقفل "" ذلك لأن النص قابل لأن تعاد كتابته وقراءته ضمن سياقات جديدة، وإن حقيقة النص لا تقتصر على إرادة مؤلفه، وإنما على إرادة قارئه. ولذلك فإذا كان هناك من يختزل فلسفة نيتشة كلها بكونها تقوم مبدأ " إرادة القوة "، فإن تفكيكيـة دريدا وهـايدغر يمكن أن تُختزَل بكونها إرادة الإرادة. وإذا كان نيتشة قام بتفكيك فكرة الحقيقة عن طريق جمهرة عاجَّة من الاستعارات، فإن دريدا يمارس ذلك أيضاً على مستوى النص والفلسفة عموماً بتحويلها أيضاً إلى استعارات وإيحاءات ورموز لا يمكن أن تعني شيئاً، وبذلك تكون التفكيكية قائمة على تلاعبات بلاغية نيتشوية بالألفاظ.
    من هنا يمكننا أن نؤكـد أيضاً أن التفكيك في الواقع لا ينفصل عن محيطه الفلسفي الذي نشأ فيه، ولا يمكن فصله عن الشك السائد في الفلسفة الغربية، إذ تنطلق استراتيجية التفكيك من موقف فلسفي مبدئي قائم على الشك، يمتزج هذا الشك بإحساس شديد باليأس والإحباط، وخصوصاً بعد فشل العلم في تحقيق السعادة والأمان والمعرفة اليقينية للإنسان، وذلك بعد إلقاء قنبلتين ذريتيين في الحرب العالمية الثانية، وارتبط ذلك أيضاً بإحساس جديد بالخديعة، تمخض ذلك عن تجربة الإنسان مع العلم والتكنولوجيا حيث لم يجن الإنسان بعد طول اعتداد بالعلم إلا الدمار والجهل المتفاقم.

  5. #20
    تاريخ التسجيل
    Sep 2004
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    1,886
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    التأويل


    سؤال:
    لماذا يعمد الخطاب العلماني إلى الإكثار من التأويل شديد التعسف ؟

    يُعوِّل الخطاب العلماني كثيراً على التأويل في قراءته للقرآن الكريم، لأن التأويل مفهوم قرآني يمكن الولوج منه بسهولة إلى الغايات التي يبحث عنها هذا الخطاب وتحت هذه المظلة يمارس هذا الخطاب آلياته في القراءة والتي لا صلة لها بالمفهوم القرآني مطلقاً.
    لقد قال هاملتون جب بصراحة: "".. لكن الأجيال الإسلامية المعاصرة تحتاج إلى أكثر من هذا القول، فيجب أن يُثبَت لها أن لا شيء في القرآن من التناقض ولا من الباطل... وأن الفكر العلمي أو الروائي التاريخي المعاصر لم يكتشف شيئاً يعارض سلطة القرآن وأوامره، لنصل بها إلى نتيجة لا نبلغها إلا إذا اعتمدنا على القول بأنه من كلام الله، وأنه لا يجوز الخوض فيه قليلاً أو كثيراً... فالمطلوب أساساً هو التأويل "". وعلى هذا الدرب يخطو الخطاب العلماني حين يقرر "".. ولهذا كان التأويل الطريق الملَكيُّ الذي انتهجه العقل العربي في طلب الحق، بل إنه في النهاية طريق كل عقل في تعامله مع النص وفي قراءته لتاريخه "".
    هكذا فالتأويل طريق ملكي، ثم إنه الطريق الوحيد لأنه طريق كل عقل، وفي طلب الحق أيضاً، ولكن التأويل عند الخطاب الآنف الذكر هو التحريف، والنسخ، والتزوير، والتقويل !! ربما يظن القارئ أنني أتجنى وأبالغ، ولكن لنقرأ النص التالي: "" مع أن مبرر كل مفكر جدير بلقبه أن يمارس التفكير بطريقة مغايرة للذين سبقوه إذا لم يشأ أن يكون مجرد شارح مبسط أو تابع مقلد، أو حارس مدافع عن العقيدة والحقيقة، والتفكير بصورة مغايرة يعني أن نُبدِّل وننسخ أو نُحرِّف ونُحوِّر أو نُزحزح ونُقلِّب أو نُنقِّب ونكشف أو نحفر ونُفكِّك، أو نُرمِّم ونُطعِّم، أو نُفسِّر ونُؤوِّل، فهذه وجوه للتفكير وللقراءة في النصوص لا أزعم أني أقوم بحصرها واستقصائها "". إنها جميعاً معاني وآليات ممكنة لقراءة النصوص والتفكير فيها ومن هنا نجد أركون "" منشغل منذ زمن بتأويل النص المقدس أو الذي قدسه تراكم الزمن ومرور القرون "".
    ربما يكون ذلك لأن التأويل بنظر الخطاب العلماني "" هو الصخرة العاتية التي تكسرت عليها وحدة الفكر الإسلامي"". وبالتالي يمكن لهذا الخطاب أن يُسهم بدوره في تكسير هذه الوحدة "" إن التأويل إحياء لثقافتنا، بل لا إحياء دون تأويل، التأويل هو طريقنا إلى الحياة "". وذلك لأنه عن طريقه يتم اختراق النص بأفق اجتهادي تجديدي، وإقامة توازن بينه وبين الـواقع المتغير.
    هذا هو - إذن - الباعث الذي يدفع الخطاب العلماني للدفاع عن مفهوم التأويل ووضْعه في موضع المظلوم والمُدان في تراثنا وثقافتنا، فالفكرة الشائعة – بنظره - في تراثنا تُعلي من قيمة التفسير، وتغض من قيمة التأويل، وتتقبل الأول وترفض الثاني وتصمه بأنه ضلال وزيغ.
    حصل هذا – بنظره - في مرحلة متأخرة وخصوصاً على أيدي الأشاعرة، ولذلك فالعودة إلى التأويل عودة إلى الأصل، لأن السلف - وفيهم الطبري ومن قبْله - كانوا يستخدمون التفسير والتأويل بمعنى واحد، ولأن كلمة تفسير وردت مرة واحدة في القرآن، وكلمة تأويل وردت سبع عشرة مرة، مما يدل على أن التأويل أكثر لزوماً وضرورة من التفسير.
    كما أن كلمة تفسير في أصل استخدامها تعني الواضح البين، وهي بهذا المعنى لا تعكس المعنى المقصود من حركة الذهن المعرفية إزاء موضوع المعرفة وهو المعنى الذي تدل عليه كلمة تأويل. التفسير يرمي فقط إلى الكشف عن مراد قائل النص ومعنى الخطاب وهو ما لا يكتفي به الخطاب العلماني، لأنه يطمح إلى أكثر من ذلك، إلى انتهاك النص عن طريق التأويل، لأن التأويل صرفٌ للفظ إلى معنى يحتمله. بل يطمح إلى أكثر من ذلك، إلى التفكيك الذي يقْطع الصلة بين النص وقائله وبين المعنى واحتمالاته.
    هذا هو التأويل في المفهوم العلماني من حيث المبدأ وهو يبدو لنا جلياً من خلال الأسس التي يقوم عليها.

    -----------------------------------

    سؤال:
    ما هي الأسس والمنطلقات للتأويل في الخطاب العلماني العربي " التأويل المنفلت المتعسف " ؟

    أبرز أسسهم:
    1 – الأصل في الكلام التأويل:
    كل كلام يُتأول لأننا نتعامل مع لغة بشرية نسبية، فالتأويل لازم من لوازم اللغة، وهو صفة ملازمة لكل خطاب دون تفريق بين النص الواضح، النص " النص " في المصطلح الأصولي، وبين المجمل أو المبهم أو المتشابه. ودون تفريق أيضاً بين العقائد والأمور المعلومة من الدين بالضرورة والمجمع عليها، وبين غيرها مما هو خاضع للاجتهاد والرأي. "" ومن ثم فالتأويل ضرورة للنص، ولا يوجد نص إلا ويمكن تأويله من أجل إيجاد الواقع الخاص به... حتى النصوص الجلية الواضحة التي لا تحتاج في فهمها إلى تأويل... حتى هذه النصوص لفهمها حدساً تحتاج إلى مضمون معاصر يكون أساس الحدس ""
    وعلى ذلك يُعتبر أي شرح وأي تفسير نوعاً من التأويل لأن فيه اختياراً بين الألفاظ والكلمات، وترجيحاً بين الآراء وهذا كله يعكس موقف الباحث، فلا بد - بنظر الخطاب العلماني - من ملازمة التأويل لذاتية المفسر. لأن فهم النص لا يبدأ من قراءة النص وإنما يبدأ من خلفية القارئ وثقافته والدوال المكونة لهذه الثقافة وآفاقه المعرفية وبين النص.
    والقرآن على ذلك كله متشابه وفيه دلالات محتملة لا تحصى، وتتيح للكل أن ينطقوا باسمه. وعلى ذلك لا يوجد نص مُحكم أو بالتعبير الأصولي " نصٌّ نص " يدل بمنطوقه على مفهومه دلالة مباشرة ولا يحتمل إلا وجهاً واحداً، وإن وُجد فهو نادر جداً، لأن طبيعة اللغة تعتمد على التجريد والتعميم في دلالتها، ""وهذا من شأنه أن يجعل إنتاج الدلالة في اللغة بشكل عام وفي النصوص الممتازة بشكل خاص لا يفارق جدلية النص / القارئ. إن تحديد المعنى المرجوح من المعنى الراجح في الظاهر أو المؤول تحديد مرهون بأفق القارئ وعقله "".
    إن النص المحكم - بنظر الخطاب العلماني - الذي لا يحتمل إلا دلالة واحدة لا وجود له في الأرض، قد يكون موجوداً السماء، وليكن أما أهل الأرض فيريدون النص المتشابه المتعدد الاحتمالات الذي يلبي حاجات الواقع في كل تغيراته وتطوراته، لأن النص المحكم ذو البعد الواحد الذي يكون أُحادي التصور نص إمبريالي دكتاتوري، أما النص المتشابه المراوغ فهو النص الثري الذي يستجيب لإمكانيات القراءة المتعددة.
    إن قوة النص في حجبه ومخاتلته لا في إفصاحه وبيانه، في اشتباهه والتباسه، لا في إحكامه وأحكامه، فالنص ليس نصاً على المراد بقدر ما هو حيِّز لممارسة آلياته المختلفة في الحجب والخداع والتحوير، والكبت والاستبعاد، وهذا شأن كلمة الحقيقة ذاتها فهي تُخفي بالضبط ما تشير إليه.
    ولشدة وقع الكلام الآنف الذكر قد يظن القارئ المسلم أن هذا الكلام بما أنه صادر عن مسلمين لا يمكن أن يكون القرآن داخلاً فيه، أي لعل المقصود هو النصوص الأدبية وغيرها من
    نصوص البشر ؟ ولكن الحقيقة أن الخطاب المذكور يصرح بأنه لا يفرق بين النص القرآني وغيره من نصوص البشر "" فالنصوص جميعها سواء "" والقرآن ليس بمنأى عن ذلك ولا عبرة بكلام مفسري القرآن التقليديين.

    2 - لا توجد قراءة بريئة:

    هذا منطلق الخطاب العلماني لأن أي تأويل بنظره لابد من أن يستر وراءه بواعث أو غايات " أيديولوجية " فالقراءة لا يمكن أن تكون حيادية على ذلك لأنها تستند إلى ثقافة القارئ ومكوناته الفكرية والعلمية. وإن القول بقراءة بريئة أو خطاب برئ على صعيد الفكر الإسلامي يمثل خطلاً معرفياً لا بد أن يتحدر من موقع " إيديولوجي " وهمي إيهامي.
    ومن هنا ذهب الخطاب العلماني يردد في مواطن كثيرة هذه الكلمة التي قالها آلتوسير وهي أنه لا توجد قراءة بريئة.

    3 - ليس للنصوص معاني ثابتة أو دلالات ذاتية:

    فلا توجد عناصر جوهرية ثابتة للنصوص، بل لكل قراءة بالمعنى التاريخي، الاجتماعي جوهرها الذي تكشفه في النص، وليس للألفاظ أي دلالة ذاتية، فالنص لا يحمل في ذاته دلالة جاهزة ونهائية، بل هو فضاء دلالي، وإمكان تأويلي.
    والقراءة لا تخرج من مأزقها إلا إذا توقفنا عن النظر إلى النص بوصفه أُحادي المعنى، وإلى القراءة بوصفها تتطابق مع النص، لأن أحادية المعنى خداع على المستوى المعرفي، وأحادية المعنى تعني حقاً إمبريالية النص، ولذلك فالنص الذي ينص على الحقيقة ينتهي بانتهائها، ولكن النص لا يقول الحقيقة. إن النص صورة، بلا مضمون وروح بلا جسد، والقـراءة هي التي تعطيه المعنى، لأنه عمل إنساني خالص منذ تدوينه الأول حتى قراءته الأخيرة، ولا يحتوي على معنى موضوعي، والقراءة هي التي تحيله إلى معنى، النص عمل إيديولوجي صرف. ولا يمكن الوصول إلى المعنى الحقيقي الموضوعي للنص، والقصد الإلهي منه، لأنه لا وجود لهذا المعنى فالمعنى متغير من عصر إلى عصر.

    4 - تأنسن النص القرآني:

    إن القرآن الكريم في منظور الخطاب العلماني كما أسلفنا لا يفلت من هذه القراءة النسبية المفتوحة فهو "" ما إن انتقل من فضائه الإلهي إلى الفضاء الإنساني حتى أخذ يعيش حالة من التشظي الدلالي المعنمي [!!] عبر البشر الفرادى والمجتمعين المتشظين وفق مواقعهم المجتمعية [!!] والمعرفية الأيديولوجية "".
    فمنذ أن نزل القرآن إلى البشر أصبح نصاً تاريخياً لأنه تحول من كتاب تنزيل إلى كتاب تأويل فأصبح كتاباً بشرياً "" تاريخياً واجتماعياً وتراثياً "". إن كتاب التنزيل أطلق كتاب التأويل وأحدث معه نمطاً من القطيعة الإبستمولوجية النسبية وتحول "" النص منذ لحظة نزوله الأولى - أي مع قراءة النبي له لحظة الوحي - تحول من كونه نصاً إلهياً، وصار فهماً " نصاً إنسانياً " لأنه تحول من التنزيل إلى التأويل. إن فهم النبي للنص يمثل أولى مراحل حركة النص في تفاعله بالعقل البشري "" لقد " تأنسن " النص..
    فالنص تدوين لروح العصر من خلال تجارب فردية وجماعية في مواقف معينة متعددة متباينة فهو عمل إنساني خالص لأنه يتحدث بلغة إنسانية نسبية، فالوحي على ذلك تأنسن عندما تحول عبر الرسول إلى كلمة إنسانية "" إن النصوص الدينية... تأنست منذ تجسدت في التاريخ واللغة وتوجهت بمنطوقها ومدلولها إلى البشر في واقع تاريخي محدد، إنها محكومة بجدلية الثبات والتغير، فالنصوص ثابتة في المنطوق متغيرة في المفهوم "".

    5 - النسبية:

    ما دام القرآن تأنس فليس من حق أحد من البشر في منظور الخطاب العلماني أن يُقرر معنىً نهائياً للقرآن، لأنه عندئذ سيضع نفسه وصياً على الناس بوصاية إلهية.
    حتى على مستوى العقائد لا يمكن لأحد من الناس أن يتكلم باسم الله لأنه سيجعل من نفسه نائباً عن الإله، ومن هنا فليس من حق أحد أن يفرض تصوراً معيناً لله، لأن الله بعيد عن المنال، بعيد عن التصور، ولا يمكن للبشر أن يصلوا إليه بشكل مباشر، وإنما يقدمون عنه تصورات مختلفة بحسب المجتمعات والعصور، ثم يتخيلون أن هذه الصورة هي الله ذاته، إن البشر لا يمكنهم أن يتوصلوا إلى الله إلا عن طريق وساطة بشرية هي اللغة، وهي لغة نسبية خاضعة للتأويل، ولذلك على المسلمين أن يُعيدوا النظر في العلاقة القديمة بين الإنسان والله، كما فعل نيتشة، عليهم أن يقوموا بتأويل التصور الموروث عن العصور الوسطى، لأن هذا التصور مرعب مخيف يشل حركة الإنسان.
    وعندما أعلن نيتشة عن موت الله فهو يعني موت تصور معين لله، ذلك التصور كان ينبغي أن يموت لأنه تصور مظلم قمعي، ليحل محله تصور أكثر محبة ورحمة وغفراناً. ويمكن القول إن التصور الحديث يتجلى بالأمل، والخلود، والحرية والعدالة، هذا هو الله بالنسبة للتصور الحديث والعالم الحديث.
    هذا هو التأويل العلماني لقضية الألوهية - أهم قضية يتحدث عنها القرآن الكريم - فليس من الضروري أن تظل كما فهمها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحابته والتابعون، لأن تصورهم لله تصور قروسطي، قمعي، مظلم، عنيف، مرعب "" إذ لا شك أن أي مؤمن وأي شاك ستطيب نفسه إن تمَكَّن من تفسير الحكمة الإلهية في إهلاك شعب مقابل ناقة تلدها صخرة، كما لا جدال أن إيجاد تفسير معقول لإفناء قوم نوح في ضوء المعقول الآني الذي يفرض حرية الاعتقاد سيكون مريحاً لكثير من النفوس الحيرى والقلقة "".
    ومن هنا فإن القرآن بنظر الخطاب العلماني ليس له ثوابت، بل هو مجموعة من المتغيرات يَقرأ كل عصر فيه نفسه، وهو قابل لكل ما يُراد منه، وهكذا وُظِّف في التاريخ، ولا توجد قراءات صحيحة وأخرى خاطئة، فالقراءات كلها صحيحة، والخطأ هو قراءة المعاصرين للقرآن بمنظور غير عصري. ولذلك فمن "" السخف الحقيقي الذي نأباه على أنفسنا أن نحدد أخيراً المعنى الحقيقي للقرآن ""، فليس للقرآن معنى محدد نهائي إنه "" يقول كل شيءٍ دون أن يقول شيئاً "". إنه مفتوح على جميع المعاني، إنه كون من العلامات والرموز، ويمكن أن يتسع حتى لتأويلات المخالفين للإسلام، ويتكيف مع كل الاتجاهات والأغراض، لأنه من حق غير المسلمين الذين يعيشون في المجتمع الإسلامي أن يفسروا القرآن بما يوافق ثقافاتهم ومعتقداتهم، ولذلك جاء النص مجملاً عاماً كلياً لأنه رحمة للعالمين وهداية للناس،
    ومن يتمسك بفهم خاص يعتبره هو الفهم الصحيح بإطلاق يخرج من مظلة الرحمة الإلهية، ذلك أن القرآن الكريم - بنظر الخطاب العلماني – "" لا ينُص على الحقيقة، لأن الخطاب الذي يكون مجرد نص على الحقيقة ينتهي بانتهاء الوقائع التي هي إجراءات للحقيقة... النص لا يقول الحقيقة بل يفتح علاقة مع الحقيقة "".
    ولذلك فالتأويل يعني أن الحقيقة لم تُقَل مرة واحدة، وأن كل تأويل هو إعادة تَأَوُّل، ولا مانع أن يأتي التأويل بالمتناقضات، وكلما كان النص عصيِّاً عل الفهم كلما أمكن توظيفه بشكل أكثر والنص القرآني قادر على توليد مختلف القراءات والتأويلات حتى التعارض والشقاق
    6 - لا نهائية المعنى:

    مضمون هذه الفقرة في الواقع لا يختلف عن مضمون الفقرة السابقة، ولكننا أفردناها مستقلة فقط للتأكيد على أن النسبية التي يتحدث عنها الخطاب العلماني تؤدي إلى هذه النتيجة " الهرمينوطيقية ".
    فما دام القرآن كما رأينا لا ينص على الحقيقة، ولا يقول شيئاً ويقول كل شيءٍ فإن المعاني فيه لا نهائية ولا تقف عند حد "" والذين يسعون لإرجاع نص حر غير منتظم تتفجر منه آلاف المعاني... إلى عرض منهجي خطي إنما يقعون في تناقض لغوي سمج، فلا يمكن نقل الكلام ذي البنية الأسطورية إلى مجرد كلام دال بدون إفقار قصي لجملة معقدة من المفاهيم "" ولذلك فلا يحق لأي تفسير أن يُغلق القرآن، لأن النصوص تُنتِج دائماً دلالات جديدة مفتوحة مطردة،والركون إلى التفسير الحرفي موت للنص. ولذلك يجب أن يكون التأويل بلا حدود حيث تصل الكلمة إلى مرحلة التحرير، تحرير الكلمة وإطلاق قيدها لتصل إلى درجة الصفر درجة اللامعنى، أي درجة كل الاحتمالات الممكنة، فالكلمة حرة مطلقة من كل ما يُقيِّدها، وبذلك فهي لا تعني شيئاً، وهي قادرة في نفس الوقت على أن تعني كل شيء.

    7 - الفراغات أو ما بين السطور:

    لا يثق الخطاب العلماني بالنص القرآني، لماذا ؟ بسبب قوته وممارسته للحجب والاستبعاد لهذا قالوا: "" نحن لا نثق بالنصوص كل الثقة، ليس لأنها تتصف بالضعف والركاكة، بل بالعكس بسبب من قوتها بالذات... ذلك أن الكلام القوي يمارس سلطته في الحجب والمنع والاستبعاد … يصدق هذا على كل النصوص التي تحتمل التأويل وبنوع خاص على النصوص الشعرية والنبوية والفلسفية "".
    ولأنه خطاب مثله مثل غيره في كونه إنتاجاً معرفياً ضمن منتوجات أخرى خاضع لإكراهات اللغة، بالإضافة إلى كون النص القرآني - بنظر الخطاب العلماني - ذا بنية أسطورية فإنه يمارس آليات الحجب والطمس والتحوير والتحويل.
    ولذلك على القارئ - بنظر الخطاب العلماني - أن لا يُعنى ""بما ينطق به الخطاب بقدر ما يُعنى بما يسكت عنه ويحجبه من بداهات ومصادرات "". لأن "" مهمة الفهم هي السعي لكشف الغامض والمستتر من خلال الواضح المكشوف، اكتشاف ما لم يقله النص من خلال ما يقوله بالفعل "" لأن ""الكلام مخادع مخاتل، والنص عمل متشابه مراوغ...فهو يلعب من وراء الذات "" "" وإذا كان النص لا يقول الحقيقة بل يخلق حقيقته فلا ينبغي التعامل مع النصوص بما تقول وتنص عليه، أو بما تعلنه وتصرح به، بل بما تسكت عنه ولا تقوله، بما تخفيه وتستبعده""."" يجب أن نبحث في النص عما لم يقله المؤلف، فنجد فيه عكس ما يصرح به"" "" فالنص يحتاج إلى عين ترى فيه ما لم يره المؤلف، وما لم يخطر له "". ""مهمة القارئ الناقد أن لا يؤخذ بما يقوله النص، مهمته أن يتحرر من سلطة النص لكي يقرأ ما لا يقوله "" "" إن نقد النص هو قراءة ما لم يقرأ "" وذلك حتى نعثر على معنى المعنى، فنتحرر من سلطة النصوص، ونكف عن التعامل معها وكأنها أو ثان تعبد.
    هذه هي إذن المعاصرة التي يتوخاها الخطاب العلماني في قراءة النص، فلكي يكون النص معاصراً لنا علينا أن نضفي عليه ما نريده نحن، ونُقوِّله ما لم يقل.

    8 - التأويل إنتاج للنص:

    التفسير والشرح للنص في منظور الخطاب العلماني خُدعة، لأن الشرح يحل محل النص، ويعيد إنتاج النص، فهو نص جديد، لأنه لا ترادف في اللغة ولا اشتراك. إن القارئ يخلق النص، فهو خلاق آخر يواكب خلاق النص حيث "" يصبح القارئ مؤلفاً كما كان المؤلف قارئاً، ويتحول العمل الفردي إلى عمل جماعي، النص إذن إبداع مستمر، وخلق جماعي، لا فرق بين تأليفه وقراءاته، بين وضعه وانتحاله، بين فهمه وشرحه"".
    فالقراءة للنص هي عملية إكمال من خلال التراكم المعرفي، تتم في الزمانين الوجودي والتاريخي من خلال شعور الفرد والجماعة وتراكم الخبرات فيهما معاً، وبعد كل تراكم معرفي يأخذ النص أبعاداً جديدة لم تكن مقروءة فيه من قبل، ولا تكون موجودة في النواة الأولى للنص، وهذا هو معنى إنزال القرآن على سبعة أحرف أي على مستويات تفسير النص طبقاً لأعماق الشعور، وطبقاً لتراكم المعرفة من عصر إلى عصر، فالآيات ليس لها حقيقة معينة إلا ما في شعور الإنسان، وقراءتها لا تحتاج إلا إلى خبرة القارئ الشخصية واليومية التي يكتسبها من خلال تجربته ومعايشته للحياة والواقع.
    وهكذا في منظور الخطاب العلماني فإن الشرح " الفرع " ينسخ الأصل، أي أن النص الشارح ينسخ النص المشروح، فالمؤلف الذي يؤلف كتاباً لكي ينقذك من ضلالك يصبح كلامه أولى من الكلام الإلهي، وهذا شأن كل خطاب يدور حول النبوة والله والأصول، إنه يعمل للحلول محل النصوص التي سبقته بدءاً من النص القرآني حتى آخر كلام قيل حوله، لأنه من المستحيل حصول تطابق دلالي بين خطاب التفسير، والنص المراد تفسيره.
    وبذلك تتحول علاقة القارئ بالنص إلى علاقة ناسخ بمنسوخ، لأن القراءة للنص ليست استهلاكاً، وإنما إعادة إنتاج وإعادة كتابة له، وعليه فلا سبيل إلى إيجاد قراءة موضوعية لأي نص، وستظل القراءة تجربة شخصيته، ويظل إنتاج الدلالة فعلاً مشتركاً بين القارئ والنص، ويظل النص متجدداً بتعدد القراء من جهة، وباختلاف الظروف من جهة أخرى.

    9 - الرمزية:

    الإنسان في الخطاب العلماني "" يحيا بالرمز وفي الرمز وللرمز "". ومن هنا يلح هذا الخطاب على جعل القرآن الكريم مجموعة رموز أو مجازات لكي يستطيع أن يرمز بها لما يريد، ويضمنها بما يرغب، فالرمزية تُتيح للقارئ حرية أوسع في تقويل النص، وعليه فالقرآن - بنظر الخطاب العلماني - كالأناجيل ليس إلا "" مجازات عالية تتكلم عن الوضع البشري، إن هذه المجازات لا يمكن أن تكون قانوناً واضحاً "". ولغة القرآن بنظر هذا الخطاب نادراً ما تكون تصريحية، وإنما هي تلميحية في معظم الأحيان ولذلك فإنها قابلة للتعميم على الأحوال المختلفة.
    ومن هنا يستدل الخطاب العلماني بأحاديث منسوبة إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل "" لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوهاً كثيرة "". وأيضاً "" القرآن نزل على وجوه كثيرة فخذوا بوجهه الحسن أو الأحسن "". يقولون ذلك من أجل أن يقبل القرآن التعددية القرائية ويقبل عملية التشظي إلى ما لا نهاية أي"" قابليته لأن يعني باستمرار "". "" لو لم نتخذ هذا الموقف التعددي منهجياً لكنا طمسنا إحدى خصائص القرآن الأساسية ألا وهي قابليته لأن يعني، أي لأن يعطي معنى باستمرار ويولد هذا المعنى "" أي "" قابليته لتوليد المعنى وللإيحاء...هذه الفكرة الغالية جداً على رولان بارت "".

    10- التناص:

    ويعنون بذلك أن القرآن الكريم أسهمت في تشكيله نصوص سابقة عليه كالتوراة والإنجيل والشعر الجاهلي والسجع وغير ذلك. وهو ما حاول أن يؤسس له من خلفية ماركسية نصر حامد أبو زيد.
    هذه هي الأسس التأويلية التي تتم قراءة القرآن الكريم من خلالها وهي أسس هرمينوطيقية كما سيتضح لنا فيما بعد لا صلة لها بمفهوم التأويل في الإسلام ولكن لابد من الإشارة إلى أن هذه التأويلية العلمانية المفتوحة تستند في قراءتها للنص القرآني على بعض المفاهيم الأصولية والصوفية وذلك لتقويل القرآن بكل ما يرغب به قراؤه ومن ثم تكريس تاريخيته ونسبيته ومن هذه المفاهيم: - الكلية والإجمالية التي تبدو في القرآن " المجمل في أصول الفقه ".
    - المحكم والمتشابه.
    - الظاهر والباطن.
    - القراءات والأحرف السبعة. وهو ما يسميه طيب تيزيني "" اختراق النص متـنياً "".
    -العموم والخصوص.
    هذه بنظر الخطاب العلماني مداخل كبرى لجعل النص مرناً مطواعاً لكل التأويلات والتفسيرات والاجتهادات.

  6. #21
    تاريخ التسجيل
    Sep 2004
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    1,886
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    حتمية العلمانية



    سؤال:
    هل ستعم العلمانية العالم بشكل لا مفر منه، أي هل العلمانية حتمية ؟

    0000000000

    أولاً: ماذا يقول العلمانيون ؟

    العلمانية عند هذه الثلة من المفكرين ليست خياراً إيديولوجياً بقدر ما هي واقع تاريخي موضوعي في آن، وهذا يعني أنها ظاهرة حتمية لا مرد لها، أو ظاهرة طبيعية كالزلزال والبراكين، وهي واقعة لا محالة، لأن الغرب هو السائق والقطار تحرك، ولذلك ينصحنا دعاتهـا أن نكف عن المقـاومـة والمواجهـة لأن هـذا لن ينفعنـا ولن يجدينا شيئاً فالتيـار جارف.
    ولكن السؤال: لماذا هذه الوثوقية المطلقة في تأكيد حتمية العلمانية، ولماذا هذه المصادرة على التاريخ والمستقبل ؟
    الإجابة: من منظور علماني تتمثل في كون الدراسات الأوربية والأمريكية المتطورة اعتبرت العلمانية واقعاً مُسلَّماً به ولا يختلف في ذلك اثنان، واعتبرت العلمانية أمراً محسوماً أو يكاد.!! وما دامت – أمريكا – قالت فقد صدقت !!!.
    أما نحن فلا نزال نسمع نداءات تعتبر العلمانية أمراً مدسوساً، ولا يزال الحديث عن العلمانية في واقعنا العربي يجلب التهم بالوقوع تحت هيمنة الغزو الغربي، ويغلب على الكتابات الإسلامية المنطق العدائي، والأفكار المتشنجة، ومعالجـات يغلب عليها الخطاب الاحتفـالي ويلاحظ ذلك فيما يكتبه أنور الجندي، وعماد الدين خليل، ومحمد مهدي شمس الدين ومحسن الميلي، هذا " النوع من المفكرين الإسلامـويين " !! الذين يستبطنـون مواقف " أيديولوجية " عن العلمانية.
    ولكي يدعم الفكر العلماني رؤيته في حتمية الظاهرة العلمانية يبحث في الواقع الاجتماعي عما يؤكد ذلك:
    لقد قال قاسم أمين قبل مائة سنة: "" وكل ناظر في أحوال هيئتنا الاجتماعية الحاضرة يجد فيها ما يدل على أن النساء عندنا قطعن دور الاستعباد، ولم يبق بينهن وبين الحرية إلا حجاب رقيق إذ يرى:
    - شعوراً جديداً عند المصريين بالحاجة إلى تربية بناتهم بعد أن كن جاهلات.
    - انزواء ظاهرة الحجاب وتلاشيها شيئاً فشيئاً.
    - تراجع الشبان عن الزواج على الطريقة التقليدية وتأففهم من الفصل بينهم وبين مخطوباتهم.
    - اهتمام الحكومة وبعض أبناء البلاد وفي مقدمتهم صاحب الفضيلة الشيخ محمد عبده بإصلاح المحاكم الشرعية "".
    وعبر طـه حسين عن أثر العلمانية في الحياة المصرية عندما قال: "" حياتنا المادية أوربية خالصة في الطبقات الراقية وهي في الطبقات الأخرى تختلف قرباً وبعداً من الحياة الأوربية باختلاف قدرة الأفراد والجماعات..."".
    هكذا وصف دعاة العلمانية الحال في الربع الأول من القرن العشرين فما حالها عند دعاتها اليوم ؟
    "" العلمنة تكتسح اليوم تحت غطاء ديني وشعارات دينية كل أرض الإسلام ولا أحد يعلم ذلك "" والأمارات الدالة على العلمانية في حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بينة أكثر من أي وقت مضى مثل تولي المحاكم المدنية لزمام القضاء، وإزاحة المحاكم الشرعية عن مركز الصدارة وتهميشها.
    وتعلْمَن الزمان باستخدام التقويم الشمسي بدلاً من التقويم القمري المرتبط بالشعائر والطقوس، وتَعلْمَن المكان بحيث أصبح الاعتبار للوطن والقومية بدلاً من الدين، وتَعلْمَنت المعرفة عندما استندت إلى الطبيعة والتاريخ بدلاً من الكتب المقدسة كمرجعيات، وتعلمنت السلطة السياسية عندما اعتَبر الدستور المشاركة الشعبية بدلاً من الاستخلاف في الأرض.
    حصل هذا لدينا عندما استبدلنا المحاميين والقضاة والأساتذة المدنيين بالشيوخ والفقهاء وقضاة الشرع، والمكاتب الرشدية بالمدارس الشرعية والكتاتيب، ثم بالمدارس والجامعات، وعندما اعتمدنا أسساً لمعارفنا العقلية العلوم الطبيعية والتاريخية والجغرافية بدلاً من الركون إلى المعرفة بالجن والعفاريت والزقوم ويأجوج ومأجوج، وموقع جبل قاف !!، والتداوي بالرقي والطلاسم والأسماء الحسنى.
    حصل هذا عندما أقمنا نُظُماً قضائية تتناسب وحياة العصر وسنن الرقي، بإلغاء أحكام الردة في الدولة العثمانية في عام 1858م وقبول شهادة الذميين في السنة نفسها، واعتبار المسلم غير العثماني بحكم الأجنبي، وإلغاء الجزية، وتجنيد الأقبـاط في الجيش المصـري ابتـداء من عام 1855 م.
    كما يتضح الاكتساح العلماني لمجتمعاتنا فيما نلاحظه من شيوع النماذج الغربية في وسائل الإعلام، والمبادلات التجارية، والمواصلات، والسياحة، وكل المظاهر المادية، ويتبع ذلك كثيراً من القيم الجديدة، وبروز الخلل واضحاً بين الاستمساك بالأنماط التقليدية في شؤون الحياة والعيش، وبين ما نلاحظه من إقبال على التغرب بكل أشكاله الملازمة لحياتنا.
    ولعل أهم المرتكزات التي تؤكد اجتياح العلمنة لحياتنا هو انقراض المدرسة القرآنية التقليدية التي كانت قائمةً في المساجد، وظهور نظام التعليم الغربي، بدلاً من نظام التعليم العتيق في الكتاتيب والمدارس القرآنية والجوامع.
    كل هذا يؤكد – في المنظور العلماني - أن مسار العلمنة يفعل فعله في المجتمعات الإسلامية كأعمق ما يكون الفعل، وأن العلمنة ما فتئت تغزو المجتمعات العربية في العمق، وبصفة ثابتة لا رجعة فيها على المدى الطويل، المدى الوحيد الذي تعترف به الحضارة. كما يؤكد "" أن الإسلام قد فقد بعدُ قسماً كبيراً من قيمة تفسيره للكون، وهو من جهة أخرى في هذا المستوى يعيش نفس المشاكل التي تعيشها سائر الديانات التي أصبح اعتناقها ينزع شيئاً فشيئاً إلى أن يكون اختياراً قلقاً "".

    000000000000000000

    ثانياً: كيف ننقض مقولاتهم ؟

    بغض النظر عن اللهجة العدوانية والاستفزازية التي يتحدث بها عزيز العظمة والتي تفتقر إلى أدنى مقومات المنطق العلمي والمحاكمة العقلية، فإن ما يشير إليه هو وعبد المجيد الشرفي من مظاهر يؤكدون بها حتمية العلمنة وسيرورتها التي لا مفر منها - كما يزعمون - ليست اختياراً ديمقراطياً للأمة، ولم تقبله الأمة في أي يـوم من الأيام، وكانت كل هذه المظاهر التي يتحدثون عنها مرفوضة، ولا تزال مـرفوضة لدى الغالبية الساحقة من أبناء هذه الأمة.
    إن إلغاء المحاكم الشرعية والكتاتيب وإلغاء تطبيق الشريعة الإسلامية، وإلغاء التقويم الهجري، وفرْض النظم والقوانين الغربية الوضعية وغير ذلك من المظاهر فُرض على هذه الأمة بالحديد والنار، وبالقتل والإبادة، والتعذيب والإرهاب من شرذمة من الحكام المستبدين الذين يمارسون كل ذلك تحت مباركة الاستعمار الغربي وتحالف " العلمانية الفاشية ".
    إن الأمة لو أتيح لها الآن الاختيار - بعد كل سنوات العلمنة - لاختارت إسلامها وشريعتها دون تردد وإن أبرز مثال على ذلك حالة تركيا التي مُورست فيها العلمانية الفاشية بأبشع صورها على يد أتاتورك وأتباعه ولكن ماذا حصدت العلمانية ؟
    يجيب على ذلك باحث تركي فيقول: "" ومع كل هذا - جهود العلمانية – فإن أهم سمة تلفت الانتباه في سلوك الأتراك هي أن رسوخ العقيدة الدينية وعمقها لم تتغيرا، وما زالا يفعلان فعلهما في مجموعات واسعة من الشعب التركي [ بعد عقود طويلة من سياسة العلمنة ]، ومع ذلك أيضاً لا يزال العلمانيون الأتراك يعتبرون ذلك انتصاراً للظلامية على العلم "".
    وما يزعمه الشرفي من انقراض الكتاتيب والمدارس القرآنية كعلامة على الاكتساح العلماني قد ينطبق على البيئة التي يعيش فيها هو، والمحيط الذي ينتمي إليه، ولكن هذا لا يعني أكثر من أنه هو وأمثاله يعيشون في أبراجٍ عاجية بعيدين عن سواد الأمة، فالمساجد لا تزال عامرة بالقرآن في كل بقاع العالم الإسلامي، والمدارس القرآنية في العطلة الصيفية تنشط في كافة الأوساط الإسلامية.
    إن ما أريد أن أقوله هنا: إن العلمانية في البلاد الإسلامية ظاهرة موجودة لا يمكن إنكارها، ولكنها لم تشكل في الإسلام إلا قشرة رقيقة جداً لا تلبث طويلاً حتى تيبس ثم تتساقط متناثرة، إنها لم تنفذ ولن تنفذ أبداً إلى جوهر الإسلام وحقيقته، لأن الإسلام بطبيعته يستعصي على العلمنة، وقد أثبت خلال القرنين الماضيين أنه ليس كالمسيحية في الرضوخ للعلمنة، ذلك لأن ثوابته ومرتكزاته لا تقبل العبث مهما جهد العابثون، والسبب هو أنها قائمة على معجزة خالدة رَسَمت حدود هذه الثوابت والمرتكزات رسماً واضحاً لا لبس فيه فجاءت " كمثل المحجة البيضاء ليلها كنهارها " وستظل دائماً شاهدة على زيف المزيفين، وإرجاف المرجفين.
    ولكن مع هذا فإن المشكلات التي نجمت عن مسار العلمنة وإن لم تمس جوهر الإسلام ولكنها أحدثت اضطراباً في أوساط المسلمين وفرقة في صفوفهم، وأبرز هذه المخاطر هو استيلاء التقليد والتغرب على عقول ثلة من النخبة المفكرة، حتى أصبحت هذه العقول في تبعية فكرية وحضارية تهدد مستقبل الأمة الحضاري.
    إن شهادة التاريخ تثبت أن المسيحية الأولى كانت ضد العلمنة بصورة أكيدة وصريحة، وقد استمر ذلك عبر التاريخ حتى دخلت المسيحية في صراع مع العلمنة، كانت المسيحية هي الخاسرة، لقد حاولت المسيحية عبر القرون أن تقاوم ولكنها أخفقت، ومكمن الخطورة أنها عندما أخفقت أخذ منظروها المحدَثون يدعون المسيحيين إلى الانخراط في التيار، وتطوير المسيحية.
    ""إن جذور العلمنة لا تكمن في عقائد الكتاب المقدس بل في تأويلات الإنسان الغربي لها، إنها ليست ثمرة الإنجيل، بل هي ثمرة للتاريخ الطويل للصراع الفلسفي والميتافيزيقي بين رؤيتين كليتين للوجـود يصدر عنهما الإنسان الغربي واحـدة دينية والأخـرى عقلانية خالصة "" "" وقد انفردت المسيحية وحدها من دون أديان العالم الكبرى جميعاً بأنها قد حولت مركز ظهورها من القـدس إلى روما علامة على بداية تغريبها ""، وكان ذلك مؤشراً على بداية تعلمُنها، وقد ظلت المسيحية تُعدّل في معتقداتها وتتنازل عن ثوابتها، وتنقح الكتاب المقدس عبر المجامع المختلفة حتى انهارت قداستها وفقدت قيمتها كمرجعية أخلاقية دينية للإنسان الغربي.
    أما الإسلام فتاريخ صراعه مع العلمنة عبر قرنين من الزمان يثبت أنها لم تؤثر فيه إلا على الشكل وقد بقي الجوهر والمضمون في غاية النقاء، وهذا الجوهر يشد الأمة دائماً إليه فتعيد صياغة نفسها شكلاً ومضموناً. ويمكن القول إن الجوهر والمضمون في الإسلام مثله مثل الراية التي تُرفع في المعركة فيظل الجنود ينجذبون إليها ويتراصُّون حولها، ويعيدون تنظيم أنفسهم لجولة جديدة من النزال.
    إن استعصاء الإسلام على العلمنة أمرٌ أدهش باحثي علم الاجتماع فالعالم الإنجليزي " إرنست جيلنر " يقول: "" إن النظرية الاجتماعية التي تقول: إن المجتمع الصناعي والعلمي الحديث يُقوِّض الإيمان الديني - مقولة العلمنة - صالحة على العموم، لكن عالم الإسلام استثناء مدهش وتام جداً من هذا !! إنه لم تتم أي علمنة في عالم الإسلام، إن سيطرة الإسلام على المؤمنين به قوية، وهي أقوى مما كانت من مائة سنة مضت، إن الإسلام مقاوم للعلمنة في ظل مختلف النظم الراديكالية والتقليدية والتي تقف بين النوعين... والإصلاح الذاتي استجابة لدواعي الحداثة في عالم الإسلام يمكن أن يتم باسم الإيمان المحلي، وليس على حساب الإيمان "".

    ---------------

    سؤال:
    صحيح أن المسيحية مانعت العلمانية في البداية، لكنها سرعان ما استسلمت لها، يعني بعبارة أخرى: لمَ كانت ممانعة المسيحية للعلمانية أدنى من مستوى ممانعة الإسلام ؟

    لبيان العوامل التي أسهمت في انخراط المسيحية في تيار العلمنة، واستعصاء الإسلام على ذلك يمكن ملاحظة ما يلي:
    أولاً: صورة الله عز وجل وعنايته بالكون: إنها في الفكر الأرسطي الذي تبنته المسيحية صورة تساعد على العلمنة فالله مجرد خالق للعالم، لا علاقة له بتدبيره ورعايته. إن العالم كالساعة، ووظيفة الله أن يُشغّل هذه الساعة ثم يجلس بلا عمل [ سبحانه وتعالى ] وقد أكد الفلك الكوبرنيقي هذه الصورة، وأضاف إلى ذلك أن أزاح الإنسان عن المركز. وقد أفضنا في ذلك في الفصل الأول.
    ثانياً: المقاصد الدنيوية اللاأخلاقية للقانون الروماني القائم على المنفعة المحضة دون نظر لأي اعتبارات دينية أو ماورائية. إن هذا القانون السائد في دولة ديانتها المسيحية أسهم في إخضاعها للتيار عندما أصبح جارفاً.
    ثالثاً: الفصل في المسيحية بين ما لقيصر وما لله أعطى المبرر للعلمنة السياسية أولاً، ثم القانونية، ثم الأخلاقية.
    رابعاً: عقيدة الصلب التي جعلت موت الإله ممكناً في الفكر المسيحي، فما دام الابن قد مات وهو إله، فلماذا لا يموت الأب أيضاً. ولمْ ينتظر الغرب طويلاً فقد أعلن نيتشه عن موته. سبحانه وتعالى.
    خامساً: الثنائية الحادة والمتناقضة في تاريخ العلاقة بين لاهوتيين لا عقول لهم يمثلون الكنيسة، وعلماء طبيعيين لا أرواح ولا قلوب لهم يمثلون الدنيوية والمادية. ولا ننسى هنا الانفصام الشديد بين أخلاق الزهد والضعف والاستكانة التي تكرسها المسيحية، وبين الواقع الذي كان يعيشه الرهبان والبابوات من بذخ وفساد وترف، مما أفقد المسيحية الواقعية القابلة لإمكانية التطبيق.

    ------------------------------

    سؤال:
    لماذا يستعصي الإسلام على العلمنة ؟

    إذا ما قورنت عوامل استسلام المسيحية للعلمانية بما يقابلها في الإسلام وجدنا:
    أولاً: الله عز وجل – في الإسلام - ليس خالقاً عاطلاً عن العمل إنه - سبحانه وتعالى - خالق ومدبر " أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ " [الأعراف: 54] بل إنه قيوم السماوات والأرض، أي إن استمرار قيام الكون بإرادته عز وجل " إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا " [فاطر: 41] وهو ما كرسه الأشاعرة في نظرية الخلق المستمر. إن الله عز وجل إذا قطع إمداده للكون بالوجود تلاشى بما فيه.
    ثانياً: علاقة الدين بالدنيا قائمة على الوصل وليس الفصل، فالدنيا خادمة للدين، وهي مزرعة الآخرة، وهي دار العبور، ولا بد من التزود منها " وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ " ولكن الآخرة هي المراد والمقصد " وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ... " [القصص: 77].
    ثالثاً: الأخلاق في الإسلام واقعية لا تُحلِّق في المثالية، ومن شاء أن يسمو إلى المثالية فهو وذاك. إن المراد في الإسلام هو العدل، أما الإحسان فهو لمن أراد أن يتجاوز الحدود البشرية ويقترب من الملائكية، فالإسلام لا يمنعه بل يبارك له جهاده " وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ " [العنكبوت: 69]، ولن يضيع الله عز وجل عمله " وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ " [البقرة: 143] وسيكافئه على ذلك " فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه " [الزلزلة: 7]. ولكن النزول عن مرتبة العدل إلى الظلم هو المرفوض.
    رابعاً: ليس هناك مقابلة بين العقل والنقل في الإسلام، إن ما يقابل العقل هو الجنون، إننا نقرأ النقل بالعقل ونفهمه به، والنقل هو القائد والهادي والمرشد.
    خامساً: الوضوح: فالعقائد في الإسلام واضحة لا لبس فيها ولا غموض ولا رموز ولا أسرار ولا تعقيدات، أما في المسيحية فالعقائد غير مفهومة مبنية على الغموض والرموز ولذلك يقولون لك " آمن ثم أفهم " أما في الإسلام " إفهم ثم آمن " " وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسؤولاً " [الإسراء: 36].

  7. #22
    تاريخ التسجيل
    Sep 2004
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    1,886
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    الكاتب : عبد الرحيم

    إخوتي بهذا تنتهي المقابلة مع الأخ الفاضل الدكتور أحمد الطعان..

    ونفتح باب الأسئلة للإخوة في هذا الملتقى...

    وأرجو من الأخ أحمد الطعان الإجابة عن السؤالين التاليين:

    1. كيف تردون على المستدلين بالتاريخ في عدم صلاحية أحكام القرآن الكريم للتطبيق.

    2. ما هي أخبث وأخطر مذاهب العلمانيين على القرآن الكريم.

    وشكراً

  8. #23
    تاريخ التسجيل
    Sep 2004
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    1,886
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    الكاتب : احمد الطعان


    بسم الله الرحمن الرحيم
    أخي الفاضل الأستاذ عبد الرحيم أشكرك على ثقتك وبارك الله في جهودك
    أما فيما يتعلق بالاستدلال العلماني بالتاريخ فيكتنفه مغالطات :
    - أولاً : أن التاريخ نُقل إلينا بغثه وثمينه والخطاب العلماني اعتاد على البحث في القمامة ولذلك فهو لا يرى في تاريخنا الوجه المشرق ولا يرى فيه إلا اللحظات المظلمة .
    - ثانياً : على العلمانيين أن يأتونا بأزمة تاريخية أو حضارية أوقعنا فيها القرآن الكريم وليس انفصام المسلمين عنه .
    - لماذا نتجاهل أن تاريخنا في أصله ومعظمه تاريخ مشرف والحالات البائسة حالات استثنائية لا يمكن اعتبارها معياراً للصلاح أو عدمه في تاريخ الأمم .
    - إن وجود مذاهب متعددة ومختلفة في الإسلام لهو دليل ناصع على التعددية الفكرية والمساحة الواسعة المتاحة للاختلاف وهذا ما أنتجه الهدي القرآني في الأمة .

    وأما فيما يتعلق بأخبث مذاهب العلمانيين :

    فكلهم خبثاء لأنهم إما باحثون عن الشهرة أو عن أهوائهم وملذاتهم وكل ذلك على حساب الحقيقة .
    والمخدوعون منهم سرعان ما يكتشفون العبث ويعودون إلى الجادة القويمة .
    ومع ذلك يمكن القول إن أكثرهم دهاء ومكراً هم المؤولة أو بعبارة أصح المقوّلة وهم الذين يمارسون هدم الدين من داخله وبأدوات تبدو للناظر الساذج مشروعة ... إنه الهدم والتفكيك كما صرح كثير منهم عن طريق التأويل المنفلت ، فهم لا يظهرون التنكر للدين والرفض له وإنما القبول ومن ثم محاولة اللعب . تماماً كما فعل بولس بالمسيحية وكما حاول أن يفعل ابن سبأ لكن الله عز وجل حفظ هذه الأمة بحفظه لكتابها المبارك .
    والله أعلم .

  9. افتراضي أشكرك ..

    أخي الكريم حازم أشكرك جداً على اهتمامك وأسأل الله عز وجل أن يبارك في جهودك والحقيقة أنا أقل من أن أحظى بهذا منك ولا أملك إلا أن أقول لك جزااااااااااااااك الله خيراً ، وزوّجك بكراً ،[ إياك أن تقرأ هذا زوجتك فتدعو علي ] وأطعمك طيراً طبعاً من طير الجنة خالية من الفلونزا إن شاء الله عز وجل .
    "" قُلْ يَاعِباديَ الذينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم ""
    أكاديمية الدعوة والبحث العلمي :
    http://acscia.totalh.com/vb/
    دعوة للمشاركة والتفاعل .

  10. افتراضي الثقافة والدين ....

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة بيجاد
    ما قولكم في مصطلح الثقافة ومن ينتسب اليها ويسمي من المثقفين ؟
    الأخ الكريم بيجاد السلام عليكم ورحمة الله وبعد : لقد تأخرت في ردي عليك فأرجو المعذرة وقد نقلت لك بعض النصوص من كتاب لباحث غربي اهتم بهذه الفكرة خصيصاً :

    الثقافة
    سأنقل لك مقتطفات من كتاب : ت.س . إليوت // ملاحظات نحو تعريف الثقافة // تجده في مكتبة الأسرة أو ما يسمى مهرجان القراءة للجميع الذي ترعاه سوزان مبارك العاهلة المصرية ...
    يقول المؤلف : تختلف ارتباطات كلمة الثقافة بحسب ما تعنيه من نمو فرد أو نمو فئة أو نمو مجتمع بأسره . وجزء من دعواي أن ثقافة الفرد تتوقف على ثقافة الفئة أو الطبقة او المجتمع الذي ينتمي إليه ...
    وقد سبق وأن قررت أنه لا يمكن أن تظهر ثقافة أو تنمو إلا وهي متصلة بالدين ...ولهذا فإننا مع اعتقادنا أن الدين يمكن ان يمد ثقافات شتى يحق لنا أن نتساءل إن كان من الممكن ان تظهر ثقافة ما إلى الوجود أو تحافظ على نفسها بدون أساس ديني ولنا ان نمضي أبعد من ذلك فنسأل : أليس ما نسميه ثقافة شعب ما أو دين ما مظهرين مختلفين لشيء واحد ؟
    إذ الثقافة في جوهرها تجسيد لدين الشعب .
    وفكرة أن الثقافة والدين هما مظهران لشيء واحد إذا أخذ كل لفظ منهما في سياقه الصحيح فكرة تحتاج
    إلى شرح طويل ولكنني أود أن أنبه إلى أنها تهيء لنا وسيلة لمحاربة خطأين يكمل كلاهما الآخر وأشيعهما : أن الثقافة يمكن حفظها وتنميتها بغير دين .
    والخطأ الثاني هو : الاعتقاد بأن المحافظة على الدين لا شأن لها بالمحافظة على الثقافة ورعايتها .
    إن وجود شيء من التنوع بين المجتمعات البشرية أمر جوهري لتوفير حافز ومادة لأوديسة الروح البشرية . إن الأمم ذات العادات المغايرة ليست أعداء بل هبات من الله فالناس يتطلبون في جيرانهم قرابة تكفي للفهم واختلافاً لإثارة الانتباه وجلالاً يكفي ليبعث الإعجاب . ولذلك لكي تزدهر ثقافة شعب ما بنبغي أن لا يكون شديد الاتحاد ولا شديد الانقسام .

    [ قلت : أعتقد أننا يمكن أن ننتبه هنا إلى خطورة العولمة لأنها تريد صهر العالم في القالب الأمريكي تعميم الثقافة الأمريكية ]

    إن التكوين الديني هو تكوين ثقافي بسبب أن العلاقة وثيقة بين الاتجاهين لدرجة أن ما يحصل في أحد الاتجاهين سوف يحصل في الآخر .
    وحين ندافع عن ديننا فلا بد أننا نكون مدافعين عن ثقافتنا في نفس الوقت والعكس بالعكس
    وينبغي أن يكون واضحاً من الاعتبارات التي قدمتها في الفصل الأول أن التوحيد الكامل [ بين الأمم المسيحية ] يستلزم الاشتراك في الثقافة ثقافة مشتركة قائمة بالفعل ... وبديهي ان التوحيد المثالي لجميع المسيحيين لا يتضمن بالضرورة الصيرورة إلى تنميط الثقافة في طول العالم وعرضه وإنما يتضمن وجود ثقافة مسيحية تكون كل الثقافات المحلية صوراً مختلفة منها .
    إن القوة الرئيسة في خلق ثقافة مشتركة بين شعوب مشتركة لكل منها ثقافته المتميزة هي الدين . في المسيحية نمت فنوننا وفي المسيحية تأصلت إلى عهد قريب قوانين أوربا وليس لتفكيرنا معنى أو دلالة خارج الإطار المسيحي وقد لا يؤمن فرد أوربي بأن الإيمان المسيحي حق ولكن ما يقوله ويصنعه ويأتيه كله من تراثه في الثقافة المسيحية . ما كان يمكن أن تخرج فولتير أو نيتشه إلا ثقافة مسيحية . وما اظن أن ثقافة أوربا يمكن أن تبقى حية إذا اختفى الإيمان المسيحي اختفاء تاماً . ولا يرجع اقتناعي بذلك إلى كوني مسيحياً فحسب بل إني مقتنع به أيضاً بوصفي دارساً لعلم الإحياء الاجتماعي ، إذا ذهبت المسيحية فستذهب كل ثقافتنا .

    [ هذا الكلام يمكن أن ينفع المشغوفين بالثقافة الغربية لعله يحرك فيهم النخوة العصامية ]

    والله أعلم .
    "" قُلْ يَاعِباديَ الذينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم ""
    أكاديمية الدعوة والبحث العلمي :
    http://acscia.totalh.com/vb/
    دعوة للمشاركة والتفاعل .

  11. #26
    تاريخ التسجيل
    Sep 2004
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    1,886
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أحمد إدريس الطعان
    أخي الكريم حازم أشكرك جداً على اهتمامك وأسأل الله عز وجل أن يبارك في جهودك والحقيقة أنا أقل من أن أحظى بهذا منك ولا أملك إلا أن أقول لك جزااااااااااااااك الله خيراً ، وزوّجك بكراً ،[ إياك أن تقرأ هذا زوجتك فتدعو علي ] وأطعمك طيراً طبعاً من طير الجنة خالية من الفلونزا إن شاء الله عز وجل .
    استاذنا الفاضل الطعان لا ابالغ ان قلت ان هذا الموضوع هو افضل موضوع فى المنتدى عن العلمانية ومرجع جيد لكل محاور لهؤلاء القوم اسال الله ان يجزيك عنا خير جزاء

صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. الشيخ احمد فريد يكشف اغراض العلمانية ورؤوس الفساد في انظمة الطواغيت
    بواسطة طارق منينة في المنتدى قسم الحوار العام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 11-24-2012, 11:22 PM
  2. هل يوجد دليل علمي أو طبي أن الجثث تتعفن او لا بسبب الطعام
    بواسطة lightline في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 07-06-2012, 07:54 PM
  3. عدنان الرفاعى أو شبيهه يعيث فى ملتقى اهل التفسير الفسادا !!!
    بواسطة memainzin في المنتدى قسم الحوار العام
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 05-16-2012, 08:42 PM
  4. الهكرز-العلماني اظن- سيطروا على ملتقى اهل التفسير(اليوم!)
    بواسطة طارق منينة في المنتدى قسم الحوار العام
    مشاركات: 12
    آخر مشاركة: 07-09-2011, 04:19 PM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء