هذا المقال للشيخ الخطيب

كان الشعر قبل الإسلام يمثل بالنسبة للعرب زادهم المادي والمعنوي ، بل هو وسيلة استراتيجية يلجأون إليها عند الحاجة إلى هجاء عدو وتبكيته، الشعر عند العرب كان بضاعتهم التي جعلت لهم شأنا بين الناس فهم لم يكونوا يملكون غيره - إلا ما كان من وجود البيت الحرام في بلادهم – يعقدون الأسواق له للمباراة والمباهاة

كانت مقامات الشعر تدور بين غزل ومدح وهجاء ورثاء .....إلخ
والشاعر الماهر عندهم هو الذي يجيد قلب الحقائق وعرض المقصود بصورة هي إلى الخيال أقرب منها إلى الواقع ، والوصول إلى هذا يحتاج إلى التخلي عن خلق الصدق ولذا شاع عندهم هذا التعبير:
أعذب الشعر أكذبه
فلما جاء الإسلام بأخلاقه الحميدة التي نمى ما كان موجودا منها وهذبه وأضاف كثيرا من الأبعاد التي لم يكن لها وجود في عالم منطلق من ثوابت قبلية محضة ، لما كان ذلك كذلك غير الإسلام هذا اللون من الشعر الذي اعتمد الكذب منهجا له حيث حرم الكذب في كل ما يقال ، هنا وجد الشعر طريقه إلى الصدق وانقلبت الصورة حتى قال حسان رضي الله عنه:
وإن أصدق بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقَ
ووصف القرآن شعر الكاذبين بأوصاف منفرة ومن بينها ما تضمنته هذه الآيات:
{223 وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ 224 أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ 225 وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ 226 إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ }

وعندما نتأمل هذا الاستثناء { إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا ..} نقف على الحقيقة التي يجهلها كثيرون وهي أن الشعر الحسن الصادر عن وعي وصدق ومراعاة للوازع الإيماني ودفاعاعن النفس وانتصارا لها بعد ظلم كل ذلك لا يدخل في باب الشعر المنهي عنه
كيف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن من الشعر لحكمة "
وهنا عرف حكم الشعر في الإسلام فمليحه مليح وقبيحه قبيح

وكان من أبرز الشعراء على مر عصور الإسلام الشاعر المخضرم حسان بن ثابت الصحابي الجليل شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لم يشهد غزوة واحدة من الغزوات لكن شعره كان درعا واقيا يذب به عن الإسلام ويدافع حيث إن سيف الكلمة في هذا الوقت لم يكن ليقل بحال من الأحوال عن السهام والسيوف والنبال المستخدمة في الحروب.
فما أروعك يا صوت الحق ودرعه أنت تقول دفاعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن هجاه أبو سفيان بن الحارث:
هـجوت محمداً فأجبت عنه --- وعنـد الله في ذاك الجــزاء
فإن أبي ووالده وعــرضي --- لعرض محمد منكم وقـــاء
أتهجوه ولست له بكـفء --- فشركما لخيركما الفـــداء
عدمنا خيلنـا إن لم تروهـا --- تثير النقع موعدها كـــداء
وكذا قولك بعد معركة بدر:
فما نخشى بحمد الله قومــاً --- وإن كثروا وأجمعت الزحوف
إذا ما ألبوا جمعـا علينــا --- كفانــا جدهم رب رؤوف
سمونا يـوم بـدر بالـعوالي --- سراعا ما تضعضعنا الحتــوف

هذا الشاعر الجليل الذي جرد لسانه للدفاع عن الحق تعرض كثيرا للانتحال للسبب المذكور وهو الدفاع عن الحق حيث دس عليه شعر كثير لم يقله لمحاولة تشويه صورته وأستشهد هنا بقول صحاب كتاب " طبقات فحول الشعراء " الذي قال عن حسان :
هو كثير الشعر جيدة وقد حمل عليه ما لم يحمل على أحد وقد وضعت عليه قريش أشعارا كثيرة لا تنقى .أ.هـ
وهجاء حسان رضي الله عنه لم يكن إلا بالأيام والمحن وتذكير المهجو بهزيمة مني بها ونحو ذلك وما عدا هذا فحسان منه براء هكذا حكم أهل التحقيق والنقد الأدبي.

ومما يؤكد الدور الريادي الذي هذب به الإسلام الشعر هو شعر حسان نفسه الذي كان قبل الإسلام يدور بين الغزل والخمر ومدح الملوك ....وبينه في الإسلام إذ هو دفاع وتقويم بل جهاد باللسان.

وأخيرا أحب أن أشير إلى ان كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني مليء بالشعر المنحول ومليء أيضا بالأخطاء التاريخية فمن يروم الدقة التاريخية أو الثقة في نسبة الأشعار لقائليها لن يجد بغيته من الأغاني الذي احتاج إلى تهذيب وتهذيبه إلى تهذيب

رحم الله حسان بن ثابت صوت الحق الذي لازال يدوي في سماء باتت مظلمة وأرض تهيم في ليل بهيم أليل