"الإسلام السياسى" .. مصطلح جديد.. من النوع الذى يحمل فى أحشائه فخاً لغوياً ، وقصوراً إصطلاحياً فى التعبير عن المعنى المقصود ! .. وأحسب أنه من الضرورى أن نشير إلي موطن الخلل.. كى نتفادى السقوط فى حتمية ربط اللفظ بمعنى ناقص الدلالة ، قد يضرُ توطينه على الألسنة أكثر مما يفيد !!

فالمقصود من إستعمال هذا المصطلح هو وصف مشاركة الإسلام فى صنع الهوية السياسية للأمة من خلال الدعوة إلى الإلتزام بأحكامه والإنضباط بحدوده فى كافة ممارساتنا السياسة والإجتماعية ، ولكن هذا المعنى المقصود لا يتبادر إلى الذهن بوضوح إذا ما أردنا أن نعبرعنه بهذا المصطلح. موطن الفخ اللغوى هنا يكمن فى أن المُعَـرَّف فى هذا المصطلح هو الإسلام.. والمُعَـرِّف أو المُعـَرَّف به هو اللون أو الممارسة السياسية ، وكأن الإسلام يُعـرَّف بأن له لونا سياسيا يمكِّنـُه من التمثيل السياسى ، وآخر "غير سياسى" وهو الذى يُقتصَر فيه على الإتيان بالعبادات وإقامة المعاملات على معيار الشرع..

وهذا الأخير (الغير سياسى) هو الذى يُرَوِّجُ له من ينادون بفصل الدين عن الحكم والسياسة ، ويطالبون بإختزال دور الإسلام فى أداء العبادات والفرائض دون أدنى تأثير لهذا الدين فى تشكيل الصبغة السياسية للمجتمع أو تحديد التوجهات السياسية للدولة ، أو حتى الإنضباط بأحكامه فى قرارات الدولة السيادية ! .. وهذا بدوره يجعل من المشاركة السياسية الإسلامية لوناً مستحدثاً من الإسلام وشيئاً مختلفاً عن حقيقته التى يعرفها و يدين بها المسلمون ، خارجاً عن حدوده ووصفه ، وهذا بالضبط ما أراده أعداء الصحوة ، وسعوا فى التأكيد عليه فى كل كتاباتهم..

فهم يؤكدون على أن الإسلام شئ مختلف تماماً عن هذا النوع الجديد الذى أصبح يزاحمهم فى صنع الأحداث ، فقاموا بفصل هذا الإتجاه الجديد بدهاء وخبث إعلامى كريه.. عن دائرة الإسلام المعروف ، وجعلوه يبدو و كأنه شكل آخر منافس لمفهوم الإسلام الصحيح ، وهذه النتيجة بلاريب لا تصب إلا فى مصلحة من ينادون بإقصاء الإسلام عن السباق السياسى. فالقوم لا يدّعون أنه لا إسلام ، أو أن الإسلام كائن لا وجود له.. وإنما يقولون أن الإسلام الصحيح هو الإسلام الذى يتعبد الإنسان فيه لربه داخل بيته.. أو بشئ من التيسير داخل المسجد.. ليس إلا ، ولا أثر لهذا الإسلام فى حياة المجتمع وتنظيم شئونه.. أو فى رسم المنهج السياسى للدولة وترتيب أجندتها فى إطار الشرع وإنضباطاً بأحكامه الكلية والجزئية !

ولذلك تجدهم يصرخون ليل نهار و يحذرون من هذا الإسلام الجديد.. الذى بدأ يرّسخ أقدامه فى تشكيل القرارات السياسية العالمية ، ويتهمونه بأنه خروج عن حدود الإسلام الصحيح ، وأن دخول الإسلام فى الحلبة السياسية إمتداد غير مشروع لمفهومه ومنهجه ، وأن مشاركتة لن تفيد.. بل ستلوث نبعه الصافى بقذر السياسة وما تتطلب من مراوغات ومناورات ، لأن الإسلام فى زعمهم لا يحمل مشروعا سياسيا عمليا يمكن تطبيقه لحل مشاكل الأمة ، وإنما مجرد تراث إنسانى يماثل فى مضمونه أى تراث إنسانى آخر ، لا مكان له -عملياً- إلا المتاحف أو كتب التاريخ !! ..

لذلك.. تجدهم يصفون هذا الوجود الإسلامى فى التكتلات السياسية بأنه إسلام غريب علينا.. إسلام لا صلة له بديننا.. إسلام لا يرفع شعاره إلا (المتأسلمون) أى المنتمون إلى الإسلام زورا و بهتانا ، ويتهمون المنتمين للتيارالإسلامى بأنهم لا همّ لهم إلا المنافسة على السلطة وأن الإسلام برئ من ذلك ، وكأن تَقـلُّد المناصب ، وإعتلاء سدة الحكم شرف تم حصره وقصره على الفسقة والكذابين ! .. فى حين أن أهل الدين "الطيبين" لا مكان لهم فى هذا الغبار ! .. ويصبح الإسلام نتيجة لذلك حبيسا لهذا التصور القاصر ، حيث تغدو أى محاولة لدخول الإسلام فى السباق السياسى هى وضع غير طبيعى لابد من تصويبه ، وإمتدادٌ لا أصل له فى مفهوم الإسلام ، فيردونّ الإسلام مرة أخرى إلى سجنه مكبلاً بالأغلال.

أعتقد أن المصطلح الصحيح الذى يجب علينا أن نبدأ فى التعامل به حين نصف مشاركة الإسلام فى صنع الحياة السياسية هو مصطلح السياسة الإسلامية ، ولن أقول السياسة الشرعية.. ربما لأنها مصطلح فقهى أصولى.. إرتبط فى أذهان الكثيرين بالجمود أو بإسقاط القديم على الحديث بلا موائمة منطقية ! .. وعلى الرغم من تهافت هذه الدعوى.. إلا أنها واقع مؤثر فى عقول الناس.. لذا يجب علينا إستحداث مصطلح يغزو العقول والقلوب بسلاسة وهدوء ! .. وهذا المصطلح يحدد تحديدا قاطعا أن السياسة مجال من مجالات العمل الإسلامى وجزء من منهجه ، وأن السياسة هى التى صُبغت بالإسلام ووُصفت بحدوده وإلتزمت نهجه.. وينأى بنا عن ذلك المفهوم البعيد الذى جعل الإسلام هو الذى صُبغ باللون السياسى ، أو أن تصيرالسياسة وصفا للإسلام فيعطى ذلك إنطباعا خاطئا أن السياسة ممارسة خارجة عن الحدود الأصلية للدين.


مفروس