أمريكا التي رأيت 2
الأمريكي البدائي
2 ـ الأمريكى البدائى
يبدو الأمريكى على الرغم من : العلم المتقدم , والعمل المتقن ـ بدائيًا ـ فى نظريته إلى الحياة ، ومقوماتها الإنسانية الأخرى , بشكل يدعو إلى الدهشة :
ولعل لهذا التناقض الواضح أثره فى ظهور الأمريكان بمظهر الشعب الغريب الأطوار فى نظر الأجانب ، الذين يراقبون حياة الشعب من بعيد ، ويعجزهم التوفيق بين هذه الحضارة الصناعية الفائقة ، وذلك النظام الدقيق فى إدارة الأعمال ، وإدارة الحياة …
وبين هذه البدائية فى الشعور والسلوك ( 1 ) ، تلك البدائية التى تذكر بعهود الغابات والكهوف !.
ويبدو الأمريكى بدائيًا فى الإعجاب بالقوى العضلية ، والقوى المادية بوجه عام :
بقدر ما يستهين بالمثل والمباديء والأخلاق ، فى حياته الفردية ، وفى حياته العائلية ، وفى حياته الاجتماعية , فيما عدا دائرة العمل بأنواعه ، وعلاقات الاقتصاد والمال .
ومنظر الجماهير وهى تتبع مباريات كرة القدم ، على الطريقة الأمريكية الخشنة التى ليس لها من اسمها ( كرة القدم ) أى نصيب ، إذ أن ( القدم ) لا تشترك فى اللعب ، إنما يحاول كل لاعب أن يخطف الكرة بين يديه ، ويجرى بها ليقذف بها إلى الهدف ، بينما يحاول لاعبو الفريق الآخر أن يعوقوه بكل وسيلة ، بكل عنف وكل شراسة ..
منظر الجماهير وهى تتبع هذه اللعبة ، أو تشاهد حفلات الملاكمة والمصارعة الوحشية الدامية .. منظرها فى هياجها الحيوانى ، المنبعث من إعجابها بالعنف القاسى ، وعدم التفاتها إلى قواعد اللعب وأصوله ، بقدر ما هى مأخوذة بالدم السائل والأوصال المهشمة ، وضراخها هاتفة :
كل يشجع فريقه : ( حطم رأسه ) ( دق عنقه ) (هشم أضلاعه ) ( أعجنه عجينا ) .. هذا المنظر لا يدع مجالا للشك فى بدائية الشعور , التى تفتن بالقوة العضلية وتهواها .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ـ
(1 ) كتب سيد قطب فى رسالة إلى توفيق الحكيم ( نشرت بالرسالة عدد 827 ) ، يقول : ( إن شيئا واحدًا ينقص هؤلاء الأمريكيين ـ على حين تذخر أمريكا بكل شيء ـ شيء واحد لا قيمة له عندهم .. الروح ! ) إلى أن يقول : ما أحوجنى هنا لمن أبادله حديثا بحديث ، فى غير موضوع الدولارات , ونجوم السينما , وماركات السيارات .. حديثا فى شؤون الإنسان والفكر والروح .
وبمثل هذه الروح يتابع الجمهور الأمريكى صراع الجماعات والطوائف ، وصراع الأمم والشعوب , ولست أدرى كيف راجت فى العالم ـ وبخاصة
فى الشرق ـ تلك الخرافة العجبية ؟ خرافة أن الشعب الأمريكى شعب محب للسلام ( 1 ) .
إن الأمريكى بفطرته محارب محب للصراع :
وفكرة الحرب والصراع قوية فى دمه ، بارزة فى سلوكه ؛ وهذا هو الذى يتفق مع تاريخه كذلك , فقد خرجت الأفواج الأولى من أوطانها , قاصدة إلى أمريكا بفكرة الاستعمار والمنافسة والصراع .
وهناك قاتل بعضهم بعضاً وهم جماعات وأفواج , ثم قاتلوا جميعاً سكان البلاد الأصليين ( الهنود الحمر ) , وما يزالون يحاربونهم حرب إفناء حتى اللحظة الحاضرة .
ثم قاتل العنصر الأنجلو سكسونى العنصر اللاتينى هناك ، وطرده إلى الجنوب فى أمريكا الوسطى والجنوبية ، ثم حارب المتأمركون أمهم الأولى إنجلترا فى حرب التحرير بقيادة ( جورج واشنطن ) , حتى نالوا استقلالهم عن التاج البريطانى .
ثم حارب الشمال الجنوب بقيادة ( إبراهام لنكولن ) تلك الحرب التى اتسمت بسمة ( تحرير العبيد ) , وإن كانت دوافعها الحقيقية هى المنافسة الاقتصادية .
ذلك أن العبيد المستجلبين من أواسط أفريقية ليعملوا فى الأرض رقيقاً ، لم يستطيعوا مقاومة الطقس البارد فى الشمال ، فنزحوا إلى الجنوب , وكان معنى هذا أن يجد المستعمرون فى الولايات الجنوبية الأيدى العاملة الرخيصة ، على حين لا يجدها الشماليون ، فيتم لهم التفوق الاقتصادى ؛ لذلك أعلن الشماليون الحرب لتحرير العبيد .
وانقضت فترة العزلة ، وانتهت سياستها ، عندما دخلت أمريكا الحرب العالمية الأولى ، ثم اضطلعت بالحرب العالمية الثانية .
ثم ها هى ذى تنهض بالحرب فى كوريا , والحرب العالمية الثالثة ليست
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) يقول سيد قطب فى كتاب ( معركة الإسلام والرأسمالية ) ص 32 ـ 33 : ( فأما أمريكا فالذين لم يعيشوا فيها ولم يروها ، قد لا يذكرون لها إلا خيانتها لنا فى قضيتنا بمجلس الأمن ، وفى حرب فلسطين ، ولكن الذين عاشوا فيها ، ورأوا كيف ولغت صحافتها ومحطات إذاعتها وشركات أفلامها فى كرامتنا وفى سمعتنا ، وكيف نشرت ذلك بعداء واضح واحتقار مقصود ، أو أحسوا ذلك العداء العنيف لكل ما هو إسلامى ) ..
بالبعيدة ! , ولست أدرى إذن كيف راجت تلك الخرافة العجيبة عن شعب
هذا تاريخه فى الحرب ؟ ( 1 ) .
إن الحيوية المادية عند الأمريكى مقدسة ، والضعف ـ أيا كانت أسبابه ـ جريمة , جريمة لا يغتفرها شيء :
ولا تستحق عطفا ولا عونا , وحكاية المباديء والحقوق خرافة فى ضمير الأمريكى لا يتذوق لها طعما ( 2 ) .
كن قوياً ولك كل شيء , أو كن ضعيفاً فلا يسعفك مبدأ ، ولا يكون لك مكان فى مجال الحياة الفسيح , أما الذى يموت فيرتكب بالطبع جريمة الموت ! .
كنت فى مستشفى ( جورج واشنطن ) فى واشنطن العاصمة ، وكان الوقت مساء حينما غمرت جوه موجة من الاضطراب غير معهود ، وبدت فيه حركة غير عادية تستلفت النظر .
وأخذ المرضى القادرون على الحركة يغادرون أسرتهم وحجراتهم إلى المماشى والأبهاء يستطيعون ؛ ثم جعلوا يتحلقون متسائلين عن سر تلك الظاهرة فى حياة المستشفى الهادئة .
وعرفت بعد فترة أن أحد موظفى المستشفى , قد أصيب فى حادث مصعد وأنه فى حالة خطيرة , بل فى دور الاحتضار .
وذهب أحد المرضى الأمريكان ليرى بنفسه ، ثم عاد يقص على المتحلقين فى المبنى ما رأى ..
وحين يخيم شبح الموت على مكان ، لا تكون رهبة ، ولا يكون للموت خشوعه , كما يكون ذلك مستشفى ولكن هذا الأمريكانى أخذ يضحك ويقهقه
، وهو يمثل هيئة المصاب المحتضر ، وقد دق المصعد عنقه وهشم رأسه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) كتب سيد قطب فى ( دراسات إسلامية ) ص 181 ـ 185 : ( إننا ننسى أن العالم الأوربى والعالم الأمريكى يقفان صفًا واحدًا بإزاء العالم الإسلامى ، والروح الصليبية القديمة هى هى ما تزال .. إننا ننسى هذا ، لأن فينا مغفلين كثيرين ومغرضين كثيرين يضللوننا ، وينشرون دعاية مغرضة عن رغبة أمريكا فى إنصاف الشعوب المستعبدة ومساعدة الشعوب المتأخرة ، مع أننا ذقنا الويل من أمريكا فى فلسطين ، إن جراحات العالم الإسلامى تنبض بالدم فى كل مكان ، وأمريكا واقفة تتفرج ، ومع هذا توجد صحف ويوجد ناس : يتحدثون عن تمثال الحرية فى ميناء نيويورك … ) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ
( 2 ) والدليل على ذلك ما ساقه سيد قطب فى الرسالة عدد : 1009 : ( من الذى لا يحتقر أمريكا ويحتقر معها آدمية الأمريكان وهو يجد المعدات الأمريكية والدولارات الأمريكية تشدّ أزر الاستعمار الأوربى فى كل مكان .. لقاء مساومات اقتصادية أو استراتيجية أو عسكرية ) .
وتدلى لسانه من فمه على جانب وجهه ! .
وانتظرت أن أسمع أو أرى علامة الامتعاض والاستنكار من المستمعين , ولكن كثرتهم الغالبة جعلت تضحك متفكهة ، بهذا التمثيل البغيض !.
لذلك لم أعجب , وبعض أصدقائى يقص علىِّ ما رأى وما سمع , حول الموت ووقعه , فى نفوس الأمريكان .
قال لى زميل : إنه كان حاضر مأتم ، حيثما عرضت جثة رب البيت محنطة فى صندوق زجاجى ـ على العادة الأمريكية ـ كيما يمر أصدقاء الفقيد بجثمانه ، وليودعوه الوداع الأخير ، ويلقون عليه النظرة النهائية ، واحداً بعد الآخر فى صف طويل .
حتى إذا انتهى المطاف وتجمعوا فى حجرة الاستقبال ، ما راعه إلا أن يأخذ القوم فى دعابات وفكاهات ، حول الفقيد العزيز وحول سواه ، تشترك فيه زوجه وأهله ، وتعقبها الضحكات المجلجلة فى سكون الموت البارد ، وحول الجسد المسجى فى الأكفان ! .
وكان الأستاذ مدير البعثات المصرية بواشنطن مدعو هو والسيدة حرمه إلى إحدى الحفلات ـ وقبيل الموعد مرضت السيدة حرمه - فأمسك بالتليفون ليعتذر عن الحفلة بسبب هذا الطاريء .
ولكن الداعين أجابوه بأنه لا ضرورة للاعتذار ، فإنه يملك أن يحضر منفرداً ، وستكون هذه فرصة طيبة ، ذلك أن إحدى المدعوات قد توفى زوجها فجأة قبيل الحفلة ، وستكون وحيدة فيها ، فمن حسن الحظ أن يكون لها رفيق !.
ودخلت مرة بيت سيدة أمريكية كانت تساعدنى فى اللغة الإنجليزية , فى الفترة الأولى من وجودى فى أمريكا ؛ فوجدت عندها صديقتها ، وكانتا تتحدثان في موضوع لحقت أواخره ، وهذه الصديقة تقول :
( لقد كنت حسنة الحظ , فقد كنت مؤمنة على حياته , حتى علاجه لم يكلفنى إلا القليل , لأننى كنت مؤمنة عليه , فى هيئة الصليب الأزرق ) وابتسمت ضاحكة !.
ثم استأذنت وخرجت ، وبقيت مع ربة البيت , وأنا أحسب أن صديقتها كانت تحدثها عن كلبها ـ وإن كنت قد دهشت لأنها لا تبدى أى تأثر لموته ! ـ ولكن ما راعنى إلا أن تقول لى ـ ولم أسأل ! ـ ( كانت تحدثنى عن زوجها , لقد مات منذ ثلاثة أيام ! ) .
ولما أبديت دهشتى أن تتحدث صديقتها عن زوجها المتوفى منذ ثلاثة أيام بمثل هذه البساطة ، كان عذرها الذى لا يخالجها الشك فى أنه مقنع ووجيه : ( إنه كان مريضاً ! لقد مرض أكثر من ثلاثة أشهر قبل الوفاة ! ) .
عادت بى الذاكرة , إلى مشهد عميق الأثر , فى شعورى ، وقد أثار فى خاطرى , فى حينه منذ سنوات … خاطرة لم تكتب , بعنوان : ( مأتم الطيور ) .
ذلك مشهد جماعة من الفراخ كنا نربيها فى دارنا ، وقد وقفت متحلقة صامتة مبهورة مأخوذة ، حول فرخ منها ذبيح ، لقد كانت مفاجأة شعورية لكل من فى البيت ، مفاجأة غير منتظرة من طير غير متقدم فى سلم الرقى كالدجاج ، بل كانت صدمته لم تجرؤ بعدها منذ ذلك الحين , على ذبح فرخ واحد على مرأى من جماعة الطيور ! .
ومنظر الغربان حين تموت لها مائت ،منظر مألوف شاهده الكثيرون , وهو منظر يصعب تفسيره بغير شعور ( الحزن ) أو ( عاطفة ) القرابة ! .
فهذه الجموع من الغربان ، المحلقة الصافة ، الناعقة بشتى الأصوات والأنغام ، الطائرة هنا وهناك ، حتى تحتمل جثمان الميت وتطير .. هذا كله يشي برجفة الموت فى عالم الطيور .. ! .
وقداسية الموت تكاد تكون شعوراً فطرياً , فليست البدائية الشعورية هى التى تطمسها فى النفس الأمريكية ؛ لكنه جفاف الحياة من التعاطف الوجدانى ( 1 ) ، وقيامها على معادلات حسابية مادية ، وعلى علاقات الجسد ودوافعه ، واستخفافها عمدا بكل ما يشتهر أنه من مقدسات الناس فى العالم القديم ، والرغبة الملحة فى مخالفة ما تواضع عليه الناس ، وإلا فما مزية الدنيا الجديدة على ذلك العالم القديم ؟ ( 2 ) .
وما يقال عن الشعور بالموت يقال عن الشعور بالدين :
ليس أكثر من الأمريكان تشييداً للكنائس ،حتى لقد أحصيت فى بلدة واحدة لا يزيد سكانها على عشرة آلاف أكثر من عشرين كنيسة ! وليس أكثر منهم ذهاباً إلى الكنائس فى ليلات الأحد وأيامه ، وفى الأعياد العامة وأعياد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) فى مجلة الكاتب الجزء العاشر يقول سيد قطب عن النفس الأمريكية : فى كل مكان ضحكات ، وفى كل محلّة مرح ، وفى كل زاوية أحضان وقبلات ، ولكنك لا تلمح فى وجه واحد معنى الرضا ، ولا تحس فى قلب واحد روح الأطمئنان .
( 2 ) ويفسر سيد قطب فى الظلال 1 : 211 هذه الظاهرة : ( والجيل الجديد ينحرف فيدمن على المسكرات والمخدرات ليعوض خواء الروح من الإيمان ، وطمأنينة القلب بالعقيدة ، والأمراض النفسية والعصبية والذوذ بأنواعه تفترس عشرات الآلاف من النفوس والأرواح والأعصاب .. ثم الانتحار ) .
القديسين المحليين وهم أكثر من ( الأولياء ) عند عوام المسلمين ! …
وبعد ذلك كله ليس هناك من هو أبعد من الأمريكى عن الشعور بروحية الدين واحترامه وقداسته ، وليس أبعد من الدين عن تفكير الأمريكى وشعوره وسلوكه ! .
وإذا كانت الكنيسة مكاناً للعبادة فى العالم المسيحى كله ، فإنها فى أمريكا مكان لكل شيء إلا العبادة .
وإنه ليصعب عليك أن تفرق بينها وبين أى مكان آخر , معد للّهو والتسلية أو ما يسمونه بلغتهم ال Fun , ومعظم قصادها إنما يعدونها تقليداً اجتماعياً ضرورياً ، ومكاناً للقاء والأنس ، ولتمضية وقت طيب ، وليس هذه شعور الجمهور وحده , ولكنه كذلك شعور سدنة الكنيسة ورعاتها …
ولمعظم الكنائس ناد يتألف من الجنسين ، ويجتهد راعى كل كنيسة أن يلتحق بالكنيسة أكبر عدد ممكن ، وبخاصة أن هناك تنافساً كبيراً بين الكنائس المختلفة المذاهب ، ولهذا تتسابق جميعاً فى الإعلان عن نفسها بالنشرات المكتوبة , وبالأنوار الملونة على الأبواب والجدران , للفت الأنظار ، وبتقديم البرامج اللذيذة , المشوقة لجلب الجماهير ، بنفس الطريقة التى تتبعها المتاجر ودور العرض والتمثيل ، وليس هناك من بأس فى استخدام أجمل فتيات المدينة وأرشقهن ، وأبرعهن فى الغناء والرقص والترويح .
وهذه مثلا محتويات إعلان عن حفلة كنيسة ، وكانت ملصقة فى قاعة اجتماع الطلبة فى إحدى الكليات :
( يوم الأحد أول أكتوبر ـ فى الساعة السادسة مساء ـ عشاء خفيف . ألعاب سحرية . ألغاز . مسابقات . تسلية .. ) .
كنت ليلة فى إحدى الكنائس , ببلدة جريلى بولاية كولورادوـ فقد كنت عضواً فى ناديها , كما كنت عضواً فى عدة نواد كنسية , فى كل جهة عشت فيها , إذ كانت هذه ناحية هامة , من نواحى المجتمع , تستحق الدراسة عن كثب ومن الداخل ـ وبعد أن انتهت الخدمة الدينية فى الكنيسة ، واشترك فى التراتيل فتية وفتيات من الأعضاء ، وأدى الآخرون الصلاة ، دلفنا من باب جانبى ساحة الرقص ، الملاصقة لقاعة الصلاة ، يصل بينهما الباب ؛ وصعد ( الأب ) إلى مكتبه ، وأخذ كل فتى بيد فتاة ، وبينهم وبينهن أولئك الذين واللواتى ، كانوا وكن ، يقومون بالترتيل ويقمن ! .
وكانت ساحة الرقص مضاءة بالأنوار الحمراء والصفراء والزرقاء ، وبقليل من المصابيح البيض .. وحمى الرقص على أنغام ( الجراموفون ) وسالت الساحة بالأقدام والسيقان الفاتنة ، والتقت الأذرع بالخصور ، والتقت الشفاه والصدور … وكان الجو كله غراماً حينما هبط ( الأب ) من مكتبه ، وألقى نظرة فاحصة على المكان ومن المكان , وشجع الجالسين والجالسات ممن لم يشتركوا فى الحلبة على أن ينهضوا فيشاركوا .
وكأنما لحظ أن المصابيح البيض تفسد ذلك الجو ( الرومانتيكى ) الحالم ، فراح فى رشاقة الأمريكانى وخفته يطفئها واحداً واحداً ، وهو يتحاشى أن يعطل حركة الرقص ، أو يصدم زوجاً من الراقصين فى الساحة .
وبدا المكان بالفعل , أكثر ( رومانتيكية ) وغراماً ، ثم تقدم إلى ( الجراموفون ) ليختار أغنية تناسب ذلك الجو , وتشجع القاعدين والقاعدات على المشاركة فيه .
واختار … اختار أغنية أمريكية مشهورة اسمها : ( But baby it is cold out side ) ( ولكنها يا صغيرتى باردة فى الخارج ) وهى تتضمن حواراً بين فتى وفتاة عائدين من سهرتهما ، وقد احتجزها الفتى فى داره ، وهى تدعوه أن يطلق سراحها , لتعود إلى دارها , فقد أمسى الوقت ، وأمها تنتظر .. ولكما تذرعت إليه بحجة , أجابها بتلك اللازمة : ( ولكنها يا صغيرتى باردة فى الخارج ) !
وانتظر الأب حتى رأى خطوات بناته وبنيه ، على موسيقى تلك الأغنية المثيرة ؛ وبدا راضياً مغتبطاً ، وغادر ساحة الرقص إلى داره ، تاركا لهم ولهن إتمام هذه السهرة اللذيذة … البريئة ! ( 1 ) .
وأب آخر يتحدث إلى صاحب لى عراقى ، قد توثقت بينه وبينه عرى الصداقة ، فيسأله عن ( مارى ) زميلته فى الجامعة ( لم تحضر الآن إلى الكنيسة ؟ ويبدى أنه لا يعنيه أن تغيب الفتيات جميعاً وتحضر مارى ! وحين يسأله الشاب عن سر هذه اللهفة يجيب : إنها جذابة ، وإن معظم الشبان يحضرون وراءها ! ) .
ويحدثنى شاب من شياطين الشبان العرب الذين يدرسون فى أمريكا ، وكنا نطلق عليه اسم ( أبو العتاهية ) ـ وما أدرى إن كان ذلك يغضب الشاعر القديم أو يرضيه ! ـ فيقول لى عن فتاته ـ ولكل فتى فتاة فى أمريكا ـ إنها كانت تنتزع نفسها من بين أحضانه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــ
( 1 ) اللذيذة .. البرئية ! , من سخريات سيد قطب حيث أنه يقول فى الظلال 2: 637 : ( انتشرت موجه الإجرام بين المراهقين والمراهقات من شباب أمريكا … وقد قدرت لجنة الأربعة عشر الأمريكية التى تعنى بمراقبة حالة البلاد الخلقية أن 90 % من الشعب الأمريكى مصابون بالأمراض الجنسية السرية الفتاكة ) ثم يواصلون سهراتهم البرئية .
أحيانا لأنها ذاهبة للترتيل فى الكنيسة ! وكانت إذا تأخرت لم تنج من إشارات ( الأب ) وتلميحاته إلى جريرة ( أبى العتاهية ) فى تأخيرها عن حضور الصلاة ! هذا إذا حضرت وحدها من دونه ، فأما إذا استطاعت أن تجره وراءها ، فلا لوم عليها ولا تثريب ! .
ويقول لك هؤلاء الآباء : إننا لا نستطيع أن نجتذب هذا الشباب إلا بهذه الوسائل ! .
ولكن أحداً منهم لا يسأل نفسه وما قيمة اجتذابهم إلى الكنيسة , وهم يخوضون إليها مثل هذا الطريق ، ويقضون ساعاتهم فيه ؟ أهو الذهاب إلى الكنيسة هدف فى ذاته ، أم آثاره التهذيبية فى الشعور والسلوك ؟ .
من وجهة نظر ( الآباء ) التى وضحتها فيما سلف ، مجرد الذهاب هو الهدف , وهو وضع لمن يعيش فى أمريكا مفهوم ! .
ولكنى أعود إلى مصر ، فأجد من يتحدث أو يكتب ، عن الكنيسة فى أمريكا ـ وهو لم ير أمريكا لحظة ـ وعن دورها فى الإصلاح الإجتماعى ، ونشاطها فى تطهير القلب ، وتهذيب الروح ( 1 ) …
ولله فى خلقه شئون ! .
والأمريكى بدائى فى حياته الجنسية :
وفى علاقات الزواج والأسرة . ولقد مررت فى أثناء دراساتى للكتاب المقدس بتلك الآية الواردة فى ( العهد القديم ) , حكاية عن خلق الله للبشر أول مرة وهى تقول : ( ذكر وأنثى خلقهم ) .. مررت بهذه الآية كثيراً ، فلم يتمثل لى معناها عارياً واضحاً جاهراً ، كما تمثل لى فى أثناء حياتى بأمريكا .
إن كل ماتعبت الحياة البشرية الطويلة فى خلقه وصيانته من آداب الجنس ، وكل ما صاغته حول هذه العلاقات من عواطف ومشاعر ، وكل ما جاهدت من غلاظة الحس ، وجهامة الغريزة ، لتطلق إشعاعات مرفرفة ، وهالات مجنحة ، وأشواق طليقة ، وكل الروابط الوثيقة حول تلك العلاقات فى
شعور الفرد ، وفى حياة الأسرة ، وفى محيط الجماعة …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــ
( 1 ) فى كتابه معركة الإسلام والرأسمالية ص 56 ، 57 يذكر سيد قطب : ( وكثيرًا ما ذهبت إلى هذه الكنائس ، وكثيرا ما استمعت إلى الآباء فى محطات الإذاعة ، دائما يحاول الآباء أن يعقدوا الصلة بين قلب الفرد وبين الله ، ولكن واحدًا متهم لهم أسمعه يقول : كيف يمكن أن تكون مسيحيا فى واقع الحياة اليومية ، ذلك أن المسيحية إنما هى مجرد دعوة للتطهر الروحى ، ولم تتضمن تشريعا للحياة الواقعية بل تركت ذلك لقيصر .. ) .
إن هذا كله قد تجردت منه الحياة فى أمريكا مرة واحدة ، وتجلت عارية عاطلة من كل تجمل , ( ذكر وأنثى ) ,
كما خلقهم أول مرة , جسداً لجسد ، وأنثى لذكر ( 1 ) .
على أساس مطالب الجسد ودوافعه ، تقوم العلاقات وتتحدد الصلات ، ومنها تستمد قواعد السلوك ، وآداب المجتمع ، وروابط الأسر والأفراد .
بفتنة الجسد وحدها ، عارية من كل ستار ، مجردة من كل حياء ، تلقى الفتاة الفتى ، ومن قوة الجسد وضلاعته يستمد الفتى إعجاب الفتاة ( 2 ) .
ويستمد الزوج - حقوقه ـ هذه الحقوق التى تسقط جمعيا فى عرف الجميع ، يوم يعجز الرجل عن الوفاء بها لسبب من الأسباب .
وما من شك أن لهذه الظاهرة دلالتها على حيوية هذا الشعب وقوة حسه , ولو هذبت هذه الطاقة وتسامت لاستحالت فناً يجمل جهامة الحياة ، وأشواقاً تجعل لها فى الحس الإنسانى نكهة ، وتربط بين الجنسين بروابط أعلى وأجمل من روابط الجسد الظاميء والحس الهائج ، والجنس الصارخ فى العيون ، الهاتف فى الجوارح ، المتنزى فى الحركات واللفتات ، ولكن طبيعة الحياة فى أمريكا ، والملابسات التى سلفت فى نشأة هذا الشعب ، لا تساعد على شيء من هذا ، بل تقاومه وتقصيه .
وهكذا أصبحت كلمة حىّ أو خجول Bashful ) ) من كلمات العيب والتحقير ؛ وانطلقت العلاقات الجنسية من كل قيد على طريقة الغابة ، وأصبح بعضهم يفلسفها فيقول : كما قالت لى إحدى فتيات الجامعة مرة :
( إن المسألة الجنسية ليست مسألة أخلاقية بحال , إنها مجرد مسألة بيولوجية : وحين ننظر إليها من هذه الزواية نتبين أن استخدام كلمات الرذيلة والفضيلة , والخير والشر ، إقحام لها فى غير مواضعها ، وهو يبدو لنا نحن الأمريكان غريباً بل مضحكاً … ) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــ
( 1 ) يقول سيد قطب فى مجلة الكاتب جـ 1 : ( وتطلع عليك الفتاة كأنها الجنية المسحورة أو الحوراء الهاربة ، ولكن ما إن تقرب إليك حتى تحس فيها الغريزة الصارخة وحدها , مجردة من كل إشعاع ، ثم تنتهى إلى لحم ، مجرد لحم ، لحم شهى حقًا ، ولكنه لحم على كل حال … ) .
( 2 ) يذكر سيد قطب , ( فى الظلال 2: 637 ) , عما شاهده , من شيوع هذه الظاهرة : ( نعم شاهدت فى البلاد التى ليس فيها قيد واحد على الكشف الجسدى والاختلاط الجنسى بكل صوره وأشكاله ، إن هذا كله لم ينته بتهذيب الدوافع الجنسية وترويضها ، إنما انتهى إلى سعار مجنون لا يرتوى ولا يهدأ إلا ريثما يعود إلى الظمأ والاندفاع ! وشاهدت الأمراض النفسية ، شاهدت بوفرة ومعها الشذوذ الجنسى بكل أنواعه .. ثمرة مباشرة للاختلاط , وللصداقات بين الجنسين ) .
وبعضهم يبررها ويعتذر عنها كما قال لى طالب يشتغل للدكتوراه :
( إننا هنا مشغولون بالعمل ، ولا نريد أن يعوقنا عنه معوق ، ليس لدينا وقت ننفقه فى العواطف ! ثم إن الكبت يتعب أعصابنا ، فنحن نريد أن ننتهى من هذه ( الشغلة ! ) لنفرغ إلى العمل بأعصاب مستريحة ) .
ولم أرد أن أعلق على هذا الحديث فى وقته ( 1 ) , فقد كان همى أن أعرف كيف يفكرون فى هذه المسألة ، وإلا فكل شيء فى أمريكا لا يدل على أعصاب مستريحة ، بالرغم من كل وسائل الحياة المريحة ، وكل ضماناتها المطمئنة ، وكل يسر وسهولة فى إنفاق الطاقات الفائضة .
إن التجربة الواقعية التى بلغت فى أمريكا غايتها ، كفيلة بأن تسخر من هذا المنطق الظاهرى البراق ! فلم يؤد الاختلاط إلى تصريف نظيف , إنما أدى إلى بهيمية كاملة تطيع النزوات الجسدية وتلبيها بلا حد ولا قيد ، ولم تؤد التجربة الكاملة والاختلاط المطلق إلى التماسك فى البيوت ، ولا إلى الاستقرار والثبات ، إنما أدى إلى تفكك دائم ، وطلاق متزايد ، وجوع مستمر , وسعار !!
وبعضهم يسمى هذا تحرراً من الرياء ومواجهة للحقائق , ولكن هناك فارقاً أساسياً بين التحرر من الرياء ، والتحرر من المقومات الإنسانية , التى تفرق بين الإنسان والحيوان .
والإنسانية فى تاريخها الطويل لم تكن تجهل أن الميول الجنسية ميول طبيعية وحقيقية ، ولكنها ـ عن وعى أو غير وعى ـ كانت تجاهد لتتحكم فيها ، فراراً من العبودية لها ، وبعداً عن مدارجها الأولى : إنها ضرورة نعم ؛ ولكن لماذا تخجل الإنسانية من إبداء ضروراتها ؟ .
لأنها تحس بالفطرة أن التحكم فى هذه الضرورات , هو شهادة الخلاص من الرق ، وأولى مدراج الإنسانية فى الطريق ، وأن العودة إلى حرية الغابة عبودية مقنعة ، ونكسة إلى مدراج البدائية الأولى .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــ
( 1 ) وجدنا تعليقا طريفًا فى كتابه ( السلام العالمى والإسلام ص 74 ـ 76 ) , يقول سيد قطب : لقد آن أن تراجع البشرية تلك النظريات الخالية الخاوية التى تقول : إن الإختلاط تصريف جزئى ملطف نظيف ، وإن التجربة تقود إلى الاختيار ، وإن الاختيار طريق الاستقرار
يتبع
Bookmarks