قرأت جزءا من هذا الكتاب الممتع ( بلاغة الكلمة في التعبير القرآني) للدكتور الفاضل فاضل السامرائي فأردت أن أشارك إخواني بهذه اللطائف و الفوائد من كتاب الله عز وجل و قد إختصرت الكلام كثيرا فما كان فيه من إبهام فمني و ليس من الدكتور و من أراد المزيد فليرجع إلى الكتاب
الملخص :
قد يحذف في التعبير القرآني حرف من الكلمة مثل (استطاعوا) و (اسطاعوا) و(تتنزل) و (تنزل) و (تتوفاهم) و (توفاهم) و(لم يكن) و (لم يك) و ما إلى ذلك ..
و كل ذلك لغرض و ليس اعتباطا فالتعبير القرآني تعبير فني مقصود كل كلمة فيه بل كل حرف إنما وضع لقصد فالقرآن يحذف من الكلمة لغرض ولا يفعل ذلك لغرض و ذلك لأسباب منها
1- أنه يحذف من الفعل للدلالة على أن الحدث أقل مما لم يحذف منه و إن زمنه أقصر و نحوذلك , فهو يقتطع من الفعل للدلالة على الإقتطاع من الحدث .
2- أو يحذف منه في مقام الإيجاز و الإختصار بخلاف مقام الإطالة و التفصيل فإذا كان المقام مقام إيجاز أوجز في ذكر الفعل فاقتطع منه و إذا كان في مقام التفصيل لم يقتطع بل ذكره بأوفى صورة .
و للتدليل على ذالك نضرب الأمثلة التالية :
قال تعالى (فَمَا
ٱسْطَاعُوۤاْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا
ٱسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً) ففي الكلمة الأولى حذف منها التاء و في الثانية أثبتها و ذلك لأن الظهور على السد أسهل من نقبه فحذفت التاء من الفعل الأسهل و أبقيت في الفعل الأصعب و الأشد .
و منها قوله تعالى (
تَنَزَّلُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ) و قوله تعالى (إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ
تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)
ففي الآية الأولى حذفت التاء من (تنزل) لكون الحدث لا يتكرر كثيرا بل هو مرة في السنة في ليلة القدر بينما أثبتت التاء في الآية الثانية لأنها تتكرر مرات عديدة حيث الملائكة دائمة النزول على أهل الإيمان .
و مثلها قوله تعالى (كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن
تُنَزَّلَ ٱلتَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِٱلتَّوْرَاةِ فَٱتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) فالتوراة إنما نزلت مرة واحدة وكذلك قوله تعالى { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَن
تَنَزَّلُ ٱلشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ ٱلسَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُون) فالشياطين لا تنزل على كل الكفرة مثلما تتنزل الملائكة على كل المؤمنين بل تنزل على السحرة و المشعوذين من الأفاكين الآثمين..
و مثال آخر قوله تعالى (إِنَّ ٱلَّذِينَ
تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي ٱلأَرْضِ قَالْوۤاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيرا) و قوله تعالى (ٱلَّذِينَ
تَتَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ ٱلسَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوۤءٍ بَلَىٰ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ففي الآية الأولى حذفت التاء من
(توفاهم) لكون الكلام عن عدد محدود من الذين ماتوا على الكفر بسبب عدم هجرتهم و هم عدد قليل جدا بينما في الآية الثانية فالحديث فيها عن عموم الكفار فالذين في الآية الأولى هم جزء بسيط من الذين في الآية الثانية .
و مثال آخر قوله تعالى ( لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن
تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً) و قوله تعالى (وَآتُواْ ٱلْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ
تَتَبَدَّلُواْ ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً) فالآية الأولى خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم فأوجزت الكلمة (تبدل) و الثانية عامة لكل المسلمين فذكرت الكلمة كاملة .
و مثال آخر قوله تعالى (وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ
تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانا) و قوله تعالى ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَل
اَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى ٱلْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ٱللَّهُ يَجْتَبِيۤ إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيۤ إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ) ففي الآية الخاصة بالمهاجرين و الأنصار جاءت موجزة بينما الآية التي تتحدث عن شريعة كل الأنبياء جاءة ممتدة مكتملة .
و من اللطائف فهذه الآية أن الشرائع السابقة أشار الله عز وجل لها بحرف ما فقال
(ما وصى به نوحا) و قال
( ماوصينا به إبراهيم و موسى و عيسى) بينما لما جاء إلى شرعنا قال (
الذي أوحينا إليك) و هذا لأن
الذي أعرف ممن
ما فالشرائع الأخرى قد لا نعرف ما فيها بينما شريعتنا يعرفها نبينا و نعرفها تماما .
و مثال آخر قوله تعالى (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ وَأَن
تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) فحذفت التاء من تصدقوا لأنها هنا جزء بسيط من الصدقة خاصة بإقالة المعسر ..
و مثال أخر قوله تعالى (قَالَ هَـٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ
تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً)
فالمقام هنا مقام شرح و تطويل فجاء الفعل تستطع كاملا بينما في الآية الأخرى(ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ
تَسْطِـع عَّلَيْهِ صَبْراً)
فهنا حذفت التاء لأنها النهاية والفراق.
و مثال آخر قوله تعالى (مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ كَٱلأَعْمَىٰ وَٱلأَصَمِّ وَٱلْبَصِيرِ وَٱلسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ
تَذَكَّرُونَ) و قوله تعالى (وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَعْـمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَلاَ ٱلْمُسِيۤءُ قَلِيـلاً مَّا
تَتَذَكَّرُونَ)
ففي الأولى قارن بين أمرين ظاهرين الأعمى الأصم و السميع البصير فحذفت التاء لأن الأمر واضح و جلي لكن في الآية الثانية جاءت تتذكرون كاملة لأن في الآية زيادة .
و مثال آخر قوله تعالى (قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا
نَبْغِ فَٱرْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصاً) و قوله تعالى (وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يٰأَبَانَا مَا
نَبْغِي هَـٰذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا) ففي الآية الأولى بغية موسى عليه السلام لم تكن نسيان الحوت بل هذه كانت علامة على تحقق بغيته الحقيقية و هي لقاء العبد الصالح فلما لم تكن هذه بغيته الحقيقية جاءت ناقصة بدون ياء بينما إخوة يوسف بغيتهم الكاملة هي الطعام و ثمن الطعام فجاءت بغيتهم كاملة بالياء.
و مثال آخر قوله تعالى (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ
وَٱخْشَوْنِي) و قوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ ذٰلِكُمْ فِسْقٌ ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ
وَٱخْشَوْنِ) فلما كانت الفتنة بتغيير القبلة أشد على الرسول و المسلمين جاءت تخشوني كاملة بالياء بينما في الآية الثانية جاءت بعد إنتصار المسلمين فإقتضى المقام في الأولى تذكير أكثر و أكبر بالخشية من الله لأن الكفار في موضع قوة و يحاولون التأثير على المسلمين على عكس الثانية.
و مثال آخر قوله تعالى (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـٰذَا ٱلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ
أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً) و قوله تعالى (وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاۤ
أَخَّرْتَنِيۤ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ) ففي الآية الأولى حذفت الياء من (أخرتن) لأني إبليس لم يطلب التأخير لإصلاح نفسه بل لإضلال غيره بينما الآية الثانية خاصة بالكافر الذي لم يطلب التأخير إلا لخاصة نفسه فجاءت الياء موافقة له و أيضا إبليس لم يطلب التأخير صراحة فجاء بحرف لئن بينما الكافر طلب التأخير صراحة فجاء الصريح كاملا و الضمني ناقصا مناسبة للكلام .
و مثال آخر قوله تعالى (فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ
ٱتَّبَعَنِ) و قوله تعالى (قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ
ٱتَّبَعَنِي) ففي الآية الأولى إقتصرت على الإعلان بالإسلام فجاءت موجزة بينما الثانية فيها تفصيل و بيان كما في سورة يوسف فجاءت كاملة.
و مثال آخر قوله تعالى (قَالَ يٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ
تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّيۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ) و قوله تعالى (قَالَ فَإِنِ ٱتَّبَعْتَنِي فَلاَ
تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) ففي الآية الأولى كانت في موضع نهي و تحريم قطعي لا يحتاج طول كلام ولا لتكرار فجاءت موجزة محذوفة الياء بينما في الآية الثانية جاءت في موضع اشتراط فجاءت كاملة واضحة.
و مثال آخر قوله تعالى (قُلْ
يٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) و قوله (قُلْ
يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ) فالعباد المقصودين في الآية الأولى قلة لأن المتقين دائما قلة بينما العصاة كما في الآية الثانية فكثيرون جدا فناسب حذف الياء في القلة و اضافتها في الكثرة ..
و الله أعلم ..
Bookmarks