رحلة إِرُوفْنِتِس
The travel of Erovnetiss
الفصل الأول: في الغابة
جلس «إِرُوفْنِتِس» تحت شجرة التين الوارفة، مُستظلا بظلها،
لا ينفك نظره مُراقباً أخته الصغيرة «مَنْدِيُو» التي تبعده بضعة خطوات، تلعب وتلهو في طمأنينة وسلام.
تَنْقُلهما روعة المكان إلى اللوحة التي رسماها سوياً عن الجنة الأولى، جنة عدن. كانت الصغيرة شديدة
التعلق بأخيها، وكان هو الآخر أكثر منها تعلقا وحُباً لها.
ما فتئت الصغيرة «مَنْدِيُو» تسأله عن كل ما يقع بصرها عليه، وهما في مسيرهما من الكوخ إلى الغابة
القريبة منهما، كانت أسئلتها على بساطتها وسذاجتها، تلتف بالحكمة وفهم فطري للوجود، لا يتطلب
تكلفة ولا مشقة نظر، ولا يحتاج قراءة كُتب الفلاسفة الحُكماء، ولا مُزاولة علوم الفلك والرياضيات،
بل كل ما يحتاجه فكر سليم يُقلب ناظريه في روعة الوجود. كثيراً ما كان «إِرُوفْنِتِس» يتفكر في أسئلتها،
فتُثير حيرته ودهشته، فتارة تسأله عن التراب واختلاف ألوانه وأشكاله، وتارة تسأله عن النبات والشجر
والثمار، وتارة أخرى تسأله عن الفراشات التي تطير حولهما، وعن الطيور المُغردة فوق أغصان الشجر،
وعن السمك السابح في البُحيرة. حتى إذا غربتْ الشمس، وخيم الليل، وفي طريق عودتهما للبيت،
انطلقت أسئلتها من جديد تجوب أرجاء السماء، فتسأله عن ضياء الشمس قبل الغروب، وعن نور
القمر يكشف لهما الطريق، وعن النجوم وانتظامها، وعن سر الليل وسكنه.
ثم ما هو إلا أن يبدأ في ترتيب كلمات حائرة مُضطربة ليُجيبها، حتى يجدها قد رحلتْ به لعوالم أخرى
بسؤال بريء آخر، ومع كثرة الأسئلة وتوالي دهشته ورَوْعِه، علم أنها لا ترنو لسماع الجواب، بقدر ما
تُوجه فكره للتدبر في الموجودات، فترحل به أسئلتها البريئة وتسري به من موجودات الأرض إلى موجودات
السماء. وفي كل مرة يجد العقد لم يكتمل بعد.
لعل في أسئلتها شيء خفي!! هكذا كان يُحاور نفسه بعد عودتهما للكوخ.
وحقاً كانت الصغيرة «مَنْدِيُو» تُخفي أمراً جليلا ينتظر من يُجليه، لو كُشف فقط لهدأ روع «إِرُوفْنِتِس»
وسكن باله.
وفي كل مرة في خرجاتهما المُتكررة وتعاهدهما للمكان الذي كبرا فيه وترعرعا، كان «إِرُوفْنِتِس» يرقبها
بتمعن وانتباه شديدين، عسى أن يُكشف ذلك المخفي.
وما هو إلا أن تنهي سؤالها، حتى تُردفه بابتسامة يُضيء لها وجهها، دون أن تلتفت إليه، ولم تكن
ابتسامتها العذبة بالتي تُزيل حيرة أخيها، بل لكأن لسان حالها يقول له:
عليك بذل بعض الجُهد كي ينكشف لك الجواب، وتنكشف لك حبة اللؤلؤ التي تُزين العقد.
وأكثر ما كان يزيد دهشته، أنها في كثير من المرات تُشير بيديها الصغيرتين إلى موضع مجلسه تحت
شجرة التين، وتقول له: إن فرعها الوارف ما كان ليُظلك لولا أصلها الثابت، فإذا ما أصابك اليأس
فارجع إلى الأصل ستجد فيه الأمان.
لم تمنع أسئلة «مَنْدِيُو» ولا حيرة "إِرُوفْنِتِس"، من أن يستمتعا بجمال المنظر حولهما، ويزداد توهج
حبهما للحياة ولجمالها حين يلمح بصرهما روعة الرداء الأزرق الذي تلحّفته السماء، حتى يُخيل إليهما
أنها تُبادلهما النظر والتبسم. يتدفق نبع ماء صاف قُرب الشجرة التي لطالما استظل «إِرُوفْنِتِس» بظلها،
فيُضفي خريره على المكان سكوناً وأُنساً، تُنصت العصافير لضحكات الصغيرة الشجية فيتعلمن منها
التغريد وتشاهد أسراب الفراش بشغف كبير خصلات الصغيرة يتلاعب بها نسيم الربيع، وها هي ذي
الشمس تُطل بأشعتها بين الفينة والأخرى مُختلسةً طريقاً بين الغصون علها تُلامس وجه الصغيرة، فتزداد
لمُلامستها ضياء.
وفي إحدى المرات، لم تنته النزهة كسابقاتها المعهودة، دوى صوت قوي ارتجت له أطراف الغابة، تغادر
أسراب الطيور تاركة أعشاشها، وتضطرب الفراشات الصغيرة لا تدري ما حل بها، ويُسمع لكل حي من
حيوانات الغابة هلع وخوف. ترتمي «مَنْدِيُو» في حضن أخيها راجية منه الأمان، وينتبه «إِرُوفْنِتِس» باحثا
عن مصدر الصوت الغير المعهود، وفجأة تنضرم النيران ويُطَوق لهيبها أرجاء الغابة. حوصر «إِرُوفْنِتِس»
و«مَنْدِيُو» بين شرر النار المُنتشرة، فلم يجد من مخرج غير التوجه إلى البُحيرة القريبة عسى أن يُطفئ
ماؤها اللهب الجائع، ويُبعدهما عنه، حملها بين يديه وانطلق بها مُسرعا.
حيوان ضخم يسد الطريق، هذا ما ظنه الشاب، لكن ما أن اقترب منه أكثر حتى وجده مسخاً عظيما
بعينين سوداوين وجسد هلامي كأنه لهيب نار، لعاب ممزوج بالدماء، وأنفاس كأنها دخان حارق، إنه
"كرونوس"، ذلك الوحش المُخيف الذي لطالما حذر كاهن القرية سُكانها من مغبة إغضابه وعدم الامتثال
لرغباته وأوامره.
أتراها النهاية بين فكي "كرونوس"؟ لم يعد له خيار، فاللهب وراءه قد أحرق الغابة، وليس له طريق آخر
إلا أن يتجاوز الذي أمامه...
يُتبع...
Bookmarks