قال الطبراني: ( لم يروه عن روح بن القاسم إلا شبيب بن سعيد أبو سعيد المكي وهو ثقة ، وهو الذي يحدث عنه أحمد بن شبيب عن أبيه عن يونس بن يزيد الأيلي ، وقد روى هذا الحديث شعبة عن أبي جعفر الخطمي - واسمه عمير بن يزيد - وهو ثقة تفرد به عثمان بن عمر بن فارس عن شعبة ، والحديث صحيح ) .
قلت: لا شك في صحة الحديث ، وإنما البحث الآن في هذه القصة التي تفرد بها شبيب بن سعيد كما قال الطبراني ، وشبيب هذا متكلم فيه ، وخاصة في رواية ابن وهب عنه ، لكن تابعه عنه إسماعيل وأحمد ابنا شبيب بن سعيد هذا ، أما إسماعيل فلا أعرفه ، ولم أجد من ذكره ، ولقد أغفلوه حتى لم يذكروه في الرواة عن أبيه ، بخلاف أخيه أحمد فإنه صدوق ، وأما أبوه شبيب فملخص كلامهم فيه أنه ثقة : في حفظه ضعف ، إلا في رواية ابنه أحمد هذا عنه عن يونس خاصة فهو حجة ، فقال الذهبي في ( الميزان ) : ( صدوق يغرب ، ذكره ابن عدي في ( كامله ) فقال
. . . له نسخة عن يونس بن زيد مستقيمة ، حدث عنه ابن وهب بمناكير ، قال ابن المديني: كان يختلف في تجارة إلى مصر ، وكتابه صحيح قد كتبه عن ابنه أحمد . قال ابن عدي: كان شبيب لعله يغلط ويهم إذا حدث من حفظه ، وأرجو أنه لا يعتمد ، فإذا حدث عنه ابنه أحمد بأحاديث يونس فكأنه يونس آخر . يعني يجوّد ) فهذا الكلام يفيد أن شبيباً هذا لا بأس بحديثه بشرطين اثنين: الأول أن يكون من رواية ابنه أحمد عنه ، والثاني أن يكون من رواية شبيب عن يونس ، والسبب في ذلك أنه كان عنده كتب يونس بن يزيد ، كما قال ابن أبي حاتم في ( الجرح والتعديل ) عن أبيه ، فهو إذا حدث من كتبه هذه أجاد ، وإذا حدث من حفظه وهم كما قال ابن عدي ، وعلى هذا فقول الحافظ في ترجمته من ( التقريب ) :
( لا بأس بحديثه من رواية ابنه أحمد عنه ، لا من رواية ابن وهب ) فيه نظر ، لأنه أوهم أنه لا بأس بحديثه من رواية أحمد عنه مطلقاً ، وليس كذلك ، بل هذا مقيد بأن يكون من روايته هو عن يونس لما سبق ، ويؤيده أن الحافظ نفسه أشار لهذا القيد ، فإنه أورد شبيباً هذا في ( مَن طعن فيه من رجال البخاري ) من ( مقدمة فتح الباري ) ثم دفع الطعن عنه - بعد أن ذكر من وثقه وقول ابن عدي فيه - بقوله: ( قلت: أخرج البخاري من رواية ابنه عنه عن يونس أحاديث ، ولم يخرج من روايته عن غير يونس ، ولا من رواية ابن وهب عنه شيئاً ) . فقد أشار رحمه الله بهذا الكلام إلى أن الطعن قائم في شبيب إذا كانت روايته عن غير يونس ، ولو من رواية ابنه أحمد عنه ، وهذا هو الصواب كما بينته آنفاً ، وعليه يجب أن يحمل كلامه في ( التقريب ) توفيقاً بين كلاميه ، ورفعاً للتعارض بينهما .
إذا تبين هذا يظهر لك ضعف هذه القصة ، وعدم صلاحية الاحتجاج بها . ثم ظهر لي فيها علة أخرى وهي الاختلاف على أحمد فيها ، فقد أخرج الحديث ابن السني في ( عمل اليوم والليلة ) والحاكم من ثلاثة طرق عن أحمد بن شبيب بدون القصة ، وكذلك رواه عون بن عمارة البصري ثنا روح ابن القاسم به ، أخرجه الحاكم ، وعون هذا وإن كان ضعيفاً ، فروايته أولى من رواية شبيب ، لموافقتها لرواية شعبة وحماد بن سلمة عن أبي جعفر الخطمي .
وخلاصة القول: إن هذه القصة ضعيفة منكرة ، لأمور ثلاث:
ضعف حفظ المتفرد بها ،
والاختلاف عليه فيها ،
ومخالفته للثقات الذين لم يذكروها في الحديث ،
وأمر واحد من هذه الأمور كاف لإسقاط هذه القصة ، فكيف بها مجتمعة ؟
ومن عجائب التعصب واتباع الهوى أن الشيخ الغماري أورد روايات هذه القصة في ( المصباح ) من طريق البيهقي في ( الدلائل ) والطبراني ، ثم لم يتكلم عليها مطلقاً لا تصحيحاً ولا تضعيفاً ، والسبب واضح ، أما التصحيح فغير ممكن صناعة ، وأما التضعيف فهو الحق ولكن . . .
ونحو ذلك فعل من لم يوفق في ( الإصابة ) ، فإنهم أوردوا الحديث بهذه القصة ، ثم قالوا: ( وهذا الحديث صححه الطبراني في الصغير والكبير ) !
وفي هذا القول على صغره جهالات:
أولاً: أن الطبراني لم يصحح الحديث في ( الكبير ) بل في ( الصغير ) فقط ، وأنا نقلت الحديث عنه للقارئين مباشرة ، لا بالواسطة كما يفعل أولئك ، لقصر باعهم في هذا العلم الشريف ( ومن ورد البحر استقل السواقيا ) .
ثانياً: أن الطبراني إنما صحح الحديث فقط دون القصة ، بدليل قوله . وقد سبق: ( قد روى الحديث شعبة . . والحديث صحيح ) فهذا نص على أنه أراد حديث شعبة ، وشعبة لم يرو هذه القصة ، فلم يصححها إذن الطبراني ، فلا حجة لهم في كلامه .
ثالثاً: أن عثمان بن حنيف لو ثبتت عنه القصة لم يُعلّم ذلك الرجل فيها دعاء الضرير بتمامه ، فإنه أسقط منه جملة ( اللهم فشفعه في ، وشفعني فيه ) لأنه يفهم بسليقته العربية أن هذا القول يستلزم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم داعياً لذلك الرجل ، كما كان داعياً للأعمى ، ولما كان هذا منفياً بالنسبة للرجل ، لم يذكر هذه الجملة ؟ قال شيخ الإسلام:
Bookmarks