السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
انقل لكم خلاصة دراسة اجريتها عن المصطلحات وأثرها على الهوية، بواسطة حوار مع ليبرالي حول مفهوم الحرية
بين الحوار ضرورة تحديد المفاهيم وتوضيح المصطلحات وتقييدها وبيان مضمونها ومعانيها وحقائقها ، ثم تقييمها قبولاً وردا ، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: «معرفتنا بلغات الناس وإصطلاحاتهم نافعة في معرفتنا مقاصدهم ، ثم نحكّم فيها كتاب الله تعالى ، فما وافقه فهو حق وما خالفه فهو باطل» . ولا بد لنا من معرفة ثقافات الناس وثوابتهم ومعتقداتهم وقيمهم للوقوف على مقاصدهم من إستخدام المصطلحات ، وخاصة المتشابهة منها ، ثم الحكم عليها !
بينت الدراسة أن المصطلح الواحد قابل أحياناً لإحتواء مفاهيم عدة ، والحرية مثال على ذلك ، فقد شهدنا خلال الحوار اختلافاً بارزاً في تحديد معناها ، ودلالاتها ، وضوابطها ، ومجالاتها ، ومقاصدها ! مما زاد من ضرورة تجاوز اللفظ الظاهر للمصطلح والبحث في المضامين والأفكار المؤثرة على الهوية والعاكسة لها .
خلصت هذه الدراسة إلى وجود عدة دوائر أساسية في عملية "تفكيك المصطلح" لتقييمه ، وكشف مفاهيمه ، ومضامينه والحكم عليها ، وفي مركزها المرجعية العامة الشاملة التي من خلالها يمكننا ضبط مفاهيم المتحدث عند استخدامه للمصطلح ، إذ لا يجوز الفصل بين مفهوم المصطلح ومرجعية صائغه ومستخدمه ، ولا سيما في بيان المفهوم والهدف من استخدام المصطلح .
فحرية الإنسان في الاسلام إرتبطت بعبوديته لله وخضوعه لشرعه وتحقيق الغاية التي خلق من أجلها ، وبعبارة أخرى ، الحرية الحقيقية لا تقوم إلا بتحقيق "لا إله إلا الله" ، بينما ارتبطت "الحرية" في الليبرالية بالتحرر من العبودية لله ، والتزام عبودية أسس فكرية ، من أبرزها ، المادية والفردية والرأسمالية والهوى "الآن وهنا" ، أي متاع اللحظة ، وفي هذا اعلان ضمني وصريح لعبودية الطاغوت . وهذه العقيدة تتنافى مع عقيدة المسلم ، الذي أمره الله عز وجل أن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله . قال تعالى : {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} . من هذه القاعدة ظهرت فروع الإختلاف ، والتي نلخصها بالتالي :
أولاً : التحرر من قيود العبودية لله مقابل التحرر من قيود العبودية لغير الله
دعت الليبرالية إلى التحرر من قيود العبودية لله ، فوقعت بقيود العبودية المقيتة ، لا سيما أنها قامت على الفردية والأنانية ، والتنافس واعتبار القوة المعيار الوحيد للحق والصواب ! فوضعت بيد القوي صلاحية تفصيل قيود الحرية وفرضها على من هم أضعف منه كيفما شاء ومتى شاء ، في المقابل يدعوا الإسلام إلى التزام عبودية الله التي هي أساس التحرر من كل ما هو سواه ، ويرى بالوحي ـــ الكتاب والسنة ـــ مرجعية تحكم القوي والضعيف ، الغني والقفير ، الرجل والمرأة ، العربي والغربي ، وغيرها .
ثانياً : تصور الفطرة الانسانية وتصور الحرية
تعتمد الفلسفة الليبرالية على الفرضية القائلة ، أن الأنانية هي الطبيعة الحقيقية للإنسان ، وعليها يكون "الأنا" البعد المركزي في تصورها للحرية الإنسانية وقيودها ، أما النتيجة الحتمية لهذا التصور الخاطئ فهي الطغيان ، تعكس هذه الفرضية وما بني عليها اتباع الهوى ، والذي يترتب عليه إيثار الدنيا والطغيان ، يقول تعالى : {فَأَمَّا مَن طَغَى* وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} . ويبين الإسلام أن للحرية بُعد آخر غير «الأنا»، وهو «نحن» ، اي الجماعة، والذي عبرنا عنه في الحوار بركاب السفينة ، وبيّنَا كيف أن خرق بعض الركاب للسفينة ، يؤدي حتماً إلى غرق الركاب جميعاً .
ثالثاً : اتخاذ الهوى إله يعبد من دون الله تحت راية «الحرية الشخصية» :
يترتب على التصور الذي ذكرناه في النقطة السابقة ، ادعاء الليبرالية أن اتباع الهوى حقا أساسياً من حقوقه ، تحت راية «الحرية الشخصية» ، وتحقيق الإنسان لفرديته وذاتيته ! نهى الله سبحانه وتعالى عن إتخاذ الهوى آلهة تعبد من دون الله ، قال تعالى : {أَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} . فبينما تدعي الليبرالية "التحرر" من العبودية ، يكشف الإسلام هروبها من دائرة عبودية ضيقة ، ووقوعها في قيود العبودية المقيتة ، فيبن أن من تخلى عن "لا اله الا الله" خضعت نفسه وإرادته لكل آلهة إلا الله ! فلا يمكن للإنسان تحقيق الحرية الحقيقية إلا بالخضوع للخالق والتعلق به ، عندها وفقط عندها تتحرر من الخضوع والتعلق بأي شئ إلا خالقها !
رابعاً : الحرية ما بين الشك واليقين:
تبني الليبرالية تصورها للحرية والإبداع على أساس التشكيك ، فلا وجود للحقيقة أياً كانت في قاموسها ، بل وترفض اليقينية في الحقائق والأخلاق وغيرها ، حتى أن بعض فلاسفتهم وصل إلى حد التشكيك في وجوده ، في المقابل نفى الإسلام هذا التصور الضال ، مبيناً أن أساس الحرية في اليقين ، فأساس التوحيد الذي هو مصدر الحرية اليقين ، فالتوحيد لا يغني فيه إلا اليقين وهو شرط أساسي من شروط الإيمان بالله تعالى ، قال تعالى : {إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ}.
خامساً : الحرية بين الثابت وعدم الثبات :
بناء على ما سبق ، مفهوم الحرية في الليبرالية يمتاز بعدم الثبات والمطاطية ، وهذه نتيجة الليبرالية التي تمتاز بالتحرر من كل قيد وثابت ، إلا ثابت واحد وهو عدم الثبات ! خدمة لما أطلقت عليه إسم "المصلحة الشخصية" ، إن عدم الثبات والتلاعب في الحرية بلفظها الظاهر ، برز بكل وضوح بالتناقضات الليبرالية بالنسبة لتعريف الحرية ومطاطيتها ، من الحرية المطلقة ، إلى المقيدة بعد اجتماعي ، وبما انتجته بالواقع من رأسمالية ، وفاشية ونازية وغيرها ، وقد حذر الإسلام ونهى عن هذه الخصال لما فيها من ظلم وطغيان ، للنفس وللآخرين ، فجعل الحرية نتيجة العبودية لله المنضبطة بثوابت راسخة .
سادساً : الحرية الليبرالية والاستحلال :
بنيت الليبرالية على أسس فكرية عدة وفي مركزها ، المادية والفردية والأنانية واتباع الهوى والرأسمالية ، وعلى هذه الأسس قام التصور الليبرالي للحرية ، وبهذا أضاعت الغرض والهدف الأساسي لوجود الانسان ، ألا وهو العبودية لله ! وأضاعت معه القيود اللازمة للوصول إلى الحرية والسعادة الحقيقية ، بل وكسرت بنفسها هذه القيود وصاغت بدلا منها قيوداً أوقعت الإنسان والمجتمعات في أسر العبودية المقيتة ، واستباحت كل الحدود بدعوى الإبداع و«الحرية الشخصية» ، كيف لا ، فهذه الإباحة ليست مجرد ممارسة عملية ظاهرة بل هو إباحة عقائدية ، إذ لا يمكن للإنسان أن تكون ليبرالياً ويعتقد بتحريم الربا ، أو بتحريم الزنا ! على سبيل المثال ، أما «الحرية» فتتعارض مع الحرية الحقيقية التي جاء بها الإسلام ليرقى بالنفس وبالبشرية والقائمة على ضوابط العبودية !
سابعاً : الحرية الليبرالية والحكم بكل شئ إلا بما أنزل الله :
فهم الموقف الليبرالي من الحكم بما أنزل الله ، يتطلب فهم دقيق لجميع النقاط التي نوقشت ، بدءاً من الإعراض عن العبودية لله والوقوع بعبودية كل ما هو سواه ، وما ترتب عليه من تصورات خاطئة للحقيقة الانسانية ، واتباع للهوى ، والشك وعدم الثبات والاستحلال ! فكل هذا كفيل لفهم التناقض في ادعاء الليبرالية والذي يبدأ ب"الجميع سواسية في ظل «الدولة المدنية»" ، وينتهي ب"للجميع الحق في الحكم إلا من قال بتطبيق شرع الله" ، فمن الطبيعي أن الحرية الليبرالية المزعومة تريد نظاماً وأسلوب حياة يخدم مصلحتها من وجهة نظر اتباعها ، وأسلوب الحياة هذا يتناقض مع دين الله ـــ يتناقض مع الإسلام ـــ ويأتي هذا الجزء مكملاً لدائرة حرية مشروطة توافق الهوى وتناقض الوحي ! تزعم أن غايتها الحرية والإسلام يعاديها ، والحق أنها للإسلام معادية والحرية المزعومة سلاحها !
وما يسعنا هنا إلا الوقوف والتساؤل : أنعلم فعلاً ماذا أراد الله ورسوله ومن وراء الألفاظ ، سواء التي نستخدمها أو التي نسمعها ؟ واجبنا بداية تعلم معاني وحدود الألفاظ في الإسلام ، ثم النظر بما يقوله الغير في نفس الألفاظ ، فنجعل المفهوم الإسلامي هو الأصل ، وبعد البحث في المعنى الثاني ، يرد إلى المفهوم الأول لتقييمه ، يقول شيخ الإسلام رحمه الله : هذا طريق أهل الهدى والسنة، وطريق أهل الضلال والبدع بالعكس يجعلون الألفاظ التي أحدثوها ومعانيها هي الأصل ويجعلون ما قاله الله ورسوله تبعا لهم فيردونها بالتأويل والتحريف إلى معانيهم" .
فالواجب على المسلم زيادة الحذر في فهم المصطلحات وبيان مضامينها وأهدافها واستخداماتها ، امتثالاً لأمر نبينا صلى الله عليه وسلم، كما جاء في حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : حين أتاه عمر فقال : إنا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا ، أفترى أن نكتب بعضها ؟ فقال : أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى ؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية ، ولو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي .
فلنحذر من المزج غير المسؤول بين المضامين الضالة الفاسدة وبين مفهوم الإسلام للحرية ، كي لا تتشوه المصطلحات والإدراك وتضيع الهوية...
Bookmarks