كانت طائرة الإيرباص الضخمة تحلق على علو خمسة آلاف قدم, نظر من النافذة فخيل إليه أنها تسبح في حقل من القطن, تمنى لو يمد يده لينتزع قطعة من السحاب المتراكم, تمثلت له نفسه ذرَّة تسبح في الفضاء, كان الناس يأكلون ويشربون ويثرثرون ويضحكون, كأنهم يتفننون في قطع الوقت ودفع الملل, التفت إلى الرجل بجنبه فوجده منهمكا في لعبة إلكترونية, فجأة نبت في عقله سؤال: "من أنا؟ وكيف جئت إلى هنا؟ وأين تنتهي الرحلة؟" إنه لا يذكر شيئا إلا أنه كان قبيل لحظات ينعم بالنظر إلى السحاب دون أن يضطر إلى رفع بصره إليه, عاودته أسئلته فهمَّ أن يسأل جاره حين ارتفع صوت آلي: " مرحبا أيها المسافرون, هذا تسجيل إلكتروني, أنتم وحدكم على متن الطائرة, ليس أحد هنا سواكم, تدبروا أمركم, يمكن لمن شاء أن يحضر شرابا أو طعاما لنفسه, رحلة ممتعة"
لم يصدق أذنيه, قام يمشي حتى بلغ مقصورة القيادة, تردد في الدخول وحين لم يسمع صوتا فتح الباب فكاد قلبه يتوقف لهول الصدمة, لم يكن ثمة أحد! عاد إلى مقعده وهو يرتجف, نادى الركاب بصوت متهدج: "إننا في ورطة عظيمة, الطائرة بلا ربان, سنتحطم حتما!" نظر إليه الناس من حوله نظرة إشفاق, ثم عادوا إلى ما كانوا فيه, زادت حيرته, التفت إلى الرجل عن شماله فوجده منهمكا في لعبه, فصرخ في وجهه: "يا لك من أحمق, أنت في طائرة بلا ربان, ولا تجد شيئا تفعله أفضل من هذه اللعبة الغبية؟" فأجابه دون أن يفارق بصره شاشة حاسوبه: "وما الحاجة لربان, قوانين الطبيعة تتكفل بكل شيء, نطير ونهبط كما نولد ونموت, إيش المشكلة؟ يا رجل استمتع بالرحلة وكف عنا أسئلتك الساذجة."
أغمض صاحبنا عينيه هنيهة ثم فتحهما كأنه يحاول أن يستيقظ من كابوس خانق, لكن شيئا لم يتغير, إن هذا يحدث بالفعل, إنه ليس نائما, غير أنه استيقن شيئا واحدا, استيقن أن الناس من حوله فقدوا عقولهم, إذ كيف يطمئنون إلى طائرة خارجة عن سيطرة قوة عاقلة, كيف ينعمون باللهو على متن مركب لا يُدرى من أين جاء ولا إلى أين يسير, كيف يثقون بعالم هذه حاله ولا كيف يكون مآله؟
Bookmarks