بسم الله الرحمن الرحيم

هذا مقال للعلامة ابن عقيل الظاهري كبير الظاهرية في العصر الحديث نُشر في جريدة الجزيرة بتاريخ الخميس 05 ربيع الأول 1434 ( أجريت نشره في منتديات ثقافية عديدة )
--------------------------------------------------------------------
قال أبو عبدالرحمن: إدخال (الذوق) في مصطلح الإستاطيقا بمنتصف القرن الثامن عشر الميلادي داخل في صميم المعنى الخاص؛ لأن الذوق ههنا مجازي عن المعنويات، وليس هو الذوق الحسي باللسان، فالذوق تعبير عن الإحساس بلذة المشاعر الباطنية الغامضة..

.. وليس هو حكماً في نفسه؛ ولحرصي على خصوصية الإستاطيقا بلا تراكمٍ اصطلاحي: أرفض ثنائية (مير) الألماني، و(باومجارتن) عندما أطلقا هذه الثنائية لمعرفة حسية غامضة، ومعرفة عقلية واضحة.. بل هما: معرفة مشاعر باطنية غامضة نسبية غير قارَّة، ومعرفة عقلية حاسمة قارَّة، فليست كل معرفة عقلية تكون واضحة إلا بعد جُهْد جَهِيد في التفهيم، ومن المعرفة يحصل العلم؛ لأن المعرفة حسية مباشرة، والعلم أحكام واستنباطات عقلية..

والغموض الفكري في إدراك الحقائق، أو اعتقاد ما ليس بواقع ليس من الإستاطيقا في شيئ، بل ذلك من علم المنطق، ثم هو من نظرية العلم البشري لمَّا استقل هذا الحقل باسم القِيم والمعايير، وأما ملكة الخيال في تركيب عوالم خيالية أجزاؤها من الواقع فذلك هو أداة مُبدع النص الفني أو اللوحة الفنية.

إلخ، وما أنتجه الخيال إنما هو من مواد الإستاطيقا، لا الخيال نفسه؛ فما أبدعه الخيال هو موضوع الحكم الإستاطيقي..

ولقد أسلفت عن (كانط) أنه فيلسوف جامد جادٌّ ليس عنده شيئ من طبع الفنان وإحساسه، والتنظير من أجل لا يُعْتَدُّ به إلا من إحساس جمالي مرهف، ومن هؤلاء المُتَخَثِّرون (كروتشه، وجمهور الماركسيين كذلك)؛ فأبْعدُ شيئ عن خصوصية الإستاطيقا حُكْمُه بأنها الحدس المباشر أو الوجدان، فأما (الحدس المباشر) فيأتي بمعنى تَوَقُّعِ ذي الخبرة، وبمعنى الإلهام..

وقد عبروا عنه تعبيراً خاطئاً بأنه الحاسة السادسة، بل لا وُجُود لحاسة سادسة أو خامسة على الحقيقة، بل إذا أدخلتَ ذوقَ اللسان في اللمس والمماسة أصبحت الحواس أربعاً لا غير..

وأما (الجبل ياسارية) الذي يُسمُّونه (التلباثي) فهو تقريب مَلَكٍ كريم بأمر الرب الرحيم؛ لأن عمر رضي الله عنه يعيش هموم رعيته وجنده في يقظته ومنامه..

والحدْسان والتلباثي مأخوذان من المنطق (خِبْرة المجرِّب)، ومن الدين المعصوم، وليس فيهما الغموض وعدم الاستقرار في الإستاطيقا..

والوجدان أعم من المشاعر الغامضة وإن صعب التعبير عنها كالتعبير عن وصف لَّذة (الباءة)..

وكلمة (كيرت جون ديكاس): (الإستاطيقا كل ماله صلة بالمشاعر الحاصلة خلال التأمل) فيها شيئ من الحق والتعميم معا؛ فالتأمل عمل (الإستاطيقي)، وليس هو تأملاً مُرْسلاً مُطْلقاً، بل هو حضورٌ عقلي في فحص صفات ما هو جميل، وفحص أهليَّةِ مَن أحسَّ بأن ذلك الموضوع مصدرُ إشعاعٍ جمالي..

وأما الوجدان فكما أسلفت، وهو أنه وجدان باطني غامض..

والجمال والأخلاق بلذتيهما يعنيان خصوص لذة؛ فلحلاوة العسل لذَّة، ولا توصف بالجمال إلا تجوُّزاً كما نتجوَّز بالحلاوة في الإستاطيقا؛ فنقول: (تعبير حُلْوٌ)..

وأما تعريف (سوريو) بأن الإستاطيقا (علم يضع تحت أجناسٍ كليةٍ المعارفَ الخاصة المتضمَّنة في النشاط الفني) فهو تعريف مشحون بالأخطاء؛ فالإستاطيقي لا يُصنِّف أجناساً وهو في معاناة جنس واحد، وإنما يَستنبط أحكاماً، ويرصد مواصفات ما هو جميل، ويصنف أهليَّة ذوي الإحساس الجمالي ابتداءً بالأهلية الشعبية الدنيا وانتهاءً بذوي التربية العالية..

إلا أن فطرية إبداع الجمال والإحساس به شرط ضروري..

والإستاطيقا أعم من الجمال؛ فيشمل المشاعر من لذائذ ممارسة الأخلاق، ونشاط الإستاطيقي أعم من نشاطه الفني، بل هناك الإحساس بالجمال الطبيعي..

وهذا النقاشُ منْصَبٌّ على تعريف ما مر من تعريف (باركر) إلا أنه أضاف تجديد العلاقة بين الإستاطيقا والعلم والصناعة.. إلخ.

قال أبو عبدالرحمن: المقارنة بين الحقول الثقافية من خلال العلاقات والمفارقات عمل (مُؤرخ الحضارات والعلوم والمعارف)، ولا يختصُّ به الإستاطيقي..

والكمال عند (باومجرتن) هو منطق الإستاطيقا، وهذا صحيح؛ لأن الكمال شرط في كل المعايير الثلاثة، وهي معايير بالنوعية، وإلا فأصلها معيار واحد هو الحق، ونقيضه في الشرع وعند العقلاء البطلان والضلال؛ فجحد الحق وجوداً أو صفةً باطلٌ، والتجرُّد عنه سلوكاً ضلال، وَضِدّْا الجمال القبح أو البرودة..

وأما عودة كل المعايير إلى قيمة الحق؛ فلأن فعل الخير (العقل العملي) حكم عقلي، وحبُّ الجمال وإبداعه بشرط ما يُقْدر عليه من الكمال إباحة يحكم الشرعُ والعقلُ بضرورةِ إباحتِها ما ظلَّت بصفة ما يُقدر عليه من الكمال وسيلةً لغايةٍ كريمة..

وما حرم الشرع أو كره شيئاً إلاَّ تجد بديلاً عنه هو خيراً منه.

قال أبو عبدالرحمن: وأما (الإبستمولوجيا) فنحتاج إليها ترجمةً لا اقتراضاً؛ لأن مُفْرَدَتي (نظرية العلم) تُغني عن ذلك، ولكنك تضع الإبستمولوجيا بين قوسين بعد المُفردتين؛ ليعلم الخواجي والعليم بلغته حقيقة المصطلح؛ فيسهل التوصيلُ إليه..

وإنني من هذه اللحظة أُفَضِّلُ (نظرية العلم البشري)؛ لأن العلم يشمل المعرفة..

قال الدكتور جميل صليبا في المعجم الفلسفي / طبعة دار الشركة العالمية للكتاب 1-33: «الإبستمولوجيا لفظ مركب من لفظين: أحدهما ابيستما وهو العلم، والآخر لوغوس وهو النظرية أو الدراسة؛ فمعنى الإبستمولوجيا إذن نظرية العلوم أو فلسفة العلوم..

أعني دراسة مبادئ العلوم وفرضياتها ونتائجها دراسة انتقادية توصِّل إلى إبراز أصلها المنطقي وقيمتها الموضوعية؛ فالإبستمولوجيا تختلف إذن عن دراسة طرق العلوم من جهة، وعن دراسة تركيب القوانين العلمية من جهة ثانية؛ لأن الدراسة الأولى قسم من المنطق التطبيقي، والثانية قسم من الفلسفة الوضعية أو فلسفة التطور..

ونحن نُفرِّق بين الإبستمولوجيا ونظرية المعرفة - وإن كانت الأولى مدخلاً ضرورياً للثانية-؛ ذلك لأن الإبستمولوجيا لا تبحث في المعرفة من جهة ما هي مبنية على وحدة الفكر كما في نظرية المعرفة؛ بل تبحث فيها من جهة ما هي معرفة بعديّة مفصلة على أبعاد العلوم وأبعاد موضوعاتها؛ ومع ذلك فإنَّ اصطلاح الإبستمولوجيا في الإنكليزية مرادف لاصطلاح نظرية المعرفة، وأما في اللغة الفرنسية فهو مختلف عنه؛ لأن معظم الفلاسفة الفرنسيين لا يطلقونه إلا على فلسفة العلوم وتاريخها الفلسفي، وإذا كان بعضهم يوسِّع معناه ويطلقه على سيكولوجية العلوم؛ فمردُّ ذلك إلى أن دراسة تطور العلوم لا تنفصل عن نقدها المنطقي.

قال أبو عبدالرحمن: أسلفت أن الاصطلاح حسب الحاجة، وأن تكرار المصطلحات أسوأُ مظاهرِ التراكم الفلسفي الحديث الذي يحدث الشتات، وأن اختلاف معاني المصطلح الواحد من آفات تراث الأسلاف والفلسفة الحديثة معاً، ولا تكرار ولا تراكم في مصطلحات العلم المادي؛ واخترت (نظرية العلم البشري) بدلاً من (نظرية المعرفة) لما أسلفته من كون العلم معرفَةً وزيادة، كما أن ترجمة (الإبستمولوجيا) تعني (نظرية العلم) في لغة الخواجات، وذلك أشمل من نظرية العلم المادي أو فلسفة العلوم؛ لأن (نظرية العلم) تُحقِّق أوَّلاً دلالة القِيَم (المعايير)، وهي علم مُشترك بين كل العلوم، ويشمل ذلك فلسفة كل علم وفق المعايير الثلاثة، ووفق مبادئ العلوم؛ إذْ لكل علم مبادئ عشرة (كالتعريف به وبيان ثمرته..إلخ)، وليس الغرض إبراز أصلها المنطقي وَحَسْبُ كما قال جميل صليبا؛ بل المراد أيضاً ما يتعلق بها من الأخلاق والجمال بشرط ما يُقدر عليه من الكمال.. حتى العلوم المحرَّمة كالسحر يكون ضمن فلسفتها إبراز الباطل والشر والقبح..

أي نقائض المعايير الكريمة، وما استثناه صليبا غير مستثنى في الواقع؛ لأن دراسةَ أخذِ القوانين، وتركيبها من كل علم هما نظرية حقل من حقول العلم البشري، وكونها منطقية يعني أنها معيارية، ولا ينفي ذلك قابليَّتَها المعيارين الآخرين، ولا يعني قَصْرها على الفلسفة الوضعية أو فلسفة التطور، وإلى لقاء قريب إن شاء الله، والله المستعان.

http://www.al-jazirah.com/2013/20130117/ar2.htm