السلام عليكم
مقال رائع للدكتور ابراهيم عوض و رده من عدة جوانب عن شبهة احراق مكتبة الإسكندرية.
أسطورة إحراق المسلمين لمكتبة الإسكندرية
د. إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
لدى مناقشتنا للموضوع الخاص بإحراق مكتبة الإسكندرية ينبغى أن نتناوله أولاً من ناحية الرواية التى نقلته لنا حتى ندرك مدى معقولية مثل هذا الخبر أساسا، ثم ننظر فى نص الرواية ذاته لنرى مبلغ ما فيه من تماسك ومنطقية، ثم نتناول الأمر من الناحية النظرية لمعرفة موقف الإسلام من إحراق الكتب، وبخاصة الكتب الموجودة فى المكتبات العامة، ثم رابعا نناقش الأمر فى ضوء ما نعرفه عن شخصية كل من ابن الخطاب وابن العاص، ثم خامسا نعالج المسألة من الزاوية التاريخية. والآن نشرع بالنظر فى النص من ناحية الرواية. وأول ما يلفت النظر فيها أنها لم تظهر إلا بعد فتح مصر بأكثر من خمسة قرون، لم يذكرها ذاكر لا من المسلمين ولا من أعداء المسلمين طوال تلك الفترة المتطاولة. فأين كانت تلك الرواية كل هذه المدة؟ هل يعقل أن يقع أمر جلل كهذا دون أن يكتب عنه أحد شيئا على مدار تلك القرون إلى أن يأتى عبد اللطيف البغدادى والقفطى وأبو الفرج العبرى (ق6- 7هـ) فيشيروا إلى حكاية الحرق هذه؟ هل يمكن أن يختفى كل هاتيك القرون مثل هذا الخبر التاريخى الذى لو كان وقع لعرفت به الدنيا كلها وسجلته وتناقلته واستغربته وأنكرته، لكن مع ذلك كله لا تعرف الدنيا عنه شيئا ولاتسجله ولا تتناقله ولا تستغربه ولا تنكره، ثم فجأة يكتب عنه البغدادى والقفطى وابن العبرى بعد ما يزيد على خمسة قرون؟ فما مصدرهم فى هذه الحكاية؟ هل يا ترى يصح أن نقبل مثل ذلك الخبر كما هو بعوراته وسوآته دون أن نقف إزاءه لنتساءل من أين أتى، ومن أتى به، وفى أية ظروف أتى به، وكيف وصل للبغدادى والقفطى وابن العبرى دون الناس جميعا... إلخ؟ بكل يقين لم ينزل عليهم به وحى من السماء، فمن إذن أخبرهم به؟ ولماذا سكتوا فلم يحاول أى منهم أن يناقش هذه النقطة، وهو يعرف أنه أول من تناول الأمر؟ إن مثل ذلك الخبر لم يكن ليصح أن يمر على هؤلاء الكتاب دون أن يقلّبوه على كل وجوهه فيذكروا لنا مصدره وقائله والظروف التى سمعوا به فيها؟ كذلك فمثل ذلك الخبر ليس مما يصح تسجيله بهذه الخفة واللامبالاة التى سجله بها هؤلاء الثلاثة. إنه اتهام خطير لا يُقْبَل من أى إنسان إلقاؤه هكذا دون التثبت من صحة مصدره والظروف التى سمعه فيها. لقد كان هناك كتاب نصارى مثل ثيوفانس (البيزنطى) ويحيى بن عَدِىّ (العربى) ويوحنا النقيوسى وابن البطريق (المصريين) مثلا قبل هؤلاء الثلاثة بزمن طويل، وكلهم كان يهمه تشويه صورة الإسلام والمسلمين ورجالاتهم الكبار بكل سبيل، أفلو كان ذلك الخبر صحيحا أكان هؤلاء جميعا، وأشباههم كثيرون، يسكتون عنه فلا يشيروا إليه من قريب أو من بعيد؟
ومن هنا فلا معنى لما قاله جرجى زيدان، الذى يفترض أن المصادر الإسلامية المبكرة تكلمت عن هذا الموضوع، لكن المسلمين بعد تمدنهم حذفوا هذا الكلام تصورا منهم أنه يسىء إلى دينهم وكبار رجالهم[1]. إنها حجة غير مقبولة البتة لأن السكوت عن هذا الموضوع لا يقتصر على المصادر الإسلامية وحدها كما رأينا، فضلا عن أن المسلمين، على العكس مما يقول، كانوا لا يتركون صغيرة ولا كبيرة إلا وسجلوها وأفاضوا فيها القول مهما كان من إساءتها إليهم حتى إننا لنشكو مُرَّ الشكوى من هذا الأمر الذى يستغله خصوم الإسلام الآن، وأرى أن المسلمين المتقدمين ما كانوا ليبالوا به أدنى بالة، إذ كانوا من القوة والعافية والثقة بأنفسهم وبدولتهم وتاريخهم ورجالهم بحيث ما كانوا ليفكروا فى هذه الاعتبارات. ولو افترضنا أنهم فعلا قد تصوروا فيما بعد أنها مسيئة إليهم لقد كان فى مناقشتهم لها وردهم على ما جاء فيها مندوحة واسعة بدلا من حذفها. ومعروف أن مناقشة الفكرة بفكرة مثلها كانت سُنَّة المسلمين، وإلا فكيف وصلت إلينا كتب الملاحدة والشكّاكين من المنتسبين إلى الإسلام، وكذلك كتب الفرق المختلفة التى يكذب بعضها بعضا وتتصور كل فرقة أنها هى وحدها الصواب؟ بل كيف وصلت إلينا كتب اليهود والنصارى التى هاجموا فيها الإسلام؟ وحتى لو غضضنا النظر عن ذلك وقلنا إن الحذف قد حصل فهو خاص بالنسخ الجديدة، أما القديمة فبقيت على حالها، اللهم إلا إذا زعمنا كذبا وبهتانا أن متولى رقابة المخطوطات داروا على أصحاب النسخ الجديدة واحدا واحدا فأعطوه نسخة جديدة وأخذوا منه القديمة ودمروها بحيث لا يتبقى منها أى أثر. ولنفترض أننا غضضنا البصر عن هذا أيضا أمن الممكن أن يتواطأ على ذلك المسلمون والمنتسبون إلى الإسلام جميعا سُنّةً وخوارجَ ومعتزلةً ومتصوفةً وملاحدةً ومنافقين، ودعنا من اليهود والنصارى والصابئة والمجوس الذين كانوا يستظلون بظل الدولة الإسلامية آنذاك. ولا تنس الشيعة وكتابهم ومؤرخيهم، فما كانوا ليفلتوا مثل تلك الفرصة الخطيرة دون أن ينتهزوها ليشوهوا صورة عمر بن الخطاب، الذى لم يتركوا مثلبة إلا وألصقوها به وافْتَرَوْا عليه المفتريات التى لا تدخل العقل كما يعرف ذلك كل أحد، وكذلك عمرو بن العاص، الذى اتخذ جانب معاوية ضد على بن أبى طالب، لكننا ننظر فلا نلفى أحدا منهم ينبس ببنت شفة واحدة فى هذ الموضوع! ولو كان عمرو وعمر قد أحرقا مكتبة الإسكندرية لَطَنْطَنُوا بالزِّرَايَة عليهما والمقارنة بين هذين الكارِهَيْن للكتب والمكتبات وبين عَلِىّ بن أبى طالب باب مدينة العلم كما يصفونه، ولكن الشيعة لم يفعلوا، فما معناه؟ ثم فلنفترض أننا غضضنا النظر أيضا عن كل ما قلناه، فلم يا ترى ترك المسلمون ما كتبه عبد اللطيف البغدادى والقفطى فلم يحذفوه ما دام الحذف عندهم سهلا إلى هذا المدى؟
ثم بعد الانتهاء من خطوتنا الأولى نُثَنِّى بتحليل النص ذاته. وسوف أنقل ما كتبه كل واحد من الثلاثة اذين أوردوا فى كتبهم هذه الحكاية: فأما البغدادى فعبارته شديدة الإيجاز وتجرى على النحو التالى: "وفيها (أى فى دار العلم التى أنشأها الإسكندر الأكبر بمدينة الإسكندرية) كانت خزانة الكتب التى أحرقها عمرو بن العاص بإذن عمر رضى الله عنه"[2]. ولا ينبغى أن يفوتنا أن البغدادى كان مارا بمصر، إذ كان رحالة يجوب البلاد، ولم يكن من أهلها.
Bookmarks