(1)
السؤال الأول : لماذا ؟
من المعروف أن القرآن نزل بلغة العرب كلماتٍ وألفاظًا وتراكيب . ومع ذلك لم ترتفع همة لبليغ عربي أو فصيح بدوي لمنافسة القرآن وقنعوا جميعًا بالعجز
.
رغم أن صوت القرآن فوقهم كان ينادي بالتحدي .
ورغم أن الاستجابة للتحدي مغروزة في فطرة الإنسان .
ورغم أن هؤلاء العرب كانوا مشهورين بالعزة والكبرياء وهم الذين لم يعرفوا للذل طعمًا ولم يتسلط عدو محتل على بلادهم قطٌ طوال تاريخهم الشاسع .
رغم هذا كله لم يقبلوا تحدي القرآن وقابلوا الدعوة الجديدة بالسيف وتحملوا في سبيل ذلك مقاتل الرجال وسبي النساء وفتّ الأكباد وتيتيم الأولاد .
لكن . . .
لماذا اللغة ؟
لنفهم الجواب على هذا السؤال يجب أن نعرف أن هناك شروطًا لابد من توافرها في المعجزة الخاتمة :
شرط عموم الإنسان .
شرط عموم الزمان .
شرط عموم المكان .
فمعجزة خاتم الأنبياء لابد أن تصل للجميع ، إلى كل مدعو من الأنس والجن , فلا تقوم الحجة على الجميع على نحو سواء , إلا إذا باشرها جميعهم على نحو سواء .
فبدهي أن من رأى الآية عن كثب ليس كمن رآها عن بعد , ومن عاينها ليس كمن سمع عنها . ومن باشرها ليس كمن لم يباشرها .
ومن منطلق العدل الإلهي فى هداية البيان لزم التساوي بين الجميع ؛ فلله الحجة البالغة ، وحجج الناس داحضة عند ربهم .
ومن المبدإ نفسه تحتم على المعجزة الخاتمة أن لا تختص بمكان دون مكان ؛ لأنها لو كانت كذلك لحصل الإخلال بشرط عموم الانسان لأن الحجة تكون قد أقيمت على من يكون "هنا" وليس على من هو كائن "هناك" .
ومن هذا المشرب أيضا مقولة الزمان : فينبغي للمعجزة الخاتمة أن تستمر من مبعثها الى ختام الزمن أو بعبارة أدق الى زمن آخر مكلف فى هذه الحياة الدنيا .
ما المعجزة التي ستفي بالشروط الثلاث معًا ؟
مهما فكرنا فى الافتراض وأعدنا فى الاحتمال لن نتجاوز "اللغة" .
لو كانت المعجزة من جنس عصا موسى أو إحياء الموتى لأخلت بشرط عموم المكان لأنها وقعت في مكان واحد ، وبشرط عموم الزمان لأنها وقعت في زمن محدود ، وبشرط عموم الناس لأن الكل لن يباشروها بحكم محدودية المكان والزمان .
لكن انظروا الى القرآن لما كان من جنس اللغة فقد لبى كل الشروط :
يتلى هنا وهناك .
يتلى اليوم وغدًا , هنا وهناك .
يتلوه زيد وعمرو , اليوم وغدًا , هنا وهناك .
ويجب في هذا المقام أن ننتبه لخاصية مهمة في اللغة :
اللغة ملك كل عاقل . ولعلها الشيء الوحيد الموزع بالتساوي بين الصغير والكبير والمرأة والرجل والبدوي والحضري .
وانظروا تبعًا لذلك لعموم التحدي بالقرآن ، فلو كان بشيء علمي لقيل هو خاص بالعلماء ، ولو كان بمهارة لقيل هو خاص بمن لهم نوع تلك المهارة لكن التحدي كان باللغة التي تعرفها العجوز ويتقنها الصبي .
وهذا هو عموم الإنسان الذي توافر في معجزة القرآن الخالدة ، فلو كانت المعجزة الخاتمة من نوع علمي كسلاح نووي أو آلة غير معهودة فى الزمن الماضي ثم تحدى صاحب المعجزة قومه ، فهل سيكون التحدي صحيحا ؟
لا !
لأن التحدي هنا نسبي . صحيح إن بعض القوم سيؤمنون بالنظر الى وقوع المعجزة أمام أعينهم لكن هذه المعجزة بعينها فى عيوننا - نحن المعاصرين - ليست كذلك ويستطيع بعضنا أن يأتي بمثلها أو أفضل منها أو قريبًا منها ، أليس كذلك ؟
Bookmarks