هذا مقال ماتع لــ ( د: خالد صقر ) بعنوان ( بين العلم اليقينى والعلم الظنى…ضوابط يجب أن تراعى )
العلم التجريبى الحديث ، كما وضع أصوله وقواعده روجر بيكون وتلامذته ، قائم بشكل مطلق على المشاهدة والإستنتاج…مشاهدة الظواهر الطبيعية – أو آثارها ودلائلها – بالحواس الخمسة ، ثم الإستنتاج أو الإستنباط المبنى على المنطق العقلى المحض ، وهو علم لا يؤمن بوجود الخالق ، أو بمعنى آخر علم يبنى أصوله وقواعده على فرضية أن العالم قد وجد بالصدفة – كما فى نظرية الإنفجار الكبير لجورج ليميت - أو أن هذا العالم سرمديٌ – كما فى نظرية الأكوان المتعددة لماكس تيجمارك - أى أن أصول العلم التجريبى مشيدة على مبدأ عدم وجود خالق لهذا الكون الذى يستطيع البشر الإستدلال على وجوده من خلال العلم التجريبى
بطبيعة الحال فإن أكبر مشكلة – أصولية إن جاز التعبير – تواجه العلم الحديث منذ أن صاغ أينشتين النظرية النسبية العامة هى إستحالة التسليم بإحدى هاتين النظريتين لتفسير (حدوث) الكون ، وبالتالى إستحالة التسليم بانعدام الخالق. لقد نشأت هذه المشكلة منذ أن عجز العلم التجريبى عن صياغة (إستنتاج) منطقى للعديد من الظواهر الكونية التى إستدل عليها العلماء المعاصرون بالحواس الخمسة ، وأهم هذه الظواهر هى:
1- الإتساع المطرد للكون - وقد تم طرح بعض الإستنتاجات والتفسيرات لهذه الظاهرة ، من أهمها أن الإنفجار الكبير لا يزال يحدث ، وسيظل يحدث ، ومن أهمها أطروحة الثابت الكونى لأينشتين ، وفرضية الطاقة المظلمة (السلبية) التى تغمر الكون بين الأجرام السماوية… ولكن كل هذه التفسيرات ظلت مجرد أطروحات نظرية بحتة لا يقوم عليها أى دليل…
2- غياب الكتلة المفترضة للكون – فعند حساب قوى التجاذب بين الأجرام السماوية ، ومقارنتها بكتلة تلك الأجرام يتضح أن هذه القوى هائلة جدا بالنسبة لكتلة الأجرام الخاضعة لها ، وقد فتحت هذه المشاهدة الباب أمام واحدة من (أسخف) الأطروحات فى الفيزياء النظرية وهى أطروحة المادة المظلمة ، والتى تقول بأن الفضاء الذى يحيط بالأجرام السماوية له كتلة ما ، ولكنه مكون من مادة لا يمكن للبشر إدراكها…وهذا بالطبع يتناقض مع أصل العلم التجريبى التى تحيل تفسير كل الظواهر إلى الإدراك البشرى
3- التدقيق المتناهى Fine Tuning للقوى الكونية ، فعلى سبيل المثال لو فرض أن قوة الجاذبية الأرضية أصغر من قيمتها الحالية (9.8 م/ث2) بقيمة أصغر من 1 على ألف تريليون من القيمة الحالية ، فإن النظام الطبيعى على سطحكوكب الأرض يختل تماما بحيث تستحيل الحياة على سطح الأرض ، وكذلك بالنسبة لقوى التجاذب بين الجرام السماوية ، فإذا إختلت تلك القوى بمقدار متناهى فى الصغر ( قد يقدر بواحد على يساره 180 صفر قبل العلامة العشرية) فإن النظام الكونى قد ينهار تماما…هذا التدقيق المتناهى للكون يطرح شكوك هائلة حول نظرية الإنفجار الكبير ، إذ أن النموذج الحالى للكون بهذا التدقيق المتناهى لا يمكن أن يكون خاضع لاتساع مطرد عشوائى يهيمن على أجرامه السماوية ومداراته ، وهذا التدقيق المتناهى أيضا يفتح الباب على مصراعيه أمام أطروحة التصميم الذكى Intelligent Design للكون ، والتى تنتهى بالإستدلال على الخالق
هذه هى ثلاثة أمثلة ، طرحتها فقط لإثبات أن العلم التجريبى الحديث – الآن – يواجه أصعب مراحله منذ نشوئه فى القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين ، وهذه المرحلة قد تنتهى بتحطيم قواعد العلم التجريبى كما عرفناه طوال هذه القرون…مشكلة العلم التجريبى الحديث أنه بنى على فرض أن الكون مستمر وباق بدون أى رعاية أو ضبط مستمر لحركته وصفاته ، وحتى يتم ذلك فإن العلم التجريبى أيضا قد افترض أن هناك مجموعة من القوانين الدقيقة الجامدة التى تحكم هذا الكون ، وأن الحواس البشرية تستطيع الوضول إليها بواسطة المشاهدة والإستنتاج…ثم فى النهاية تبين أن كل القوانين التى يضعها البشر بواسطة قواعد العلم الحديث تنهدم كلما تطورت أدوات المشاهدة ! هذه هى المشكلة الحقيقية…ويالها من مشكلة…!
على النقيض تماما من العلم التجريبى يقف العلم الطبيعى فى الإسلام…. باختصار شديد ، العلم الطبيعى من المنظور الإسلامى مبنى على الإيمان بوجود صانع وخالق لهذا الكون ، هذا الصانع يتصف بصفات الكمال المطلقة كما يمكن أن يتخيلها المنطق البشرى ، ولاتصافه بهذه الصفات فإن الكون الذى خلقه منضبط إلى هذا الحد الهائل ، بل وفوق هذا الحد أيضا ، كما لا يمكن لبشر أن يتخيل…أما حدود الإدراك البشرية فتنتهى عند إدراك بعض القوانين التى نتجت عن إحكام خلق الكون ، وبواسطة موهبة الإستنتاج والتفكير الذكى الذى وضعه هذا الخالق فى عقل البشر ، فإنهم يستطيعون إستنباط القوانين التى تمكنهم من الحياة برفاهية على سطح الأرض من المشاهدات الطبيعية…وعندما يطرح الإسلام مبدأ أن القوانين المدركة (ناتجة) عن النظام الذى وضعه خالق الكون وليست (حاكمة) لهذا الكون فإنه يفتح الباب على مصراعيه أمام أى مشاهدة تخالف ما عرفه البشر من نظريات أو قواعد ، وبهذا فإنه يعطى حرية فكرية أوسع وأكبر للإستنتاج والإستنباط ، وفى نفس الوقت يكرس الإيمان بصفات (القدرة) و(الملك) و(الحكمة) المطلقة التى يتصف بها الخالق الذى يستطيع أن يغير كل هذه القوانين الطبيعية أو بعضها كيفما شاء ووقتما شاء ، وهنا يكتفى العلم التجريبى الحديث بكلمة (ظاهرة غير مفسرة Unexplained Phenomenon) أو (ظاهرة مما وراء الطبيعة Metaphysical Phenomenon) لوصف ما يحدث…
إذن يمكننا من هذا أن نستنتج أنه من المستحيل أن يؤمن المرء بأصول وقواعد العلم التجريبى الحديث والإسلام فى آن واحد…! نعم ! لأنه إذا ادعى المرء هذا التناقض فأول ما سيصطدم به عند تعمقه فى دراسة أى فرع من فروع العلوم الطبيعية هو (تفسير) الظواهر الطبيعية الغير مألوفة…فإذا نحا نحو تفسيرها تبعاً للقوانين المعروفة والموضوعة بأصول العلم التجريبى الحديث فسيكون الفشل الذريع من نصيبه…وإذا حاول أن يعزو هذه الظواهر لتدخل ذو طبيعة (إلهية) فسيكون أضحوكة العلماء التجريبيين الحداثيين ، بل وسينقض قواعد العلم الذى يؤمن به…
الضوابط العقلية والفكرية التى يجب أن تحكم علماء المسلمين الذين إنتووا أن يمخروا عباب العلوم الطبيعية هى (الإيمان) المطلق بأن القوانين التى يستدلون عليها من مشاهداتهم إنما (نتجت) عن تصرف (الخالق) جل وعلا فى ملكه وليست تلك القوانين هى التى (تحكم) تصرف الظواهر الطبيعية التى يشاهدونها…فعلى سبيل المثال ، يجب أن يؤمن علماء الفلك المسلمون بأن حركة القمر حول الشمس والقوانين التى تحكمها إنما نتجت عن مقادير معينة قدرها الله لهذه الأجرام ، وهو قادر على أن يغيرها لثانية أو حتى فمتوثانية ، وأنها ليست تلك الوانين هى التى تحكم حركة القمر ولا غيره من الأجرام السماوية
وثانى هذه الضوابط هو (تقديس) نصوص الوحيين لأن فيها علم يقينى لا يشوبه النقصان أو الخلل ، وإعطاء هذه النصوص أهمية تزيد بقدر هائل عن الأهمية التى تعطى لغيرها من النصوص من حيث مكانتها فى الإستدلال على الحقائق الكونية والطبيعية ، ومن حيث مكانتها فى التطبيق والتشريع وما إلى ذلك…وأعنى بكلمة (التقديس) الخضوع والإنقياد لنصوص الوحيين ومنع (أدوات) العلم التجريبى الحديث من (تلويثها) والخوض فيها…فعلا سبيل المثال ليس لأحد الأطباء المسلمين أن يقارن بين حديث فى الصحيحين وبين تقرير طبى أعده بعض العلماء التجريبيين بأدواتهم وعلومهم وأصولهم التى مكانها الآن التشكيك والسؤال والتمحيص…لا ينبغى لطبيب مسلم أن يفعل هذا ، وإلا كان عليه أن يراجع إيمانه (بقدسية) الوحى…
أما ثالث هذه الضوابط فهو (معرفة قدر حواسه) وقدراتها وحدودها ، فيصون عقله وقلبه ووقته من أن يضيعه فى أمور قد قدر الله علي البشر أنهم لن يدركوها…فإذا كان من العالم المسلم حق الخضوع لسلطان الله وملكه ، والمعرفة بقدره جل وعلا وتسلطه المطلق على كافة خلقه ، فسيتوقف عن الخوض فى مسائل الجدل النظرية التى لا مقصد من مقاصد عمارة الأرض واستخلافها من ورائها ، فإذا شعر بأنه بصدد مسألة تتعلق بإرادة الله وتصرفه فى ملكه ، كان ذلك صارفاً له عن تلك المسألة إلى غيرها مما يسر الله للبشر إدراكه لتحقيق مقصد من مقاصد الشريعة…
العلم اليقينى هو ماجاء به النبى – صلوات الله وسلامه عليه – وما دون ذلك كله فظنٌ…وإن الظن لا يغنى من الحق شيئاً
Bookmarks