مصحف الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته وخلفائه الغرّ الميامين، وبعد:
فإن من المعلوم أن توثيق النص القرآني مر بثلاث مراحل: مرحلة الحفظ والكتابة زمن النبي ، ومرحلة (الجمع) في مصحف واحد أيام أبي بكر ، ومرحلة نسخ المصاحف، أو كتابة عدد من النسخ أيام عثمان .
علماً بأن هذه المراحل أو هذه (الأعمال) الثلاثة يطلق عليها جميعاً - في كثير من الأحيان – لفظ (الجمع) لكنه يطلق ، ويراد به مرّة (الحفظ) وأخرى (الكتابة والتدوين) و (الجمع في مصحف واحد). وإذا كان (حفظ القرآن) بمعنى جمعه في الصدور، (وكتابته) في الصحف المختلفة المتفرقة قد تم في عهد النبي ، فإن (جمعه) بمعنى جمع أوراقه المكتوبة في مصحف واحد، قد تم في عهد الخليفة الصديق، ثم (نسخ) من هذا المصحف عدة نسخ بُعث بها إلى الأمصار زمن عثمان .
وتتناول هذه الورقة بعض الأفكار والمنطلقات حول المرحلة الثالثة و الأخيرة، لأن معظم أو أخطر (الشبه) والتساؤلات تدور حول هذه المرحلة، ويمكن إيجاز المرحلة الأولى بأن القرآن الكريم حفظ في الصدور من قبل النبي و أعداد كبيرة من الصحابة الكرام، كما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه على الورقة والرقاع وسائر ما كان يكتب عليه في تلك الأيام، ثم جمع القرآن على عهد أبي بكر باقتراح من عمر في إثر موقعة اليمامة – وبعد أن استحر القتل بالقراء في هذه المعركة مع مسيلمة الكذاب – وقد تم هذا الجمع في أوائل العام الثاني عشر للهجرة (الموافق
للشهر الثالث من العام الميلادي 366 م).
وقد خشي عمر من موت الحفاظ، لأن القرآن لا بد فيه من التواتر، وسبيله: الحفظ في صدور الأعداد الكبيرة من الحفاظ، كما أن طريقة أداء المكتوب إنما تتأتى عن طريق التلقين والمشافهة، وذهابُ الكثير من الذين حفظوا القرآن أيام النبي – أو قرؤوا عليه– يعوق طريق الأداء، وغنيّ عن البيان أن القرآن الكريم لابد فيه من التوثيق عن طريق الحفظ (في الصدور) والكتابة (في السطور) ولهذا سمّاه الله تعالى: كتاباً وقرآناً . مع التأكيد في هذا السياق أن الكتابة ليست شرطاً في التواتر.
ويمكن القول – باقتضاب شديد – إن هذا (الجمع) الذي تم في عهد الصديق كان جمعاً عاماً قام به الخليفة الأول وشارك فيه جمهور الصحابة أو جماعة المسلمين: الحافظ بحفظه، والكاتب بكتابته، كانت الغاية منه حفظ القرآن على هذا النحو المتواتر الموثق. وبقي هذا المصحف – كما هو معلوم – محفوظاً لدى أبي بكر ثم عند عمر ثم عند ابنته حفصة أم المؤمنين، حتى تم نسخه في عهد عثمان في سياق حروب الفتح والتحرير، فقد أفزع حذيفة بن اليمان اختلاف الناس في (القراءة) حين اجتمعت الجيوش – من الأمصار الإسلامية – في فتح أرمينية وأذربيجان، وكان الهدف من هذا النسخ (ضبط) الحروف وتقنين القراءات، أو وجوه الأداء المأثورة في بعض الكلمات، أي إن هذا العمل كان منصباً على أوصاف القرآن إن صح التعبير – بعد أن جمع (أصله) في عهد أبي بكر -ولهذا قام على استنساخ الصحف أو المصحف السابق في عدة نسخ، وعلى تعميم هذه النسخ في أمصار العالم الإسلامي حتى تكون هي الحجة فيما يقبل أو يرفض من الحروف أو وجوه القراءات . وقد عبرّ الدكتور محمد عبدالله دراز عن هذا بقوله: إن عثمان استهدف من هذا النشر والتعميم: (منع التماري في القرآن والشجار بين المسلمين بشأن القراءات المختلفة، لأن المصاحف العثمانية أضفت الصفة الشرعية على القراءات المختلفة التي كانت تدخل في إطار النص المدون ولها أصل نبوي مجمع
عليه.
وان شئت قلت: إن عثمان - – كلف اللجنة بنسخ عدد من المصاحف بعثَ بها إلى عدد من الأمصار في الدولة الإسلامية، لتكون المرجع أو الحجة في ضبط القراءات، بعد ما نجم خلاف أو تجاوز لبعض شروط القراءة المقبولة بين سكان الأقاليم على وجه الخصوص.
قال بعض العلماء: إن هذه النسخ كانت سبع نسخ، ورجح بعضهم أنها كانت خمس نسخ، وقيل إنها كانت أربع نسخ! أخرج ابن أبي داود من طريق حمزة الزيات قال: (كتب عثمان أربعة مصاحف، فبعث بمصحف منها إلى الكوفة، فوقع عند رجل من مراد فبقي حتى كتبت مصحفي منه( وفي رواية )عليه(وقال ابن أبي داود: )وسمعت أبا حامد السجستاني يقول: كتب سبعة مصاحف فبعث واحداً إلى مكة، وآخر إلى الشام، وآخر إلى اليمن، وآخر إلى البحرين، و آخر إلى البصرة، وآخر إلى الكوفة، وحبس بالمدينة واحداً).
و إن مما يؤكد – مرة أخرى – أن عمل عثمان – كان لضبط القراءات:
أنه بعث مع كل مصحف من المصاحف مقرئاً ليقرئ الناس بما فيه، فبعث عبدالله بن السائب مع المصحف المكي، والمغيرة بن أبي شهاب مع المصحف الشامي، و أبا عبدالرحمن السُّلَمي مع المصحف الكوفي، وعامر بن عبدالله بن عبد القيس العنبري مع المصحف البصري، و أمر زيد بن ثابت أن يُقرئ بالمدينة في المصحف المدني.
ولا يمكن الناظرَ في هذا، وفي تاريخ جمع القرآن وتدوينه ونسخه ..أن يقف على أعلى من هذا، في الضبط و الإتقان و التوثيق العلمي، وفي خدمة الكتاب الكريم الذي قال الله تعالى في شأنه: لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد وقال عز من قائل: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون

حرق المصحف والمصاحف الأخرى (شبهات ورد):
ثم أمر سيدنا عثمان بعد ذلك بما سوى ذلك من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يُُرق، وذلك لأن الأمر لم يعد يُتمل التهاون أو التأخير بعدما نجم الخلاف، وبعد ما تم من التحري والضبط في نسخ مصحف أبي بكر – – أو الصحف التي كانت لدى أم المؤمنين السيدة حفصة وعن أبيها أمير المؤمنين.
ولهذا فقد استجاب من كان قد كتب لنفسه )صحفاً ( أو مصحفاً من الصحابة، لأمر الخليفة – – وقاموا بحرق مصاحفهم سوى عبدالله بن مسعود الذي لم يكتف بالرفض .. حتى حرض الآخرين – وقد أزعجه استجابتهم فيما يبدو- على الرفض ! أخرج ابن أبي داود في كتاب (المصاحف) والترمذي مرسلاً من حديث الزهري (أن عبدالله بن مسعود – –كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف، وقال: يا معشر المسلمين أُعزل عن نسخ المصاحف، ويولاها رجل والله لقد أسلمتُ وإنه لفي صُلبِ رجل كافر! – يريد زيد بن ثابت – يا أهل العراق اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها، فإن الله يقول: ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة فاتقوا الله- وفي رواية فاتقوا الله بالمصاحف- قال الزهري: فبلغني أن ذلك كره من مقالة ابن مسعود: رجال أفاضل من أصحاب رسول الله ).
قلت: ولعبدالله بن مسعود – – أن يغضب لعدم مشاركته أو لعدم استدعائه للمشاركة في هذا العمل التاريخي المُشّرف، ولا سيما أنَّ الصحابة الكرام الذين قاموا به، يمكن وصفهم بأنهم كانوا من التكفل الإلهي بحفظ القرآن. ولكن ما كان لغضبه أن يصل إلى حد التعريض بزيد بن ثابت، الذي كان يكتب الوحي لرسول الله ، وبأمر لا يُقبل التعريض بمثله- كما جاء في هذه الرواية المرسلة- علماً بأن بعض العلماء يقول: إن زيداً كان أحفظ للقرآن من عبدالله، إذ وعاه كلَّه ورسول الله حيّ - ووعاه معه على هذا النحو أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وحفصة، وعائشة .. و آخرون- في حين أن ابن مسعود حفظ منه في حياة رسول الله نيفاً وسبعين سورة، ثم تعلمْ الباقي بعد وفاة رسول الله .
والذي يمكن تأكيده في هذا السياق هو – فقط- مسألة غل المصاحف، وعتب ابن مسعود أو غضبه ، أما التعريض بزيد- وبهذه الصيغة- فلم يرد في الصحيحين، روى مسلم في صحيحه من حديث شقيق عن ابن مسعود أنه قال: يغلل يات بما غل يوم القيامة ثم قال: على قراءة من تأمروني أن أقرأ ؟ فلقد قرأت على رسول الله بضعاً وسبعين سورة، ولقد علم أصحاب رسول الله أني أعلمهم بكتاب الله).
بل إن رواية الإمام البخاري ليس فيها كذلك حكاية غلّ المصاحف، روى البخاري من طريق آخر: (عن شقيق قال: خطبنا عبدالله بن مسعود فقال: (والله لقد أخذت من في رسول الله بضعاً وسبعين سورة، والله لقد علم أصحاب النبي أني من أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم).
بل إن رواية أخرى لابن أبي داود في (المصاحف) لم يعّرض ابن مسعود بزيد بن ثابت ، بالعبارة السابقة، ولكنه يقول: 0وكيف يأمروني أن أقرأ على قراءة زيد بن ثابت، وقد قرأت من في رسول الله بضعاً وسبعين سورة، وإن زيد بن ثابت ليأتي مع الغلمان وله ذؤابتان).
) 1( المصاحف / 97 ، وقد أسلم زيد قبل مقدم النبي إلى المدينة، واستنصره يوم بدر، ثم شهد أُحداً
ثم إن زيداً – – لم يشتهر عنه اختيار قراءة بعينها – أو الانحياز لها – كما فعل ابن مسعود، علماً بأن الأمر الآن أو في هذه المرحلة: أمر تقعيد الأحرف، وحسم الاختلاف في القراءة. وما قرأه ابن مسعود أو ما أخذه من في رسول الله لا ينازعه فيه أحد، ولكن النبي الكريم أقرأ غيره من الصحابة بوجوه أخرى. هذا من
جهة، ومن جهة أخرى فإن عمل اللجنة نسخ أو استنساخ وليس جمعاً جديداً للقرآن كما توهم بعض الروايات الضعيفة.
ومعنى ذلك أن الدواعي لتكليف ابن مسعود بهذا العمل، أو لانتظار حضوره من الكوفة إلى المدينة ..لم تكن قائمة، قال الحافظ ابن حجر: (والعذر لعثمان في ذلك أنه فعله بالمدينة وعبدالله بن مسعود بالكوفة، ولم يؤخر ما عزم عليه من ذلك إلى أن يرسل إليه ويُضر. وأيضاً فإن عثمان إنما أراد نسخ الصحف التي كانت جمعت في عهد أبي بكر .. وكان الذي نسخ ذلك هو زيد بن ثابت، وكان كاتب الوحي، فكانت له في ذلك أولوية ليست لغيره) هو وسائر اللجنة من قراء المدينة أجمعين.
وعلى أية حال فإن عبدالله بن مسعود – – بعد أن سكت عنه الغضب، أو بعد أن ذهبت حدة المفاجأة، وربما بعد أن بادر بالاطلاع على عمل اللجنة من خلال مصحف الكوفة – فيما نقدر – قام بإحراق مصحفه وأقر بما قام به الخليفة الراشد- – وقد أشار إلى ذلك صاحب كتاب (المصاحف) في فقرة خاصة عقدها تحت عنوان: (باب رضاء عبدالله بن مسعود بجمع عثمان المصاحف) علماً بأن صاحب هذا الكتاب – ابن أبي داود – هو نفسه الذي روى الموقف السابق الغاضب لابن مسعود وأرضاه

نقض مزاعم التحريف:
أما ما يزعمه الغلاة والطاعنون من أن عثمان حرص على حرق المصاحف ليخفي التبديل الذي أحدثه في النص القرآني! فأهون من أن يلتفت إليه، بعد كل ما يقف عليه الباحث النزيه من كتابة القرآن وحفظه، وعن المنهج العلمي الدقيق الذي اتبع في جمعه في زمن أبي بكر، ونسخه في عهد عثمان!
ونكتفي في هذا المقام بإيراد النقاط والملاحظات الآتية:
1- لو أن حرق المصحف كان لإخفاء التبديل، أو التحريف،أو التنقيص ... أو ما شئت من هذه الأوصاف! لكان يجب أن يتم –أي هذا الحرق- في عهد الصديق لا في عهد عثمان – - وذلك قبل أن يتفرق حفظة القرآن وقراؤه-ومنهم بعض أصحاب الصحف أو المصاحف الخاصة – في الأمصار! ويأخذ الناس عنهم! ولهذا لم ينقل عن واحد ممن أخذ عنهم – وهم كثير- مثل هذا الزعم أو الافتراء ! وفحوى هذا أن مزاعم التحريف أو التنقيص ينقضها ويسخر منها: الأمر بحرق المصاحف! بل إنه يدل على خلافها.
لقد أمر عثمان بحرق المصاحف ولم يأمر به أبوبكر أو عمر- مثلا- لأن الاختلاف في القراءة لم يكن قائماً . أو لأنه لم يظهر بعد. وحين تفرق الصحابة في الأمصار، وأقرأ كل واحد منهم بقراءته – إن وجدت – أو بعض وجوه القراءة التي سمعها وقرأ بها .. وحصل الاختلاف الذي رآه حذيفة ، قام عثمان بما قام به وأمر بما أمر به ، و تأكيداً لطريقة القراءة و الأداء لابد فيها من هذا العمل الجماعي الذي يُعارض )يقابل( فيه المكتوب بالمحفوظ، ولجميع الأحرف والوجوه.
وفحوى ذلك أن الدواعي لما قام به عثمان قد جد في عهده، ولم يكن له وجود في عهد أبي بكر – - علماً بأن (دواعي التحريف) عند من يزعمه (ينبغي) أن تكون قائمة في عهد الخليفة الأول الصديق – - ولكن أحداً لم يُرف ولم ينقص! ولكن الذين زعموا التحريف فيما بعد هم الكذبة والمخرفون! سواء أكانوا من المنافقين الذين لم يفارقهم الحنين إلى دين آبائهم، أم من سواهم من الكارهين للقرآن، وللعروبة و الإسلام.
2- إن عثمان لو أسقط شيئاً من القرآن - سواء أكان متعلقا بسيدنا علي ، أم بغيرهِ أم بأي أمر آخر- لراجعهُ واحتج عليه وثار في وجههِ حفظة القرآن، وما أكثرهم! اللهم إلا إن زعم الزاعم أن هؤلاء الحفظة من المهاجرين والأنصار، من بقي منهم في المدينة، ومن تفرق منهم وأخذ عنهم في سائر الأمصار البعيدة أو المترامية الأطراف، تواطؤوا جميعًا على ذلك!! والأسئلة التي تطرح نفسها أمام هذا البهتان: لِمَ يفعلون ذلك؟ وكيف؟ ولماذا لم يُؤثر عن علي – – أو غيره إنكار أو اعتراض؟ ولمن شاء من العقلاء، أو من أصحاب الأهواء، أن يصدق أن الصحابة الذين لم يشفع عندهم تكرار البسملة في صدر ثلاث عشرة ومئة سورة من القرآن الكريم .. أن يصدِّروا بها السورة الوحيدة الباقية – سورة التوبة – لأنهم لم يسمعوا رسول الله يفتتح بها هذه السورة! أقول لمن شاء أن يصدق أن هؤلاء الذين بلغ بهم الالتزام والتدقيق هذا المبلغ، يُرِّفون القرآن، أو يتلاعبون فيه بالزيادة والنقصان! أي سخف هذا؟ بل أي جهل وزندقة وبهتان؟!
3- ثم إن عثمان ردّ الصحف التي كانت عند أم المؤمنين السيدة حفصة إليها.. ألا يشير هذا التصرف – العفوي إن صح التعبير – إلى أن أي تحريف أو تبديل لم يلحق بالقرآن، لسبب واضح وهو أن ذلك لم يخطر ببال عثمان ولا ببال أحد من
الصحابة الكرام . وإلا فكيف يرد عثمان الصحف إليها؟! ألم يكن الأجدر به لو أن أي تحريف لحق بالقرآن، أن يبادر إلى حرق هذه الصحف قبل مصاحف الصحابة الأخرى، علمًا بأن أحدًا لم يسبق له الاعتراض على عمل أبي بكر رضي
الله عنه كما قلنا قبل قليل.
4- يضاف إلى ذلك أن ابن مسعود في كل ما نقل عنه في اعتراضه أو ثورته السابقة، لم يعترض إلا على إلزامه بالأحرف أو القراءات التي تضمنها مصحف عثمان، أو قراءة زيد بن ثابت، على حد قوله، وهو – أي ابن مسعود – الذي قرأ من فِي رسول الله ! كما كان يقول) (، ولم يعترض حتى على ترتيب هذا المصحف!
والمفارقة – هنا- أن المسألة الآن هو تقعيد الأحرف، وحسم الخلاف في القراءة، كما قلنا قبل قليل، وليس لأن ابن مسعود أراد أن يلزم اللجنة بقراءته، في حين أن اللجنة لم يسجل عليها الانحياز لقراءة بعينها، ولهذا فإن ابن مسعود لم يكن عنده سوى هذا الوجه من وجوه الاعتراض! ظنًا منه أن القرآن تم نسخه بقراءة زيد لا بقراءته هو – – روى ابن أبي داود بإسناد صحيح من حديث الأعمش عن أبي وائل قال: خطبنا ابن مسعود على المنبر فقال: ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة غُلّوا مصاحفكم – وفي رواية أخرى قال: ونعم الغُلّ المصحف يأتي به أحدكم يوم القيامة -قال: وكيف يأمروني أن أقرأ على قراءة زيد بن ثابت، وقد قرأت من فِي رسول الله بضعًا
وسبعين سورة، وإن زيد بن ثابت ليأتي مع الغلمان له ذؤابتان، والله ما نزل من القرآن إلا وأنا أعلم في أي شيء نزل. ما أحد أعلم بكتاب الله مني، وما أنا بخيركم، ولو أعلم مكانًا تبلغه الإبل أعلم بكتاب الله مني لأتيته. وقد أشرنا قبل قليل إلى قوله – في رواية الإمام مسلم – (على قراءة من تأمرونني أن أقرأ ؟).
5- وبحسبنا في هذه العجالة أن نقول: إن زَعْمَ من سهل عليه أن يطعن في جميع الصحابة والمسلمين الأوائل من المهاجرين والأنصار بل أن (يحكم) بكفرهم وردّتهم !! لَزعم قامت الأدلة على نقيضه من التاريخ الذي يعلمه كل عاقل، ومن القرآن نفسه، الذي أثنى الله تعالى فيه على صحابة نبيِّه الكرام في أكثر من موضع سهل عليه أن يقول ماشاء؛ يقول الدكتور محمد عبد الله دراز – -: (ونظرًا لغيرة المسلمين الأوائل، يستحيل علينا أن نعلّل قبول الكافة لمصحف عثمان دون منازعة أو معارضة بأنه راجع إلى انقياد غير متبصّر من جانبهم! ولقد قرّر (نولدكه) أن ذلك يعدّ أقوى دليل على أن النص القرآني )على أحسن صورة من الكمال والمطابقة). وينقل عن (لوبلوا) قوله: (إن القرآن هو اليوم الكتاب الرباني الوحيد الذي ليس فيه أي تغيير يذكر) وكان (موير) قد أعلن ذلك قبله إذ قال: (إن المصحف الذي جمعه عثمان قد تواتر إلينا بدون أي تحريف. وقد حُفظ بعناية شديدة بحيث لم يطرأ عليه أي تغيير يذكر، بل نستطيع أن نقول: إنه لم يطرأ عليه أي تغيير على الإطلاق في النسخ التي لا حصر لها والمتداولة في البلاد الإسلامية الواسعة. فلم يوجد إلا قرآن واحد لجميع الفرق الإسلامية المتنازعة، وهذا الاستعمال الإجماعي لنفس النص المقبول من الجميع حتى اليوم يعدّ أكبر حجة ودليل على صحة النص المنزل الموجود معنا ..).
6- موقف الشيعة الإمامية (عرض وتعقيب).
هذا وقد عبّر بعض علماء الشيعة الإمامية عن هذا المعنى فقال شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي: (إن اعتقادنا في جملة القرآن الذي أوحى به الله تعالى إلى نبيه محمد هو كل ما تحتويه دفتا المصحف المتداولة بين الناس، وعدد السور المتعارف عليه هو 114 سورة، أما عندنا فسورتا الضحى والشرح تكونان سورة واحدة، وكذلك سورتا
الفيل وقريش، وأيضًا سورتا الأنفال والتوبة. أما من ينسب إلينا الاعتقاد في أن القرآن أكثر من هذا فهو كاذب).
وقال أيضًا: (أما الكلام في زيادته ونقصه – أي القرآن – فمما لا يليق به أيضًا، لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانها، وأما النقصان فالظاهر أيضًا من مذهب المسلمين خلافه، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا، وهو الذي نصره المرتضى، وهو الظاهر في الروايات).
وقال الشيخ الصدوق: (اعتقادنا في القرآن الكريم الذي أنزله الله تعالى على نبيه هو مابين الدّفتين، وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك، ومبلغ سوره عند الناس مئة وأربع عشرة سورة .. ومن نسب إلينا أننا نقول أكثر من ذلك فهو كاذب). وعلى أية حال، فقد انتهى الشيعة الإمامية – فيما يبدو – إلى التسليم بحفظ القرآن الكريم من التحريف، وصيانته عن النقصان، وسائر ضروب التبديل والتغيير. قال الخميني: (إن الواقف على عناية المسلمين بجمع الكتاب وحفظه، قراءة وكتابة، يقف على بطلان تلك المزعومة! وماورد فيه من أخبار – حسبما تمسكوا – إما ضعيف لا يصلح للاستدلال به، أو مجعول (أي موضوع مكذوب) تلوح عليه أمارات الجعل، أو غريب يقضى فيه بالعجب ! أما الصحيح منها فيرمى إلى مسألة التأويل والتفسير، وأن التحريف إنما حصل في ذلك، لا في لفظه وعبارته) ثم قال: (إن الكتاب العزيز هو عين مابين الدُّفتين، لا زيادة فيه ولا نقصان).
أما الفرق في طريقة تقسيم السور التي أشار إليها أبو جعفر الطوسي فهو فرق نظري، لأن نسخ المصاحف المتداولة عندهم وعند سائر الفرق الإسلامية لا تختلف عن مصاحف المسلمين السنة فيما نعلم. وفي جميع الأحوال: يكفي إن زعم لك زاعم أن لديه (سورة مجهولة) أو نصًا مفقودًا، أن تلاحظ – فقط – الفرق بين التراكم الركيك من العبارات، والكلمات المسروقة من القرآن نفسه، وبين أناقة الأسلوب القرآني وتناسقه !! وإذا كان الناقص أو الساقط المزعوم آية واحدة –أو جملة أو عبارة - فإن النظر في السياق الذي وُضعت فيه أو أضيفت إليه، سرعان ما يظهرها (آية) مقحمة يأباها المعنى والمبنى جميعاً، وكذلك الحال في الكلمات التي أضيفت أو أبدلت بكلمات أخرى! ومن هنا فإن مثل هذه المزاعم لم توجد إلا بعد مضي نحو من ثلاثة قرون على عصر نزول القرآن الكريم، حين بَعُدَ الناس عن سليقة اللغة وأسباب البيان بوجه عام، كما أن هذه المزاعم لم تلق أو تجد رواجًا إلا عند نفر من الأعاجم الذين قاوموا الأسلمة والاستعراب في القرنين الثالث والرابع الهجريين.

علي يؤيد عمل عثمان :
وقد فات أصحاب هذه المزاعم أن سيدنا عليًا لا يرضى بهذا الاختلاق – وحاشاه من ذلك – بل أرادوا الطعن في نهاية المطاف بعلي بن أبي طالب نفسه – – وأرادوا مخالفته ومناقضته ومناقضة الإسلام والقرآن جميعًا .. روى أبو بكر الأنباري عن سويد بن غفلة الجُعفي قال: (سمعت علي بن أبي طالب –يقول: يا معشر الناس اتقوا الله وإياكم والغلو في عثمان وقولكم حرّاق مصاحف ! فو الله ما حرقها إلا على ملأ منا أصحاب رسول الله ).
وعن عمر بن سعيد قال: قال علي بن أبي طالب – -: (لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت في المصاحف مثل ما فعل) وفي رواية أخرى عن سويد قال: سمعتُ عليًا يقول: (رحم الله عثمان لو وُّليتُ ما وُّلي لفعلتُ ما فعلَ في المصاحف) .
وأخرج ابن أبي داود بإسناد صحيح عن مصعب بن سعد قال: (أدركت الناس متوافرين حين حرق عثمان المصاحف، فأعجبهم ذلك)، وقال: (لم ينكر ذلك منهم أحد).
وروي عنه أيضًا بإسنادين صحيحين قوله (سمعت بعض أصحاب محمد يقول: قد أحسن) وقوله: (فما رأيت أحدًا عاب ذلك عليه).

القول بالتحريف طعن في علي :
ومعنى ذلك أن الدواعي لفعل عثمان ذي النورين – – كانت قائمة، وأنَّ ما فعله لم يتم في الخفاء، ولكن بعلم الصحابة ومشورتهم، ولو كان سيدنا علي يعلم أن في شيء من ذلك إسقاطًا او تجاوزًا لما تجاوز هو عنه..! وإن جاز عليه – وحاشاه من ذلك – أن يتجاوزه وهو في صف المعارضة، كما تصوِّره بعض الروايات، فإن من غير الجائز أن يشتغل وهو خليفة للمسلمين كافة مدة تقرب من خمسة أعوام (أربعة أعوام وتسعة أشهر) بمقاتلة من خالفوه في السياسة عن تصحيح القرآن ومقاتلة الذين رضوا بتحريفه وتبديله! بل إنه كانه يتلوه على هذا الوجه ويؤم الناس به في الصلاة . وفحوى ذلك: أن أمير المؤمنين أقرّ مصحف الخليفة الراشد الثالث- – برسمه وتلاوته، كما أقره سائر الصحابة الكرام أجمعين.

مصحف عثمان وعلي :
بل إن علينا أن نَعُدّ عليًا من المشاركين في توثيق هذا المصحف، لأن عدّ آيات القرآن الكريم – في المصاحف العثمانية – المتداولة في كل بقاع الأرض- أتبع فيها طريقة الكوفيين، وهؤلاء رووها- أي هذه العدّة- عن أمير المؤمنين الذي كان بين
ظهرانيهم .
وربما أخذوا ذلك من تلاوته وطريقته في الوقوف على رؤوس الآي، أو من تعليمه وإرشاده- وأرضاه. بل إننا لا نرتاب في أنهم أخذوا ذلك عنه – - لأن الذي روى هذه العدّة عنه هو أبو عبد الرحمن السُلمي، الذي كان سيدنا عثمان قد بعثه مع مصحف الكوفة مقرئًا له، وقد لزم في الوقوف على رؤوس الآي قراءة أمير المؤمنين في الكوفة. حتى إن من حقنا- وقد يكون من واجبنا- أن ننسب مصحف عثمان .. إلى عثمان وعلي معًا ، فنقول: مصحف عثمان وعلي .
ولابد من الإشارة هنا إلى الإمام المقرئ أبي عبد الرحمن السُلمي (عبد الله بن حبيب بن رُبَيَّعة – بالتصغير) فقد استقر في الكوفة، وجلس في مسجدها الأعظم لتعليم الناس القرآن،ولم يزل يقرئ بها أربعين سنة، إلى أن توفي عام 44 ه، وكان قد قرأ على أميري المؤمنين عثمان وعلي . وقيل: تعلّم القرآن من عثمان، وعرضه على علي، وقال : (ما رأيت ابن أنثى أقرأ لكتاب الله من علي ) وقال أيضًا (ما رأيت أقرأ من علي ) وقد صحب أمير المؤمنين عليًا بالكوفة بعد مسيره إلى العراق سنة ست وثلاثين، حتى استشهاده في رمضان
عام 40 ه، فحضر معركة صفين معه وكان من خاصةِ أصحابه، قال ابن مجاهد: كان أبو عبد الرحمن يقول: (قرأت على أمير المؤمنين القرآن كثيرا، وأمسكت عليه المصحف، فقرأ عليَّ، وأقرأت الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما حتى قرآ عليّ القرآن ..)، ولهذا وصف محمد بن حبيب – صاحب كتاب المحبّر - أبا عبد الرحمن بأنه معلم الحسن والحسين ، وكان يخبر من يقرأ عنده بأعداد الآيات، وقد أخذ أهل الكوفة عدد الآيات في السور القرآنية عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن أمير المؤمنين علي .
وصدق الله العظيم: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون وكذب الزائغون و المرجفون!

وأخيرا، فإننا إذا لحظنا أن (جمع) القرآن الذي تم في عهد أبي بكر، كان باقتراح – وإصرار- من عمر ، بما عهد عنه من التفرد والسبق (حتى ندر في الدولة الإسلامية من نظام لم تكن له أولوية فيه) – كما يقول الأستاذ عباس محمود العقاد وإن هذا القرآن الذي تم (نسخه) في عهد عثمان، إنما قام على (تلاوته) وقراءته على ؛
فإن في وسعنا أن نقول:
إن مصحف عثمان ليس هو في الواقع وحقيقة الأمر: مصحف عثمان وعلي فحسب، بل هو مصحف الخلفاء الراشدين .. وأئمة الإسلام والمسلمين
.. وقد ضم بين دفتيه كتاب رب العالمين الذي نزل به الروح الأمين على قلب خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد بن عبد الله صلوات ربي وسلامه عليه و على آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغرّ الميامين . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


المصدر: http://vb.tafsir.net/tafsir36079/#ixzz2TLnmeyiE