هذه أوّل مشاركة لي في منتداكم الموقر فالسلام عليكم جميعا.
لاحظت عند تصفحي لمشاركات العديد من المشاركين ذلك الإصرار على مسألة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم. وأعتقد أن في ذلك إساءة مزدوجة للعلم وللدين معا (رغم اقتناعي بصدق النوايا).
عندما يقوم أحد المشككين بإظهار تناقض ما بين نص قرآني ما، ومكتشفات العلم الحديث، يسعى الكثير من المؤمنين إلى الرد على هذا المشكك بطريقة من اثنتين: إما عبر التشكيك في النظرية العلمية (كما في مسألة النشوء والارتقاء) وإما عبر تأويل النص القرآني على نحو يتناسب مع النظريات العلمية الحديثة.
وفي المقابل، عندما يلمس أحد المؤمنين تقاربا ما بين نظرية علمية ما ونص قرآني، فإنه يسعى في كثير من الأحيان إلى تضخيم التقارب مع ما يشمله ذلك من لي النص أو لي عنق النظرية أو إغفال المعارف العربية التقليدية، ضاربا بعرض الحائط قواعد اللغة ونظامها وتاريخ العلم وتطوره.
والواقع في نظري، أن المشككين في الحالة الأولى ومثبتي الإعجاز في الحالة الأخرى، يرتكبون خطأ جسيما.
وفي رأيي أن مقاربة النصوص القرآنية ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار أمورا عدة:
1- أن القرآن عند تعرضه لموضوعات الطبيعة والكون (بغرض التفكر والتدبر) فإنه لا يخاطب فينا إلا حواسنا المباشرة. في القرآن مثلا: (وجعلنا الأرض مهادا). المشكك يسعى لإظهار تناقض هذه الآية مع ما نعرفه من كروية الأرض، ويرد عليه المؤمن على نحو غير مقنع كثيرا. ولكننا جميعا مؤمنين ومشككين عندما نخرج لرؤية الأرض فإننا نراها ممهدة. والقرآن يخاطب فينا هذا الحس الإنساني الطبيعي الذي يشعر به الإنسان العاقل سليم الحواس غير المخمور. فالأرض ممهدة لهذا الإنسان، مهما تحدث العلم الحديث عن كروية الأرض. فالمقام مختلف تماما! ولا أريد تشبيه القرآن بالشعر فهذا ما لا يليق بمكانة القرآن، ولكني أريد أن أستفيد من مقاربة الشعر في مسألة واحدة. كلنا عندما نشاهد القمر بدرا في منتصف الشهر القمري يتعجب من جماله، وينشد الشعراء ما يشبهون به وجه الحبيب بالبدر المنير. ولكن الإنسان صعد إلى القمر وألفاه قاحلا، ولا يقاس من الناحية الجمالية بأي بقعة على كوكب الأرض، فهل هذا سيمنع الشعراء من تشبيه وجوه أحبتهم بالبدر.
بمعنى آخر، أقول للمشككين، افترضوا جدلا، أن النبي محمدا أتى بهذا القرآن اليوم، فهل ستمنعه معرفته بكروية الأرض من القول: (وجعلنا الأرض مهادا)؟ (أنا هنا في سبيل إيضاح المسألة أفترض أن القرآن هو كلام محمد رغم أني لا أتبنى ذلك). كلا طبعا!
ولكن ما أقوله هنا ينطبق على الفئة الثانية التي تفترض إعجازا علميا في القرآن الكريم.. عندما يتحدث القرآن عن البرزخ بين البحرين، فإنه يخاطب العرب محدثا إياهم عن ظاهرة يعرفونها جيدا ويرونها على الدوام، لا عن ظاهرة سيتم اكتشاف أسرارها بعد أكثر من ألف سنة.
2- حتى عندما يتعلق الأمر بقضايا أخطر كمسألة الخلق والتكوين. ولا أريد هنا أن أدخل في نقاش عقيم من نوع القول بصحة نظرية دارون أو عدم صحتها، ولا بأولية آدم أو افتراض أسبقية بشرية عليه (على النحو الذي يفترضه عبد الصبور شاهين). ما أريد أن أقوله هو إن مسألة نظرية دارون تخص العلم وحده إثباتا ونفيا. ولكن أريد أن ننتبه إلى آية قرآنية عظيمة: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) إلى آخر السورة. اسألوا أي عالم ما هو الإنسان؟ فإنه سيقول إن الإنسان كائن بيولوجي، وسيصف لك أجهزته المختلفة التي بها يكون كيانه. والجملة التي يقدمها العالم هي جملة خبرية على ما يقول البلاغيون، بمعنى أنها جملة صادقة إن توافقت مع الواقع الخارجي وكاذبة إن اختلفت عنه. أما الجملة القرآنية فهي جملة إنشائية لا تحتمل الصدق والكذب، وإن كانت قد صيغت صياغة خبرية. بمعنى آخر، أنها جملة تعطي حكما قيميا والأحكام القيمية لا مصداق خارجيا لها. انظر إلى كلمة (أحسن تقويم)، وانظر إلى الاستثناء (إلا الذين آمنوا...).. هذه أحكام قيمية! فالإنسان القرآني هو كائن خلقه الله في أحسن تقويم ثم... هذه الجملة تنتمي إلى نوع مختلف تماما عن الجمل العلمية. والجملة العلمية والجملة القرآنية يمكن أن تتعايشا شريطة إدراك أنهما وإن استخدما منطوقات متشابهة فإنهما تنتميان إلى حقلين لغويين مختلفين تماما!
3- ليس الإعجاز العلمي دليل الصدق! ولا اللغوي حتى.. وعندما قدم الأنبياء السابقون معجزاتهم فإنهم قدموها بعد بيان رسالتهم التي هي دليل الصدق! أما المعجزات فكانت استجابة للتحدي ومن باب إلقاء الحجة. والنبي الأعظم لم يأت بمعجزات حسية، والقرآن نفسه شاهد على ذلك. إن مصدر التحدي الأساسي هو قيمة هذه الرسالة بما هي نظرة كونية وبرنامج عمل للفرد وللجماعة. لقد تحدى الله العرب أن يأتوا بسورة من مثله. هل يستطيع أي بشري أن يأتي بنظرة إلى الكون والحياة وأن يقدم برنامج عمل رديف يوازي ما جاء في القرآن؟ لا يمكنه ذلك! فكل نظرة كونية وكل برنامج عمل يصنعها البشر هي نظرات وبرامج سلطوية تحكمية، أما هذا النص المتعالي فتعاليه هو دليل صدقه! وهذا موضوع يمكن أن أفصل فيه لمن يشاء.
القرآن بليغ من الناحية اللغوية حتما. ولكن إذا كان التحدي على مستوى اللغة، فإن بإمكان بلغاء العرب أن يأتوا ببيت شعري يضارع آية من آياته من الناحية اللغوية، وخاصة أن التحدي على مستوى الآية، والسورة، والقرآن كله. كلا وحاشا! ما هذا كان التحدي ولا هذا ما فهمه العرب من التحدي!
وإن كان التحدي على مستوى الإعجاز العلمي فانظر إلى قول أبي نواس:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء وداوني بالتي كانت هي الداء
فمن علم النواسي أسرار التلقيح التي اكتشفها باستور بعد ألف سنة؟ إن إعجازكم العلمي من جنس بيت أبي نواس، وعليه تسقط حجية القرآن لأن شاعرا استطاع أن يأتي بآية من جنسه (معجزة). ألم أقل إن مفهوم الإعجاز العلمي يضر بالعلم والدين معا.
Bookmarks