الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله :

كان هذا ردا مختصرا فيه الكفاية إن شاء الله، وفي أصله جواب على أخت عارضت هذه القاعدة بأبيات للشيخ المدخلي ووسَمَتها بمنهج الموازنة في الجرح والتعديل، وبالجملة فقد تأثر قوم بهذا المنهج الذميم وبدؤوا يهاجمون به شيوخ أهل السنة المعاصرين، والظريف أن هذا المنهج مشترك بين أدعياء السلفية والليبراليين والعَلمانيين والمتصوفة الخوانك فقلتُ مجيبا :

بل هو عين المنهج البدعي - قصدتُ منهج الغلو في التجريح - وهي شنشنة أعرفها من أخزم، وفي الجملة لا يعتمد على قول المدخلي في الجرح والتعديل فقد خرق المعتمد عند الأئمة في غير موضع وأتى لنا بعجائب القواعد، ولم يترك لنا من المعاصرين أحدا وقد قال فيه الشيخ ابن جبرين "
ربيع المدخلي ليس هو مقبول الكلام في الجرح والتعديل؛ فإن له أخطاء في كتبه تدل على جهله أو تجاهله بما يقول وله مؤلفات يطعن فيها على الكثير من الدعاة والعلماء المشاهير "

وراجعي كتب بعض أهل العلم في بيان حاله وخطأ نهجه ككتاب "الاعتذار والانتصار لأهل السنة الأبرار"ـ وكتاب "رفقا أهل السنة بأهل السنة" وكتاب "الخطوط العريضة لأدعياء السلفية" . وهذا الشيخ العلامة بكر أبو زيد رحمه الله يقول حول كتاب المدخلي - أضواء إسلامية على فكر سيد قطب - الذي ضمنه مؤلفه طعنا غاليا للشهيد السعيد بإذنه سيد قطب رحمه الله : " نظرت فوجدت هذا الكتاب يـفـتـقـد :أصـول البحث العلمي، الحيـدة العلمية، منهـج النقد، أمانـة النقل والعلم، عـدم هضم الحق ، أما أدب الحوار وسمو الأسلوب ورصانة العرض فلا تمت إلى الكتاب بهاجس ..... هذا الكتاب ينشط الحزبية الجديدة التي أنشئت في نفوس الشبيبة جنوح الفكر بالتحريم تارة، والنقض تارة وأن هذا بدعة وذاك مبتدع، وهذا ضلال وذاك ضال.. ولا بينة كافية للإثبات، وولدت غرور التدين والاستعلاء حتى كأنما الواحد عند فعلته هذه يلقي حملاً عن ظهره قد استراح من عناء حمله، وأنه يأخذ بحجز الأمة عن الهاوية، وأنه في اعتبار الآخرين قد حلق في الورع والغيرة على حرمات الشرع المطهر، وهذا من غير تحقيق هو في الحقيقة هدم، وإن اعتبر بناء عالي الشرفات، فهو إلى التساقط، ثم التبرد في أدراج الرياح العاتية .. اعتبر رعاك الله حاله بحال أسلاف مضوا أمثال أبي إسماعيل الهروي والجيلاني كيف دافع عنهما شيخ الإسلام ابن تيمية مع ما لديهما من الطوا م لأن الأصل في مسلكهما نصرة الإسلام والسنة، وانظر منازل السائرين للهروي رحمه الله تعالى، ترى عجائب لا يمكن قبولها ومع ذلك فابن القيم رحمه الله يعتذر عنه أشد الاعتذار ولا يجرمه فيها، وذلك في شرحه مدارج السالكين، وقد بسطت في كتاب "تصنيف الناس بين الظن واليقين" ما تيسر لي من قواعد ضابطة في ذلك . وفي الختام فأني أنصح فضيلة الأخ في الله بالعدول عن طبع هذا الكتاب "أضواء إسلامية" وأنه لا يجوز نشره ولا طبعه لما فيه من التحامل الشديد والتدريب القوي لشباب الأمة على الوقيعة في العلماء، وتشذيبهم، والحط من أقدارهم والانصراف عن فضائلهم.. "- رسالة الشيخ إلى المدخلي-

وكفى من هذا التقليد المذموم وتعالوا إلى ما قال الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وما قرره سلفنا من المتقدمين حتى تعلموا أينا على حق :

واقرئي إن شئت قول الله عز وجل : { يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } .. ثم تأملي قوله عز وجل : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ كَذٰلِكَ يُبيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} .. وقول رب العزة : {وَمِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } .. فإن كان ربنا عز وجل يذكر بعض منافع الخمر وهي أم الخبائث، ويذكر فضيلة عند بعض اليهود وهم كفار .. فما بالك بمن كانت له قدم راسخة في الإمامة وله سبق في الإسلام ؟

والله عز وجل يوم الحساب يوازن يوم القيامة بين حسنات العبد وسيئاته، فالميزان عقيدة أهل السنة والجماعة ، { وَنَضَعُ ٱلْمَوَازِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ } فكيف تقولين شيئا مخالفا كهذا ؟

يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه الأصفهاني في التوبيخ والتنبيه : " إن أبغض الرجال إلى الله عز وجل الذي يقتدي بسيئة المؤمن ويدع حسنته " ويقول فيما رواه مسلم : " إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل ، وكلتا يديه يمين : الذي يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا ".

ثم تأملي قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رواه الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه، حيث أقتطف منه جزءا :" قلتُ : وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال نعم وفيه دخن، قال وما دخنه ، قال : قوم يهدون بغير هدي تعرف منهم وتنكر " - صحيح البخاري - فالنبي صلى الله عليه وسلم أثبت الخيرية لبعض القوم على الرغم من وجود الدخن بينهم .

وتأملي قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أخرجه البخاري عن الشيطان الذي علم أبا هريرة رضي الله عنه ما يقول للحفظ من الجن فقال صلى الله عليه وسلم : " صدقك وهو كذوب " .. فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم صدق الشيطان الكافر فلم يمنع ذلك من قبول الخير الذي أتى به . وغيره كثير، فأسألك من من أهل الصنعة من المتقدمين رحمهم الله قال بقولك أو قول شيخك ؟ أعطني خمسة من المحدثين قالوا ما قلتِه ؟

وهذا المنهج الذي تسمينه الموازنات له قواعد في الجرح والتعديل كثيرة دالة عليه منها: " العبرة بكثرة المحاسن " و " حمل كلام إمام معروف بالصدق والديانة على محمل سائغ "، " الجمع بين قولين متنافيين في الظاهر لإمام واحد أولى من اتهامه "، " ليس من شرط الثقة ألا يغلط ولا يهم " ، "يغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه " وغيرها من القواعد المقررة عند أهل الصنعة في هذه البابة .

وحتى أزيد في بيان منهجك الذي لا أصل له، أستشهد بأقوال أهل العلم من السلف :

قال الإمام سعيد بن المسيب في ما رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله : " ليس من شريف ولا عالم ولا ذي سلطان إلا وفيه عيب لا بد، ولكن من الناس من لا تذكر عيوبه، من كان فضله أكثر من نقصه، وُهب نقصه لفضله"

قال الإمام ابن سيرين رحمه الله : " ظلم لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما تعلم وتكتم خيره "

قال الإمام ابن القيم وقد عقد فصلا في الكلام عن أدلة قاعدة الموازنة : "من قواعد الشرع والحكمة أيضا أن من كثرت حسناته وعظمت وكان له في الإسلام تأثير ظاهر فإنه يحتمل له ما لا يحتمل لغيره، ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيره " - مفتاح دار السعادة -

ويقول في إعلام الموقعين : " ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدمٌ صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكان قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور بل مأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يتبع فيها ولا يجوز أن هدر مكانته وإمامته ومنزلته في قلوب المسلمين "

ثم يقول في مدارج السالكين : " فلو كان كل من أخطأ أو غلط ترك جملة وأهدرت محاسنه لفسدت العلوم والصناعات والحكم وتعطلت معالمها "

قال الإمام ابن تيمية حول الصوفية : " والذين شهدوا هذا اللغو متأولين من أهل الصدق والإخلاص والصلاح غمرت حسناتهم ما كان لهم فيه وغيره من السيئات والخطأ "

ويقول في موضع آخر : " لو قدر أن العالم الكثير الفتاوى ، أفتى في عدة مسائل بخلاف سنة الرسول صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه، وخلاف ما عليه الخلفاء الراشدين، لم يجز منعه من الفتيا مطلقا بل يبين له خطؤه فيما خالف فيه ، فما زال في كل عصر من أعصار الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين من هو كذلك " -مجموع الفتاوى -

ويقول في العقيدة الأصفهانية يقصد منهج المبتدعة : "وأصل هؤلاء أنهم ظنوا أن الشخص الواحد ، لا يكون مستحقا للثواب والعقاب والوعد والوعيد والحمد والذم ، بل إما لهذا وإما لهذا فأحبطوا جميع حسناته بالكبيرة التي فعلها "

قال الإمام الذهبي : " إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه وعلم تحريه للحق واتسع علمه وظهر ذكاؤه وعرف صلاحه وورعه واتباعه يُغفر زلله ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة في ذلك " - سير أعلام النبلاء-

قال سفيان الثوري : " عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة ومن لم يحفظ من أخبارهم إلا ما بدر من بعضهم في بعض على الحسد والهفوات والتعصب والشهوات دون أن يعي بفضائلهم حرم التوفيق، ودخل في الغيبة، وحاد عن الطريق " - جامع بيان العلم وفضله-

قال الإمام الذهبي : " ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده مع صحة إيمانه وتوخيه لاتباع الحق أهدرناه وبدعناه لقلَّ من يسلم من الأئمة معنا رحم الله الجميع بمنه وكرمه " - سير أعلام النبلاء-

قال الحافظ السبكي : "بل الصواب عندنا أن من ثبتت إمامته وعدالته، وكثر مادحوه ومزكوه، وندر جارحوه، وكانت هناك قرينة دالة على سبب جرحه من تعصب مذهبي أو غيره، فإنا لا نلتفت إلى الجرح فيه ونعمل فيه بالعدالة "

قال الإمام ابن حجر : " إن الذي يتصدى لضبط الوقائع من الأقوال والأفعال والرجال، يلزمه التحري في النقل، فلا يجزم إلا بما يتحققه، ولا يكتفي بالقول الشائع، ولا سيما إن ترتب على ذلك مفسدة من الطعن في حق أحد من أهل العلم والصلاح، وإن كان في الواقعة أمر فادح، سواء كان قولاً أو فعلاً أو موقفًا في حق المستور، فينبغي أن لا يبالغ في إفشائه، ويكتفي بالإشارة؛ لئلا يكون وقعت منه فلتة، ولذلك يحتاج المسلم أن يكون عارفًا بمقادير الناس وأحوالهم ومنازلهم، فلا يرفع الوضيع، ولا يضع الرفيع "

قال الإمام ابن حبان : " لسنا ممن يوهم الرعاع ما لا يستحله، ولا ممن يحيف بالقدح في إنسان وإن كان لنا مخالفاً، بل نعطي كل شيخ حظه مما كان فيه، ونقول في كل إنسان ما كان يستحقه من العدالة والجرح ."

الإمام أحمد : قال أبو حاتم : " حادثت أحمد بن حنبل فيمن شرب النبيذ من محدثي أهل الكوفة وسميت له عددا منهم . فقال : هذه زلات لهم ، لا نسقط بزلاتهم عدالتهم " - آداب الشافعي للرازي-

قال الإمام ابن عبد البر : " هذا باب غلط فيه كثير من الناس، وضلت فيه نابتة جاهلة لا تدري ما عليها في ذلك، والصحيح في هذا الباب: أن من صحت عدالته، وثبتت في العلم أمانته، وبانت ثقته وعنايته بالعلم؛ لم يلتفت فيه إلى قول أحد، إلا أن يأتي في جرحه ببينة عادلة تصح بها جرحته على طريق الشهادات، والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة لذلك بما يوجب قوله من جهة الفقه والنظر، وأما من لم تثبت إمامته، ولا عرفت عدالته، ولا صحت لعدم الحفظ والإتقان روايته، فإنه ينظر فيه إلى ما اتفق أهل العلم عليه، ويجتهد في قبول ما جاء به على حسب ما يؤدي النظر إليه."

وإن تتبعتُ الأقوال كلها ما فرغتُ .. فانظري أينا على مذهب السلف أختي وليسا عيبا في الرجوع إلى الحق إنما العيب التمادي في البدعة.. ورحم الله الإمام ابن عبد الوهاب الذي قال : " فإذا تحققتم الخطأ بينتموه ، ولم تهدروا جميع المحاسن لأجل مسألة أو مائة أو مائتين أخطأت فيهن، فإنني لا أدعي العصمة " -تاريخ نجد-

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين