مرآة النقل ومِرقاةُ العقل ..أو مرآة الوحي ومِرقاة الرأي : نبذ يسيرة وإشارات عابرة في بيان امتناع قدرة البشر على التشريع القويم وأن التشريع من خصائص الله عز وجل وهو من مقتضى معنى توحيده جل وعلا في العبادة وفي الربوبية

-الشريعة فرع عن الاعتقاد ، والسلوك ثمرة مترجِمة عن بذرة الفؤاد ، فإذا فسد الأصل ترتب من الخلل بقدر ما في الأصل ، وأنى للأصل أن يصِح إلا بمصدر معصوم من الزلل ؟!
-وإذا كانت العين أداة للبصر ، فهل تراها استقلّت يوما عن الضوء في رؤية أي شيء ؟! فلماذا يفترض أدعياء العقلانية وأرباب العالمانية أن العقل الذي هو أداة للنظر: مستقلٌ عن نور فوق العقل يهديه في ترسم خطى الطريق ؟
-إنَّ العين وهي موضوعة للإبصار لا ترى عين نفسها !..إلا أن يقف صاحبها أمام مرآة ، وكذلك العقل لابد له من مرآة خارج صندوقه تعكس له حقيقة ذاته ويعرف بها حدود نفسه ودائرة سعيه وما خلق من أجله..وإذا استغنى عن هذه المرآة العلوية فلابد أن يطغى وتشقى بطغيانه البشرية..
-نعم يدرك العقل بعض ما يتعلق بذاته ، ولكن من أهم من يدركه :قصوره الذاتي! عن استيعاب أقضية الزمان والمكان وعن تغطية ما يشمل عموم الحاجات مع اختلاف الطبائع وأنواع الناس، وتراه يترجم عن هذا القصور عمليًا بتغييره المستمر للقوانين
-صحيح أن العقل السويّ يدرك جملة من الكليات ، والفطرة السليمة تهتدي إلى قبس من المستحسنات ولكن المعرفة الجُملية ليست كاشفة عن معالم الطريق اللازمة للوصول ولا تغني شيئا في التبصرة التفصيلية الضرورية ..وذلك كما لا تغني المعرفة المجردة بكون فلان في آسيا أو حتى الصين -مثلا- عن الاهتداء إلى مُقامه على التعيين
-وحيث قد ثبت أنه لابد من مرجعية ذات سيادة مطلقة في تسييس الحياة فإن جعل هذه المرجعية منوطة بعقل عمرو وزيد أو جون وجورج من الناس هو بلا شك تأليه لهذه العقول وهذا وحده ينافي دلالة العقل المعافى ( وغير خاف عنك أنه لا يرضى العاقل من البشر بهذا "الاستنعاج" مع الاعتذار للنعاج فهي والله تأنف من عبادة غير الله عز وجل ، فاعلم إذًا معنى شرك التشريع وأنه كفر أكبر ولا يغرنك حديث مرجئة العصر )

-والنفوس يغلب عليها الهوى ، ويمتنع التصور في العقل أن يصدر أصحاب القوانين في تشريعاتهم عن محض تجرد لانتفاء موجب الإخلاص في قلب من لا يدين لله عز وجل بوحدانيته في العبودية والربوبية ، وحتى إذا كان الواحد منهم ينتسب لدينٍ فياض أهله بالدندنة حول شنشنة المحبة كالنصرانية مثلا ، فإن دينه لا يحجزه عن التشريع بالهوى لأسباب.. منها :خلو دينه من هذا التشريع أصلا بل يجد فيه ما يسوّغ العلمنة في نحو عبارة ( مالله لله وما لقيصر لقيصر ) ، ومهما تكن مجرما حسبك أن تؤمن بخلاص المسيح-عليه السلام- حتى تحظى بالغفران وتنعم بدخول الملكوت !، وإن كان القانوني منتسبًا للإسلام فإن جراءته على التشريع من دون الله تعالى كفر ٌيسلب عنه وصف الإيمان فلا يتأتى أن يكون مخلصا بحال ، فإذا عرفت أن الهوى غلاب ، فلا تعجب أن تكون قوانين البشر من مثل قوانين الغاب بل أضلّ ..فإن قيل لا نسلم بلزوم تأثر القوانين بالهوى ؟ قيل : الواقع يرده في أعظم الدول رفعا لشعار الحريات واحترام الحقوق. زبدة القول أن وجود داعيةِ الهوى في النفوس وانتفاء مانعها يحتم وقوعه، والشريعة جاءت لتخرج الناس من داعية هوى النفس ..فلهذا لم تحتمل القسمة إلا الهدى أو الهوى ..ولا واسطة بينهما ، هذا والإخلاص في جملةٍ من موارده وباعتراف أكابر أئمة الزهد والتقوى :عسير على النفس..فهذا الإمام الجبل سفيان الثوري يقول :ما عالجت شيئا أشد عليّ من نيتي إنها تتقلب علي ، ويقول سهل بن عبدالله التستري : ليس على النفس شيءٌ أشقّ من الإخلاص لأنه ليس لها فيه نصيب..فهذا ونظائره الكثيرة : بيان جلي من أئمة في الورع والعلم ..فكيف بغيرهم ؟ وما الظنّ بمن لا يرجو الله والدار الآخرة ؟!

-يقول مشركو التشريع : إن القوانين موضوعة لرعاية المصالح ، والمصالح متغيرة مع دوران الزمان ، والشريعة ثابتة ، فكيف تكون صالحة لكل زمان؟ فنقول: لا يخلو الأمر من حالين :إما أن تدّعوا الإسلام فنحيلكم إلى نحو قول الله تعالى "اليوم أكملت لكم دينكم " وقوله "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " وأمثال ذلك ، فلا يُسألُ من يعلم الغيب وهو لكل الخليقةِ ربّ : كيف ولمَ ، وإما ألا تدّعوا ذلك ، فعندئذ نقيم عليكم براهين الحق على صدق النبي صلى الله عليه وسلم..وهذا جواب مجمل ولكنه كافٍ محكم