كتاب السنن الإلهية كتاب مفتوح تلتمس صفحاته في ثنايا القرآن العظيم وفي طوايا التاريخ ,فالطريق إذن لاحبة لاكتناه هذا العلم الشريف وأصوله المحكمة في الكتاب العزيز ,والمصاديق في عبر من غبر ..ومع هذا تشتكي مكتباتنا من ندرة بحثية لهذا النوع من الدراسات المهم جدا ..ندرة لا تتماشى مع مشاهد تداعي الأكلة من المعسكر الغربي على قصعة عالمنا الإسلامي المثخن بالدمامل والجراحات ..ولا يخفى على ناظر جدوى هذا الضرب من البحث وأهميته في استشراف ما يختبيء وراء سجف الغيب وفق ما أذن الله به من اجتهاد ونظر بله ما أمر به من الاعتبار حذرا من السقوط في نفس الحفر التي وقع فيها من قبلنا ,وذلك أن الله يقول :" فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا" وهذا ينزه دراسة السنن عن أن تكون من قبيل الترف الفكري أو مُلح العلم التي هي من باب التحسينات الفائضة عن الحاجة..بل أصل الاعتبار مأمور به في كتاب الله في مواطن كثيرة شتى ..

ولما كان هذا موضوعا أكبر من أن يفرد بمقال سأحاول المقاربة بالاقتصار على إلماحة عابرة في الإشارة إلى مبحث السنن من حيث كونه دالا على الحق في الاعتقاد بالله تعالى، ودالا كذلك على صحة الإسلام في ذات الوقت ..لا من حيث الاعتبار بالسنن وما تشتمل عليه قواعد مطردة يمكن للأمة التي تحمل رسالة الحق أن تنهض من كبوتها بتوظيف مدخلات هذه السنن لتنتج مخرجات السيادة والتمكين والاستخلاف..

وفي الوقت الذي يولي الغرب هذا الأمر عناية بالغة غير أن لدينا من المقومات التي تجعلنا أحق منهم وأجدر بقصب السبق في هذا الميدان ..فإن مراجعهم في ذلك تعج بنبوءات ما يسمى بالكتاب المقدس ,حتى أن كبار الساسة سواء كانوا إنجيليين أو علمانيين مؤدلجين دينيا في قضية النبوءات خاصة يود أحدهم لو أمكنه صنع المستحيل ليكون توطئة لصحة ما في أيديهم من أسفار حسب تأويلاتهم لما فيه.....أو تكون من بنات الخرافات وأعمال الكهانة والتنجيم والسحر ,واعجب من قوم ولدت من ناحيتهم الثورة الصناعية وما يزال الساسة فيهم وأصحاب القرار يستعينون بهذه الروافد الخرافية في اكتناه مستقبل الطريق ..وأما الملاحدة واللادينيون فنظرتهم في تفسير الظواهر: مادية صرفة ..ولست أعني هنا ما يقابل ما عند أهل الكتاب في شرعنا من نبوءات صحيحة لاشك فيها قطعا ، ولكن كتاب السنن الإلهية المبثوث بيانها في آيات عديدة جدا في كتاب الله تعالى من مثل :

"ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون " ، "وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون" ، " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد" ، "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون" ، "أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون " ، "أتواصوا به بل هم قوم طاغون "
، "وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شيطين الإنس والجن " ، "فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين" ، "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين" ،"وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذن لا يلبثون خلافك إلا قليلا *سنة من أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا"...إلخ الآيات الشريفة..

والسنة هي القانون المطرد الذي يقتضي أن توقَع النتيجة المعينة على شيء كلما وقع نظير هذا الشيء ..ولولا صحة ذلك لما صح الأمر بالاعتبار : (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة عاقبة المكذبين *هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين )
فالجهل بسنن الله يفضي بالناس ولو كانت منسوبة للعلم أن تبعد النجعة في فهم مقاصد الشرع نفسها ,وفهم حركة التاريخ ، والوقوف على حكمة الشارع سبحانه وتعالى ..إلخ

سنن الله في النصر والهزيمة في التمكين والاستخلاف في الابتلاء والعقوبة في التدافع بين الحق والباطل في الوصول للهدى لمن سلك سبله..إلخ ، فتكون مطردة على نظام كلما حقت الشروط وقع مقتضى السنة ..من وجه الدلالة على صحة الإسلام أن متعلق السنن الإلهية هو الأمور الشرعية لا الفيزيائية فهذه الثانية قابلة للتبدل ..وهذا هو السر في كون السنة الإلهية في آيات القرآن العظيم وقعت قرينة الأمور الدينية ..عبقري الإسلام ابن تيمية لحظ هذا المعنى الدقيق فقال : (وهذه السنن كلها سنن تتعلق بدينه بدينه وأمره ونهيه ووعده ووعيده وليست هي السنن المتعلقة بالأمور الطبيعية كسنته في الشمس والقمر والكواكب.. فإن هذه السنة ينقضها إذا شاء بما شاء من الحكم كما حبس الشمس على يوشع وكما شق القمر لمحمد صلى الله عليه وسلم وكما ملأ السماء بالشهب وكما أحيا الموتى غير مرة وكما جعل العصا حية وكما أنبع الماء من الصخرة بعصا وكما أنبع الماء من بين أصابع الرسول ) ، وهذا يدلك أن الإنسان وهو لبنة في بنيان الأمة ، ليس مادة مجردة ..وإلا لجرى عليه ما يجري على الكونيات سواء بسواء

ووجه الدلالة على وجود الله تعالى من ناحية أخرى-من أنكد الأشياء على العقلاء الاضطرار لتجلية الجليّ !- أن تفسير حركة التاريخ وكل ما فيه من سنن إذا استند إلى شيء مادي ، وقعنا في هوة سحيقة من التناقض المتراكب ، فالطبيعة غير العاقلة لا تعي معاني مثل الظلم والفساد بحيث ترتب على استشرائها في الأمم نتائج مطردة من الانهيار وتفشي التفكك الاجتماعي ..وفي قضية مثل تحريم الربا ، مقتضى النظر المادي أن يكون وسيلة نفعية للكسب قائمة على التراضي تؤدي للانتعاش الاقتصادي وما يكون من ثغرات فتعالج بقوانين ترقيعية..وهنا يتجلى التئام معنى الرب والإله في وقت واحد ، فالرب العليم -لا الطبيعة غير الواعية- جعل من سنته في الأموال حصول الأزمات الاقتصادية الكارثية إذا كان النظام مؤسسا على الربا ، وهو الإله الذي شرع تحريم الربا .."ألا له الخلق و الأمر تبارك الله رب العالمين "..وتجد قانونا مثل نصر المسلمين ، لو علل بأشياء مادية بحتة لما أمكن تفسير انتصار المسلمين حال تحقيق شروط النصر التي أمر الله بها في كل مرة مع كونهم قلة ..أقل عددا وعدة من خصومهم الكفرة، في كل مرة أيضا ..

وهذه السنن الإلهية المتعلقة بالأمم تشترك مع التي متعلقها الأفراد في أشياء وتفارقها أشياء ، هذا معقول : لأن المجتمع من الناس وإن كان مجموعة من الأفراد غير أن خصائص المجموع الكلي تباين الجزء المنتمي لهذا المجموع ، فتقع وجوه افتراق..تفطن الدكتور حسن بن صالح الحميد لهذا المعنى فقال : (كثيرا ما يمر بخيالك أناس خيرون وآخرون شريرون هؤلاء وهؤلاء ذهبوا ويذهبون وأنت ترى من هؤلاء وألئك من لم يلق جزاءه الذي يستحقه في الدنيا ! لكنك لا تحفظ اسم أمة واحدة ذهبت دون أن تتلقى جزاءها الدنيوي موفورا )